أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - عندما اضطر كارل ماركس أن يقول... بأنه ليس ماركسياً!!















المزيد.....

عندما اضطر كارل ماركس أن يقول... بأنه ليس ماركسياً!!


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 3056 - 2010 / 7 / 7 - 02:24
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


هي قصة شهيرة الى حد ما. في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقبل فترة وجيزة من وفاة كارل ماركس (في العام 1883)، برز خلاف في الرأي بينه وبين اثنين من مؤسسي الحركة اليسارية العمالية في فرنسا، هما جول غيد وبول لافارغ. والأخير، أي لافارغ، كان أيضاً زوج إحدى بنات ماركس. وكان كلا الرجلين الفرنسيين يعتبران نفسيهما "ماركسيين".
وكان جول غيد قد قام في أيار/مايو 1880 بزيارة للندن، حيث كان يقيم ماركس، واستعان به في إعداد برنامج "الحزب العمالي" الذي كان غيد يعمل على تأسيسه في فرنسا. وتمت بالفعل صياغة هذا البرنامج بمشاركة ماركس، وبمساهمة لاحقة من فريدريش إنغلز، رفيق درب ماركس الفكري والنضالي، وبول لافارغ، شريك جول غيد في تأسيس الحزب الجديد. وتم تأسيس الحزب المذكور في مدينة لوهافر الفرنسية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته 1880.
وحول هذا البرنامج، قال كارل ماركس: "إن هذه الوثيقة القصيرة جداً تتضمن في قسمها الإقتصادي مطالب انطلقت حصراً، في الواقع، من صفوف الحركة العمالية نفسها بشكل عفوي. بالإضافة الى ذلك، هناك فقرة تقديمية تحدد الهدف الشيوعي في أسطر قليلة."
بعد إقرار البرنامج مع بعض التعديلات في مؤتمر الحزب الجديد، نشأ خلاف بين ماركس وقادة هذا الحزب حول الغرض من القسم الخاص بالجانب الإقتصادي في الوثيقة. فبينما كان ماركس يرى أن المطالب المتضمنة في هذا القسم يمكن أن تشكل مادة تعبئة في الوسط العمالي باعتبار أن المطالب قابلة للتحقيق في أمد زمني غير بعيد وفي إطار النظام الرأسمالي نفسه، كانت لجول غيد وجهة نظر أخرى. فقد رأى الزعيم العمالي الفرنسي في هذه المطالب الإقتصادية المباشرة وسيلة لفضح التيار السياسي المسيطر في فرنسا بحيث يقود الرفض الذي يتوقعه لهذه المطالب من قبل هذا التيار الى "تحرير البروليتاريا من آخر أوهامها الإصلاحية وإقناعها باستحالة تفادي 89, عمالية"، على حد تعبيره. والمقصود بـ 89 هو ثورة على غرار الثورة الفرنسية الكبرى، تلك الثورة التي فتحت الباب، قبل زهاء القرن من ذلك، أي في العام 1789، أمام انتصار البورجوازية الصاعدة على التحالف الحاكم في مرحلة الهيمنة الإقطاعية.
أي ان جول غيد كان يرى الثورة العمالية مسألة مطروحة في أمد قريب ومرئي. وقد أثار هذا الفهم لغرض الوثيقة حفيظة كارل ماركس الذي اتهم جول غيد وبول لافارغ بـ"اللفظية الثورية" وبإنكار أهمية النضالات من أجل تحقيق إنجازات مباشرة للعمال حتى في إطار النظام الرأسمالي. وفي هذا السياق، نقل فريدريش إنغلز عن ماركس عبارته الشهيرة التي قال فيها انه إذا كانت هذه هي الماركسية..."فمن المؤكد انني، أنا، لست ماركسياً"!!
أهمية هذه الملاحظة، الساخرة، لمؤسس المدرسة الفكرية والنضالية الإشتراكية الرئيسية المعاصرة تنبع من كونها تؤشر لمسألة هامة: إن تراث كارل ماركس الفكري ليس مجموعة من النصوص المنتهية والمكتملة والمغلقة يمكن الإسترشاد بها كـ"وصفات" قابلة للتطبيق، كما هو حال الوصفات الطبية، ولا هي "خارطة طريق" تقود الى "الجنة الإشتراكية" الآتية حتماً، بل هو بالأساس تحليل لواقع كان قائماً في زمن ماركس وقبله، وخاصة تحليل للنظام الرأسمالي الذي كان في القرن التاسع عشر يشهد مرحلة صعود وازدهار واسعين، وأفكار يمكن الإنطلاق منها للتعامل مع هذا الواقع والعمل على تغييره. فليس هناك في هذا التراث الفكري "كتب مقدسة"، كما ليس هناك "دين جديد" أو حزمة عقيدية يكفي الإيمان بها لتحقيق الأهداف المرجوة. بل هناك قوانين عامة واستخلاصات عميقة لدراسة جادة لواقع وتناقضات النظام الرأسمالي بأبعاده المختلفة، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والإنسانية، أو بالأحرى اللا إنسانية، ودعوة للتدقيق في كل وضع وفي كل زمن بالواقع المعني ورسم الطرق الملائمة، على الأمد المباشر والقريب وفي سياق الرؤية الأوسع والهدف الإستراتيجي، أي الخلاص من النظام الرأسمالي ومن استغلال قلة من البشر المتحكمين بهذا النظام والستثمرين لجهد الغالبية الكبرى من المواطنين المنتجين بعرقهم ودمائهم. ولا مجال هنا لاستبدال القراءة العميقة للواقع المعني بمقولات وقوالب جاهزة أو بإرادوية متسرعة ورغبات وتمنيات ذاتية.
ومن خلال هذه الواقعة، يتضح أن ماركس لم يكن يستهين بأهمية الإنجازات المباشرة والمحدودة لصالح الشغيلة والمنتجين، أي غالبية المجتمع الساحقة، طالما هي تأتي في سياق الرؤية الإستراتيجية وفي إطار المراكمة الضرورية التي تساهم في تعبئة الجمهور المعني بهذه العملية النضالية وفي تعميق وعيه وقناعته بإمكانية الوصول الى الهدف الأبعد المتوخى. ومعروف أن ماركس لم يخض كثيراً في كتاباته في مجال التنبؤ بكيفية إنجاز هذه المهمة وآلياتها العملية، إلا من خلال استخلاص بعض الدروس من التاريخ البشري السابق للعمليات الثورية ومن التجارب العملية التي عايشها، ومنها تجربة كومونة باريس الشهيرة، والقصيرة، في العام 1871.

مطالب إقتصادية وإجتماعية ساهم ماركس في صياغتها

ولغرض التوضيح، نورد في ما يلي بعض المطالب "الإقتصادية" التي تضمنها برنامج الحزب العمالي الفرنسي، الذي ساهم كارل ماركس، كما ذكرنا، في صياغته:
# تخصيص يوم واحد في الأسبوع للراحة، وتحريم العمل أكثر من ستة أيام أسبوعياً.
# تحديد ساعات العمل اليومية للبالغين بثماني ساعات فقط.
# تحريم تشغيل الأطفال والفتيان الذين تقل أعمارهم عن 14 عاماً، وتحديد ساعات العمل بالنسبة للفتيان بين 14 و16 عاماً بست ساعات يومياً فقط.
# وضع حد أدنى للأجور كل عام يأخذ بعين الإعتبار أسعار المواد الغذائية، كما تحددها لجنة إحصائية عمالية.
# منع أرباب العمل من تشغيل العمال الأجانب بأجور أقل من العمال الفرنسيين.
# توفير الأجر نفسه للعمل ذاته للعمال من الذكور والإناث.
# تأمين التربية العلمية والمهنية لكل الأطفال.
# تحمُّل المجتمع لمسؤوليته عن كبار السن وعن المعاقين.
# منع تدخل أرباب العمل في شؤون الجمعيات العمالية.
# مسؤولية أرباب العمل عن حوادث العمل التي يتعرض لها العمال.
# منع الإجراءات العقابية التعسفية التي يمارسها أرباب العمل بحق العمال لديهم، كالخصم أو تجميد الأجور.
# إلغاء كل العقود التي تنال من مرافق القطاع العام، وإحالة إدارة المؤسسات المملوكة للدولة الى الشغيلة الذين يعملون فيها.
# إلغاء كل الضرائب غير المباشرة، وتحويل الضرائب المباشرة الى ضرائب متصاعدة مع حجم الدخول، ابتداء من حد أدنى هو 3000 فرنك.
هذه المطالب يبدو بعضها بسيطاً وبديهياً في أيامنا، وقد تحقق، بالفعل، منذ عقود طويلة، بفعل نضالات العمال والشغيلة وضغوط حركاتهم النقابية والسياسية. ولكن بعضها إما انه لم يتحقق بعد أو انه يتعرض للإنتقاص والنهش المتواصلين، خاصةً مع تطبيقات الليبرالية الجديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، بما في ذلك مؤخراً، في أوروبا مثلاً، من خلال إجراءات التقشف وشد الأحزمة بحجة مواجهة الأزمة الإقتصادية وضبط العجز في الموازنة الحكومية والحد من حجم الدين العام للدولة.
ولكن من الواضح انها مطالب مهمة وملموسة بالنسبة للعمال، والشغيلة عامة، ويمكن أن تكون، وكانت بالفعل، مدخلاً مهماً لتعبئتهم وكسبهم للحركة الإشتراكية المنظمة. وهو ما حدث فعلاً في العديد من البلدان الأوروبية، كما في بلدان أخرى في أنحاء العالم، في العقود التالية على صدور هذا البرنامج وخلال معظم القرن العشرين. أما بالنسبة للبلدان الفقيرة ومناطق "العالم الثالث"، بما فيها مناطقنا العربية والشرق أوسطية، فمن الواضح أن هذه المطالب، في غالبيتها، ما زالت راهنة، بعد مضي زهاء القرن وربع القرن على طرحها في البرنامج الذي شارك ماركس في صياغته.
وكان فريدريش إنغلز قد أوصى، في العام 1891، الحزب العمالي الألماني الرئيسي، وكان يحمل اسم الحزب الإجتماعي الديمقراطي، في سياق نقده، أي نقد إنغلز، لبرنامج إيرفورت الشهير للحزب، بتبني المطالب الإقتصادية الواردة في برنامج الحزب العمالي الفرنسي. ومعروف أن إنغلز ركز في نقده لبرنامج إيرفورت على الطابع التصالحي – الإنتهازي لهذا البرنامج في التعاطي مع مؤسسات الدولة الألمانية آنذاك، حيث كان يعتبر ان السياق العام للبرنامج يشير الى نزعة يمينية في مواقف قادة الحزب الرئيسيين. وتحليل إنغلز لهذا البرنامج كان ينطلق من الطابع الإستبدادي السلطوي للنظام الإمبراطوري الألماني في تلك الحقبة، وهو طابع يميزه عن أنظمة أوروبية، وغير أوروبية، أخرى كانت قد تحققت فيها إنجازات ذات طابع ديمقراطي. ولكن ذلك لم يدفعه الى الدعوة الى مواقف متشددة مغامرة ومتطرفة، كما يتضح من خلال دعوته لتبني المطالب الإقتصادية في برنامج الحزب العمالي الفرنسي.

راهنية ملاحظة ماركس

وبإمكاننا أن نستطرد، إنطلاقاً من حادثة ماركس مع قادة الحزب العمالي الفرنسي، لتناول الإشكالات التي شهدتها المدارس الماركسية المختلفة التي ازدهرت بعد وفاة كارل ماركس، ثم رحيل رفيق دربه فريدريش إنغلز في العام 1896. ويمكن، الى حد ما، وبدون أي ادعاء تعميمي، استخلاص أحد أهم الدروس المتعلقة بتجارب تجاوز النظام الرأسمالي في القرن الذي تلى رحيل ماركس وإنغلز: وهو يتمثل في كون كتابات كارل ماركس وفريدريش إنغلز، التي شكلت إسهامات بارزة ومهمة في إغناء الفكر البشري والتراث التقدمي والثوري العالمي، لم تكن، في رأيهما، "وصفات" جاهزة ومنتهية وصالحة بتفاصيلها لكل زمان ومكان، لتحقيق الأهداف المتوخاة من قبل أتباع هذا الفكر، بحيث يتحقق النجاح حين يتم الإلتزام بها والفشل حين تجري مخالفتها أو تجاهلها. وهنا نستذكر النقاش الذي جرى بعد انهيار التجربة السوفييتية حول السبب في هذا الفشل، وهل يكمن في النظرية أم في التطبيق، كما كان يقال في حينه. وهو سؤال يفترض ضمناً أن النظرية هي "وصفات" يتم تطبيقها أو تجاهلها والامتناع عن الإلتزام بها.
بينما في واقع الحال، وهذا ما أوحت به الحادثة التي أوردناها، كما ومجمل روحية أعمال ماركس، تبقى الماركسية مجموعة من التحليلات والقوانين والأفكار المفتوحة على التطوير والإغناء المتواصلين، سواء من خلال الأحداث المستجدة والتجارب العملية الجديدة للحركات العمالية والثورية في أنحاء العالم ومجمل التاريخ البشري، أو من خلال الجهد العلمي والمعرفي المتواصل لاستخلاص دروس وأفكار إضافية تغني الفكر التقدمي الذي وضع كارل ماركس بنيانه الأساسي. أي انها فكر مفتوح يغتني كل يوم، وفكر قابل للتصويب والتدقيق حين تثبت تجارب جديدة أو تظهر اكتشافات حديثة ضرورة إجراء مثل هذا التصويب أو التدقيق. وهو ما فعله ماركس نفسه أثناء حياته وفي نتاجاته المتلاحقة. وإن كان من المهم أن نؤكد أن القوانين والخلاصات الرئيسية الواردة في أعمال ماركس ما زالت تحتفظ براهنية كبيرة، خاصة وأن النظام الرأسمالي لا زال النظام السائد والمسيطر في عالم اليوم.
ولسنا هنا بصدد العودة للحديث عن التجربة السوفييتية تحديداً. فقد تناولنا بعض جوانبها في كتابات سابقة. كما كُتب وما زال وسيبقى يُكتب عنها الكثير، نظراً لأهميتها الإستثنائية. ولكن من الواضح، إزاء تعدد المدارس والتجارب التي تنسب نفسها الى فكر ماركس، أن المحك في الحكم على أي فكر أو حركة أو أية تجربة عملية هو درجة تحقيقها لأي تقدم فعلي على صعيد الفعل العملي وعلى صعيد الفكر، ونجاحها في مراكمة إنجازات ملموسة تؤدي، بالمراكمة وفي نهاية المطاف، الى توفير شروط التغيير الكبير، تجاوز النظام الرأسمالي وقيام نظام بديل.
وجدير بالإشارة هنا أن كارل ماركس الذي قدم في كتاباته الرئيسية، وخاصة مؤلفه الأشهر "رأس المال"، تحليلاً تفصيلياً لآليات عمل النظام الرأسمالي وتناقضاته وطابعه الإستغلالي والمولّد للأزمات المتلاحقة، وهو تحليل من الواضح أنه ما زال، في جوهره وخطوطه الأساسية، تحليلاً صائباً، وهو ما أعادت مؤخراً تأكيده هذه الأزمة الإقتصادية العالمية الكبرى الجديدة المستمرة منذ العامين 2007-2008، كما أسهم، مع إنغلز، في العديد من الإضافات الهامة الأخرى الى الفكر البشري، لم يكن يفكّر، للحظة واحدة، أنه يضع في كتاباته، أو كتاباتهما، خاتمة العلم والمعرفة في المجال الفكري والعملي الذي تناولاه وساهما في إرساء قوانينه وركائزه الأساسية. كما انه لم يكن يفكر أن الإستناد الى هذه الكتابات، بحد ذاته، وبدون القراءة الدقيقة للواقع المعني، في كل مكان وفي كل مرحلة محددة، ولتطورات التاريخ والتقدير العميق لكيفية التعاطي مع تعقيدات هذا الواقع، الى جانب القدرة الخلاقة على شق طريق الفعل الملموس، بالإستناد الضروري الى القاعدة الشعبية الحيوية لهذا الفعل، سيقود الى التحقيق السريع للأهداف المتوخاة، وتحديداً تجاوز النظام الرأسمالي في أمد زمني قصير. وهو ما يبدو أن الزعيم الإشتراكي الفرنسي جول غيد كان يعتقده.
وللتاريخ، وبالرغم من الدور الكبير الذي لعبه جول غيد في تأسيس الحركة العمالية والإشتراكية الفرنسية المعاصرة، بما في ذلك تأسيس الحزب الإشتراكي الموحد في مطلع القرن العشرين، والذي حمل اسم "الفرع الفرنسي للأممية العمالية"، فقد انتهى، أي غيد، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، الى الإصطفاف مع البورجوازية الفرنسية المسيطرة عبر المشاركة في الحكومة التي تشكلت في بدايات الحرب، كوزير بلا حقيبة. أي انه اختار الإنحياز الشوفيني في "حرب الضواري" الإمبريالية، كما أسماها القائد والمفكر الثوري الروسي فلاديمير لينين، الذي عارض هو وعدد من كبار القادة الثوريين الأوروبيين الآخرين، مثل البولونية - الألمانية روزا لوكسمبورغ، هذه الحرب، ورفضا المنطق الشوفيني للجناح اليميني في الحركة العمالية الأوروبية، وهو الجناح الذي سيشكل لاحقاً تياراً خاصاً به، ينفصل عنه التيار اليساري الجذري.

اليسارية الجذرية لا تكمن في الإرادوية المتعجلة أو في التطرف اللفظي

ويمكن أن نستخلص أيضاً من الحادثة المشار إليها أن اليسارية الجذرية ليست، بمفهوم ماركس وإنغلز، رديفاً للتطرف والتشدد والنزعة الإرادوية والعمل وفق مبدأ "كل شيء أو لا شيء". بل العكس هو الصحيح. فالجذرية مرتبطة طبعاً بالرؤية الدائمة للهدف الإستراتيجي للنضال، وهو تجاوز النظام الرأسمالي والعمل على بناء نظام جديد خالٍ من الإستغلال، مجتمع المنتجين الأحرار، المجتمع المتعارف على تسميته بالإشتراكي. ولكن الوصول الى هذا الهدف لا يستبعد العمل على تحقيق إنجازات جزئية ومباشرة لصالح المنتجين ، الغالبية الساحقة من المواطنين في أي بلد، ولصالح تطوير أوضاع العمال والشغيلة ومراكمة الشروط التي تفتح المجال في النهاية أمام إنجاز الإنتقال المطلوب الى المجتمع الأرقى. لا بل هو يتطلب ذلك بالضرورة.
وبالطبع، خاصةً بعد انهيار التجربة السوفييتية وتجارب أوروبا الشرقية الشبيهة الأخرى، في أواخر القرن المنصرم، ليس بمقدور أحد أن يزعم الآن أن لديه "خارطة طريق" مفصلة ودقيقة لعملية الإنتقال هذه من النظام الرأسمالي الى النظام البديل. مع العلم بأن هناك محاولات عملية جارية ومستمرة في بلدان آسيوية وأميركية لاتينية لا زالت ترفع هذه الراية، من جهة، كما ان هناك إسهامات فكرية هامة تضيف الى ما قدمه ماركس وإنغلز ومن لحقهما من كبار المفكرين والثوريين الماركسيين لا زالت تُنتج باستمرار في أنحاء العالم أفكاراً ورؤى متجددة لعملية الإنتقال هذه. ومرة أخرى، ما سيحسم في صحتها وصوابيتها هو قدرتها على التحول الى فعل ملموس وإنجاز عملي على الأرض.
***
وأخيراً، وبمعزل عن الإهتمام المتجدد الذي أثارته الأزمة الإقتصادية العالمية الجديدة بأعمال كارل ماركس الرئيسية، بما في ذلك في بلد نشأته، ألمانيا، وبمعزل عن الإسهامات الفكرية الهامة اللاحقة المستندة الى فكر ماركس ورفاق دربه واتباع مدرسته، وهي كثيرة، فإن أهمية دور ماركس التاريخي لم تعد تحتاج الى تأكيد. وربما كانت الحادثة المشار إليها مع مؤسسي الحركة العمالية الفرنسي مؤشراً إضافياً الى الحجم التاريخي لهذا المفكر والقائد الكبير.
وقد لا تروق ماركس، لو كان حياً، أن تكون نتيجة استفتاء أجرته إذاعة بي بي سي الإنكليزية الرابعة في أواسط العام 2005 لاختيار أهم فيلسوف في تاريخ البشرية قد أشّرت إليه، حيث اختار المصوتون ماركس كأهم فيلسوف في التاريخ البشري بنسبة من الأصوات تقترب من 28 بالمئة، بمسافة كبيرة عن الثاني في القائمة وهو الإسكتلندي ديفيد هيوم، الذي عاش في القرن الثامن عشر، والذي حصل على نسبة تقترب من الـ 13 بالمئة، وأمام فلاسفة آخرين مثل نيتشه وأفلاطون وكانط وسقراط وارسطو، جاءوا على التوالي في المراتب الرابعة والخامسة والسادسة والثامنة والتاسعة.
فماركس لم يكن يحب أن يصنّف كفيلسوف وأن يعتبر إسهامه الرئيسي في مجال الفلسفة، التي تناولها، أو بالأحرى تناول بعضها، في بعض كتاباته بالنقد والسخرية. في حين تناولت أعماله مجالات واسعة من المعرفة البشرية، من الإقتصاد الى السياسة والعلوم الإجتماعية والتاريخ الإنساني عامةً، هذا الى جانب الدور العملي الذي قام به في تنظيم الحركة العمالية الأوروبية. وهو فعل تماماً ما كان قد قاله، وهو لم يكن قد وصل الثلاثين من عمره، في اطروحاته الشهيرة حول الفيلسوف الألماني فويورباخ، الذي عاش في القرن التاسع عشر ذاته وكان يكبر ماركس بسنوات قليلة، من أن "الفلاسفة قاموا حتى الآن بتفسير العالم بأشكال شتى، بينما المسألة هي كيفية تغييره".
ولا شك أن فكر ماركس قد ساهم بشكل كبير في تغيير العالم، وأن راهنيته تثبتها التطورات التي نشهدها في أيامنا، إذا ما تم تناوله بالمنظار الذي أراده ماركس كفكر حيوي دائم الإغتناء والتطوير والإلتصاق بتاريخ البشر الفعلي، والسعي من أجل أن يكون مستقبلهم أفضل كثيراً من ماضيهم وحاضرهم. أما التجارب التي فشلت، بعد أن عمّرت سنوات طويلة وأكثر كثيراً من كومونة باريس، فهي خاضعة للتشريح والتحليل بنفس الأدوات التي أنشأها فكر ماركس. وبشيء من التأمل في حادثة ماركس مع جول غيد، يمكن أن نقول، بدون تردد، بأن ماركسية ماركس لا علاقة لها بهذا الفشل.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمات البلدان الأوروبية ومأزق أحزاب -يسار الوسط-
- بعد 35 عاماً على النصر التاريخي... فييتنام تحث خطى التنمية و ...
- وحدة اليسار مهمة... لكن تمايز مشروعه هو الأهم
- خيارات الشعب الفلسطيني في ظل انسداد آفاق -الحلول القريبة-
- العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة.. ...
- يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي ...
- اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد
- هل تفتح الأزمة الإقتصادية العالمية آفاقاً جديدة أمام اليسار؟
- اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟
- لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
- على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... ...
- من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق ...
- حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم ...
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-


المزيد.....




- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - عندما اضطر كارل ماركس أن يقول... بأنه ليس ماركسياً!!