أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدلا القصار - سماح الشيخ الطفلة التي ترتدي لباس الراشدين















المزيد.....



سماح الشيخ الطفلة التي ترتدي لباس الراشدين


هدلا القصار

الحوار المتمدن-العدد: 3056 - 2010 / 7 / 7 - 00:32
المحور: الادب والفن
    


سماح الشيخ
الطفلة التي ترتدي لبـاس الراشدين
في منولوج متأرجح بين الصغر والكبر


بقلم الكاتبة والشاعرة /

نستذكر قول الروائي والناقد "جبرا خليل جبرا " انه في مرحلة ما لا بد أن يشعر الكاتب أو المبدع أو المفكر وحتى السياسي أنه أصبح بإمكانه تقديم سيرة حياته للناس أو تجربته الثقافية والفكرية أو الإنسانية " . وهي تجربة كانت في السابق تأخذ شكل مذكرات يومية، أما فيما بعد أصبحت هذه الرسائل تأخذ شكل الاعترافات استشهاداً بــ طه حسين، في رواية "عصفور الشرق" وحكاية بحار" لحنا مينا، وقصة "نفسي" لنجيب محفوظ، و "اعترافات" لجان جاك روسو، وأخيرا الروائي جبرا خليل جبرا في روايتين " البئر الأول، وشارع الأميرات" .

من هذا المنطلق ندعو المرأة الكاتبة المبدعة من الجيل الجديد الدخول إلى هذا العالم كما سجلت الفنانة المسرحية الكاتبة سماح الشيخ، المتمسكة بقلم الفنتازيا، كما في أدوارها المسرحية التي تهدئ من روع الكبار قبل الصغار بصوتها الناعم، وحركاتها المتنقلة بقفزات طفولية بهلوانية .

سماح الشيخ، الطفلة التي اكتشفنا عمقها وتمردها الشعوري واللاشعوري، وهويتها من خلال مجموعتها القصصية الأولى في "الشكل المستطاع" المحملة بأسئلة كثيرة تدور حول ما استوقفها منذ الطفولة حتى الآن . بدء من اختيارها لهذا الاسم، وتحليلها وفلسفتها للأشياء، وسخريتها للأفكار التي جمعتها في 49 قصة، لا تتجاوز قراءة كل قصة منها دقيقتين، تحمل حواراتها الخاصة مع الأناة، والآخر، والأشياء، والكائنات، بصوتها ولغتها وحميميتها ورؤيتها، مما أعطاها حق التنقيب في باطن المجتمع وممارسته .

في بداية هذه المجموعة القصصية نجد حقيقة (الدّمى) لطالما لعبت دورا خفيا في بلورة شخصيات الإنسان مُنذ الطّفولة، وواقع ما تخبئه تلك الشخصيّات وما تحتويه من مبادئ، وأفكار، وقيم، ... بأثواب ملوّنة، لتتسلل صورها مختلف تفاصيل حياتنا حتى الدقيقة منها المحملة في دفاترنا، وأقلامنا، وملابسنا، وحقائبنا......

تطرح الكاتبة في مجموعة "الشكل المستطاع" أفكارها القديمة المستحدثة، كي نعايشها رؤيتها في تلك القصص القصيرة المستحضرة من كنز فضائها الذي يحمل فضاء كيانٍ أنساني اجتماعي، على شكل شخوص تعكس كل منها حقيقة الآخر وتشكيله وتكوينه .

وربما من خلال هذه القصص حققت الكاتبة شيئاً من التوازن الداخلي الذي يفتقده الفرد داخل قبح النفس البشرية الذي سرعان ما يخرج منه بمجرد أن يجد العامل المحرك له، مستفيدا من كل ما مر به الكاتب بأبعاده الفكرية والفلسفية، كروايات البريطاني " جورج أرويل" وهو من أهم أدباء القرن العشرين، التي تحمل خيال الواقع كما حدثتنا الكاتبة عن أناة فكرة الطفل المشعة في مخيلتها وذاكرتها، المتنقلة بأفكار تعكس حوارات الطفل مع الأشياء ومسائلاته، في منولوج فكرة طفلة، بعد أن أصبحت في سن الرشد، وما زالت تستفزها تلك المحادثات والمسائلات من وقت لأخر مع تلك الدمى، المتمثلة بشخوص قد كانت تعرفهم أو لم تكن تعرفهم، لكن لا يمكننا أن نتجاهل صوتها، "صوت الطفلة" التي أصبحت ممثلة مسرحية وكاتبة، تحاول تفسير كل ما مرت به بلغة تتجاوز منطق الطفل!

لنقرأ في البداية قصة سماح الشيخ الأولى بعنوان "استنساخ" وإبعادها النفسية والاجتماعية لدي الطفل :
"كان الأسبق في الميلاد هو الأصغر عمراً ، فاجأني بهذا اصغر الأبناء سناً، فهو أول من ولد . كانوا كلهم يحملون شكل وجهي بأجسام مختلفة وأطوال متباينة . حتى الذكور منهم، اللذين كان عددهم خمسة . الأنثى هي السادسة، وهي أنا الطفلة ."

هذا ما جعلها تفكر باللاوعي بشكلها الأنثوي المنجب، والأكثر ظاهرا في جنسها "المرأة" كما راودتها الفكرة :
"ما جعلني أوافق على فكرة الإنجاب هو .. وعدهم لي "
هي اختصار لفكرة راودتها وطرحها احد الأبناء الخمس وهم أخوانها الذكور، الذين يحمل كل منهم صفة من أخيه، بعد جمعهم تصنيفهم وفرزهم .
"اذكر جيداً ذلك المتعصب برأيه المتشدد المتزمت، كم جادلته وعاركته وأنكرته، لكنه كان يعيرني بأنه مني واني هو على أية حال، وعندما أوشكت على التبرؤ منه، صار وجهه يتحول ويأخذ شكل أخي لقد بليت بنسب هؤلاء الأبناء، ولم أكن أحب سوى الفتاة الأنا، لكني تمردت معهم وأصبحوا لي آباء وصرت أنا ابنتهم الضالة) .

تؤكد سماح نظرية فرويد عن "عدوانية عفوية الطفل" عندما يمل من أفكاره ورسم صوره، يفكر باللجوء إلى رمي لعبته بعيدا عنه، أو يحاول تكسيرها لتحطيم تلك الأفكار الناتجة عنها، رفضه ان يكون كائننا ممسوخا الملامح، كما فعلت سماح حين حسمت أمرها بعد تحميض الصور في مخيلتها بتحطيم تلك الدمى ومعاقبتها "بعدوانية براءة الطفل"، التي انتهت (بتمتمات) صوت منخفض .

من نقدر سعي الكاتبة إلى تطوير أزمة الفرد من خلال تلك القصة التي استوقفتها في طفولتها، وتفاعلها مع موهبتها التأملية والساخرة، وقدرتها على تلخيص القصة على هذا الشكل الذي وضعت فيه بيوض أفكارها في شرودها كأي طفل حين يجالس نفسه، ويختلي بمخيلته، نسمع دمدمات صوته المنخفض، المتماشية مع رسم مخيلته إلى أن يصل للشكل الذي يريده ... فيبتسم تارة ويتمرد تارة أخرى على لعبته . كما نقلت لنا سماح قصة " استنساخ " وهذا ما يثبت وجهة نظرنا بلحظة تلك الذات في محاورة الأصابع الذين تحولوا إلى دمى، وسادسهم كانت هي نفسها كما أشارت في نهاية القصة إلى إحدى أصابعها الذي يختلف عنهم جميعا . في نظر الكاتبة عندما كانت طفلة ...

الكاتبة تعي جيدا ما تريد أن توصل للقارئ ؟ وما هو مدى الصدق في دمياتها المتحركة آدميا . ونحن على يقين لو طلبنا من الكاتبة أن تقرأ لنا هذه القصة، أو بعضا منها بصوت مرتفع، فإننا سنجد الكاتبة تضحك تارة وتدمع تارة أخرى لسماع صوت نضوجها في طفولتها ذلك الوقت .

وفي ساعة سكينة أخرى، تنقلنا الكاتبة بمخيلتها للغز قصة جديدة في هذا " الشكل المستطاع" وهو عنوان الكتاب كما أوحي للكاتبة حين وجدت نفسها مع زميلاتها في أحدى الغرف التابعة للمدرسة:

"انتشر كل منا في زاوية أو بقعة تمسح المكان الواسع وننهي المهمة في الوقت المحدد، لنصحو بعدها على كارثة الوقت قد فات منه ما فات، ونحن في زاوية واحدة، قد تكون خطة محكمة اضطررنا لاختبار الزاوية نفسها نحن جميعا، ليضيع الوقت دون أن نعثر علي ذاك الشكل المستطاع في تحرك الأصابع، كأنها ستصطدم بالشكل العملاق دون أن نعرف أين يقبع ذلك الشكل ! الذي لا نعرف إن كان يقبع حقا في بقعة ما أم أننا نحن من يعيث في جوفه ! "

هكذا نكتشف عمق تلك الطفلة التي أخرجت مخزونها الفكري وتساؤلاتها التي لم تجد لها شكلا :
"انقضى الوقت، وسمح لنا بسنين إضافية يرتع فيها غباؤنا في هذا البراح، وكان أن عثرنا على الشكل المستطاع، هلاميا سخيفا نحيلا هزيلا، ضعيفا نحيفا" ثم نتساءل أننا لم نعثر على شيء، وكان الأمر محض فسحة ومحاضرة في رحلة عن الشكل المستطاع، الذي لم يستطعه احد!" .

في كل قصة من قصص "الشكل المستطاع" يمكننا بسهولة اكتشاف شخصية الكاتبة المصحوبة بصور الأمكنة التي شغلتها قبل وبعد نضوجها، كما في قصة " المرايا تفرح" تعبر لنا عن ما استوقفها في تغيير أو تحول تلك الطفلة إلى المراهقة في أعين الناس باتجاه تغيير جسدها وما يراوده من متطلبات ورغبات الشباب، داخل ثمانية مرايا :
في المرآة الأولى: تصف لنا ملاحظاتها وتأملها الأول في شكلها عامة، شارحة لنا شعاع الوجه و شعر الجسد الزائد وثقل الثديين وتفاصيل أخرى .....

أما في المرآة الثانية: كان تأملها أكثر دقة في وصفها واندهاشها بتلك المرآة بدء الحاجب ودبدبة أنف الأمس الجميل وتحول تفاصيل الموجه كاملة لشكل غير مرضي و...
مسترسلة تنقلات النظر إلى المرآة الثالثة: وبما تبقى من تفاصيل فجاجة أعضائها الأنثوية المتحولة حديثا، ولم تنسى أن تسجل ملاحظات تلك المرايا التي "تنعم بنظرة واحدة إلى أماكن خصوصيتها، المختبئة من انعكاس الصورة وهي ترتدي ملابسها كما يختبئ اللص من خيال الشرطي" .

أما في المرآة الرابعة: ترسم الكاتبة مكاشفات مرايا نفسها، مرورا "بمرآة السيارة، ومرآة الحمام ...، وتصورها "لكشف الزوج ذلك الجسد في عيون كل آخر"، وكذلك مراياها الحزينة التي ترصد كل تمردها الغير مبرر، وبكائها لحساسية المراهق وانقلاب الشكل لدي المراهق عامة، وغضبه لموقف قد لا يستحق البكاء..، ومن تلك المرايا ترسم لنا شكل "المرايا الفرحة" واستعدادها لموعد غرامي حسب معطيات المراهقة وفق نسق الزمن المتغير حيث استخدام مرحلة تغيير الجسد واستعداه .

ليبقى السؤال: ماذا كانت تتوقعه الكاتبة غير ذلك؟! من أعضاء تلك الطفلة وتحول جسدها إلى البلوغ التام ؟!.
لعلنا نلاحظ كيف استعادت الكاتبة سماح بخفة متناهية، عالم طفولتها المشع بروح مفهومها الساخر ومنولوجها النابع من تأملاتها بما يدوي بين الطفولة والمراهقة، والنضوج بعين امرأة .
حيث يتم تغير عمر الإنسان كفصول السنة ونشأة أزمة الإنسان وقدره الوجود، إنها تجربة التكوين والانشغال، والانكشاف الذي يتحول فيه الخفي الظاهر، باستحضار الكاتب قيمة تلك اللحظات التي تخدم تقييم الإقناع النظري في القصة . أنها في أنها تغرد داخل السرب وخارجه في ضمير المتكلم ما يجعل القارئ يصنفها صمن التجربة الخاصة في التضاريس الذاتية البعيدة عن القيود .

هكذا تعود إلينا الكاتبة من جديد بعد كل قصة إلى صورتها، وطبيعتها لتبدو كأعواد ريش الطاووس، لتترك بين أعين القارئ ريشات أسئلتها الملغزة في فلسفة البوح، وحرية الوصول إلى قضايانا الشخصية والإنسانية في سطور قصصها القصيرة . ليبقى المتلقي يسال عن هروبها الساخر من الإجابات لصعوبة تغيير الموقف....

كما في قصة (بحث عابث) تفرش لنا معرض صور ذاكرتها الممتدة من إفرازات هرمونية تمردت.. لعدم جدوى إعادتها للحياة، أو لعدم رغبتها بخلط الحلم بالواقع، والممكن بالمستحيل، والإحساس بوجود الأمل، والسعي خلفه من جديد.. من وجهة نظر الكاتبة، بما أن قصص حياتنا لا تحتمل خيالا واسعة، بقدر ما تحتاج إلى الواقعية والنوعية التي تدخل في تنمية الوعي الإنساني، والمشاركة المجتمعية في مفهوم الواقع، وتحرره من الذي نعيشه في مجتمعنا وبمن نحيط به .
على عكس قصة (دفاع الكتروني) الساخرة من إمكانية حماية أسماء البشر وملفاتهم الشخصية من القرصنة الالكترونية، المرتبطة أسمائهم بذاكرة جهاز الكمبيوتر في برنامج "الدفاع عن النفس" الاتوماتيكي، ودهشتها من نقطة النهاية المقارنة بالواقع الفرد:

"لم يعننا هذا الرعب المتوقع من تكوين برنامج ذكي كهذا، لكن ما أرعبنا بعد الفراغ من العمل هو أننا نسينا تسجيل أسمائنا ضمن من نريد الدفاع عن أنفسنا منهم ، بل نسى كل منا أن يسجل في برنامجه اسم الآخر ليحمي نفسه منه! "

أما في قصة (سروال) وهو سروال القصة، نقلت لنا تفاصيل قصة البواب وترصد التقاط عدسة كاميرا الكاتبة ليصبح السروال قصة لدي الكاتبة بطريقتها بخفتها الممسرحة الساخرة ليتم نقلها للقارئ !
" حارس شجاع مهذب، شديد سواد اللون شديد بياض الثياب، يهرب مني كلما حاولت التقاطه بكاميرات القصة. يفلت بجبهته العريضة التي تغري الطفل بالرسم عليها، له طاقية بيضاء تشبه طاقية الإخفاء، كم تساءلنا متى ينام، لم يعلم أن هناك من سيكتبه على أزرار لوحة المفاتيح الالكترونية المصاحبة للحاسوب، ويحاول استراق بعض منه . وما زال يصر علي ألا اصعد بنظري أكثر، ولا أطال وجهه الرحيم وألا انزل إلى قدميه المكشوفتين، وان ابقي معلقة مع السروال الأبيض، معلقة في البياض حتى يترنح الساعدان باستمرار لطيف حول سروال القصة." لهذا أطلقنا عليها صاحبة " القلم الفنتازيا " لاختيارها مثل هذه القصة .
أما في قصة (لـغـة) تصف لنا الكاتبة سماح، قصة الحروف التي فقدت أثار معناها وسقطت فكرتها من سوء استعمالها من قبل بعض ناقلي مبادئها بغير الحقيقة، مما افقدها تواصل الحروف النبيلة بين مجتمع متواطئ على سوء استعمالها .
لهذا نقدر تمرد الكاتبة الأقدر على التعبير عن كل ما يدور في النفس ومع من حولها من أفكار وفرضيات غير متوازنة مع الحياة والمجتمع، ما أنتج هذان النوعان من الأمزجة في قصص سماح الشيخ، وهما وجدانية المجتمع، وسيرته الحياتية المبللة بالسجع الطبيعي، الذي أتى على غير المألوف في القصص "الشكل المستطاع".

لم تمر حالة من حالات الفرد إلا واستوقفها تسجيل بعضا من حياة المجتمع الفلسطيني بعمومه كما في قصة (شيخوخة) في حياة الزوجين/ ورهبة موروثات الزوج/ وأسباب عدم التوافق/ وفراغ المودة بينهما/ وعن سوء حظ الأبناء/ وتآمر القدر/ وتدخل الفرد المؤثر لزيادة الأذى والقلق إزاء الوضع القائم في مجتمعها .
لم تترك الكاتبة قصة مرتبطة بها وبنا وبالمجتمع إلا أظهرت خفاياه، وأبرزت فراغاته المؤثرة، كما في "قسوة الطقس"، "وسادية الظروف المعادية"، "ومراهقة الطفولة لدي الرجل"، وعن أطفال الشوارع في الطقوس الباردة، وحتى معاناة المواطن أثناء خروجه من الوطن في قصة (قبل أن تبدأ) حيث في الخروج تعرف النفس والعقل على الكثير من أحوال الحياة والثقافات، وحضارة الوجود، وصناعة الرأي، مما يمنحه سلوكا مختلفا في تعامله مع الحياة .
واضطهاد العودة إلى الوطن، وما يتخلله من مشاهد متناقضة بين من تسافر إليه، ومن يستقبلك في وطنك، ولم يفوت الكاتبة في نهاية عودتها، السخرية من الشتاء في الوقت العصيب الذي وصفته بـ "بول السماء الذي سيتحول يوما ما أو فيما بعد إلى حيض السماوات السبع .

وفي قصة (فوبيا) المنفردة باللمسة التسجيلية للموظف في مؤسسة، أو المؤسسات الحكومية، وسط تنظيمات وفئات متعددة والتي لعبت دورا في تحويل حركة الموظف النشطة منذ خروجه من المنزل قاصدا عمله في سيارته أو سيارة أجرة على إيقاع أغاني فيروز، وتفاؤله بنهار لا باس به من الحيوية، وسط حركة المراسلين وأصوات آلة التصوير وضرب السكرتيرات على الطابعات، مرورا بفناجين القهوة والشاي المتحركة على طاولة الموظف، وفوضى ارتباط الفرد بالعمل الذي تحول إلى مؤسسات دينية "بيروقراطية"، محاطة بالكثير من الألغاز أو الكهنوت...؟! وما اتضح بين ثنايا الموظف، واللعنة من العادات الجديدة الخاوية التي تم اقتراح حلها على طريقة الكاتبة الساخر كعادتها:

"وعندما يتم اقتراح حل لتلك الفوبيا الغير المبررة، تكون النتيجة أدوية نفسية باهظة الثمن، تثقل الخطوات وتضعف التركيز وتقلل من اليقظة . هو ذا الحل: عدم الوعي بالأشياء يقلل الخوف منها ."

هكذا تحقق سماح الشيخ، بسخرياتها النابعة من موهبتها .. نقد الحياة والمجتمع، لأجل أن تخفف من ضريبة تلاعب الموقف الظاهر في أعين الكاتبة .
أما في قصة (تهجين) أجادت الكاتبة سماح الشيخ وضع رموزا تصويرية موسيقية معبرة بحسب دارسو نظم الكتابة التصويرية التي تندرج تحت تسمية " الهيروغليفية" كحيلة فنية في الإبداع، على الرغم من ميل الكاتبة لتوزيع الأدوار بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة .

كما في قصة (بذاكرة مزيفة، اكتب قصة) المسجلة بأسلوب غير مباشر معتمدة على الإيماءات والإيحاءات، والتأثيرات النفسية والإنسانية والاجتماعية بأبعادها الواضحة في مجموعة "الشكل المستطاع" الذي وجدنا فيه أكثر من عمل فني وإبداعي، فضلا عن لفتاتها الإنسانية تجاه الأشياء الصغيرة واهتمامها الملحوظ بالحبكة ذات الإشارات والإيماءات، تاركة التفسير والتحليل للقارئ حسب تقديره ومفهومة للجانب الإنساني في القصة ! مقارنة الأناة بالآخر، وتحويلها إلى أفعال تخدم المجتمع واستنهاضه .

ومن المؤكد أن ثمة مستويات رمزية تلوح في قصص الكاتبة سماح الشيخ، المدونة بكل عنصر من عناصر شخصيات القصص، ومدى ارتباطها بالعناصر والرؤية التي تتسم بالعبثية .
وهناك العديد من العناوين تحمل قصص الفرد في مجتمع غزة التي جاءت نتائجه على هذا التوظيف للشكل المستطاع، لترمي قذائف تلك الأسئلة الساخرة في ملعب المتلقي، ليحرره من قيود مساحاته، وتطوير ما يحتاجه الإنسان من تغيير لظروفه المعيشية، والسياسية، والاجتماعية، لتتجدد الحركات الفكرية في مجتمعنا من جديد .
ورفضها لكثير من أشياء ربما لم تعلن عنها صراحة لحساسية الكتابة وسط اختلاف الوعي المتناقض الرؤى المحيطة بمجتمعها، ورفضه تحديث الفرد وتشكيله ديالكتيكيا بما يتلاءم مع كل طموحاته وانطلاقته الأكثر حداثة، وتحريك المجتمع الصامت والكشف عن معانات شرائحه المتمثلة في جوهر الحياة....

ولا تفوتنا ملاحظة: أن عالم سماح الشيخ الذي أدارته وألقت الكثير من الضوء عليه من خلال قصصها الإنسانية ومعاناة الفرد اليومية فيه، وشوقه الدائم لإعادة صياغة حاضره وما ضاع من حقوقه كإنسان حر، ليتناسب الوطن مع طموح الفرد، بدل أن يغادر الأرض التي نشأ فيها بحثا عن قيمته ليغدو معادلا مع يناوئه الواقعي، ليبقى كالجبل له في التاريخ ذكرا .

بهذه القصص المتمركزة على المواضيع المكتظة بتصوير الحالات، والأحاسيس المؤثر، والمسيطر علية قوة الظلام والقهر الاجتماعي، معلنة تحريضها الذاتي على المكاشفة والتحدي..
اذا استطاعت الكاتبة المسرحية سماح الشيخ، بطاقتها الدفاعي الإنساني ان تصرخ بوجه المجتمع، بآليات هذا الشكل الفني، والاقتراب من أعمال "ديستويفسكي" و" تولوتسوي" التي تمثل حالات مجتمعية تحمل لفتات إنسانية مطلقة تجاه أشياء كثيرة، وهنا يكمن سر جمالية قصص سماح الشيخ وقراءتها المستقبلية التي تتعدى حدود الورق المليئة بالحس المرهف والسخرية ومفهومها للواقع الاجتماعي .

فبرأي إذا كنا نريد أن نسجل مخطوطات روائية أو قصصية، يجب علينا أولا أن نكون كهنة الاعتراف ... ويجب أن نضع القوانين، والأسرة والمحيط والمجتمع، والسلطة، في فكرة البوح ليصبح الواقع ملموسا، متصلا بذات الجسد والروح، وبملامح الصوت، واللباس، والحركات، والإحساس، التي يلزمنا استعراضها، كما سجلت الكاتبة سماح الشيخ، تأملها بالأشياء ومحاكاة ما استوقفها وألزمها إيصال ما أمكن إيصاله رغم الإحباطات والعوامل الغير مساعدة، بدل أن نبقى جالسين خلف الستائر .
وهذا ما أعطانا مادة التعقيب على هذه القضايا لما لها من أهمية في الواقع الإنساني والاجتماعي، لا يستنفذ أهميته كثرة الحديث عنه، في وقت نحن بحاجة فيه إلى أن نصل إلى الجميع .



بقلم الكاتبة والشاعرة / هدلا القصار

نستذكر قول الروائي والناقد "جبرا خليل جبرا " انه في مرحلة ما لا بد أن يشعر الكاتب أو المبدع أو المفكر وحتى السياسي أنه أصبح بإمكانه تقديم سيرة حياته للناس أو تجربته الثقافية والفكرية أو الإنسانية " . وهي تجربة كانت في السابق تأخذ شكل مذكرات يومية، أما فيما بعد أصبحت هذه الرسائل تأخذ شكل الاعترافات استشهاداً بــ طه حسين، في رواية "عصفور الشرق" وحكاية بحار" لحنا مينا، وقصة "نفسي" لنجيب محفوظ، و "اعترافات" لجان جاك روسو، وأخيرا الروائي جبرا خليل جبرا في روايتين " البئر الأول، وشارع الأميرات" .

من هذا المنطلق ندعو المرأة الكاتبة المبدعة من الجيل الجديد الدخول إلى هذا العالم كما سجلت الفنانة المسرحية الكاتبة سماح الشيخ، المتمسكة بقلم الفنتازيا، كما في أدوارها المسرحية التي تهدئ من روع الكبار قبل الصغار بصوتها الناعم، وحركاتها المتنقلة بقفزات طفولية بهلوانية .

سماح الشيخ، الطفلة التي اكتشفنا عمقها وتمردها الشعوري واللاشعوري، وهويتها من خلال مجموعتها القصصية الأولى في "الشكل المستطاع" المحملة بأسئلة كثيرة تدور حول ما استوقفها منذ الطفولة حتى الآن . بدء من اختيارها لهذا الاسم، وتحليلها وفلسفتها للأشياء، وسخريتها للأفكار التي جمعتها في 49 قصة، لا تتجاوز قراءة كل قصة منها دقيقتين، تحمل حواراتها الخاصة مع الأناة، والآخر، والأشياء، والكائنات، بصوتها ولغتها وحميميتها ورؤيتها، مما أعطاها حق التنقيب في باطن المجتمع وممارسته .

في بداية هذه المجموعة القصصية نجد حقيقة (الدّمى) لطالما لعبت دورا خفيا في بلورة شخصيات الإنسان مُنذ الطّفولة، وواقع ما تخبئه تلك الشخصيّات وما تحتويه من مبادئ، وأفكار، وقيم، ... بأثواب ملوّنة، لتتسلل صورها مختلف تفاصيل حياتنا حتى الدقيقة منها المحملة في دفاترنا، وأقلامنا، وملابسنا، وحقائبنا......

تطرح الكاتبة في مجموعة "الشكل المستطاع" أفكارها القديمة المستحدثة، كي نعايشها رؤيتها في تلك القصص القصيرة المستحضرة من كنز فضائها الذي يحمل فضاء كيانٍ أنساني اجتماعي، على شكل شخوص تعكس كل منها حقيقة الآخر وتشكيله وتكوينه .

وربما من خلال هذه القصص حققت الكاتبة شيئاً من التوازن الداخلي الذي يفتقده الفرد داخل قبح النفس البشرية الذي سرعان ما يخرج منه بمجرد أن يجد العامل المحرك له، مستفيدا من كل ما مر به الكاتب بأبعاده الفكرية والفلسفية، كروايات البريطاني " جورج أرويل" وهو من أهم أدباء القرن العشرين، التي تحمل خيال الواقع كما حدثتنا الكاتبة عن أناة فكرة الطفل المشعة في مخيلتها وذاكرتها، المتنقلة بأفكار تعكس حوارات الطفل مع الأشياء ومسائلاته، في منولوج فكرة طفلة، بعد أن أصبحت في سن الرشد، وما زالت تستفزها تلك المحادثات والمسائلات من وقت لأخر مع تلك الدمى، المتمثلة بشخوص قد كانت تعرفهم أو لم تكن تعرفهم، لكن لا يمكننا أن نتجاهل صوتها، "صوت الطفلة" التي أصبحت ممثلة مسرحية وكاتبة، تحاول تفسير كل ما مرت به بلغة تتجاوز منطق الطفل!

لنقرأ في البداية قصة سماح الشيخ الأولى بعنوان "استنساخ" وإبعادها النفسية والاجتماعية لدي الطفل :
"كان الأسبق في الميلاد هو الأصغر عمراً ، فاجأني بهذا اصغر الأبناء سناً، فهو أول من ولد . كانوا كلهم يحملون شكل وجهي بأجسام مختلفة وأطوال متباينة . حتى الذكور منهم، اللذين كان عددهم خمسة . الأنثى هي السادسة، وهي أنا الطفلة ."

هذا ما جعلها تفكر باللاوعي بشكلها الأنثوي المنجب، والأكثر ظاهرا في جنسها "المرأة" كما راودتها الفكرة :
"ما جعلني أوافق على فكرة الإنجاب هو .. وعدهم لي "
هي اختصار لفكرة راودتها وطرحها احد الأبناء الخمس وهم أخوانها الذكور، الذين يحمل كل منهم صفة من أخيه، بعد جمعهم تصنيفهم وفرزهم .
"اذكر جيداً ذلك المتعصب برأيه المتشدد المتزمت، كم جادلته وعاركته وأنكرته، لكنه كان يعيرني بأنه مني واني هو على أية حال، وعندما أوشكت على التبرؤ منه، صار وجهه يتحول ويأخذ شكل أخي لقد بليت بنسب هؤلاء الأبناء، ولم أكن أحب سوى الفتاة الأنا، لكني تمردت معهم وأصبحوا لي آباء وصرت أنا ابنتهم الضالة) .

تؤكد سماح نظرية فرويد عن "عدوانية عفوية الطفل" عندما يمل من أفكاره ورسم صوره، يفكر باللجوء إلى رمي لعبته بعيدا عنه، أو يحاول تكسيرها لتحطيم تلك الأفكار الناتجة عنها، رفضه ان يكون كائننا ممسوخا الملامح، كما فعلت سماح حين حسمت أمرها بعد تحميض الصور في مخيلتها بتحطيم تلك الدمى ومعاقبتها "بعدوانية براءة الطفل"، التي انتهت (بتمتمات) صوت منخفض .

من نقدر سعي الكاتبة إلى تطوير أزمة الفرد من خلال تلك القصة التي استوقفتها في طفولتها، وتفاعلها مع موهبتها التأملية والساخرة، وقدرتها على تلخيص القصة على هذا الشكل الذي وضعت فيه بيوض أفكارها في شرودها كأي طفل حين يجالس نفسه، ويختلي بمخيلته، نسمع دمدمات صوته المنخفض، المتماشية مع رسم مخيلته إلى أن يصل للشكل الذي يريده ... فيبتسم تارة ويتمرد تارة أخرى على لعبته . كما نقلت لنا سماح قصة " استنساخ " وهذا ما يثبت وجهة نظرنا بلحظة تلك الذات في محاورة الأصابع الذين تحولوا إلى دمى، وسادسهم كانت هي نفسها كما أشارت في نهاية القصة إلى إحدى أصابعها الذي يختلف عنهم جميعا . في نظر الكاتبة عندما كانت طفلة ...

الكاتبة تعي جيدا ما تريد أن توصل للقارئ ؟ وما هو مدى الصدق في دمياتها المتحركة آدميا . ونحن على يقين لو طلبنا من الكاتبة أن تقرأ لنا هذه القصة، أو بعضا منها بصوت مرتفع، فإننا سنجد الكاتبة تضحك تارة وتدمع تارة أخرى لسماع صوت نضوجها في طفولتها ذلك الوقت .

وفي ساعة سكينة أخرى، تنقلنا الكاتبة بمخيلتها للغز قصة جديدة في هذا " الشكل المستطاع" وهو عنوان الكتاب كما أوحي للكاتبة حين وجدت نفسها مع زميلاتها في أحدى الغرف التابعة للمدرسة:

"انتشر كل منا في زاوية أو بقعة تمسح المكان الواسع وننهي المهمة في الوقت المحدد، لنصحو بعدها على كارثة الوقت قد فات منه ما فات، ونحن في زاوية واحدة، قد تكون خطة محكمة اضطررنا لاختبار الزاوية نفسها نحن جميعا، ليضيع الوقت دون أن نعثر علي ذاك الشكل المستطاع في تحرك الأصابع، كأنها ستصطدم بالشكل العملاق دون أن نعرف أين يقبع ذلك الشكل ! الذي لا نعرف إن كان يقبع حقا في بقعة ما أم أننا نحن من يعيث في جوفه ! "

هكذا نكتشف عمق تلك الطفلة التي أخرجت مخزونها الفكري وتساؤلاتها التي لم تجد لها شكلا :
"انقضى الوقت، وسمح لنا بسنين إضافية يرتع فيها غباؤنا في هذا البراح، وكان أن عثرنا على الشكل المستطاع، هلاميا سخيفا نحيلا هزيلا، ضعيفا نحيفا" ثم نتساءل أننا لم نعثر على شيء، وكان الأمر محض فسحة ومحاضرة في رحلة عن الشكل المستطاع، الذي لم يستطعه احد!" .

في كل قصة من قصص "الشكل المستطاع" يمكننا بسهولة اكتشاف شخصية الكاتبة المصحوبة بصور الأمكنة التي شغلتها قبل وبعد نضوجها، كما في قصة " المرايا تفرح" تعبر لنا عن ما استوقفها في تغيير أو تحول تلك الطفلة إلى المراهقة في أعين الناس باتجاه تغيير جسدها وما يراوده من متطلبات ورغبات الشباب، داخل ثمانية مرايا :
في المرآة الأولى: تصف لنا ملاحظاتها وتأملها الأول في شكلها عامة، شارحة لنا شعاع الوجه و شعر الجسد الزائد وثقل الثديين وتفاصيل أخرى .....

أما في المرآة الثانية: كان تأملها أكثر دقة في وصفها واندهاشها بتلك المرآة بدء الحاجب ودبدبة أنف الأمس الجميل وتحول تفاصيل الموجه كاملة لشكل غير مرضي و...
مسترسلة تنقلات النظر إلى المرآة الثالثة: وبما تبقى من تفاصيل فجاجة أعضائها الأنثوية المتحولة حديثا، ولم تنسى أن تسجل ملاحظات تلك المرايا التي "تنعم بنظرة واحدة إلى أماكن خصوصيتها، المختبئة من انعكاس الصورة وهي ترتدي ملابسها كما يختبئ اللص من خيال الشرطي" .

أما في المرآة الرابعة: ترسم الكاتبة مكاشفات مرايا نفسها، مرورا "بمرآة السيارة، ومرآة الحمام ...، وتصورها "لكشف الزوج ذلك الجسد في عيون كل آخر"، وكذلك مراياها الحزينة التي ترصد كل تمردها الغير مبرر، وبكائها لحساسية المراهق وانقلاب الشكل لدي المراهق عامة، وغضبه لموقف قد لا يستحق البكاء..، ومن تلك المرايا ترسم لنا شكل "المرايا الفرحة" واستعدادها لموعد غرامي حسب معطيات المراهقة وفق نسق الزمن المتغير حيث استخدام مرحلة تغيير الجسد واستعداه .

ليبقى السؤال: ماذا كانت تتوقعه الكاتبة غير ذلك؟! من أعضاء تلك الطفلة وتحول جسدها إلى البلوغ التام ؟!.
لعلنا نلاحظ كيف استعادت الكاتبة سماح بخفة متناهية، عالم طفولتها المشع بروح مفهومها الساخر ومنولوجها النابع من تأملاتها بما يدوي بين الطفولة والمراهقة، والنضوج بعين امرأة .
حيث يتم تغير عمر الإنسان كفصول السنة ونشأة أزمة الإنسان وقدره الوجود، إنها تجربة التكوين والانشغال، والانكشاف الذي يتحول فيه الخفي الظاهر، باستحضار الكاتب قيمة تلك اللحظات التي تخدم تقييم الإقناع النظري في القصة . أنها في أنها تغرد داخل السرب وخارجه في ضمير المتكلم ما يجعل القارئ يصنفها صمن التجربة الخاصة في التضاريس الذاتية البعيدة عن القيود .

هكذا تعود إلينا الكاتبة من جديد بعد كل قصة إلى صورتها، وطبيعتها لتبدو كأعواد ريش الطاووس، لتترك بين أعين القارئ ريشات أسئلتها الملغزة في فلسفة البوح، وحرية الوصول إلى قضايانا الشخصية والإنسانية في سطور قصصها القصيرة . ليبقى المتلقي يسال عن هروبها الساخر من الإجابات لصعوبة تغيير الموقف....

كما في قصة (بحث عابث) تفرش لنا معرض صور ذاكرتها الممتدة من إفرازات هرمونية تمردت.. لعدم جدوى إعادتها للحياة، أو لعدم رغبتها بخلط الحلم بالواقع، والممكن بالمستحيل، والإحساس بوجود الأمل، والسعي خلفه من جديد.. من وجهة نظر الكاتبة، بما أن قصص حياتنا لا تحتمل خيالا واسعة، بقدر ما تحتاج إلى الواقعية والنوعية التي تدخل في تنمية الوعي الإنساني، والمشاركة المجتمعية في مفهوم الواقع، وتحرره من الذي نعيشه في مجتمعنا وبمن نحيط به .
على عكس قصة (دفاع الكتروني) الساخرة من إمكانية حماية أسماء البشر وملفاتهم الشخصية من القرصنة الالكترونية، المرتبطة أسمائهم بذاكرة جهاز الكمبيوتر في برنامج "الدفاع عن النفس" الاتوماتيكي، ودهشتها من نقطة النهاية المقارنة بالواقع الفرد:

"لم يعننا هذا الرعب المتوقع من تكوين برنامج ذكي كهذا، لكن ما أرعبنا بعد الفراغ من العمل هو أننا نسينا تسجيل أسمائنا ضمن من نريد الدفاع عن أنفسنا منهم ، بل نسى كل منا أن يسجل في برنامجه اسم الآخر ليحمي نفسه منه! "

أما في قصة (سروال) وهو سروال القصة، نقلت لنا تفاصيل قصة البواب وترصد التقاط عدسة كاميرا الكاتبة ليصبح السروال قصة لدي الكاتبة بطريقتها بخفتها الممسرحة الساخرة ليتم نقلها للقارئ !
" حارس شجاع مهذب، شديد سواد اللون شديد بياض الثياب، يهرب مني كلما حاولت التقاطه بكاميرات القصة. يفلت بجبهته العريضة التي تغري الطفل بالرسم عليها، له طاقية بيضاء تشبه طاقية الإخفاء، كم تساءلنا متى ينام، لم يعلم أن هناك من سيكتبه على أزرار لوحة المفاتيح الالكترونية المصاحبة للحاسوب، ويحاول استراق بعض منه . وما زال يصر علي ألا اصعد بنظري أكثر، ولا أطال وجهه الرحيم وألا انزل إلى قدميه المكشوفتين، وان ابقي معلقة مع السروال الأبيض، معلقة في البياض حتى يترنح الساعدان باستمرار لطيف حول سروال القصة." لهذا أطلقنا عليها صاحبة " القلم الفنتازيا " لاختيارها مثل هذه القصة .
أما في قصة (لـغـة) تصف لنا الكاتبة سماح، قصة الحروف التي فقدت أثار معناها وسقطت فكرتها من سوء استعمالها من قبل بعض ناقلي مبادئها بغير الحقيقة، مما افقدها تواصل الحروف النبيلة بين مجتمع متواطئ على سوء استعمالها .
لهذا نقدر تمرد الكاتبة الأقدر على التعبير عن كل ما يدور في النفس ومع من حولها من أفكار وفرضيات غير متوازنة مع الحياة والمجتمع، ما أنتج هذان النوعان من الأمزجة في قصص سماح الشيخ، وهما وجدانية المجتمع، وسيرته الحياتية المبللة بالسجع الطبيعي، الذي أتى على غير المألوف في القصص "الشكل المستطاع".

لم تمر حالة من حالات الفرد إلا واستوقفها تسجيل بعضا من حياة المجتمع الفلسطيني بعمومه كما في قصة (شيخوخة) في حياة الزوجين/ ورهبة موروثات الزوج/ وأسباب عدم التوافق/ وفراغ المودة بينهما/ وعن سوء حظ الأبناء/ وتآمر القدر/ وتدخل الفرد المؤثر لزيادة الأذى والقلق إزاء الوضع القائم في مجتمعها .
لم تترك الكاتبة قصة مرتبطة بها وبنا وبالمجتمع إلا أظهرت خفاياه، وأبرزت فراغاته المؤثرة، كما في "قسوة الطقس"، "وسادية الظروف المعادية"، "ومراهقة الطفولة لدي الرجل"، وعن أطفال الشوارع في الطقوس الباردة، وحتى معاناة المواطن أثناء خروجه من الوطن في قصة (قبل أن تبدأ) حيث في الخروج تعرف النفس والعقل على الكثير من أحوال الحياة والثقافات، وحضارة الوجود، وصناعة الرأي، مما يمنحه سلوكا مختلفا في تعامله مع الحياة .
واضطهاد العودة إلى الوطن، وما يتخلله من مشاهد متناقضة بين من تسافر إليه، ومن يستقبلك في وطنك، ولم يفوت الكاتبة في نهاية عودتها، السخرية من الشتاء في الوقت العصيب الذي وصفته بـ "بول السماء الذي سيتحول يوما ما أو فيما بعد إلى حيض السماوات السبع .

وفي قصة (فوبيا) المنفردة باللمسة التسجيلية للموظف في مؤسسة، أو المؤسسات الحكومية، وسط تنظيمات وفئات متعددة والتي لعبت دورا في تحويل حركة الموظف النشطة منذ خروجه من المنزل قاصدا عمله في سيارته أو سيارة أجرة على إيقاع أغاني فيروز، وتفاؤله بنهار لا باس به من الحيوية، وسط حركة المراسلين وأصوات آلة التصوير وضرب السكرتيرات على الطابعات، مرورا بفناجين القهوة والشاي المتحركة على طاولة الموظف، وفوضى ارتباط الفرد بالعمل الذي تحول إلى مؤسسات دينية "بيروقراطية"، محاطة بالكثير من الألغاز أو الكهنوت...؟! وما اتضح بين ثنايا الموظف، واللعنة من العادات الجديدة الخاوية التي تم اقتراح حلها على طريقة الكاتبة الساخر كعادتها:

"وعندما يتم اقتراح حل لتلك الفوبيا الغير المبررة، تكون النتيجة أدوية نفسية باهظة الثمن، تثقل الخطوات وتضعف التركيز وتقلل من اليقظة . هو ذا الحل: عدم الوعي بالأشياء يقلل الخوف منها ."

هكذا تحقق سماح الشيخ، بسخرياتها النابعة من موهبتها .. نقد الحياة والمجتمع، لأجل أن تخفف من ضريبة تلاعب الموقف الظاهر في أعين الكاتبة .
أما في قصة (تهجين) أجادت الكاتبة سماح الشيخ وضع رموزا تصويرية موسيقية معبرة بحسب دارسو نظم الكتابة التصويرية التي تندرج تحت تسمية " الهيروغليفية" كحيلة فنية في الإبداع، على الرغم من ميل الكاتبة لتوزيع الأدوار بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة .

كما في قصة (بذاكرة مزيفة، اكتب قصة) المسجلة بأسلوب غير مباشر معتمدة على الإيماءات والإيحاءات، والتأثيرات النفسية والإنسانية والاجتماعية بأبعادها الواضحة في مجموعة "الشكل المستطاع" الذي وجدنا فيه أكثر من عمل فني وإبداعي، فضلا عن لفتاتها الإنسانية تجاه الأشياء الصغيرة واهتمامها الملحوظ بالحبكة ذات الإشارات والإيماءات، تاركة التفسير والتحليل للقارئ حسب تقديره ومفهومة للجانب الإنساني في القصة ! مقارنة الأناة بالآخر، وتحويلها إلى أفعال تخدم المجتمع واستنهاضه .

ومن المؤكد أن ثمة مستويات رمزية تلوح في قصص الكاتبة سماح الشيخ، المدونة بكل عنصر من عناصر شخصيات القصص، ومدى ارتباطها بالعناصر والرؤية التي تتسم بالعبثية .
وهناك العديد من العناوين تحمل قصص الفرد في مجتمع غزة التي جاءت نتائجه على هذا التوظيف للشكل المستطاع، لترمي قذائف تلك الأسئلة الساخرة في ملعب المتلقي، ليحرره من قيود مساحاته، وتطوير ما يحتاجه الإنسان من تغيير لظروفه المعيشية، والسياسية، والاجتماعية، لتتجدد الحركات الفكرية في مجتمعنا من جديد .
ورفضها لكثير من أشياء ربما لم تعلن عنها صراحة لحساسية الكتابة وسط اختلاف الوعي المتناقض الرؤى المحيطة بمجتمعها، ورفضه تحديث الفرد وتشكيله ديالكتيكيا بما يتلاءم مع كل طموحاته وانطلاقته الأكثر حداثة، وتحريك المجتمع الصامت والكشف عن معانات شرائحه المتمثلة في جوهر الحياة....

ولا تفوتنا ملاحظة: أن عالم سماح الشيخ الذي أدارته وألقت الكثير من الضوء عليه من خلال قصصها الإنسانية ومعاناة الفرد اليومية فيه، وشوقه الدائم لإعادة صياغة حاضره وما ضاع من حقوقه كإنسان حر، ليتناسب الوطن مع طموح الفرد، بدل أن يغادر الأرض التي نشأ فيها بحثا عن قيمته ليغدو معادلا مع يناوئه الواقعي، ليبقى كالجبل له في التاريخ ذكرا .

بهذه القصص المتمركزة على المواضيع المكتظة بتصوير الحالات، والأحاسيس المؤثر، والمسيطر علية قوة الظلام والقهر الاجتماعي، معلنة تحريضها الذاتي على المكاشفة والتحدي..
اذا استطاعت الكاتبة المسرحية سماح الشيخ، بطاقتها الدفاعي الإنساني ان تصرخ بوجه المجتمع، بآليات هذا الشكل الفني، والاقتراب من أعمال "ديستويفسكي" و" تولوتسوي" التي تمثل حالات مجتمعية تحمل لفتات إنسانية مطلقة تجاه أشياء كثيرة، وهنا يكمن سر جمالية قصص سماح الشيخ وقراءتها المستقبلية التي تتعدى حدود الورق المليئة بالحس المرهف والسخرية ومفهومها للواقع الاجتماعي .

فبرأي إذا كنا نريد أن نسجل مخطوطات روائية أو قصصية، يجب علينا أولا أن نكون كهنة الاعتراف ... ويجب أن نضع القوانين، والأسرة والمحيط والمجتمع، والسلطة، في فكرة البوح ليصبح الواقع ملموسا، متصلا بذات الجسد والروح، وبملامح الصوت، واللباس، والحركات، والإحساس، التي يلزمنا استعراضها، كما سجلت الكاتبة سماح الشيخ، تأملها بالأشياء ومحاكاة ما استوقفها وألزمها إيصال ما أمكن إيصاله رغم الإحباطات والعوامل الغير مساعدة، بدل أن نبقى جالسين خلف الستائر .
وهذا ما أعطانا مادة التعقيب على هذه القضايا لما لها من أهمية في الواقع الإنساني والاجتماعي، لا يستنفذ أهميته كثرة الحديث عنه، في وقت نحن بحاجة فيه إلى أن نصل إلى الجميع .

بقلم الكاتبة والشاعرة / هدلا القصار

نستذكر قول الروائي والناقد "جبرا خليل جبرا " انه في مرحلة ما لا بد أن يشعر الكاتب أو المبدع أو المفكر وحتى السياسي أنه أصبح بإمكانه تقديم سيرة حياته للناس أو تجربته الثقافية والفكرية أو الإنسانية " . وهي تجربة كانت في السابق تأخذ شكل مذكرات يومية، أما فيما بعد أصبحت هذه الرسائل تأخذ شكل الاعترافات استشهاداً بــ طه حسين، في رواية "عصفور الشرق" وحكاية بحار" لحنا مينا، وقصة "نفسي" لنجيب محفوظ، و "اعترافات" لجان جاك روسو، وأخيرا الروائي جبرا خليل جبرا في روايتين " البئر الأول، وشارع الأميرات" .

من هذا المنطلق ندعو المرأة الكاتبة المبدعة من الجيل الجديد الدخول إلى هذا العالم كما سجلت الفنانة المسرحية الكاتبة سماح الشيخ، المتمسكة بقلم الفنتازيا، كما في أدوارها المسرحية التي تهدئ من روع الكبار قبل الصغار بصوتها الناعم، وحركاتها المتنقلة بقفزات طفولية بهلوانية .

سماح الشيخ، الطفلة التي اكتشفنا عمقها وتمردها الشعوري واللاشعوري، وهويتها من خلال مجموعتها القصصية الأولى في "الشكل المستطاع" المحملة بأسئلة كثيرة تدور حول ما استوقفها منذ الطفولة حتى الآن . بدء من اختيارها لهذا الاسم، وتحليلها وفلسفتها للأشياء، وسخريتها للأفكار التي جمعتها في 49 قصة، لا تتجاوز قراءة كل قصة منها دقيقتين، تحمل حواراتها الخاصة مع الأناة، والآخر، والأشياء، والكائنات، بصوتها ولغتها وحميميتها ورؤيتها، مما أعطاها حق التنقيب في باطن المجتمع وممارسته .

في بداية هذه المجموعة القصصية نجد حقيقة (الدّمى) لطالما لعبت دورا خفيا في بلورة شخصيات الإنسان مُنذ الطّفولة، وواقع ما تخبئه تلك الشخصيّات وما تحتويه من مبادئ، وأفكار، وقيم، ... بأثواب ملوّنة، لتتسلل صورها مختلف تفاصيل حياتنا حتى الدقيقة منها المحملة في دفاترنا، وأقلامنا، وملابسنا، وحقائبنا......

تطرح الكاتبة في مجموعة "الشكل المستطاع" أفكارها القديمة المستحدثة، كي نعايشها رؤيتها في تلك القصص القصيرة المستحضرة من كنز فضائها الذي يحمل فضاء كيانٍ أنساني اجتماعي، على شكل شخوص تعكس كل منها حقيقة الآخر وتشكيله وتكوينه .

وربما من خلال هذه القصص حققت الكاتبة شيئاً من التوازن الداخلي الذي يفتقده الفرد داخل قبح النفس البشرية الذي سرعان ما يخرج منه بمجرد أن يجد العامل المحرك له، مستفيدا من كل ما مر به الكاتب بأبعاده الفكرية والفلسفية، كروايات البريطاني " جورج أرويل" وهو من أهم أدباء القرن العشرين، التي تحمل خيال الواقع كما حدثتنا الكاتبة عن أناة فكرة الطفل المشعة في مخيلتها وذاكرتها، المتنقلة بأفكار تعكس حوارات الطفل مع الأشياء ومسائلاته، في منولوج فكرة طفلة، بعد أن أصبحت في سن الرشد، وما زالت تستفزها تلك المحادثات والمسائلات من وقت لأخر مع تلك الدمى، المتمثلة بشخوص قد كانت تعرفهم أو لم تكن تعرفهم، لكن لا يمكننا أن نتجاهل صوتها، "صوت الطفلة" التي أصبحت ممثلة مسرحية وكاتبة، تحاول تفسير كل ما مرت به بلغة تتجاوز منطق الطفل!

لنقرأ في البداية قصة سماح الشيخ الأولى بعنوان "استنساخ" وإبعادها النفسية والاجتماعية لدي الطفل :
"كان الأسبق في الميلاد هو الأصغر عمراً ، فاجأني بهذا اصغر الأبناء سناً، فهو أول من ولد . كانوا كلهم يحملون شكل وجهي بأجسام مختلفة وأطوال متباينة . حتى الذكور منهم، اللذين كان عددهم خمسة . الأنثى هي السادسة، وهي أنا الطفلة ."

هذا ما جعلها تفكر باللاوعي بشكلها الأنثوي المنجب، والأكثر ظاهرا في جنسها "المرأة" كما راودتها الفكرة :
"ما جعلني أوافق على فكرة الإنجاب هو .. وعدهم لي "
هي اختصار لفكرة راودتها وطرحها احد الأبناء الخمس وهم أخوانها الذكور، الذين يحمل كل منهم صفة من أخيه، بعد جمعهم تصنيفهم وفرزهم .
"اذكر جيداً ذلك المتعصب برأيه المتشدد المتزمت، كم جادلته وعاركته وأنكرته، لكنه كان يعيرني بأنه مني واني هو على أية حال، وعندما أوشكت على التبرؤ منه، صار وجهه يتحول ويأخذ شكل أخي لقد بليت بنسب هؤلاء الأبناء، ولم أكن أحب سوى الفتاة الأنا، لكني تمردت معهم وأصبحوا لي آباء وصرت أنا ابنتهم الضالة) .

تؤكد سماح نظرية فرويد عن "عدوانية عفوية الطفل" عندما يمل من أفكاره ورسم صوره، يفكر باللجوء إلى رمي لعبته بعيدا عنه، أو يحاول تكسيرها لتحطيم تلك الأفكار الناتجة عنها، رفضه ان يكون كائننا ممسوخا الملامح، كما فعلت سماح حين حسمت أمرها بعد تحميض الصور في مخيلتها بتحطيم تلك الدمى ومعاقبتها "بعدوانية براءة الطفل"، التي انتهت (بتمتمات) صوت منخفض .

من نقدر سعي الكاتبة إلى تطوير أزمة الفرد من خلال تلك القصة التي استوقفتها في طفولتها، وتفاعلها مع موهبتها التأملية والساخرة، وقدرتها على تلخيص القصة على هذا الشكل الذي وضعت فيه بيوض أفكارها في شرودها كأي طفل حين يجالس نفسه، ويختلي بمخيلته، نسمع دمدمات صوته المنخفض، المتماشية مع رسم مخيلته إلى أن يصل للشكل الذي يريده ... فيبتسم تارة ويتمرد تارة أخرى على لعبته . كما نقلت لنا سماح قصة " استنساخ " وهذا ما يثبت وجهة نظرنا بلحظة تلك الذات في محاورة الأصابع الذين تحولوا إلى دمى، وسادسهم كانت هي نفسها كما أشارت في نهاية القصة إلى إحدى أصابعها الذي يختلف عنهم جميعا . في نظر الكاتبة عندما كانت طفلة ...

الكاتبة تعي جيدا ما تريد أن توصل للقارئ ؟ وما هو مدى الصدق في دمياتها المتحركة آدميا . ونحن على يقين لو طلبنا من الكاتبة أن تقرأ لنا هذه القصة، أو بعضا منها بصوت مرتفع، فإننا سنجد الكاتبة تضحك تارة وتدمع تارة أخرى لسماع صوت نضوجها في طفولتها ذلك الوقت .

وفي ساعة سكينة أخرى، تنقلنا الكاتبة بمخيلتها للغز قصة جديدة في هذا " الشكل المستطاع" وهو عنوان الكتاب كما أوحي للكاتبة حين وجدت نفسها مع زميلاتها في أحدى الغرف التابعة للمدرسة:

"انتشر كل منا في زاوية أو بقعة تمسح المكان الواسع وننهي المهمة في الوقت المحدد، لنصحو بعدها على كارثة الوقت قد فات منه ما فات، ونحن في زاوية واحدة، قد تكون خطة محكمة اضطررنا لاختبار الزاوية نفسها نحن جميعا، ليضيع الوقت دون أن نعثر علي ذاك الشكل المستطاع في تحرك الأصابع، كأنها ستصطدم بالشكل العملاق دون أن نعرف أين يقبع ذلك الشكل ! الذي لا نعرف إن كان يقبع حقا في بقعة ما أم أننا نحن من يعيث في جوفه ! "

هكذا نكتشف عمق تلك الطفلة التي أخرجت مخزونها الفكري وتساؤلاتها التي لم تجد لها شكلا :
"انقضى الوقت، وسمح لنا بسنين إضافية يرتع فيها غباؤنا في هذا البراح، وكان أن عثرنا على الشكل المستطاع، هلاميا سخيفا نحيلا هزيلا، ضعيفا نحيفا" ثم نتساءل أننا لم نعثر على شيء، وكان الأمر محض فسحة ومحاضرة في رحلة عن الشكل المستطاع، الذي لم يستطعه احد!" .

في كل قصة من قصص "الشكل المستطاع" يمكننا بسهولة اكتشاف شخصية الكاتبة المصحوبة بصور الأمكنة التي شغلتها قبل وبعد نضوجها، كما في قصة " المرايا تفرح" تعبر لنا عن ما استوقفها في تغيير أو تحول تلك الطفلة إلى المراهقة في أعين الناس باتجاه تغيير جسدها وما يراوده من متطلبات ورغبات الشباب، داخل ثمانية مرايا :
في المرآة الأولى: تصف لنا ملاحظاتها وتأملها الأول في شكلها عامة، شارحة لنا شعاع الوجه و شعر الجسد الزائد وثقل الثديين وتفاصيل أخرى .....

أما في المرآة الثانية: كان تأملها أكثر دقة في وصفها واندهاشها بتلك المرآة بدء الحاجب ودبدبة أنف الأمس الجميل وتحول تفاصيل الموجه كاملة لشكل غير مرضي و...
مسترسلة تنقلات النظر إلى المرآة الثالثة: وبما تبقى من تفاصيل فجاجة أعضائها الأنثوية المتحولة حديثا، ولم تنسى أن تسجل ملاحظات تلك المرايا التي "تنعم بنظرة واحدة إلى أماكن خصوصيتها، المختبئة من انعكاس الصورة وهي ترتدي ملابسها كما يختبئ اللص من خيال الشرطي" .

أما في المرآة الرابعة: ترسم الكاتبة مكاشفات مرايا نفسها، مرورا "بمرآة السيارة، ومرآة الحمام ...، وتصورها "لكشف الزوج ذلك الجسد في عيون كل آخر"، وكذلك مراياها الحزينة التي ترصد كل تمردها الغير مبرر، وبكائها لحساسية المراهق وانقلاب الشكل لدي المراهق عامة، وغضبه لموقف قد لا يستحق البكاء..، ومن تلك المرايا ترسم لنا شكل "المرايا الفرحة" واستعدادها لموعد غرامي حسب معطيات المراهقة وفق نسق الزمن المتغير حيث استخدام مرحلة تغيير الجسد واستعداه .

ليبقى السؤال: ماذا كانت تتوقعه الكاتبة غير ذلك؟! من أعضاء تلك الطفلة وتحول جسدها إلى البلوغ التام ؟!.
لعلنا نلاحظ كيف استعادت الكاتبة سماح بخفة متناهية، عالم طفولتها المشع بروح مفهومها الساخر ومنولوجها النابع من تأملاتها بما يدوي بين الطفولة والمراهقة، والنضوج بعين امرأة .
حيث يتم تغير عمر الإنسان كفصول السنة ونشأة أزمة الإنسان وقدره الوجود، إنها تجربة التكوين والانشغال، والانكشاف الذي يتحول فيه الخفي الظاهر، باستحضار الكاتب قيمة تلك اللحظات التي تخدم تقييم الإقناع النظري في القصة . أنها في أنها تغرد داخل السرب وخارجه في ضمير المتكلم ما يجعل القارئ يصنفها صمن التجربة الخاصة في التضاريس الذاتية البعيدة عن القيود .

هكذا تعود إلينا الكاتبة من جديد بعد كل قصة إلى صورتها، وطبيعتها لتبدو كأعواد ريش الطاووس، لتترك بين أعين القارئ ريشات أسئلتها الملغزة في فلسفة البوح، وحرية الوصول إلى قضايانا الشخصية والإنسانية في سطور قصصها القصيرة . ليبقى المتلقي يسال عن هروبها الساخر من الإجابات لصعوبة تغيير الموقف....

كما في قصة (بحث عابث) تفرش لنا معرض صور ذاكرتها الممتدة من إفرازات هرمونية تمردت.. لعدم جدوى إعادتها للحياة، أو لعدم رغبتها بخلط الحلم بالواقع، والممكن بالمستحيل، والإحساس بوجود الأمل، والسعي خلفه من جديد.. من وجهة نظر الكاتبة، بما أن قصص حياتنا لا تحتمل خيالا واسعة، بقدر ما تحتاج إلى الواقعية والنوعية التي تدخل في تنمية الوعي الإنساني، والمشاركة المجتمعية في مفهوم الواقع، وتحرره من الذي نعيشه في مجتمعنا وبمن نحيط به .
على عكس قصة (دفاع الكتروني) الساخرة من إمكانية حماية أسماء البشر وملفاتهم الشخصية من القرصنة الالكترونية، المرتبطة أسمائهم بذاكرة جهاز الكمبيوتر في برنامج "الدفاع عن النفس" الاتوماتيكي، ودهشتها من نقطة النهاية المقارنة بالواقع الفرد:

"لم يعننا هذا الرعب المتوقع من تكوين برنامج ذكي كهذا، لكن ما أرعبنا بعد الفراغ من العمل هو أننا نسينا تسجيل أسمائنا ضمن من نريد الدفاع عن أنفسنا منهم ، بل نسى كل منا أن يسجل في برنامجه اسم الآخر ليحمي نفسه منه! "

أما في قصة (سروال) وهو سروال القصة، نقلت لنا تفاصيل قصة البواب وترصد التقاط عدسة كاميرا الكاتبة ليصبح السروال قصة لدي الكاتبة بطريقتها بخفتها الممسرحة الساخرة ليتم نقلها للقارئ !
" حارس شجاع مهذب، شديد سواد اللون شديد بياض الثياب، يهرب مني كلما حاولت التقاطه بكاميرات القصة. يفلت بجبهته العريضة التي تغري الطفل بالرسم عليها، له طاقية بيضاء تشبه طاقية الإخفاء، كم تساءلنا متى ينام، لم يعلم أن هناك من سيكتبه على أزرار لوحة المفاتيح الالكترونية المصاحبة للحاسوب، ويحاول استراق بعض منه . وما زال يصر علي ألا اصعد بنظري أكثر، ولا أطال وجهه الرحيم وألا انزل إلى قدميه المكشوفتين، وان ابقي معلقة مع السروال الأبيض، معلقة في البياض حتى يترنح الساعدان باستمرار لطيف حول سروال القصة." لهذا أطلقنا عليها صاحبة " القلم الفنتازيا " لاختيارها مثل هذه القصة .
أما في قصة (لـغـة) تصف لنا الكاتبة سماح، قصة الحروف التي فقدت أثار معناها وسقطت فكرتها من سوء استعمالها من قبل بعض ناقلي مبادئها بغير الحقيقة، مما افقدها تواصل الحروف النبيلة بين مجتمع متواطئ على سوء استعمالها .
لهذا نقدر تمرد الكاتبة الأقدر على التعبير عن كل ما يدور في النفس ومع من حولها من أفكار وفرضيات غير متوازنة مع الحياة والمجتمع، ما أنتج هذان النوعان من الأمزجة في قصص سماح الشيخ، وهما وجدانية المجتمع، وسيرته الحياتية المبللة بالسجع الطبيعي، الذي أتى على غير المألوف في القصص "الشكل المستطاع".

لم تمر حالة من حالات الفرد إلا واستوقفها تسجيل بعضا من حياة المجتمع الفلسطيني بعمومه كما في قصة (شيخوخة) في حياة الزوجين/ ورهبة موروثات الزوج/ وأسباب عدم التوافق/ وفراغ المودة بينهما/ وعن سوء حظ الأبناء/ وتآمر القدر/ وتدخل الفرد المؤثر لزيادة الأذى والقلق إزاء الوضع القائم في مجتمعها .
لم تترك الكاتبة قصة مرتبطة بها وبنا وبالمجتمع إلا أظهرت خفاياه، وأبرزت فراغاته المؤثرة، كما في "قسوة الطقس"، "وسادية الظروف المعادية"، "ومراهقة الطفولة لدي الرجل"، وعن أطفال الشوارع في الطقوس الباردة، وحتى معاناة المواطن أثناء خروجه من الوطن في قصة (قبل أن تبدأ) حيث في الخروج تعرف النفس والعقل على الكثير من أحوال الحياة والثقافات، وحضارة الوجود، وصناعة الرأي، مما يمنحه سلوكا مختلفا في تعامله مع الحياة .
واضطهاد العودة إلى الوطن، وما يتخلله من مشاهد متناقضة بين من تسافر إليه، ومن يستقبلك في وطنك، ولم يفوت الكاتبة في نهاية عودتها، السخرية من الشتاء في الوقت العصيب الذي وصفته بـ "بول السماء الذي سيتحول يوما ما أو فيما بعد إلى حيض السماوات السبع .

وفي قصة (فوبيا) المنفردة باللمسة التسجيلية للموظف في مؤسسة، أو المؤسسات الحكومية، وسط تنظيمات وفئات متعددة والتي لعبت دورا في تحويل حركة الموظف النشطة منذ خروجه من المنزل قاصدا عمله في سيارته أو سيارة أجرة على إيقاع أغاني فيروز، وتفاؤله بنهار لا باس به من الحيوية، وسط حركة المراسلين وأصوات آلة التصوير وضرب السكرتيرات على الطابعات، مرورا بفناجين القهوة والشاي المتحركة على طاولة الموظف، وفوضى ارتباط الفرد بالعمل الذي تحول إلى مؤسسات دينية "بيروقراطية"، محاطة بالكثير من الألغاز أو الكهنوت...؟! وما اتضح بين ثنايا الموظف، واللعنة من العادات الجديدة الخاوية التي تم اقتراح حلها على طريقة الكاتبة الساخر كعادتها:

"وعندما يتم اقتراح حل لتلك الفوبيا الغير المبررة، تكون النتيجة أدوية نفسية باهظة الثمن، تثقل الخطوات وتضعف التركيز وتقلل من اليقظة . هو ذا الحل: عدم الوعي بالأشياء يقلل الخوف منها ."

هكذا تحقق سماح الشيخ، بسخرياتها النابعة من موهبتها .. نقد الحياة والمجتمع، لأجل أن تخفف من ضريبة تلاعب الموقف الظاهر في أعين الكاتبة .
أما في قصة (تهجين) أجادت الكاتبة سماح الشيخ وضع رموزا تصويرية موسيقية معبرة بحسب دارسو نظم الكتابة التصويرية التي تندرج تحت تسمية " الهيروغليفية" كحيلة فنية في الإبداع، على الرغم من ميل الكاتبة لتوزيع الأدوار بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة .

كما في قصة (بذاكرة مزيفة، اكتب قصة) المسجلة بأسلوب غير مباشر معتمدة على الإيماءات والإيحاءات، والتأثيرات النفسية والإنسانية والاجتماعية بأبعادها الواضحة في مجموعة "الشكل المستطاع" الذي وجدنا فيه أكثر من عمل فني وإبداعي، فضلا عن لفتاتها الإنسانية تجاه الأشياء الصغيرة واهتمامها الملحوظ بالحبكة ذات الإشارات والإيماءات، تاركة التفسير والتحليل للقارئ حسب تقديره ومفهومة للجانب الإنساني في القصة ! مقارنة الأناة بالآخر، وتحويلها إلى أفعال تخدم المجتمع واستنهاضه .

ومن المؤكد أن ثمة مستويات رمزية تلوح في قصص الكاتبة سماح الشيخ، المدونة بكل عنصر من عناصر شخصيات القصص، ومدى ارتباطها بالعناصر والرؤية التي تتسم بالعبثية .
وهناك العديد من العناوين تحمل قصص الفرد في مجتمع غزة التي جاءت نتائجه على هذا التوظيف للشكل المستطاع، لترمي قذائف تلك الأسئلة الساخرة في ملعب المتلقي، ليحرره من قيود مساحاته، وتطوير ما يحتاجه الإنسان من تغيير لظروفه المعيشية، والسياسية، والاجتماعية، لتتجدد الحركات الفكرية في مجتمعنا من جديد .
ورفضها لكثير من أشياء ربما لم تعلن عنها صراحة لحساسية الكتابة وسط اختلاف الوعي المتناقض الرؤى المحيطة بمجتمعها، ورفضه تحديث الفرد وتشكيله ديالكتيكيا بما يتلاءم مع كل طموحاته وانطلاقته الأكثر حداثة، وتحريك المجتمع الصامت والكشف عن معانات شرائحه المتمثلة في جوهر الحياة....

ولا تفوتنا ملاحظة: أن عالم سماح الشيخ الذي أدارته وألقت الكثير من الضوء عليه من خلال قصصها الإنسانية ومعاناة الفرد اليومية فيه، وشوقه الدائم لإعادة صياغة حاضره وما ضاع من حقوقه كإنسان حر، ليتناسب الوطن مع طموح الفرد، بدل أن يغادر الأرض التي نشأ فيها بحثا عن قيمته ليغدو معادلا مع يناوئه الواقعي، ليبقى كالجبل له في التاريخ ذكرا .

بهذه القصص المتمركزة على المواضيع المكتظة بتصوير الحالات، والأحاسيس المؤثر، والمسيطر علية قوة الظلام والقهر الاجتماعي، معلنة تحريضها الذاتي على المكاشفة والتحدي..
اذا استطاعت الكاتبة المسرحية سماح الشيخ، بطاقتها الدفاعي الإنساني ان تصرخ بوجه المجتمع، بآليات هذا الشكل الفني، والاقتراب من أعمال "ديستويفسكي" و" تولوتسوي" التي تمثل حالات مجتمعية تحمل لفتات إنسانية مطلقة تجاه أشياء كثيرة، وهنا يكمن سر جمالية قصص سماح الشيخ وقراءتها المستقبلية التي تتعدى حدود الورق المليئة بالحس المرهف والسخرية ومفهومها للواقع الاجتماعي .

فبرأي إذا كنا نريد أن نسجل مخطوطات روائية أو قصصية، يجب علينا أولا أن نكون كهنة الاعتراف ... ويجب أن نضع القوانين، والأسرة والمحيط والمجتمع، والسلطة، في فكرة البوح ليصبح الواقع ملموسا، متصلا بذات الجسد والروح، وبملامح الصوت، واللباس، والحركات، والإحساس، التي يلزمنا استعراضها، كما سجلت الكاتبة سماح الشيخ، تأملها بالأشياء ومحاكاة ما استوقفها وألزمها إيصال ما أمكن إيصاله رغم الإحباطات والعوامل الغير مساعدة، بدل أن نبقى جالسين خلف الستائر .
وهذا ما أعطانا مادة التعقيب على هذه القضايا لما لها من أهمية في الواقع الإنساني والاجتماعي، لا يستنفذ أهميته كثرة الحديث عنه، في وقت نحن بحاجة فيه إلى أن نصل إلى الجميع .



#هدلا_القصار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عَالَمٌ أَزْرَقٌ


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدلا القصار - سماح الشيخ الطفلة التي ترتدي لباس الراشدين