أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - الانتخابات ومستقبل العراق!















المزيد.....



الانتخابات ومستقبل العراق!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3049 - 2010 / 6 / 30 - 21:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ــــــــــــــ
• مفكر وباحث عراقي في القضايا الإستراتيجية العربية والدولية، خبير في ميدان حقوق الإنسان، والقانون الدولي له مؤلفات عديدة ، في قضايا الفكر والقانون والنزاعات الدولية والصراع العربي- الإسرائيلي، والإسلام المعاصر والثقافة والأدب.
• مدير المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني، والمدير العام لمركز الدراسات العربي- الأوروبي .

تمهيد
شهد العراق خلال العام الذي سبق إجراء الانتخابات طائفة من التغييرات والتفاعلات المتعلقة بخارطته السياسية وتحالفات قواه وأحزابه وعلاقاته الإقليمية والدولية، ولا شك أن وصول الرئيس أوباما إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة (باعتباره الرئيس رقم 44) لم يكن بمعزل عن برنامجه الانتخابي ووعوده بالانسحاب من العراق طبقاً لاتفاقية أمنية أصرّ الرئيس السابق جورج دبليو بوش على إبرامها مع الحكومة العراقية عشية مغادرته البيت الأبيض.
لم تكن الهزيمة النكراء للجمهوريين أمام الديمقراطيين بعيدة عن العقدة العراقية الشائكة التي أرّقت فترة حكم الرئيس بوش، لاسيما ولايته الثانية وبخاصة منذ غزو واحتلال العراق في العام 2003. فقد ورّث بوش، أوباما تركة ثقيلة ليس من السهل التخلص منها وبخاصة من بعض ذيولها في المدى المنظور.
وإذا أردنا استعراض أهم التفاعلات السياسية الداخلية والخارجية، فسوف نبتدئ من الاتفاقية الأمنية، مروراً باللوحة السياسية العراقية،عبوراً بقضايا الخلاف الرئيسية مثل الديمقراطية التوافقية، والإصلاح، وصلاحيات الأقاليم (الفيدرالية)، والنفط وعقود إقليم كردستان، ومشكلة كركوك، ونتائج انتخابات المحافظات، وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية وقضية الاجتثاث والعزل السياسي التي هي عناوين أساسية للتضاريس العراقية الوعرة والبيئة القاسية التي تعيش فيها.
ولكي تكتمل الصورة فلا بد من بحث الواقع الإقليمي، لاسيما العربي من التطور السياسي في العراق، ماذا يريد العرب من العراق وماذا يريد العراق من العرب؟ وكذلك لا بد من وقفة أولية لمراجعة العلاقات الأمريكية - العراقية خلال العام الأول من حكم أوباما والسنة الأخيرة من ولاية المالكي والاحتمالات التي قد تترتب على الانتخابات القادمة.
ولا شك أن هناك تحديات كبرى ما زال العراق يواجهها، ولعل من أخطرها هو استمرار الاحتلال التعاقدي طبقاً للاتفاقية الأمنية بدلاً من الاحتلال العسكري الذي يفترض نهاية أولية له في أواخر العام 2011.
أما التحدي الثاني فهو الخطر الطائفي والمذهبي الذي لا يقلّ تأثيراً عن الاحتلال. ويعتبر استمرار ضعف تراكيب وهيكليات الدولة ومؤسساتها واستمرار ظاهرة العنف، هو التحدي الثالث، ورغم تحسن الوضع الأمني، إلا أن التفجيرات والمفخخات والعبوات الناسفة ضربت البلاد طولاً وعرضاً خلال الأشهر الأخيرة من العام 2009 وما بعدها، وبخاصة قُبيل وبُعيد إجراء الانتخابات في 7 آذار (مارس) العام 2010.
أما التحدي الرابع فهو استمرار ظاهرة الفساد والرشى وعمليات التزوير في مؤسسات الدولة، وحتى الآن ما تزال منظمة الشفافية العالمية تصنّف العراق باعتباره البلد الثالث في أسفل السلّم الدولي، لاستشراء الفساد المالي والإداري ونهب وتبديد المال العام.
إن التفاعلات والتطورات والاحتمالات السياسية التي شهدها العام 2009 هي مقدمة لمخاض سياسي عراقي جديد، لاسيما بعد ظهور نتائج الانتخابات، التي أفرزت أربعة قوائم رئيسية، أولها القائمة العراقية برئاسة د. إياد علاوي، وقائمة دولة القانون برئاسة نوري المالكي، وقائمة الائتلاف الوطني برئاسة السيد عمّار الحكيم، وضمّت إضافة إلى تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى، جماعة السيد مقتدى الصدر بثقل كبير، وقائمة التحالف الكردستاني، التي ضمّت الحزبين الكرديين، في حين توزعت المعارضة الكردية إلى مجموعتين هما التغيير بقيادة ناو شيروان مصطفى، وقائمة الإصلاح وهي تمثل جزءًا مهماً من التيار الإسلامي الكردي. ورغم الاستمرار في سياسة العزل بقرارات من هيئة المساءلة والعدالة إلا أن المسألة أخذت بُعداً قضائياً؟ بعد قرارات المفوضية العليا للانتخابات، الأمر الذي انتقده البعض واعتبره البعض الآخر انصياعاً لضغوط من الحكومة.
ومهما كانت النواقص والثغرات والمشاكل فإن اللوحة السياسية العراقية ازدادت استقطاباً وإن كانت التحالفات التي استندت إليها هي تحالفات انتخابية، وما تزال ضعيفة وهشة، وقد تنهار عند توزيع المناصب الأساسية، خصوصاً بعد حسم من سيشكل الوزارة، وهي العقدة المستعصية، وفيما بعد عند تقاسم المناصب السيادية وغيرها كما يُقال.
صحيح أن التضاريس السياسية العراقية مختلفة عن جغرافية أفغانستان بما فيها طبيعة القوى المتصارعة هناك، لكن الاحتدامات والتهديدات قد تكون أكثر خطورة على العملية السياسية إن لم يتم وضع شكل جديد من أشكال التوافق والذي قد يطال الدستور ذاته، لاسيما وقد احتوى على بعض الألغام التي قد تنفجر في أية لحظة، رغم وجود أرقام ما تزال صعبة، كاتساع نطاق المقاومة السلمية وحالات الممانعة والاحتجاج، وبقاء المقاومة المسلحة كأحد خيارات التصدي للاحتلال رغم انخفاض تأثيراتها الحالية وغياب برنامج ديمقراطي موحد يؤطر تياراتها ويعلن عن توجهاتها المستقبلية.


1- الديمقراطية التوافقية والديمقراطية "التواقفية"!!

أخذ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يطرح بين فترة وأخرى فكرة جديدة، وما يبدأ الحوار والجدل فيها، حتى ينتقل إلى فكرة ثانية، رغم عدم استكمال الأحزاب والتكتلات السياسية النقاش بشأنها بعد - سواءً من محازبيه أو المتحالفين أو المشاركين معه أو من منافسيه وخصومه أو أعدائه من داخل أو خارج العملية السياسية-.
ولعل في ذلك براعة سياسية يبديها المالكي على مجايليه من السياسيين، لاسيما الذين في السلطة، فلم يكن يبزّه فيها سوى جلال الطالباني رئيس الجمهورية، لكن اختلاف مواقع القوة والتأثير، جعل الكفة تميل لصالح المالكي، في حين أن الطالباني هو الأكثر برغماتية ودهاءً في السياسة، بل أنه أحد أبرز المخضرمين من الجيل الثاني للسياسيين العراقيين، خبرة وتجربة.
في أول عهده طرح المالكي فكرة المصالحة الوطنية وظلّت تنام وتستيقظ، ثم طرح خطة أمن بغداد الأولى والثانية والثالثة، ثم بدأ الحديث عن فرض دولة القانون، لكن هذه المراحل وإن بقيت ظلالها حتى الآن، أصبحت باهتة، رغم أن المشاريع التي كان يطرحها كان له من يشاركه فيها من القوى المؤتلفة- المختلفة في العملية السياسية، أي أنها كانت أقرب إلى القبول وربما الإجماع من لدن المشاركين في العملية السياسية، لكن المرحلة التي تلتها شهدت تعارضات واحتدامات كثيرة بين المالكي وشركائه بالدرجة الأساسية، ناهيكم عن الاختلافات بين المالكي وبعض أطراف العملية السياسية، حيث تمّ التناقض بينه وبين المعارضين للعملية السياسية.
ثم توّغل المالكي بعد إحرازه نجاحات في الميدان الأمني ومناورته بشأن الاتفاقية العراقية- الأمريكية، حين أبدى ممانعة لا تتعلق بالجوهر، والتقدم الذي حققه في انتخابات مجالس المحافظات، بطرح ثلاث قضايا في فترة زمنية قصيرة. وهي قضايا جديدة وجديرة بالمناقشة والتوقف عندها فيما إذا أصرّ على المضي فيها من الناحيتين السياسية والدستورية، الأولى تتعلق بضرورة تعديل الدستور، لاسيما ما يتعلق بصلاحيات الأقاليم ودور الحكومة الاتحادية المركزية، والثانية دعوته إلى النظام الرئاسي، والثالثة تتعلق بإلغاء ما سمّي بالديمقراطية التوافقية، وهو ما ثارت حوله الدوائر، إذ شعرت بعض الفرق والتكتلات السياسية أن مواقعها يمكن أن تتصدّع، فانتقدت تصريحات رئيس الوزراء، الذي قد يكون شعر بالقوة وربما بالغرور، لاسيما بعد بعض النجاحات التي حققها، بما فيها تصديه للميليشيات، ودعوته لدولة القانون ومحاولة تقديم أطروحة أقل تشبثاً بالطائفية قياساً لمجايليه من الحاكمين، لاسيما من كتلة الائتلاف الوطني العراقي (الشيعي)، لكن إصرار المالكي على تقديم نفسه الزعيم بلا منازع وتشبثه في مواقعه ومحاولة تهميش الآخرين، جعل طيفاً سياسياً وطائفياً واسعاً يتحالف ضده، وقاد هذا التحالف د. إياد علاوي المقرّب من الولايات المتحدة ومحل ثقتها، حيث أشعر حلفاءه أنه بتحالفهم معه سيكونون مقبولين من جانب واشنطن، التي لا تريد استمرار السلطة بأيادي قريبة من إيران، وربما بعضهم يمتثل لإرادتها لأسباب كثيرة.
ولعل أكثر المنتقدين لتوجهات المالكي عشية الانتخابات كان رئيس الجمهورية جلال الطالباني (كتلة التحالف الكردستاني) ونائبه طارق الهاشمي من كتلة التوافق سابقاً والذي استقال من قيادة الحزب الإسلامي لاحقاً وتحالف مع د. علاوي. وبغض النظر عمّا طرح المالكي من آراء فإن التعديلات المطلوبة على الدستور والتي تم الاتفاق عليها عشية إجراء الاستفتاء عليه لم تُنجز بعد، ويبدو أنها سوف لن تنجز على المدى المنظور، رغم أنه كان من المفترض إنجازها عقب مباشرة مجلس النواب أعماله بأربعة أشهر من انتخابه، وعلى الرغم من مرور أربعة سنوات، فالاحتدامات ازدادت والعقبات تعاظمت.
وهناك إشكالات موضوعية وأخرى ذاتية تقف عقبة أمام التعديلات، ولعل اللجنة الخاصة بتعديل الدستور التي تم تشكيلها لم تستطع انجاز مهمتها رغم انتهاء فترة صلاحيات مجلس النواب، فضلاً عن ذلك، فهناك حوالي 50 مادة من الدستور تتطلب إصدار قانون خاص لكي يصبح الدستور نافذاً.
وإذا أضفنا إلى هذه المشكلات مسألة صلاحيات الأقاليم كما طرحها رئيس الوزراء المنتهية ولايته المالكي ودعوته لتعزيز سلطات الحكومة الاتحادية (المركزية)، فإننا سنكون أمام لغم كبير يكاد يهدد العملية السياسية برمتها، بإضافة الاشتباك بين إقليم كردستان والسلطة الاتحادية (المركزية) حول موضوع النفط، فضلاً عن مشكلة كركوك المتفاقمة، حيث تعتبر بعض القوى المدعومة من المالكي أن المادة 140 من الدستور، التي تم تأسيسها على المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، قد استنفذت ولا يمكن السماح بأي شكل من الأشكال بضم كركوك إلى إقليم كردستان، بل والتشكيك بمهمة الأمم المتحدة، رغم أنها حاولت تأجيل المسألة باقتراح 4 حلول توافقية تدرّجية، لكنها لم ترضِ الأكراد مثلما لم يقبل بها العرب والتركمان. ويمتد الأمر إلى دور وصلاحيات البيشمركة وخاصة في بعض المناطق التي شهدت احتكاكات وسميت متنازع عليها. وإذا افترضنا أن علاوي قد يشكل الوزارة، فيما إذا لم تنجح مساعي تحالف جديد بين المالكي والحكيم، فإنه هو الآخر سيواجه مشكلة كركوك، خصوصاً وأن معظم قيادات قائمته ضد ضم كركوك إلى إقليم كردستان.
ولعل هذه اللوحة هي التي دفعت المالكي لأن يطرح حزمة جديدة من بالونات جسّ النبض بعد الرغبة في تعديل الدستور، بما يتعلق بالنظام الرئاسي وكذلك بإلغاء الديمقراطية التوافقية، لكن ضعف رصيده بعد الانتخابات سيجعل هذه المسألة مؤجلة، أو أن يطويها عالم النسيان، خصوصاً وان الكتل الفائزة جميعها لم تحصل على الأغلبية المطلوبة، الأمر الذي يدعوها للحديث عن صيغة التوافق، بما يضمن المشاركة وللأسف الشديد فإن شبح المحاصصة ما زال مخيّماً، خصوصاً بامتداداته الطائفية والاثنية.
وإذا كانت المحاصصة على حد تعبير بعض أقطاب العملية السياسية قد فشلت فشلاً ذريعاً لدرجة أن الكثيرين منهم غسل أيديه منها، إلا أن البعض الآخر ما زال يتشبث بها لأنه في حالة إلغائها سيتم تهديد مواقعه وامتيازاته التي حصل عليها وربما دون جدارة واستحقاق.
وإذا افترضنا أن الاحتلال سينتهي وفقاً للاتفاقية العراقية – الأمريكية بانسحاب كلي أو جزئي، خصوصاً وأن الجيش الوطني لم يتم تأهيله بعد، فضلاً عن أن الولايات المتحدة لم تحصل على النتائج التي أرادتها وغامرت من أجلها بغزو العراق، فإن هذا سيطرح بإلحاح وجدّية، الخارطة السياسية العراقية على بساط البحث، وهو ما أراد المالكي أن يسبق الزمن بطرحه، والتلويح به للآخرين من موقع القوة وباستخدام عنصر المفاجأة من جهة أخرى، لكن الأمور سارت بما لا تشتهي سفنه!.
إن موضوع النظام الرئاسي وما سمّي بالديمقراطية التوافقية، سيكون مطروحاً على نحو جديد إنْ آجلاً أم عاجلاً، وبخاصة إذا ما تحررت الإرادة السياسية العراقية، حتى وإن تضمن تخطّياً لبعض المعايير الطائفية والاثنية (التي ما تزال جهات الحكم في العراق تتمسك بها)، حين ينتخب العراق رئيساً بصورة مباشرة على أساس انتخابات عابرة للطوائف والاثنيات، مع برلمان يتمتع بصلاحيات واسعة تمثل نوعاً من التوازن، وهذا سيعني أن الديمقراطية التوافقية قد انتهى مفعولها، خصوصاً بعد أن أخضعت كل شيء للتوافق (من الوزير إلى الخفير)، الأمر الذي أوقف العمل فعلياً بمعايير الديمقراطية ونتائج الانتخابات، مستبدلاً إياها بصفقات للتقاسم الوظيفي المذهبي والاثني في غرف مغلقة أحياناً، وبتوافقات خارج الإرادة الشعبية التي رفضت المحاصصة، حتى وإن كانت صناديق الاقتراع لا تأتي بالنتائج التي تريدها.
وهنا لا بد من العودة إلى خيار حقيقي للديمقراطية، لاسيما بانتهاء الصيغة التي جاء بها الاحتلال وحواشيه وما تضمنته من اتفاقيات وقواعد، واعتماد الهوية الوطنية العراقية الجامعة، مع احترام حقوق وخصوصيات الهويات الفرعية، أساساً للتداول السلمي للسلطة، وعلى الأغلبية مراعاة مصالح وحقوق تمثيل الأقلية والمكوّنات المتنوّعة، مثلما على هذه الأخيرة احترام ومراعاة حقوق الأغلبية، وفقاً للتوازن الاجتماعي والسياسي والقومي والديني، وبخاصة باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والوطنية، خارج نطاق المحاصصة وانعكاساتها السلبية الخطيرة على النسيج المجتمعي.
2- الانتخابات البرلمانية: حسابات الحقل والبيدر!
لا شك أن هناك تحسناً ملحوظاً في الوضع الأمني في العراق خلال العام 2009، بدأ منذ النصف الثاني من العام 2008، لاسيما قبيل وبُعيد إجراء الانتخابات المحلية للمحافظات والأقضية والنواحي، رغم أن القلق ما زال يخيم على الكثير من الفاعليات والأنشطة، وخاصة إثر حدوث التفجيرات الكبرى التي وقعت في خريف العام 2009 وما بعدها، الأمر الذي يجعل من عناصر عدم الثبات والاستقرار مستمرة. ومع ذلك فقد توّجه نحو 12 مليون ناخب للمشاركة في الانتخابات بنسبة بلغت نحو 62% وهي نسبة كبيرة، وبغض النظر عن التجاوزات والخروقات والانتهاكات والنواقص والثغرات، وحتى بعض التلاعبات، فإن الانتخابات سارت بإقرار المراقبين الدوليين بشكل "مقبول"، ومع أن جميع القوائم شككت بها واعترضت على النتائج، الأمر الذي يعني أن الحكومة وخصومها والمتنافسين جميعاً، كانوا على درجة عالية من المنافسة وهم ظلّوا ينتظرون النتائج بفارغ الصبر، لاسيما في ظل الاستقطابات السياسية والطائفية، وهذا بحد ذاته واحد من دلائل سير الانتخابات الصحيح رغم الكثير من الاعتراضات.
لقد ساهم التحسّن النسبي في الوضع الأمني في تعزيز هيبة الدولة نسبياً، تلك التي انهارت بعد الاحتلال، خصوصاً عند حل المؤسسات العسكرية والأمنية بما فيها الجيش وقوى الأمن والشرطة وشرطة النجدة وشرطة المرور وحرس الحدود وغيرها.
وقد كانت نتائج الانتخابات المحلية أحد المؤشرات الأولية في هذا التوجه لدرجة أن انحساراً ملموساً شمل قوى كانت مهيمنة إلى حدود كبيرة على مجالس المحافظات وعلى البرلمان وعلى الشارع، حيث تقلّص نفوذها لصالح القوى الأقل تشدداً، خصوصاً إذا كانت من موقع الدولة، ويمكن القول أن انعطافاً "إيجابياً" محدوداً حصل لصالح القوى الأقل تطرفاً والتي عملت على استبعاد الشعارت الطائفية من خطابها المعلن على أقل تقدير، وإذا كانت النتائج لا تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع العراقي بعد سنوات من الاحتلال إلا أنها تعتبر تغييراً محدوداً في بعض التوجهات، من داخل مواقع السلطة وليس خارجها بالدرجة الأساسية. ومثل هذه النتائج كانت أكثر وضوحاً في الانتخابات البرلمانية، حيث تنبهت قوى كثيرة إلى ضرورة تحالفها لتتمكن من مواجهة كتلة المالكي وكتلة الحكيم، وهذا ما حصل عند إعلان تحالف القائمة العراقية، التي ضمّت قوى واسعة، لاسيما من الوسط السني وغير المتدين، وحققت نجاحات مهمة في محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين والموصل وبغداد وغيرها.
ما تزال اصطفافات القوى في الخارطة السياسية العراقية متقلبة، فالائتلاف الوطني العراقي "الشيعي" الذي يضم حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الإسلامي الأعلى وجماعة السيد مقتدى الصدر "جيش المهدي" وحزب الفضيلة وجماعات إسلامية أخرى، قسم منها يمثل أجزاء من حزب الدعوة، تعرّض إلى التصدع وخاضت القوائم المتنافسة معركة حامية الوطيس، وهو الأمر الذي استعدّ له الفرقاء عند خوض الانتخابات البرلمانية، لدرجة أن الأخوة الأعداء تحالفوا ضد المالكي وهم "المجلس الإسلامي الأعلى" وجماعة مقتدى الصدر، وانضم إليهم الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي السابق ومجموعته باسم الإصلاح.
أما جبهة التوافق الوطني "السنّية" فهي الأخرى تعرضت إلى التشتت، وكان الحزب الإسلامي الذي امتلك حصة الأسد في التقسيمات الحكومية قد تصرف بمعزل عن الجبهة الوطنية للحوار (د.صالح المطلك) وجماعة أهل العراق (د.عدنان الدليمي) وكتلة خلف العليّان وقد انعكس هذا الخلاف على شغور منصب رئيس مجلس النواب واستبدال الدكتور محمود الهاشمي بالدكتور إياد السامرائي، حيث انسحبت بعض الكتل من جبهة التوافق، وكان آخر من انسحب منها ومن الحزب الإسلامي نائب رئيس الوزراء طارق الهاشمي. وقد كانت المنافسة حامية بين التجمعات والقوى المؤتلفة والمختلفة في جبهة التوافق وبين جماعة الصحوات في مناطق غرب وشمال العراق غير الكردي وديالى وصلاح الدين.
كان تشكيل مجالس الصحوات ومشاركتها في العملية السياسية ودمج أقسام منها في القوات المسلحة (20%) خطوة مهمة لمنافسة جماعة جبهة التوافق، مثلما كان تشكيل مجالس الإسناد من جانب الحكومة، وبخاصة حزب الدعوة خطوة أخرى في تعزيز توجّه الحكومة، لاسيما الاتجاه الذي يقوده رئيس الوزراء نوري المالكي الذي طرح شعار "دولة القانون"، الأمر الذي رجّح نفوذه ، فضلاً عن بعض الإجراءات والخطوات التي اتخذها، لدرجة غلّبت كفته على كفة حلفائه الإسلاميين، لاسيما المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة السيد عبد العزيز الحكيم وخلفه نجله السيّد عمار الحكيم رغم الانتقادات التي تعرّض لها من جانب بعض القوى القريبة منه، وكذلك من القوى الكردية، وبقدر ما كانت هذه تسعى لإضعافه فقد أكسبته مصادر قوة لم تكن في حساباته أو حسابات الآخرين، لكن المالكي رغم مصادر قوته إلا أنه استفزّ كثيراً من القوى والشخصيات ضده، واستعدى الكثيرين عليه، خصوصاً إثر انفراده بالسلطة وحصرها بيد المقرّبين منه.
لقد طرح المالكي مسألة استعادة قوة ومركزية الدولة، خصوصاً بمواجهته لجماعة السيد مقتدى الصدر في البصرة ومدينة الثورة (الصدر) في بغداد ومواصلة ملاحقة تنظيمات القاعدة والجماعات المسلحة في الموصل وديالى التي تشكل عُقداً عراقية تكاد تكون مزمنة، لاسيما وأن ثلاث مكونات تتفاعل وتتداخل وتتعايش وتتصارع فيها، وهي : العرب والكرد والتركمان، فضلاً عن تعدد الأديان وتشعّب الطوائف فيها.
كما أن إصراره وتشجيعه المعلن والخفي لوزير النفط حسين الشهرستاني بشأن عدم الاعتراف أو إعادة النظر بعقود النفط التي أبرمتها حكومة إقليم كردستان، جعلته في نظر البعض يتخذ مواقف رجل دولة، وإن كان الأمر يثير إشكالات فيما يتعلق بصلاحيات وسلطات الأقاليم على حساب السلطة الاتحادية (الفيدرالية) طبقاً لما جاء في الدستور الذي هو مصدر الخلل والارتباك إزاء الكثير من القضايا العُقدية سواءًا المادة 140 المتعلقة بكركوك أو عقود النفط أو صلاحيات الأقاليم وتنازع القوانين أو غيرها، تلك الأمور التي تثير تعارضات وتفسيرات واجتهادات ومصالح متضاربة. وإذا كان البعض يحسب ذلك نقاط قوة له، فالبعض الآخر يخالفه بسبب مواقفه تلك، لاسيما بأضعاف صلاحيات وسلطات الآخرين، وبخاصة سلطات إقليم كردستان.
أما جماعة "الوفاق الوطني" التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور أياد علاوي والمقربة من الولايات المتحدة فقد ضعفت مواقعها، لاسيما بانسحاب البعض منها أو إعلانه مواقف مستقلة عنها وعن القائمة العراقية، حتى أن حزباً عريقاً مثل الحزب الشيوعي الذي هو طرف في القائمة العراقية، لم يستطع الحصول على مقعد واحد من المقاعد الـ440 المتنافس عليها في انتخابات مجالس المحافظات، ورغم أنه خاض انتخابات العام 2010 منفرداً باسم قائمة "اتحاد الشعب" لكنه لم يحصل على مقعد واحد. وقد جرت اتفاقات جديدة لتشكيل الحركة الوطنية العراقية، بالتحالف بين د. إياد علاوي ود.صالح المطلك، وهما ركنان أساسيان للقائمة العراقية، إضافة إلى كتلة طارق الهاشمي وكتلة أسامة النجفي وكتلة رافع العيساوي وكتلة ظافر العاني وآخرين. وهي تجمعات استطاعت إحراز نصر كبير في الانتخابات البرلمانية بحصولها على 91 مقعداً من مجموع 325 مقعد، رغم اجتثاث أعداد منها وشن حملة واسعة ضدها باعتبارها تريد إعادة البعثيين إلى مواقع الدولة. وبقدر ما ألحق ذلك ضرراً بسمعتها فإنه خدمها في الوقت نفسه وحفزّ أوساطاً كثيرة للتصويت لها، خصوصاً الجماعات التي وقفت ضد التوجهات الطائفية.
وبقيت الكتلة الكردية "التحالف الكردستاني" الأكثر تماسكاً حتى الآن من بقية الجبهات والكتل البرلمانية والسياسية، ولديها أجنّدة أكثر وضوحاً من الكتل والجماعات الأخرى، رغم ما حصل من تصدّع في حزب رئيس الجمهورية جلال الطالباني "الاتحاد الوطني الكردستاني" وبروز أصوات معارضة داخل كردستان مندّدة بالتجاوزات والانتهاكات والفساد ودخولها في معركة انتخابات المحافظات، باسم قائمة التغيير برئاسة ناو شيروان مصطفى الذي حصل على 22% من المقاعد. كما حصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على 10 مقاعد، وحصل حليفه الإصلاح على 7 مقاعد وهذه كلها على حساب الحزبين وبشكل خاص على حساب حزب الاتحاد والوطني، الذي يطمح جلال الطالباني أن يبقى رئيساً للجمهورية ممثلاً عن التحالف الكردستاني، وهو أمر ما زال يثير الكثير من التداعيات وردود الأفعال.
وإذا كانت "الكتلة الكردية" تعرف ما تريد، وإنْ كانت بعض طموحاتها تصطدم بمواقف الآخرين لاعتبارات قسم منها يتعلق بالتمدد في بعض مطالبها والذي سيؤدي إلى تعزيز سلطات الأقاليم على حساب سلطات الدولة الاتحادية، فإن انقسامها سيضعف من قوتها، خصوصاً إذا جرت تحالفات جديدة بين كتلة التغيير وبعض الكتل الكبيرة الفائزة، وكانت الكتلة الكردية تتشبث بما أعطاها الدستور من "حقوق"، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن بعض المواقف أخذت تتجمع ضدها، لاعتبارات تتعلق بالموقف من القضية الكردية ومن الفيدرالية من جهة وبالدور الذي اضطلعت به ما بعد الاحتلال من جهة أخرى، إضافة إلى الاحتكاكات بخصوص موضوع كركوك.
الاصطفافات السياسية الحالية حكمتها بعض المؤشرات المهمة، ومن أبرزها نتائج الانتخابات التشريعية (البرلمانية) في 7 آذار (مارس) 2010، فجميع الكتل تعمل على إعادة حساباتها ولملمة صفوفها وإجراء تحالفات جديدة، وليس هناك من تأثير كبير للبرامج السياسية والخدمية للقوائم المتنافسة، وإنما كانت الاصطفافات السياسية المسبقة هي التي تحكم المواقف سلفاً، رغم أن تغييرات قد تطرأ على هذه المسألة.
وحتى الكتل التي أحرزت نجاحات ملحوظة في الانتخابات المحلية والبرلمانية، فإنها تبدو أكثر حذراً وقلقاً من ضياع هذه المكاسب، لذلك تسعى لإعادة تحالفاتها القديمة، بما فيها توزيع المواقع داخل الكتل الفائزة، الأمر الذي يمكن قراءته على نحو يضع الانتخابات البرلمانية نصب العين، فهي الأهم والأكبر، لاسيما للسنوات الأربعة القادمة.
ومن المؤشرات المهمة الأخرى هو التغيير في الإستراتيجية الأمريكية ما بعد عهد الرئيس الأمريكي بوش، ففي ظل ولاية الرئيس الأمريكي الجديد أوباما وفوز الديمقراطيين وتراجع الجمهوريين، يجري الحديث ليس وعوداً هذه المرة، بل واقعاً عن انسحاب أمريكي سيبدأ في آب (أغسطس) 2010 وهو ما أكدته زيارة الرئيس أوباما إلى بغداد (نيسان /ابريل) 2009. وإذا كان الانسحاب مقرراً، فالاختلاف كيف سيتم ومتى وهل سيترك العراق دون تأهيل قواته لتستطيع حمايته من التهديدات الخارجية والداخلية؟
ولعل هناك خلافات بين البنتاغون الذي وإنْ كان يقر بالانسحاب، إلآّ انه يريده منظماً ويريد وجوداً أمريكياً ليتم إكمال المهمة دون فشل أو خسائر أو فوضى، وبين الـCIA ووزارة الخارجية، اللتان تدركان حجم الخسائر من الناحية السياسية والمستقبلية، لكن الكل، لاسيما بعد قرار الرئيس أوباما يقرّ بالانسحاب، والانسحاب ليس لفشل المشروع الأمريكي في العراق فحسب، بل للتبعات المالية الهائلة التي كلفها وللخسائر في الأرواح، ولاسيما بعد انسداد الآفاق، وهذه المسألة ناجمة من الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تلفّ الولايات المتحدة والعالم منذ الأشهر الستة الماضية، والتي قد تستمر لسنتين حسب بعض التقديرات الاقتصادية، ولعل هذه هي أولوية الأولويات بالنسبة لواشنطن، فلم يعد العراق أو أفغانستان أولوية ضمن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة.
وتريد الولايات المتحدة إكمال مهمتها بالإبقاء على قواعد عسكرية تساعد القوات العراقية في التدريب والتأهيل كما تقول، ومن جهة ثانية ضمان تدفق النفط واتفاقياته طبقاً للشروط الأمريكية (رغم أنها لم تحصل حتى الآن على عقود بالتراخيص التي فازت بها شركات غير أمريكية)، وإبقاء العراق خارج دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي، وتلك إحدى القواعد الأساسية في الإستراتيجيات الأمريكية خلال العقود الستة ونيّف الماضية، فرغم التغييرات والتطورات التي تحدث، إلا أن تلك الأهداف تكاد تكون "ثابتة " ومدّورة في خطط جميع الرؤساء الأمريكيين جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين!
لقد بدأت بوادر السياسة الأمريكية بالتغيير حتى إزاء المصطلحات، فالحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، أصبحت مواجهة "الطوارئ ما وراء البحار" والحديث أصبح عن أولويات السياسة الداخلية، لاسيما أزمة البنوك وشركات التأمين والرهن العقاري وقضايا التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وهذه في مقدمة خطابات الإدارة الجديدة، وتراجعت إلى حدود معينة مفردات الحرب على الإرهاب ونشر الديمقراطية والإصلاح وغيرها.
لقد أكد أوباما خلال زيارته المفاجئة إلى العراق (مطلع نيسان/ابريل 2009) أن الإستراتيجية الجديدة لا تريد البقاء في العراق، وتحمّل تبعات وأوزار ما حصل منذ غزوها العام 2003 وإلى أجل غير معلوم، وهو أمر لا طاقة لواشنطن عليه حالياً، خصوصاً وأن البقاء مكلفٌ ومستنزف، وربما يجعل هزيمتها غير المعلنة شاملة، لاسيما انعكاساتها على سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وربما على المستوى العالمي، بما فيها تأثيراتها على السياسة الداخلية، وقد أدرك أوباما أن استمرار وجود الولايات المتحدة في العراق، سيكون في الوقت الخطأ والمكان الخطأ وفي الخيار الخطأ.
الفرق بين بوش وأوباما، أن الأول هو المسؤول عن تبعات احتلال العراق وكان يصرّ على أن النصر قاب قوسين أو أدنى، وكان جدوله الزمني هو تراكم النجاحات حتى وإن كانت على الورق، أما بالنسبة لأوباما فإنه يريد التسريع في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مع الإبقاء على الحضور السياسي والنفوذ الاستخباري، مستفيداً من الأمر الواقع ووجود اتفاقية أمريكية- عراقية.
ولعل هذا يعتمد بدرجة كبيرة على مدى قدرة الولايات المتحدة على سحب قواتها بصورة منضبطة ودون حدوث فوضى أو فراغ أمني أو عسكري، ناهيكم عن إقرار دولي، لاسيما من دول الجوار وخصوصاً إيران على عدم التدخل بالشؤون الداخلية العراقية.
فهناك معادلة جديدة قد تنشأ باتفاق أمريكي، وهي تسير طردياً من خلال حكومة مركزية ومصالحة سياسية، وهما لم تتحققان حتى الآن وإن الكثير من العقبات تعترضهما، مع تقليل نفوذ الحركة الدينية وتقوية مواقع الدولة، لكن الأمر كله مرهون حالياً بقراءة نتائج الانتخابات البرلمانية والعمل على تكليف من سيتم الاتفاق عليه لرئاسة الوزراء، وقد لا يكون بعيداً عن ضغوط واتفاقات دولية، أمريكية، وإقليمية، خصوصاً بعد الزيارات المتعددة لرؤوساء القوائم والكتل إلى إيران والمملكة العربية السعودية وغيرها. يضاف إلى ذلك استعداد القوات المسلحة العراقية على ضبط الأمن والنظام العام والحراك السياسي والاجتماعي للقوى داخل وخارج العملية السياسية! ولعل بعض المؤشرات والقراءات لنتائج للانتخابات تذهب إلى أن الجميع سيكونون أقلية ولا وجود لأغلبية برلمانية، الأمر الذي يقتضي توافقات جديدة واستعانة بالولايات المتحدة.

3- هل تملك الانتخابات البرلمانية الحل السحري!

لا أظنّ أن أحداً يجادل في أهمية إجراء انتخابات وتداولية سلمية للسلطة، لكونها حق من حقوق الإنسان في المشاركة وإدارة الشؤون العامة وركناً مهماً للديمقراطية، لكنها لوحدها ودون توفر مستلزمات أخرى ضرورية مثل الأمن وسيادة القانون والمساواة والمواطنة واستقلال القضاء وغيرها، لا يمكن أن تفضي إلى نتائج سليمة وإيجابية.
المشاركون والمعارضون للعملية السياسية كلٌ يدعي أنه يمتلك الحل السحري للعراق. الفريق الأول، لاسيما القوى المتنفّذة، كان يراهن على الانتخابات التي جرت يوم 7 آذار (مارس) 2010، وأن بمقدوره لو فاز، التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه البلاد، ويعتبر هذا الفريق خيار الانتخابات ضرورة، لاسيما بغياب أو تغييب إمكانية حلول أخرى.
أما الفريق الثاني المعارضون لخيار الانتخابات، فهم يعتبرون ألاَّ جدوى أو طائل من الانتخابات، لأنها ستكرّس القوى الطائفية - الاثنية وهي باطلة ولاغية وغير شرعية، لأنها تجري في ظل الاحتلال ودستوره وقوانينه، وبالتالي فإن رهانه الأساسي يرتكز على فشل العملية السياسية، سواءً تشبث بالمقاومة أو لم يتشبث، وإن كانت هذه الأخيرة بحاجة إلى وقفة جدية لتقويم مسارها وبرامجها وتحالفاتها وقواها وأسباب تراجعها.
وأيّا كانت مواقف الفرق المتعارضة فإن نتائج الانتخابات وسواءً قاطعها من يرغب أو شارك فيها من يريد، فإنما اختلفت إلى حدود غير قليلة عن فلك استقطابات العام 2005، زيادة أو نقصاناً لهذا الفريق أو ذاك باستبدال وتغيير المواقع أو الإبقاء عليها، ورغم الديناميكية التي خلقتها الانتخابات، لكن المجتمع العراقي رغم حراكه وحيويته، إلا أنه لم ينتج حتى الآن طبقة سياسية مدنية جديدة قادرة على مواجهة التحدي الطائفي والاثني، وإذا كان بعض الاستقطاب واضحاً، فالبعض الآخر جاء مغلّفاً، ويمكن القول لأغراض محددة، وهو ما قد ينفجر بأية لحظة.
فهل يستطيع الفائزون، الذين كان بيدهم القدح المعلاّ طيلة الأعوام السبعة ونيّف الماضية من انتشال العراق من الوضع المأساوي الذي يغرق فيه، بالانتخابات أو بغيرها؟ وهل بإمكان من قاطع الانتخابات إنقاذ البلاد من شرور الاحتلال والمحاصصة الطائفية- الاثنية وحالة التشظي وهشاشة الأمن واستمرار ظاهرة الميليشيات وضعف هياكل الدولة وشحة الخدمات، لاسيما الماء الصافي والكهرباء واستشراء البطالة وتفشي الفساد الإداري والمالي والرشى؟ وبقدر بشاعة الاحتلال وسواد صورة الحاضر وضبابية المستقبل، فليس بمقدور أحد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء مهما جرى التغنّي بالماضي.
لعل التحديات التي تواجه العراق كبيرة ومعقّدة ومتداخلة، وفيها الدولي، المتمثل بالاحتلال، والإقليمي الذي لا يقلّ إيذاءً للعراق وشعبه ووحدته ومستقبله، لاسيما دور إيران، وفيها الداخلي الذي يزداد تشظياً وتفتتاً وانقساماً. فالانتخابات في ظل أوضاع غير اعتيادية، سواءً استبعدت هذه المجموعة أو لم تستبعد، زوّرت أم لم تزوّر، فازت بها هذه الفئة أم تلك أو هذه الجماعة أو غيرها، لن تستطيع مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بالكيان العراقي بعد حلّ الدولة ومؤسساتها، لاسيما العسكرية والأمنية،

العابرة للطوائف والاثنيات، والموحِّدة، بغض النظر عن محاولات "أدلجة" قياداتها وتسييسها في ظل الحكم السابق، إنْ لم تعيد وتسترجع وتعزز هيبة الدولة ومؤسساتها طبقاً لحكم القانون.
وإذا كانت القضايا الكبرى مهمة مثل الاحتلال والطائفية والأمن والاختراق الإقليمي، لكن التفاصيل الخاصة بحياة الناس لا تقل أهمية فالمواطن، لكي يختار ويكون اختياره صحيحاً، لا بدّ من توفير بعض المستلزمات الأولية له، إذْ هو بحاجة إلى ماء وكهرباء وتعليم وصحة وعمل. وعلى من يتصدّر المشهد السياسي أن يضع ذلك بنظر الاعتبار سواءً شارك في الانتخابات أو قاطعها فاز أو لم يفز، الأمر الذي بحاجة إلى حوار شامل دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش!!
لقد شهد الحكم الملكي في العراق انتخابات دورية وإن كانت صورية أو شكلية يجري تزويرها وحسم نتائجها سلفاً في ظل معاهدات غير متكافئة ومذلّة مع بريطانيا ولاحقاً مع الولايات المتحدة ووجود قواعد عسكرية ثابتة وامتيازات سياسية وأمنية واقتصادية، ولاحقا في إطار حلف بغداد الاستعماري، وكانت المعارضة الوطنية مرّة تشارك ومرّة تحتجب وتقاطع، وحصل أن فازت ببعض المقاعد، مع أن نتائج الانتخابات تم إلغاؤها وحُلّ البرلمان، لكن المختلف في الأمر، هو وجود الدولة وهيبتها وأمنها ووحدة جيشها وأجهزتها الأمنية أولاً وقبل كل شيء، وهو ما يزال غائباً أو ضعيفاً حتى الآن، وهذا ما يقرّه المشاركون والمعارضون للعملية السياسية، لاسيما في ظل تقاطع أجهزة الدولة وهشاشة تكويناتها الأمنية والاتهامات بين أطرافها.
لاشك أن الانتخابات مظهر من مظاهر الدولة العصرية، لاسيما الديمقراطية، لكنها تحتاج إلى توفير فضاء من الأمن والحرية وسيادة القانون، بحيث تكون نتائجها أمانة بيد النائب ورقابة من الناخب، خصوصاً بخيار القائمة المفتوحة، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الحوار، الذي ما زال قاصراً حتى الآن في ظل توافق قلق على قانون للانتخابات لاسيما بوجود قنبلة كركوك الموقوتة، ناهيكم عن عدم إقرار قانون للترخيص للأحزاب لممارسة حقها في العمل الشرعي القانوني، وبعد ذلك كله ؛ هل سيتمكن الفائزون بالانتخابات الإمساك بالحل السحري؟

4- العرب والعراق: إشكاليات متبادلة!!

منذ سبع سنوات ونيّف وما زلنا في الحلقة المفرغة بين مسؤولية العرب ومسؤولية العراقيين، وتحت ضغط أسئلة يطرحها البعض على البعض الآخر. العراقيون بأصنافهم وألوانهم عاتبون على العرب كلٍ من مواقعه، يلومونهم أحياناً ويحمّلون بعضهم مسؤولية ما وقع لهم أحياناً أخرى، وقد يذهب البعض الآخر إلى حد الاتهام ولاسيما للأنظمة والمؤسسات الرسمية، بما فيها جامعة الدول العربية.
أما العرب بألوانهم واتجاهاتهم فهم يلومون العراق وحكامه، في السابق والحاضر، ويحمّلونهم مسؤولية تدهور التضامن العربي وتصدّع الموقف العربي، لاسيما بسبب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990 وما تلا ذلك من مسلسل للتراجع وتوقيع اتفاقيات مدريد- أوسلو 1993 وما بعدها، وإنْ كان البعض يبرّر ذلك، فإن البعض الآخر له نظرة أخرى تبرّر على أقل تقدير موقفه من الوضع الجديد في العراق.
وإذا كان بعض العرب يلومون حكام بغداد في السابق ويأخذون عليهم تعنّتهم وعدم مرونتهم بما فيها التعاطي مع المستجدات الدولية، فإنهم منذ تغيير النظام السابق ووقوع العراق تحت الاحتلال يلومون الحكام الحاليين، وإن كانت النظرة قد تخففت بقبول الأمر الواقع، إلا أن الكثير من مظاهر الشك والريبة ما تزال مستمرة ولم يتم تبديدها بعد، بما فيها التردد في فتح الممثليات والسفارات العربية في بغداد، في حين أن بلداناً بعيدة أو إقليمية لا تمتلك مثل الوشائج العربية مع العراق، لديها سفارات وتمثيلاً واسعاً أحياناً رغم أن الظروف الأمنية تشمل الجميع وإن كان بدرجات متفاوتة.
ويمكن للباحث والدارس في العلاقات العراقية – العربية، أن يطرح عدداً من الأسئلة، فهل هناك رؤية واحدة أو حتى مشتركة إزاء نظرة العرب إلى العراق، أو إزاء نظرة العراقيين إلى العرب، سواءً على الصعيد الحكومي أو اللاحكومي، أم أن هناك أكثر من رؤية وأكثر من موقف، الأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار.
وإذا كانت هناك أكثر من رؤية رسمية وغير رسمية عربية، وفي كل رؤية تصورات وتوجهات متباينة، ناهيكم عن تنوع المصالح والمنافع المختلفة، فإن هناك في الوقت نفسه أكثر من رؤية عراقية إزاء العرب، سواءً كانت رسمية أو شعبية، وأحياناً رؤية متعارضة حتى في إطار التيار الواحد والجماعة الواحدة باختلاف مبرراتها ومنهجها.
الرؤى العربية تحمل الكثير من التناقضات بين ثناياها في الأسس والمنطلقات والتفاصيل، مثلما تحمل الرؤى العراقية، الكثير من التناقضات والاختلافات، فعلى الصعيد العراقي يمكن تقسيمها إلى ثلاث: الأولى تريد من العرب لاسيما الحكومات الاعتراف بما هو قائم والتعاطي معه والإقرار به باعتباره الشرعية القائمة طبقاً لدستور وانتخابات وتأسيس لعراق جديد، وتطالب الحكومات العربية التعاون مع الوضع القائم بمبررات أن العراق استعاد السيادة، ومثل هذه الرؤية تنسجم مع الرؤية الدولية، لاسيما للقوات المحتلة (المتعددة الجنسيات) حسب القرار 1546 الصادر في 8 حزيران (يونيو)2004. ولعل هذا ما تريده السياسة الإستراتيجية الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة منذ العام 2003 إلى يومنا هذا.
أما الرؤية الثانية، فإنها ترفض الاعتراف بالأمر الواقع وتشكك وتدين كل ما حصل وتريد إعادة القديم إلى قدمه، باعتباره الشرعية الوحيدة التي تعترف بها، ولعله حول هذه الرؤية تلتقي جماعات مختلفة بعضها يمثل النظام السابق، وبعضها تضرر من الإطاحة به، وبغض النظر عن مناهضة الاحتلال فهناك ضعفاً في بلورة برنامج وطني ديمقراطي نقيضاً للانقسام الطائفي الراهن ومن زاوية غير طائفية.
أما الرؤية الثالثة فإنها تقوم على اعتبار القديم في عداد الماضي، وإن هذا الأخير قد احتضر، أما الجديد فإنه لم يولد بعد، أي أن الشرعية التي تريدها هي شرعية مستقبلية، وتطلب من العرب مساعدة العراق والعراقيين للوصول إليها، بعد اجتياز هذه المرحلة الانتقالية.
وكل طرف من هذه الأطراف يلوم العرب ويحمّلهم، لأهداف مختلفة إنْ لم يكن مسؤولية ما حصل، فإنه على أقل تقدير يحمّلهم عدم مساعدة العراق والعراقيين في تجاوز المحنة والتخفيف عن المأساة، ولعل هذا الموضوع كان مدار بحث على مدى 10 ساعات في ندوة فكرية سياسية في عمان بدعوة من مركز العراق للدراسات الإستراتيجية، شارك فيها عدد من الباحثين والمفكرين والمثقفين والبرلمانيين العراقيين، وعدد آخر من العرب، وقدمت فيها أبحاثاً مهمة وجرى فيها نقاشاً حيوياً وجدّياً، وربما فتح هذا النقاش الشهية لحوارات أعمق وأشمل في المستقبل.
وقد تلمّس القائمون على إدارة المركز ذلك، لاسيما الحاجة إلى حوار معرفي- ثقافي بين النخب العربية، بخصوص العلاقات العراقية- العربية، والعلاقات العراقية- العراقية أيضاً، خصوصاً بين الفرق والجماعات السياسية من جهة، وبين لفيف من الأكاديميين والباحثين من جهة أخرى، وصولاً إلى مصالحة وطنية حقيقية كما عبّر عنها بعض الحاضرين، دون عزل أو استثناء، بما فيها أطراف معارضة ومقاومة أو ممتنعة عن المشاركة.
وإذا كان الموضوع السياسي طاغياً وإن شمل بعض الأماني، إلا أن بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قد تم تناولها وبروح التعاون والمشترك الإنساني وقد أخذت هذه قدرها من النقاش، وإن كانت تستحق اهتماماً أكبر، فالفضاء الثقافي والمجال الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي يمكن أن يلعب دوراً في تفهم المشاكل وفي تذليل المصاعب، وبالتالي في إيجاد السبل الكفيلة لنظرة متوازنة بين العراقيين والعرب على الصعيد الرسمي والشعبي، حتى وإن شملت بعض الاختلافات أو التصورات من زاوية التعددية والتنوع والخصوصية.
وبالطبع لا يمكن إهمال الجانب الإنساني، وبخاصة قضايا اللاجئين والمهاجرين وقوانين البلدان المضيفة، ولاسيما دول الجوار من البحث الجاد والمسؤولية فيما يتعلق بتقديم التسهيلات للمواطنين العراقيين الذين اضطرتهم ظروفهم إلى الهجرة، وبخاصة من أصحاب العقول والأدمغة المفكرة والذين يشكلون ثروة حقيقية للعراق وللبلدان العربية وللإنسانية جمعاء.
ولعل هناك عدداً من التحديات والمعوّقات تواجه العراقيين والعرب، لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار عند بحث الإشكالات والمشكلات القديمة والجديدة، ابتداءً من الدور والمسؤولية، وانتهاءً بسبل الخروج من المأزق والتخفيف من المأساة، إذ أن إعادة النظر وانتهاج سياسات جديدة على المستوى الرسمي أو الشعبي تتطلب أولاً وقبل كل شيء التخلص من الاحتلال وتبعاته، وبالطبع فإن ذلك يستوجب استعادة السيادة الكاملة وغير المنقوصة وإعادة هيبة الدولة العراقية، الأمر الذي يضع مسؤولية استتباب الأمن وحماية أرواح وممتلكات المواطنين وفرض النظام العام على عاتقها دون غيرها.
وهذا يقتضي وضع حد لظاهرة استشراء الإرهاب والعنف واستفحال دور الميلشيات، وإنْ تم تقليص نفوذها والتخفيف من موجة الإرهاب والعنف مؤخراً، إلا أن الأمر يتطلب استقراراً وضماناً لعدم عودتهما. ولكي يتم إعادة الإعمار وتحقيق التنمية واستعادة الخدمات في إطار تعاون عربي واستثمار جهود العرب لدعم هذا التوجه فإن الأمر يقتضي أيضا الحصول على تعهدات دولية وإقليمية بضمان سيادة العراق واستقلاله، بل ومساعدته في إعادة لحمته الوطنية وحمايته من أي تهديد خارجي، وهذا يتطلب مساعدة العراق في التخلص من مظاهر الفساد والرشوة وتحقيق مواطنة سليمة واعتماد مبدأ المساواة واحترام حقوق الأقليات القومية والدينية والتنوع الثقافي والديني والقومي وكبح جماح الطائفية، لأن انفلاتها سيضر بالعرب وليس بالعراقيين وحدهم.
ولعل الطائفية بهذا المعنى يمكن أن تسري مثل النار في الهشيم فيما إذا استفحلت واستعصي حلها، ولهذا فإن مساعدة العرب للعراقيين لإطفاء نارها، سيعني مساعدتهم لأنفسهم وهي مساعدة مزدوجة ومركبة. وهو ما جعل اقتراح تشريع قانون يحرّم الطائفية ويعزز المواطنة في العراق، يلقى اهتماماً كبيراً وخاصاً من الحاضرين عراقيين وعرب.
وقد سعدت شخصياً بكلام عدد من الباحثين العرب من غير العراق وبعدد من الباحثين العراقيين بمن فيهم من يمثلون تيارات مختلفة، لاسيما الأعضاء في مجلس النواب بما فيهم الأكراد، بخصوص ضرورة تعزيز العلاقات العراقية- العربية رغم كل المعوّقات، لكنني شعرت أن الكثير من نقاط الضعف والإبهام والالتباس، ما تزال تشوب نظرة كلا الفريقين، لاسيما بعض التعميمات التي وجدتها قاصرة أو الاصطفافات المسبقة.
ولاحظت أن بعض العراقيين تنقصهم معلومات عن كيفية التعاطي مع الوضع العربي والنظام الإقليمي الرسمي، لاسيما فيما يتعلق بدور إيران الحالي والمستقبلي، وبالأخص فيما بعد انسحاب القوات المحتلة نهاية العام 2011 أو حتى في آب (أغسطس) 2010 كما أعلن الرئيس الأمريكي باراك اوباما، كما أن هناك نوعاً من الحيرة إزاء المستقبل، فضلاًً عن بعض الشعارات التي تتوزع بين الفريق الحاكم ومعارضيه بما فيها المقاومة، يضاف إلى ذلك سبل اتخاذ القرار والتفريق بين السلطات وحواشيها وذيولها وبين مؤسسات المجتمع المدني العربي.
كما أن الكثير من العرب تعوزهم معرفة عميقة ودقيقة بالوضع العراقي، لذلك فقد كرر بعضهم مقولات من قبيل أن العراق ينقسم بين شيعة وسنة وأكراد، وهي الصيغة التي روّج لها الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات الغربية منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 وما بعدها، والتي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق في مجلس الحكم الانتقالي، وشملت تلك المحاصصات من الوزير إلى الخفير كما يقال.
كما تضمنت نظرة بعض العراقيين تصورات مسبقة إزاء مواقف بعض الحكام أو القوى العربية، وبسهولة نُسبت أو صُنفت لاعتبارات طائفية أو مذهبية، وأعتقد أن كلا الأمرين بحاجة إلى نقاش حيوي مثلما تضمنته مبادرة المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية، ولكن لفترة أطول ولموضوعات أشمل وأكثر تنوّعاً، وهو ما يمكن تحقيقه في إطار جهد أوسع وأعمق.
5- العلاقات العراقية- الأمريكية: الحوار حول المستقبل
لعليّ وأنا أعدّ هذا البحث الخاص بالعراق ما بعد الانتخابات البرلمانية توقفت عند العلاقة بين بغداد وواشنطن واستعدت مبادرة المركز الدولي للتجديد الحكومي CIGI ومؤسسة الخطوات البرغماتية للأمن العالمي Stimson، بتنظيم ندوة حوارية في البرلمان الكندي خريف العام 2009 بإشراف وتهيئة من السفير مختار لماني ممثل جامعة الدول العربية في العراق الذي استقال من منصبه مطلع العام 2007 وألين ليبسون المستشارة الخاصة السابقة للبعثة الدائمة الأمريكية في الأمم المتحدة، وشارك فيها نخبة من الأكاديميين والباحثين والممارسين العراقيين والأمريكان والكنديين. ولعل هدف الندوة هو تقديم قراءات ورؤى وتصورات حول مستقبل العلاقات بين بغداد وواشنطن.
وإذا كان هناك ثمت اختلافات في المنطلقات والأولويات والآفاق، فإن قراءة الحيثيات والمعطيات من زوايا نظر مختلفة، والجدل الذي دار بشأنها، شكّلت مجسّات وإرهاصات لحاضر ومستقبل العلاقات، سواءً قبل الانسحاب الأمريكي من العراق أو بعده، لاسيما وأن أهم ما ينصبّ الجدل حوله الآن، يتلخّص بالآليات والجداول الزمنية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما هو معلن من الطرفين الرسميين، مع وجود تحدّيات، وربما معوّقات قد تحول دون تنفيذ ذلك، ناهيكم عن أجندات معلنة أو مستترة. وقد تسنّى لي كباحث مستقل المشاركة في الحوار وتقديم مطالعة بخصوص مستقبل العلاقات العراقية- الأمريكية.
اعتقد أن قراءة ارتجاعية لتاريخ العلاقات العراقية- الأمريكية تجعل الرؤية المستقبلية أكثر وضوحاً، لاسيما بعد تعرض تضاريسها الحادة إلى منعرجات والتواءات ساعدت على التباس خارطة الحاضر، حتى بالنسبة لبعض القوى المحسوبة على واشنطن، لاسيما بعد احتلال العراق في العام 2003.
إن قراءتي التاريخية تشمل تقسيم العلاقات العراقية- الأمريكية إلى مراحل عديدة:
المرحلة الأولى- التي اتسمت بصعود الحرب الباردة وتفاقم الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تطوراً في العلاقات العراقية- الأمريكية، لاسيما عند توقيع اتفاقية بين البلدين العام 1954، وتأسيس حلف بغداد العام 1955، وتعاظم الدور الأمريكي في المنطقة، ترافقاً مع ما عُرف بمشروع "النقطة الرابعة"، وفيما بعد "بمشروع أيزنهاور" العام 1957 لملء الفراغ. لكن هذه العلاقات سرعان ما تدهورت على نحو شديد إثر ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، التي أطاحت بالنفوذ الغربي في العراق، وباستثناء فترة قصيرة تحسنت فيها العلاقات بعد الإطاحة بالزعيم عبد الكريم قاسم العام 1963، فإن العلاقات العراقية – الأمريكية شهدت انحداراً سريعاً، خصوصاً بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) 1967، وقد بادر العراق إلى قطع علاقاته مع واشنطن متهماً إياها بالانحياز الكامل لإسرائيل.
المرحلة الثانية- هي المرحلة التي تبدأ من العام 1968 إثر مجيء حزب البعث إلى السلطة وتنتهي في العام 1980، واتسمت العلاقات في هذه الفترة بنوع من التوتر والتعارض والعدائية، لاسيما عند تأميم النفط العام 1972، وبعد حرب أكتوبر العام 1973 واستخدام النفط كسلاح في المعركة. وخلال هذه الفترة احتسبت الولايات المتحدة العراق ونظام حكمه، على ملاك النفوذ السوفيتي، لاسيما بتوقيع المعاهدة العراقية- السوفيتية في نيسان (ابريل) 1972 وعقد الجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي العام 1973.
ولهذا السبب سعت الولايات المتحدة لإضعاف العراق وجيشه، وشجعت اندلاع القتال بين الحركة الكردية والحكومة العراقية، وهو ما عبّر عنه الملاّ مصطفى البارزاني بمرارة عن انعدام ثقته بواشنطن بعد توقيع اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 المعروفة باسم " اتفاقية الجزائر" بين شاه إيران وصدام حسين، وعلى إثر ذلك انهارت الحركة الكردية المسلحة، الأمر الذي كان مساومة على حسابها بررها هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة، بافتراق السياسة عن الأخلاق، ولعل ذلك كان أول إشارة لحساب تحسين العلاقات بين البلدين.
المرحلة الثالثة هي فترة الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) التي شهدت عودة غير مباشرة للعلاقات العراقية- الأمريكية، حيث كانت واشنطن ترغب في الإطاحة بالثورة الإيرانية التي قضت على شاه إيران العام 1979، ولعل ذلك كان عنصر تشجيع لبغداد أيضاً. وبالإمكان وصف هذه الفترة "بشهر العسل الصامت" أو " الزواج غير المعلن"، فالعلاقات ظلّت مقطوعة رسمياً، لكن الكثير من الشركات الأمريكية أعادت عملها في العراق، وكان دونالد رامسفيلد الذي أصبح وزيراً للدفاع في عهد الرئيس بوش وساهم بحماسة في غزو العراق، قد زار العراق والتقى الرئيس العراقي السابق صدام حسين، العام 1984.
وخلال فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان واحتلال العاصمة بيروت، أدلى الرئيس السابق بتصريحات (في آب /أغسطس 1982 أثناء استقباله عضو الكونغرس الأمريكي سولارز لم تنشر إلا بعد مرور نحو 4 أشهر في جريدة الثورة العراقية كانون الأول /ديسمبر 1982 ) ما يفيد استعداد العراق للاعتراف بإسرائيل، وفد فسّرت المسألة في حينها تكتيكاً لكسب واشنطن، طالما كانت الحرب قد اتخذت مسار التراجع من الجانب العراقي بعد تشديد الهجمات الإيرانية، وبخاصة بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) 1982 وإعلان العراق سحب قواته، ومحاولة إيران اختراق الأراضي العراقية وعبور الحدود الدولية.
وحسب الجنرال (وفيق السامرائي) مدير الاستخبارات العراقية الأسبق فقد كان ممثل عن الـ CIA "المخابرات المركزية الأمريكية" يداوم في مقر الاستخبارات العسكرية لتقديم الخبرة والدعم للعراق في حربه ضد إيران، ولعل هذه اللعبة كان الأمريكان قد مارسوها على نحو مزدوج مع الإيرانيين، حين كانوا يسلّمون صور الأقمار الصناعية إلى البلدين، لاستمرار الحرب.
المرحلة الرابعة- بدأت بعد غزو القوات العراقية للكويت قي 2 آب (أغسطس) 1990 حيث عادت العلاقات العراقية –الأمريكية إلى التدهور حتى وصلت نقطة اللاعودة بعد مغامرة صدام حسين. واستمرت هذه المرحلة إلى العام 2003، وشهد العراق خلالها حربين ضده، الحرب الأولى سميّت "حرب تحرير الكويت" ابتدأت في 17/1/1991 واستمرت 42 يوماً وانتهت بانسحاب القوات العراقية من الكويت بعد هزيمتها في 28 شباط (فبراير) من العام ذاته، وكانت هذه الحرب في الوقت نفسه "حرب تدمير العراق" وبنيته التحتية ومرافقه الاقتصادية والحيوية.
أما الحرب الثانية فهي حرب قوات التحالف ضد العراق، التي انتهت بوقوعه تحت الاحتلال في 9 نيسان (ابريل) 2003، وإذا أردنا إضافة "الحصار الدولي" المفروض بقرارات مجلس الأمن التي زادت على 60 قرارٍ فإنه يمكننا التأشير لحرب ثالثة استمرت 13 عاماً، وعانى العراقيون خلالها من مجاعة حقيقية ومحق لإنسانيتهم، فاقمت من مأساتهم، وتركت هذه الفترة تأثيراتها السلبية الخطيرة على حاضر ومستقبل العراق اجتماعياً ونفسياً وعلى بنيته المجتمعية.
وإذا كان العراقيون بقسمهم الأكبر والأغلب يتطلعون إلى الخلاص من الدكتاتورية، فإن سقوط نظام صدام حسين أدى إلى انهيار الدولة العراقية، لاسيما بحل مؤسسة الجيش، العابرة للاثنيات والطوائف، والتي عمل بول بريمر على تفكيكها فاضطر العراقيون للاحتماء بمرجعياتهم التقليدية، بعد أن فقدوا مرجعية الدولة الحامية ومؤسستها العسكرية والأمنية.
المرحلة الخامسة كانت بعد الاحتلال وشهدت فترة قصيرة تولى فيها الحاكم العسكري الأمريكي (جي غارنر) الحكم المباشر والتي انتهت بتسليم بول بريمر مقاليد السلطة المطلقة في 13 أيار (مايو) 2003 وبقائه فيها لغاية أواخر حزيران (يونيو) 2004، رغم وجود ما سمّي بمجلس الحكم الانتقالي.
ويمكن القول أن علاقات بغداد- واشنطن من عام 2003 ولغاية العام 2008، هي الأشد سوءًا بالنسبة للعراقيين، لاسيما خلال فترة الرئيس بوش، حيث عانى العراق من نظام المحاصصة الطائفي والمذهبي والاثني، وشهد عنفاً لم يكن معروفاً على الإطلاق، وإرهاباً منفلتاً من عقاله، وميليشيات متنوعة وفساد ورشوة، حيث ظل الوضع الأمني رغم التحسين هشّاً وقلقاً.
أما المرحلة السادسة فهي مرحلة الرئيس أوباما وما تزال مستمرة. وقد سألني معهد كارنيجي بعد نجاح الرئيس أوباما في استطلاع لعدد من المثقفين العرب: ماذا يريد المثقف العربي من الرئيس الأمريكي الجديد؟ وأظن أن إجابتي تتضمن رؤيتي المستقبلية للعلاقات العراقية- الأمريكية، لاسيما بعد الأخطاء والخطايا الفادحة للرئيس بوش طيلة فترة حكمه، وبخاصة بعد احتلال العراق، وهو ما أختم به هذه الدراسة وأقول أن المثقف العراقي يريد من الرئيس الأمريكي أوباما:
1- انسحاب القوات الأمريكية من العراق بأسرع وقت ممكن طبقاً لوعود الرئيس أوباما.
2- إعادة بناء العراق لأن ذلك جزء من مسؤولية الولايات المتحدة، التي عليها تعويضه.
3- مساعدة العراق للخروج من الفصل السابع طبقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي.
4- مساعدة العراق في الحفاظ على وحدته واستعادة سيادته، وذلك لمواجهة محاولات التدخل الإقليمي بشؤونه.
5- دعم وتشجيع الخطوات نحو الديمقراطية والإصلاح في العراق ولدى دول المنطقة في إطار التعايش السلمي المجتمعي للمكوّنات المختلفة، وتحقيق أمنها الإنساني في إطار دولة مدنية حرة عصرية، تحترم حقوق المواطنة والمساواة والتمايزات المتنوعة للعراقيين، بعيداً عن المحاصصات المذهبية والطائفية.
6- مساعدة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه والضغط على إسرائيل لوقف العدوان وبشكل خاص على غزة، وإيجاد مخرج عملي لفكرة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.
أعتقد أن الحوار بين بغداد وواشنطن لا بدّ أن يتضمن هذه المحاور الأساسية، سواءً احتوتها الاتفاقية الأمنية أم لم تحتوها؟ وذلك بهدف استعادة الثقة بين العراقيين والأمريكان التي ما تزال مفقودة حتى الآن. وقد أدرك الرئيس أوباما الهوة السحيقة بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي، فدعا من على منبر جامعة القاهرة (حزيران/يونيو 2009) إلى حوار وتعايش وتسامح بين الأديان والثقافات والحضارات، لكن الكثير من الآمال التي بناها البعض على هذه التصريحات اصطدمت بصخرة الواقع الصلدة وبخاصة في الموقف الفعلي من القضية الفلسطينية بشكل خاص، ومن القضايا العربية وقضايا العالم الإسلامي بشكل عام.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأزمة الكونية وحلم التنمية
- 5 رافعات للتسامح
- هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
- الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
- قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟
- مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!
- الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!
- العروبة والهوية والثقافية
- حكاية تعذيب!
- العروبة والدولة المنشودة!*
- حوار الذات وجدل الآخر
- ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*
- إسلام واحد وقراءات مختلفة
- العروبة والمواطنة
- المعرفة عنصر أساسي في التعبير عن الهوية
- العروبة والأيديولوجيا
- المفكر عامر عبد الله في ذكراه العاشرة:الجوهر وجدلية الأمل وا ...
- التسامح: مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر!
- الإعلام وحق الحصول على المعرفة
- العراق ومعركة المياه -مصححة-


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - الانتخابات ومستقبل العراق!