أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الهام ملهبي - بسام حجار: سيرة الموت















المزيد.....

بسام حجار: سيرة الموت


الهام ملهبي

الحوار المتمدن-العدد: 3051 - 2010 / 7 / 2 - 13:36
المحور: الادب والفن
    


" أغبطك نعمة الحجر ، نعمة الصمت ، أيها المكان
سوف تحيا من بعدي"
بسام حجار


مر الآن على رحيل بسام حجار ما يقارب السنة و نصف، و مازلت لحد الآن لا أصدق أمر رحيله . ربما لأنني لم أكتشف الأمر إلا بعد أن مر أكثر من شهر على وفاته. حين قرأت الخبر كأن ذهولا باردا أصابني . لم يكن حزنا ، كان خجلا. كيف لم أعرف بالأمر في حينه؟
عرفت أنه يستحق مني أن أعرف بوفاته و أمنحه ما يستحق من حزن في وقته، خجلت من روحه التي كانت محيطة بي دائما و التي تمنيتها باستمرار صديقة لروحي، عرفت أن هذه الروح تستحق مني وداعا أكثر أناقة من أن أقرأ خبر الوفاة بعد أن بردت جثة الشاعر في القبر و غادر دفئه هذا العالم . عرفت أن كائناته السديمية و أشياءه التي سكنت صدري منذ قرأت شعره لأول مرة منذ ما يقارب عشر سنوات، تستحق مني عزاء أكثر حميمية و تحتاج حنانا بعد رحيل صاحبها عنها ، عرفت أن رحيله يستحق مني نحيبا بحجم شعره و زخمه اللذان يسكنان صدري. و لأن كل هذا لم يكن مازلت لحد الآن لا أستطيع التسليم برحيله عن هذا العالم.
اعتراني الخجل ، و مازال يرافقني لحد الآن كلما شاهدت صورته على صفحة ما ، كأنني أخشى أن تلتقي عيناي بعينيه ، أو أخشى أن أسمع صوت روحه بداخلي تعاتبني على خذلان ما. لكن .. هل الشاعر نحزن عليه أم نحزن به ؟ هل يكفي الحزن وداعا لشاعر؟ هل يستحق شاعر أن تختصر جرحك به في مجرد حزن؟ الشعراء كائنات جبلت من طين حزين ، لذلك يجب أن يكون وداعهم بأكثر مما فيهم ، أو على الأقل بغير ما فيهم.
لم يحدث أن أخذ مني الموت شخصا قريبا ، لكنه أخذ مني الكثيرين ممن أحببتهم : شعراء ، كتابا ، فنانين ، و حتى شخصيات روائية. هذه المرة حين أخذ بسام حجار كان متسللا ، لم ألحظ عبوره . بخطوات خافتة تشبه أشعار حجار ، و ربما تشبه حتى حياته، تسلل و أخذه في صمت. هو كان يعرف أن الموت سيأخذه ، كان يعرف أن ألبوم العائلة سيكون خاليا من صورته ذات يوم ،لذلك لم يأخذه الموت في صخب.

"لا أجدني واقفا أو جالسا أو ساهيا
لا في أبيض الصورة و لا في أسودها
و يخيل إلي ، ان شئت انتشال الوقت
من بئره، أنني ربما كنت خيال ذلك
الشخص المغادر."

لماذا نحب شعراء دون غيرهم؟ نجن بهم ، نشاركهم حزننا ، نحن لهم ، نضحك معهم ، نلاعب كلماتهم كما لوعرفناها منذ الصغر ، لعبنا معها و شاكسنا معها هذا العالم و شاركناها الأسرار الثمينة للطفولة.

لماذا هناك دائما ديوان شعر يسرق روحك من الغلاف، تمسكه بين يديك فتعتريك لهفة العاشق، يدق قلبك قبل أن تفتح دفة الكتاب الأولى . لا تتعامل معه مثلما تتعامل مع الكتب الأخرى حين تقلب الكتاب للجهة الثانية لترى ما كتب على غلافه من الخلف ، نبذة عن الشاعر أو ملخص أو كلمات كتبها أحد ما عن الشاعر أو الديوان . لا تفعل هذا أبدا، لأنك لست في حاجة لما يمهد لك رحلتك هذه . انخطاف غريب يجعلك تقف قليلا أمام الغلاف ، تتردد قليلا قبل أن تقلب دفة الكتاب لتبدأ القراءة ، كأنك تشك لو كنت تستحق فعلا هذه الدهشة التي سيمنحها لك ما يوجد بالداخل ، ماذا لو لم تكن تستحق هذا الشرف ، شرف أن يسكنك شاعر، شرف أن يطهرك شعر من الأحزان و لو للحظة ؟
هذا تماما ما حصل معي منذ سنوات ، حين أخذت كتاب بسام حجار "سوف تحيا من بعدي" بين يدي ، كانت أول مرة أسمع فيها اسمه، و كانت قد مرت علي فترة طويلة دون أن يسرقني شعر من نفسي و من العالم . فكان أن احتلني عالم هذا الشاعر الزاخر بالكثير من جمال تتعطش له هذه الحياة.

شعر هادئ و دافئ ، كضوء مصباح خجول. لا صخب و لا ضوضاء يستقبلانك ، فقط ظلام خفيف كأن شمعة صغيرة تضيء في زاوية ما من المكان. و صمت تجده يشبهك كثيرا كلما توغلت في القراءة ، أجمل الصمت و أرقاه تجده هناك.

لقد كان حجار في شعره هادئا لدرجة الألم ، و خافتا لدرجة الأسى ، و صامتا لدرجة التعب . كان كطائر جريح يدخل غرفتك بهدوء ، تتألم لرؤيته ، لكن لا تجرؤ على الاقتراب منه خشية أن تؤذيه. يبقى في أرجاء الغرفة دون ضجة ، مع الوقت تحتل روحه المكان. قد يتوارى عن نظرك، لكنك لا تغفل عنه و لا تنسى وجوده.

كان يشبه تلك الظلال التي احتلت دائما مكانا وافرا في نصوصه . تلك الظلال الكثيرة التي تحاصرك و أنت تقرأ شعره ، تأنس لها و ترافقها و حتى تصاحبها، و ربما تتعاطف معها و تحنو عليها. في الكثير من قصائده حضرت الظلال كأرواح شعرية و كانت مقنعة في حضورها ، و له مجموعة تحمل عنوانا رقيقا : "صحبة الظلال" . غير أن نصه "حكاية الرجل الذي صار ظلا" وحده قادر على أن يفتح في روحك بوابة صغيرة لكل ظل في هذا العالم ، هذا النص الذي يشبه حكاية أكثر من قصيدة ، لكن في نفس الوقت لا تستطيع التسليم إلا بكونه قصيدة . في هذا النص يروي لنا حجار معاناة ظل فقد صاحبه، لكنها معاناة كل الظلال حتى بوجود أصحابها:

" أشبه صاحبي في كل شيء، و لكنني ما سلكت نعمة البكاء أو عرفتها من قبل"

في هذا النص أشياء كثيرة مألوفة و عادية ، و لشدة بساطتها و ألفتها تصبح غير مألوفة. لكثرة ما كان الظل مألوفا في حياتك تكتشف هنا أنك لم تعرفه يوما و لم تنتبه له كما يجب . كيف يكون مألوفا وصف معاناة الظل و زوجة صاحبه تحمل أواني التنظيف لتنظفه عن أرضية المنزل، و وصف معاناته من الضجر ومن البقاء بلا عمر.

"ماذا افعل الآن اذ غادرني وانتظرت طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي ملاوة الدهر، فلا عمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يبقيني على قيد الحياة؟ أسفٌ، لا بد انكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضا. لا تزيلني أحماض ولا يحطمني ثقل ولا يطمرني تراب. رحماك أيها الضجر."

لكن كل هذا الحديث عن الظلال كان تمويها ، فحجار لم يتكلم إلا عن نفسه و عن الموت . حتى في حديثه عن أكثر الأشياء جمادا، كان يكتب سيرته التي هي سيرة الموت في نفس الآن . كان يعرف أن كل شيء في هذا العالم سوف يحيا من بعده ، لذلك كان يطوف بين الأشياء يرش حولها بعضا منه ، علها تحيا به من بعده . .
الحجر يأتي على ذكره كما لو كان جزءا من حياته ، أو بالأحرى جزءا من موته :

"لا أدري ما شغف الحجر
الذي ألم بي
يوسدني حجر
و يغطيني حجر
و حجر أبيض
يروي سيرتي
من فم التراب"

في مجموعة "تفسير الرخام" استحضار للحجر في علاقته بالموت ، الحجر حين يكون رخاما و ليس حجرا . حين تحسه باردا و شفيفا متجسدا في قبر أكثر من أي شيء أخر.

"الحجر هو، بلا ريب، أقل أشكال الأبد فصاحةً، غير أنّه بالتّأكيد أكثرها قابلية للتعيين. فوقه تنتصب صروحنا، وتعصف عواصفنا، عندما يستحيل الحجر شفيفاً، أو بالأحرى، عندما تستحيل الشفافية حجراً، تغدو أحلام الأرض قاطبة قابلة للقراءة. "

و كما يتحدث عن نفسه و عن موته ، هناك في نصوصه الكثير من الشوق لمن رحلوا، أولئك الذين أعطاهم بسام حجار مساحة كبيرة داخل شعره ، و ربما داخل حياته أيضا ، خاصة أخته و والده ، اللذان وجدا مقامهما في شعره بعد رحيلهما عن الحياة.

كتب الكثير من النصوص عن الموت ، و حتى النصوص التي لا يحضر فيها الموت بشكل حرفي ، فهو دائما حاضر في شكل ظل أو حجر أو باب ، أو في أشباح الموتى اللذين كانوا يزورون حجار باستمرار ، يتجولون في حياته بألفة ، يكسرون بعض أثاثه أو يسلونه في سهرة ثم يغادرون ، و ربما هم لم يغادروا أصلا و تلك الزيارات لم تكن سوى سهرات عادية بين من يعيشون في نفس المكان.

مع كل هذا لا يمكن التسليم بكون شعر حجار مأساويا ، الألم في نصوصه رقيق و خافت. رقة تجعلك تصاحب ألمه و تأنس له. لم يكن يخاف الموت ، كل ما فعله طيلة حياته هو أنه كان ينتظره. موته ليس رحيلا و لا حياته كانت ستطول أكثر ، كان الموت عنده متوقعا ، بل حتى رفيقا يشبه الظل. حياته كانت رحلة عبور من ضفة الى ضفة :
"ولا أدري ما الحكمة من اختصار عمري
برقمين وفاصلة
كأنني، في غفلة، عبرت
من ضفة الى ضفة
وبينهما مياه النسيان"

لقد عبر إذن إلى الضفة الأخرى التي طالما ربطته بها خيوط كثيرة . و ترك خلفه هذا العالم يحيا من بعده ، كائناته و أشياءه وظلاله و أطيافه ما زالت تحيا في نصوصه تتغذى على كلماته. كل شيء ما زال يحيا من بعده ، ربما يكون فقط قد ذهب ليرد الزيارة للموتى الذين زاروه مرارا ، و سيعود.



#الهام_ملهبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشيخ إمام : أحببناك و نفتقدك
- جمعيات حقوق الرجال ، دليل آخر على أننا نخطو الى الخلف
- فيالق تعوي تحت نافذتي
- حكايات ال كلا أبدا
- تلك اليد
- نساء يكتبن
- قصيدة : الابتسام داخل صورة
- سليم بركات : سحر اللغة يفضح تشظيات الواقع
- الكلمة


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الهام ملهبي - بسام حجار: سيرة الموت