أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل















المزيد.....



الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل


محمد علي زيني

الحوار المتمدن-العدد: 3048 - 2010 / 6 / 29 - 22:41
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


بمناسبة نشر كتابه الفريد (الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل) التقت الصباح الدكتور محمد علي زيني وأجرت معه مقابلة ننشرها أدناه. علماً أن الدكتور زيني خبير نفطي واقتصادي، وهو يحمل شهادات في الهندسة والقانون والأقتصاد.

س: ماهو رايك بالصناعة النفطية العراقية وقدرات الانتاج منذ سقوط النظام السابق ولغاية الوقت
الحاضر؟

ج: تبلغ احتياطيات العراق النفطية المثبتة والمعلنة حالياً نحو 115 مليار برميل، وبهذا الرقم يأتي العراق بالمرتبة الثالثة بين دول العالم الغنية بالنفط. الاحتياطيات التي ذكرتها تواً إنما هي نتاج استكشاف نحو 115 تركيب جيولوجي فقط، ولا زال في العراق ما يربو على 400 تركيب جيولوجي لم يجر استكشافها بعد، حيث يحتمل أن تُكتشف احتياطيات جديدة في هذه التراكيب في المستقبل قد يربو مجموعها على 200 مليار برميل، وبذلك سيتعدى العراق إيران مستقبلاً ولربما حتى المملكة العربية السعودية ليصبح هو الدولة الأولى في العالم من حيث الاحتياطيات النفطية المثبتة.

بلغت سعة العراق الأنتاجية قمتها (نحو 3,9 مليون برميل يومياً) في سنة 1979، ولكنها في مسيرتها الحزينة تعرضت الى الخراب خلال الحرب العراقية الأيرانية ثم أعيد بنائها، وتعرضت الى دمار كاد أن يكون شاملاً إثر الحرب التي تلت غزو الكويت، ثم الى حالة من الأندثار وسوء الأدارة طيلة سنوات الحصار الأقتصادي وحتى سقوط النظام السابق. ونتيجة للجهود المضنية التي بذلها ذلك النظام لأعادة البناء، والتي استندت في غالبيتها على سياسة النهش والترقيع، بلغت السعة الأنتاجية خلال الربع الأول من سنة 2003 نحو 2,8 مليون برميل يومياً. ولكن غزو العراق أضاف أضراراً جديدة نشأت كنتيجة مباشرة للأعمال الحربية من جهة ونتيجة للنهب (الفرهود) وأعمال الشغب والتخريب من جهة أخرى، ما أدى الى هبوط السعة الأنتاجية الى أقل من مليون برميل يومياً خلال شهر واحد من سقوط النظام. ونظراً لتوقع الأدارة الأمريكية حدوث أضرار للبنية التحتية لقطاع النفط العراقي نتيجة للحرب، فقد وافق الكونغرس الأمريكي على قيام أمريكا بتحمل كلفة الترميم.
.
تم خلال صيف 2003 إعداد خطة لترميم المنشآت المتضررة بكلفة أولية قُدرت قيمتها بما يزيد على 1,140 مليون دولار، واحتوت تلك الخطة على 220 مشروع كان المطلوب تنفيذها واستعادة السعة الأنتاجية التي كان عليها العراق قبل الغزو وذلك بحلول نهاية شهر نيسان 2004، أي بعد مرور سنة واحدة فقط على سقوط النظام. غير أن الأمور لم تجرِ كما خُطط لها، ولا زالت سعة العراق الإنتاجية الآن تراوح بين 2,4 - 2,5 مليون برميل يومياً رغم مرور سبع سنوات على سقوط النظام. على أن من المفروض أن تتسارع الزيادة في السعة الأنتاجية بعد الأتفاق أخيراً مع شركات عالمية لتطوير عشرة حقول، منتجة حالياً وغير منتجة، لتصل السعة الأنتاجية (من الناحية النظرية على الأقل) الى نحو 12 مليون برميل يومياً بحلول سنة 2017.

ومن الجدير بالذكر هنا أنني كنت واحداً من الذين وصلوا بغداد في نهاية شهر نيسان 2003 ضمن فرق عمل عديدة مكونة من خبراء عراقيين، وكان المفروض بفريقنا النفطي – وكنت رئيساً لذلك الفريق – أن يقوم بالأشراف على إعادة تشغيل وزارة النفط والشركات التابعة لها وكذلك الأشراف على أعادة بناء البنية التحتية النفطية التي أصابها الدمار. ولكنني استقلت بعد أربعة أشهر من العمل نتيجة عدم رضاي عن أداء فريق العمل الأمريكي الذي وجدته مسيطراً على كل شيئ. ولم أكن راضياً أيضاً عن أداء شركة كي بي آر الأمريكية التي لم تتصرف بحسن نية، حيث كانت تلك الشركة المقاول الرئيسي لأعادة بناء البنية التحتية النفطية، وقفلت راجعاً إلى لندن بخيبة أمل كبيرة. ومما ضاعف في خيبة أملي عدة مرات قيام أمريكا بارتكاب أخطاء جسيمة بعد الاحتلال أدت إلى خراب البلاد، ولا زالت النتائج السلبية لتلك الأخطاء مستمرة.

س : بعد كل ما تقدم هل هنالك تقدم ملموس ام تراجع تود تأشيره ؟

ج: لم يحدث التقدم الذي كنا ننشده، فشتان ما بين الوصول الى سعة أنتاجية قدرها 2,8 مليون برميل يومياً بحلول نيسان 2004 وهو شيئ لم يتحقق، وبين سعة إنتاجية حقيقية تبلغ نحو 2,5 مليون برميل يومياً في الوقت الحاضر، وهذا أقصى ما وصلت إليه سعة العراق الأنتاجية من النفط الخام بعد سبع سنوات من سقوط النظام. ولعل هناك أسباب عدة تفسر هذه الظاهرة المؤلمة سأحاول هنا طرحها بأيجاز:
1) ادعاء الشركات الأمريكية التي تعاقدت مع سلاح الهندسة للجيش الأمريكي لتنفيذ المشاريع المطلوبة بأن عدد المشاريع كان هائلاً، إضافة إلى تكرر الإضافات والتحويرات الجديدة. كما شكت الشركات من تعقيدات البيروقراطية الأمريكية عند طلب الموافقات على تمويل المشاريع مما ساهم في تأخير التنفيذ.
2) إن تلك الشركات، وفي خضم فوضى الاحتلال العسكري، لم تتصرف بحسن نية. وحتى بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي لاحظوا هذا الأمر ووجهوا اتهامات لتلك الشركات، وخصوصاً شركة (KBR)، بكونها مارست الاحتيال والفساد والتبديد.
3) لم تكن بيئة العمل مؤاتية قطعاً في ظل انعدام الأمن والتخبط السياسي وانتشار الإرهاب وعمليات الخطف. وقد أعاقت تلك البيئة عمل الشركات وقللت الإنتاجية وقصّرت ساعات العمل، كما زادت من كلفة التأمين والنقل وأجور شركات الحراسة. وقد أدت البيئة تلك إلى تبديد جزء كبير من المنحة المالية التي خصصتها أمريكا إلى العراق.
4) من جانب آخر نرى أن ضعف الحكومة العراقية وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر وقلة كفاءة العمال والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي كان يعاني منها الشعب (ولا يزال) شجعت أيضاً على فساد الشركات والمقاولين الثانويين، وقد ساهم هذا أيضاً في عدم إكمال العديد من المشاريع.
5) إن خطة الترميم - التي تعاقدت على إنجازها كل من شـركـتي Kellog Brown & Root (KBR) في الجنوب وParsons في الشمال وزيدت تخصيصاتها المالية إلى 1,7 مليار دولار ثم إلى ملياري دولار، منها 1,2 مليار دولار لمشاريع الجنوب والباقي لمشاريع الشمال – اقتصرت على إزالة الأضرار التي حدثت للمنشآت السطحية فقط، ولم تتضمن الخطة إصلاح أو تحسين ما تحت الأرض من آبار أو حقول بغية زيادة الإنتاج، وقد بقيت هذه المهمة الصعبة والحيوية جداً ضمن مسؤوليات وزارة النفط. إذ بقي على عاتق تلك الوزارة مسؤولية القيام بدراسة وتقويم مكامن النفط المنتجة وإعداد خطة لإزالة الأضرار التي تسببها النظام السابق جراء سوء إدارته للحقول والإصرار على زيادة الإنتاج، خصوصاً من حقلي الرميلة وكركوك، على خلاف ما تتطلبه الإدارة الأصولية لحقول النفط. كما بقي على عاتق وزارة النفط إعداد خطة سليمة لإدارة الحقول وإيقاف تدهور الإنتاج من حقلي الرميلة وكركوك ثم العمل على زيادة الإنتاج.
6) لم تتمكن وزارة النفط والشركات التابعة لها من إتمام خطة الترميم بعد أن غادرت شركتا KBR وParsons العراق. ونظراً لأن تلك الخطة لم تتضمن إصلاح أو تحسين ما تحت الأرض كما ذكرت، فقد تحتم على وزارة النفط أن تحارب على جبهتين في آن: الجبهة الأولى تتضمن تصليح المنشآت السطحية وتبديل المعطوب والمتهرئ منها - أي أكمال خطة الترميم - ثم الاستمرار بصيانتها وإدامتها، والجبهة الثانية تتضمن إيقاف التدهور المستمر والناتج عن الانخفاض الطبيعي في الإنتاج مما يتطلب، بين أمور أخرى، حقن المياه تحت الأرض للحفاظ على ضغوط المكامن، ثم زيادة الأنتاج من خلال حفر آبار جديدة أواستغلال طبقات نفطية جديدة وكذلك إعادة تأهيل آبـار محفورة من قبل تم تدهور إنتاجها بمرور الزمن.
7) إن عمليات الترميم والصيانة والإدامة من جانب، ثم إيقاف التدهور والانخفاض الطبيعي لإنتاج حقلي الرميلة وكركوك وتأهيل الحقول المنتجة لغرض زيادة الإنتاج من جانب آخر، لم يحدث على المستوى المطلوب، وذلك لأسباب عدة. ولقد كان من بين تلك الأسباب ارتباك العملية السياسية بعد سقوط النظام والتخبط الذي أصاب الوزارات كافة ومن بينها وزارة النفط. زد على ذلك بيروقراطية الوزارة القاتل وتهاونها في إداء الواجب. ولقد زاد في الطين بلة ضعف المؤسسات والشركات التابعة للوزارة وخوائها بمر الزمن.
8) على أن من أهم الأسباب التي أدت الى عدم تحقيق الأهداف ولربما التراجع الى الوراء هو استيلاء المُحاصصين من قليلي الخبرة أو ممن لا خبرة لهم على المراكز القيادية في الوزارة والمؤسسات والشركات التابعة لها وإزاحة ذوي الخبرة والكفاءة من مناصبهم وإحالة العديد منهم على التقاعد وتعرض آخرين إلى القتل أو الاختطاف وهجرة الباقين إلى خارج البلاد خشية نفس المصير. وهاهو السيد جبار لعيبي، التكنوقراط الممتاز، مدير عام شركة نفط الجنوب، أزيح من منصبه ونُقل الى بغداد في 2008 حيث عانى من التهميش لمدة سنتين بعدها أحيل مؤخراً على التقاعد. علماً أن السيد لعيبي الذي تسلم المسؤولية كمدير عام شركة نفط الجنوب خلال الفترة 2003 -2008 لعب دوراً محورياً خلال فوضى الأحتلال الحرجة في إعادة تشغيل حقول الجنوب التي ساهمت لأكثر من أربع سنوات – ولحين إعادة التصدير من الشمال - بنسبة تسعين بالمائة من عوائد العراق النفطية. ولقد كان للسيد لعيبي – كما جاء مؤخراً في نشرة الشرق الأسط الأقتصادية (أنظر MEES, 26 April, 2010) - دوراً مهماً في إيقاف تدهور إنتاج الجنوب بأشرافه على توسيع الأنتاج لثمانية حقول نفطية، مضيفاً بذلك نحو 700 ألف برميل يومياً الى الأنتاج. إن هذا المدير الجيد والمهندس الكفوء ليس إلاّ حلقة جديدة من سلسلة طويلة من الخبرة النادرة التي فقدها العراق – والحبل على الجرّار.

وللأسباب التي ذكرت، ولاستشراء الفساد في جميع مفاصل الدولة (بضمنها وزارة النفط) وهبوط معنويات العاملين – من رؤساء ومرؤوسين – انكمشت بشدة إمكانيات الإنتاج وتراجعت حتى الرغبة في العمل الجاد. ولم تتمكن وزارة النفط في أي سنة بعد سقوط النظام السابق من صرف أكثر من 15% من الأموال الاستثمارية التي كانت تخصصها ميزانية الحكومة السنوية لتلك الوزارة، والتي تراوحت بين ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار كل عام، عدا فترة الحاكم المدني الأمريكي بريمر الذي لم يخصص أموالاَ استثمارية للقطاع النفطي. ونتيجة لتلك الحالة لم تفلح وزارة النفط حتى من الوصول إلى 2.8 مليون برميل يومياً، وهو إنتاج ما قبل الغزو، ناهيك عن الوصول إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً أو أكثر من ذلك والذي كان يدعيه في البداية كل وزير جديد يأتي لتسلم الوزارة لأول مرة. والجدبر بالذكر هنا أن أقصى ما وصل إليه معدل الإنتاج قبل حلول هذه السنة نحو 2,4 مليون برميل يومياً وذلك في السنة الماضية (2009). وقد حدث ذلك رغم التحسن النسبي للحالة الأمنية وكذلك تحسن الحراسة كماً ونوعاً لخطوط الأنابيب الناقلة للنفط العراقي شمالاً إلى ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط.

س : يبدو مما تقول أن التحسن في الأنتاج كان بطيئاً جداً خلال السبع سنوات الماضية ولا يتناسب مع حاجة العراق الماسة الى العوائد النفطية، فما الذي اجترحته وزارة النفط لمعالجة هذه الحالة؟
ج: لم يشعر المسؤولون في الحكومات العراقية التي تعاقبت بعد سقوط النظام السابق بالتدهور المستمر الذي أصبح يعاني منه القطاع النفطي العراقي طالما بقي هذا القطاع الحيوي بقرةً حلوباً تزود الميزانية السنوية بما تحتاجه من أموال. بل ويبدو أن الطفرات السنوية الكبيرة في العوائد النفطية الناتجة عن زيادة الأسعار قد أسكرت هؤلاء المسؤولين، فالعوائد تلك ازدادت من نحو 18 مليار دولار في سنة 2004 إلى نحو 59 مليار دولار في سنة 2008 أي بزيادة 41 مليار دولار في غضون أربع سنوات فقط. على أن الذي كان يعتقد بأن أسعار النفط ستستمر بالصعود أو، على الأقل، أنها ستبقى ضمن مستويات مرتفعة - حيث وصل سعر النفط الأمريكي الى 147 دولاراً للبرميل الواحد في تموز 2008 - فهو مخدوع. ذلك أن أسعار النفط قد ترتفع كالصاروخ لأسباب لا تبررها أساسيات السوق، كالثورات والأضطرابات الجيوسياسية وما يلازمها من مضاربات على الأسعار، ثم تنفجر الفقاعة وتنهار الأسعار عند غياب المسببات.
وهذا ما حدث بالفعل، إذ هوت الأسعار إلى أقل من أربعين دولار بعد بضعة أشهر من وصولها إلى القمة إثر الانهيار المالي الذي عصف بالولايات المتحدة ثم انتشر إلى باقي أركان المعمورة، ليتبعه كساد اقتصادي أدى إلى انخفاض الطلب على النفط حتى في الصين التي كانت القوة الرئيسية وراء زيادة الطلب خلال السنوات القليلة الماضية. ولا ينكر أن الانخفاض على الطلب بدأت بوادره في أمريكا حتى قبل هبوب العاصفة المالية، إذ بدأ الطلب على الغازولين (البانزين) هناك بالانخفاض تحت وطأة الارتفاع اللامعقول بالأسعار. كما زاد من حدة وسرعة انخفاض أسعار النفط انحسار عمليات المضاربة بعد اختفاء أسبابها. ولربما كانت ستنزل أسعار النفط إلى مستويات أدنى لولا أن منظمة الأوبك تداركت الأمر وكانت حصيلة اجتماعاتها الاتفاق على تخفيض سقف الإنتاج بما مجموعه 4,2 مليون برميل يومياً مما أدى إلى استقرار الأسعار بين 40 و45 دولاراً للبرميل الواحد في مقتبل 2009.
إن نزول أسعار النفط إلى مستوى الأربعين دولار، وصعوبة إمكان رفع أنتاج النفط الخام العراقي إلى ما يعوض نزول الأسعار من أجل أن تستمر الحكومة في الحصول على مستويات عالية من العوائد النفطية تؤمن تمويل الميزانية السنوية هو طامة كبرى لا يمكن التعايش معها. ذلك أن ارتفاع العوائد النفطية الذي استمر بدون توقف خلال الخمس سنوات 2004–2008 قد شجع الحكومة العراقية على التوسع في الميزانية السنوية بقسميها التشغيلي والاستثماري. وإذا كان بالإمكان – عند تراجع العوائد النفطية - تقليص الجزء الاستثماري من الميزانية لأنه يتعلق بعمليات إعادة بناء البنية التحتية الخَربة، حيث أصبح لا خيار للشعب في هذا الأمر فهو صابر على هذا الخراب منذ سنين، فقد أصبح من الصعوبة بمكان تقليص الميزانية التشغيلية التي أصبحت تتعلق بالحياة اليومية لعموم الشعب العراقي لكونها تتألف بصورة رئيسية من الرواتب والأجور والمكافئات التقاعدية والدعم الحكومي بما فيه دعم سلة الغذاء للمواطنين (البطاقة التموينية)، وأن تلك المصروفات تتعلق طبعاً بإعالة الناس وتوفير أسباب العيش لهم.
إن الحقيقة المرة حول العوائد النفطية هي أنها لايمكن الركون أليها وذلك لعدم ثباتها على مستوىً مرغوب. فهي ليست دائمة ولا يجوز الاعتماد عليها كلياً لتمويل ميزانية الحكومة السنوية، إذ أنها تتأثر بالأسعار صعوداً ونزولاً، كما أنها تتأثر بمستويات الإنتاج. ولقد دفع تراجع العوائد النفطية المخيف في نهاية 2008 السيد رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي والسيد نائب رئيس الوزراء ورئيس اللجنة الاقتصادية الدكتور برهم صالح بتكليف لجنة من المسؤولين والمختصين للقيام بزيارات ميدانية لشركات نفط الجنوب ونفط ميسان ونفط الشمال "لتشخيص معوقات النشاط الإنتاجي والتصديري للنفط الخام والخروج بتوصيات لمعالجات عملية وواقعية للارتقاء بالأداء واقتراح الحلول والمعالجات لتحسين العمل والإنتاج على المستوى الفني ولأدارى والمالي".

س : ما هي الأمور التي شخصتها اللجنة وماذا كانت توصياتها؟

ج: بعد القيام بالزيارات المطلوبة خلال الفترة 21/12 إلى 31/12/2008، شخصت اللجنة عوامل عدة وراء تراجع معدلات الإنتاج والتصدير من حقول النفط المنتجة كان أهمها:
(1) غياب دور وزارة النفط الميداني في متابعة وتنفيذ الخطط والبرامج الإنتاجية مع الشركات الأستخراجية وحل المشاكل التي تعيق الإنتاج، إذ أدى ذلك إلى قصور ملموس في الإنتاج يزيد عن 400 ألف برميل باليوم بين المخطط له في سنة 2008 وهو 2,7 مليون برميل يومياً وبين الأنتاج الحقيقي الذي بلغ 2,3 مليون برميل يومياً فقط لتلك السنة.
(2) ضعف أداء الإدارة المكمنية بسبب قلة الكوادر في الوزارة والشركات إضافة إلى ضعف التنسيق بين دائرة المكامن وتطوير الحقول في الوزارة وبين الشركات الأستخراجية.
(3) تأخير برامج تنفيذ حفر الآبار وإكمالها واستصلاحها للسنوات الأولى بالجهد الوطني والأجنبي والتي أدت بشكل مباشر إلى صعوبة إدامة وتصعيد معدلات الإنتاج بالرغم من جهود شركة الحفر العراقية المتميز في عمليات الاستصلاح والحفر خلال الثلاث سنوات الأخيرة.
(4) البطء الشديد في تنفيذ المشاريع المهمة كمشاريع حقن المياه وخاصة في حقلي غرب القرنة وشمال الرميلة مما تسبب في غياب الدعم المكمني وأدى إلى انخفاض الإنتاج وتوقف عدد كبير من الآبار والذي جاء بسبب ضعف أداء شركة المشاريع النفطية في تنفيذ تلك المشاريع وغيرها على مدى السنوات الماضية.
(5) إتباع أسلوب مناقصات روتيني يستغرق زمناً طويلاً لا ينسجم مع واقع القطاع النفطي ولا يلبي متطلباته.
(6) غياب الخدمات النفطية المساندة لعمليات الحفر والإنتاج (جس، فحوصات وقياسات حقلية، خدمات بترولية ... إلخ). مما أدى إلى ضعف عمليات السيطرة المكمنية ثم التوقف أو الانخفاض في إنتاج عدد كبير من الآبار، ولم تجر لغاية الوقت الحاضر محاولات جادة للتعاقد مع شركات متخصصة لإسناد نشاط الإنتاج وإحكام السيطرة المكمنية للمحافظة على معدلات الإنتاج والعمل على رفعها.
(7) التلكؤ في تنفيذ مشاريع تعويض الطاقات الخزنية لمنظومة التصدير التي انخفضت إلى دون 33% من طاقتها السابقة، حيث دُمّر معضمها أثناء الحروب كمشروع خزانات الفاو والزبير وشمال الرميلة ومجمّع حديثة ((K3، إضافة للتلكؤ الحاصل في برامج صيانة الطاقات الخزنية الحالية والتي أصابها التقادم والتآكل جراء انعدام الحماية الكاثودية والصيانة المبرمجة. لقد أدى كل ذلك إلى انعدام المرونة في الطاقات الخزنية وأثر سلباً على الإنتاج اليومي وعلى حركة ونوعية تصدير النفط الخام.
(8) عدم توفر أنظمة الفحص الهندسي لمنظومة النقل والخزن والتحميل، خصوصاً لأنابيب التصدير البحرية التي أصبحت تشكو من التقادم والتآكل وانخفضت كفاءة أدائها إلى دون النصف من طاقتها التصميمية. كما فُقدت المرونة في استغلال منافذ بديلة للتصدير عند الظروف الطارئة والاستثنائية، خاصة في منظومة التصدير التي تربط بين المنفذ الشمالي نحو تركيا والجنوبي نحو الخليج العربي، حيث لا زالت المشاريع المطلوب تنفيذها لهذا الغرض تجري ببطئ.
(9) محدودية طاقة التصدير لميناء البصرة النفطي وميناء خور العُميّة، ووجود مشاكل فنية وهندسية كبيرة، خصوصاً في خور العُميّة، كل ذلك أدى إلى انخفاض شديد في إمكانيات التصدير من الجنوب.
(10) إحالة الخبرات والكوادر الهندسية النفطية الكفوءة على التقاعد سواء في مركز الوزارة أو في الشركات التابعة لها، وهجرة هؤلاء إلى الخارج بسبب الحالة الأمنية من جهة والحوافز المجزية المقدمة من قبل الشركات النفطية الأجنبية التي تعتزم الدخول إلى العراق للحصول على عقود لتطوير الحقول النفطية العراقية من جهة أخرى. أضف إلى ذلك قلة البرامج التدريبية التخصصية لتطوير العاملين لمواكبة التطورات الحديثة في الصناعة النفطية.
(11) الوضع الأمني والسياسي المعقد والذي حال دون الاستفادة من إنتاج وتطوير بعض الحقول في محافظة كركوك وصلاح الدين، وخاصة حقول عجيل وحمرين وخورمالة وجبل بور، والذي يصل مجموع إنتاجها إلى أكثر من 150 ألف برميل يومياً.
بخصوص السياسة النفطية جاء في تقرير اللجنة ما نصه "للأسف لم تكن هناك رؤية واضحة لدى قيادة الوزارة في تبني سياسة محددة تحظى بتأييد ذوي العلاقة لتطوير الحقول النفطية، حيث اتصفت بالارتجال والتردد في اتخاذ القرار المناسب. إن عدم مشاركة الشركات الأستخراجية والدوائر النفطية ذات الشأن إضافة إلى ذوي العلاقة في الحكومة العراقية فضلاً عن قلة خبرات القائمين على إعدادها في مركز الوزارة كان وراء التراجع عن مشروع تطوير الحقول النفطية المنتجة بطريقة الإسناد الفني .(TSC) فقد أضاعت الوزارة عاماً من المفاوضات مع الشركات العالمية ولم تفلح في الوصول إلى نتائج إيجابية بسبب عدم نضوج شروط التعاقد من الناحية الفنية والقانونية.
إن عدم اكتمال متطلبات جولة التراخيص الأولى والتي تشمل الحقول النفطية الرئيسية الستة المنتجة، والتي تمثل 80% من إنتاج النفط الحالي وبحدود 50% من الاحتياطي المثبت، والمعلن عنها في 30/6/2008، قد أدى إلى حصول إرباك وتأثير على مستوى الأداء في دعم الإنتاج والتصدير. إضافة لذلك أدى إلى التراجع في التزام شركات نفط الجنوب ونفط الشمال عن تحقيق معدلات الإنتاج المخطط لها لسنة 2008 تزيد عن 400 ألف برميل يومياً.
إن الواقع الحالي يشير إلى ضرورة بلورة سياسة نفطية واضحة من خلال مناقشة مستفيضة تشترك فيها قيادات القطاع قي دوائر الوزارة والشركات الأستخراجية وخبراء من الجهات الحكومية ذات العلاقة تهدف إلى استثمار الوقت بشكل أكثر كفاءة من أجل تنضيج رؤية استراتيجية تحكم مسار تطوير الثروة النفطية واستغلالها بالشكل الأمثل".

س : وماذا كانت نتيجة ذلك التقرير؟

ج: بناءً على ما جاء في ذلك التقرير، وخطورة الوضع الذي وصل إليه الاقتصاد العراقي، والصعوبات الكبيرة التي أصبحت تواجهها وزارة النفط في رفع الإنتاج من أجل زيادة العوائد النفطية لتمشية أمور البلد، قام السيد رئيس الوزراء بتوجيه نائبه، الدكتور برهم صالح، لإقامة ندوة لنخبة من خبراء النفط والاقتصاد، عراقيين وأجانب، من داخل العراق وخارجه، للتداول في الوضع الحرج الذي وصلت إليه الصناعة النفطية بالعراق، وبالأخص منها قطاع استخراج النفط الخام، واجتراح الحلول لمعالجة هذا الوضع. كنت أحد الذين وُجّهت لهم الدعوة، وقد قبلتها ممنوناً خدمةً لبلدي العراق. وبعد الانتهاء من الندوة، التي عُقدت ببغداد خلال الفترة 27 شباط – 1 آذار 2009، وصلتني بعد رجوعي إلى لندن خلاصة لاستنتاجات وتوصيات الندوة كانت كما يلي:
يواجه العراق أزمة خطيرة تنذر بعواقب اقتصادية ومالية لا يحمد عقباها إن لم تتم معالجتها بسرعة وجرأة وكفاءة وبمسؤولية تتناسب مع خطورة الأزمة وجسامة آثارها السلبية على مصالح العراق ومعيشة شعبه. ويعود مصدر هذه الأزمة إلى جملة من العوامل تفاعلت فيما بينها، منها المستويات المتدنية للإنتاج النفطي والتصدير لما ينبغي أن يكون عليه العراق، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية وانعكاساتها على سوق النفط العالمي مما أدى إلى حدوث انهيار كبير في مستويات أسعار النفط في السوق الدولية وتسبب بحدوث هبوط حاد ومفاجئ في موارد العراق المالية وما يتضمن ذلك من انعكاسات سلبية على بقية مفاصل الاقتصاد العراقي. وبهدف التصدي لهذه الأزمة والتوصل إلى حلول سريعة وعاجلة لمعالجتها والتحوط لأبعادها الخطيرة، عُقدت خلال الفترة من 27 شباط إلى 1 آذار 2009 ندوة موسعة لأجراء مراجعة مستفيضة للسياسة النفطية المتبعة حالياً في العراق وبمشاركة واسعة من الوزراء المعنيين وقيادات القطاع النفطي والعديد من الخبراء النفطيين والاقتصاديين العراقيين والدوليين إضافة إلى مشاركة مجلس النواب. وقد ناقش المجتمعون الأزمة الحالية وأبعادها وعواقبها. وبناءً على النقاشات التي جرت خلال الجلسات الأربعة في اليومين الأولين من الندوة يمكن استخلاص الاستنتاجات التالية:
1. يكمن الهدف الوطني للعراق بتعظيم الإنتاج من النفط والغاز وصولاً إلى أقصى المعدلات اليومية بأسرع فترة زمنية ممكنة. حيث أن تحقيق هذا الهدف يُمكّن العراق من الاستفادة من سوق النفط العالمي خلال العقدين القادمين، إذ أن هناك مؤشرات حول قرب انتهاء عصر النفط من خلال تحول سوق الطاقة العالمي إلى بدائل النفط وتطوير تقنيات جديدة كفوءة في استعمال النفط والطاقة.
2. إن المحددات الحالية للسياسة النفطية المتبعة تمنع الوصول إلى مستويات الإنتاج المطلوبة لتوفير مستلزمات التنمية في العراق.
3. كمرحلة أولى وفي الأجل القريب هنالك ضرورة ملحة لاستعادة مستوى إنتاج النفط الخام إلى ثلاثة ملايين برميل في اليوم. أي بزيادة في الإنتاج بمقدار نصف مليون برميل يومياً، ولو أن ذلك لن يكون سهل المنال.
4. هناك حاجة لإصلاح الهياكل الإدارية في وزارة النفط للارتقاء بكفاءة الأداء إلى مستويات أفضل. إن الوزارة بوضعها الحالي تجابه تحديات كبيرة في الاضطلاع بتنفيذ المهام المطلوبة منها في معالجة الأزمة الحالية وتطوير القطاع النفطي والارتقاء به إلى المستويات المطلوبة.
5. مع الإشادة بالإنجازات التي حققها الجهد الوطني، لكن وبسبب الآثار السلبية لسياسات النظام البائد، لم يعد الجهد الوطني يكفي لوحده للنهوض بالقطاع النفطي واستغلال الأمكانات النفطية الواعدة، وهنالك حاجة للاستفادة من مصادر التمويل والخبرات والتقنيات المتقدمة والإدارة الكفوءة للشركات النفطية العالمية الكبرى.

ومن أجل تحقيق الهدف الوطني للوصول إلى أقصى إنتاج وبأسرع فترة زمنية ممكنة كان هناك توصيات تضمنت:
1. تشكيل مجلس إتحادي للنفط والغاز يتولى إدارة شؤون القطاع الأستخراجي نيابة عن مجلس الوزراء، وإصدار أمر بتسمية أعضائه وتخويله صلاحية تكليف مجموعة من الخبراء للمساعدة في إعداد خطط تطوير القطاع في المديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة.
2. الإسراع بإعادة تفعيل قانون شركة النفط الوطنية بقرار من مجلس الوزراء، وتمكينها من العمل وفق مبدأ المنافسة.
3. إعادة النظر بالهيكل التنظيمي الحالي لوزارة النفط وتركيز إختصاصاتها بالشؤون التنظيمية في القطاع والمساهمة في الخطط ومتابعة التنفيذ دون التدخل بالشؤون التشغيلية للشركات المكونة للقطاع النفطي خصوصاً قطاع الاستخراج.
4. الاستعانة بالخبرات والتقنيات الأجنبية التي تمتلكها شركات النفط العالمية وبيوت الخبرة وشركات الخدمات النفطية. وإن هناك ضرورة لأعداد مراجعة وتقييم دقيق لجدوى السياسات السابقة المتعلقة بعقود المشاركة مع ضرورة توفير محفزات كافية لجذب وتحفيز الشركات للاستثمار في قطاع استخراج النفط والغاز في العراق.
5. الاستمرار بجولات التراخيص مع الشركات العالمية الرصينة، وبموازاة ذلك تبني سياسات استثنائية للتعاقد مع شركات عالمية كفوءة لتعزيز الإنتاج النفطي.
6. التوصل إلى حل مع حكومة إقليم كردستان لاستلام النفط الخام المنتج مما يساهم في زيادة إنتاج وصادرات النفط من العراق في الأجل القصير ومعالجة المشاكل المالية المترتبة على العقود واستحقاقات الشركات الأجنبية.
7. وضع وتنفيذ ثلاث خطط متزامنة لتحقيق الزيادة المطلوبة في الإنتاج وكما يلي:
- خطة عاجلة لزيادة إنتاج النفط الخام بمعدل 500 ألف برميل يومياً.
- خطة متوسطة الأمد تستهدف الوصول إلى إنتاج إجمالي قدره أربعة ملايين برميل يومياً وإعادة بناء وتوفير البنى التحتية وعناصر إدامة مستوى الإنتاج.
- خطة بعيدة المدى لزيادة إنتاج النفط الخام إلى 6 – 8 ملايين برميل يومياً.
8. ضرورة توفير الدعم السياسي لضمان تنفيذ الخطط المذكورة أعلاه.
9. منح صلاحيات استثنائية لمجالس إدارة الشركات النفطية للإسراع بتنفيذ الخطط وتجاوز الاختناقات الإدارية والمعوقات.
10. اختيار القيادات النفطية على أساس الخبرة والكفاءة وليس المحاصصة أو الانتماء الحزبي أو الطائفي.
11. تحسين الوضع المعاشي وظروف العمل في القطاع النفطي والارتقاء بالرواتب والأجور المقدمة إلى العاملين في القطاع النفطي بهدف تحسين كفاءة الأداء.
12. منح صلاحيات لوزارة النفط والشركات النفطية لاستقطاب والتعاقد مع الخبراء والكفاءات التي تحتاجها ومنحهم أجوراً تنافسية.
13. منح صلاحيات لوزارة النفط وللشركات النفطية لتخصيص الموارد المالية المطلوبة لتطوير وتدريب وتهيأة الكادر الوظيفي اللازم لتنفيذ الواجبات بالكفاءة المطلوبة.
س : يبدو أن تلك التوصيات كانت وافية فيما لو تم الأخذ بها والعمل بموجبها، فماذا أُنجز منها لحد الآن؟
ج: لم تأخذ أغلب تلك التوصيات طريقها الى التنفيذ رغم مرور أكثر من سنة على صدورها. فلم يتم تشكيل مجلس إتحادي للنفط والغاز، ولم يعاد تفعيل قانون شركة النفط الوطنية، ولا نعرف ماذا تم بشأن أعادة النظر بالهيكل التنظيمي الحالي لوزارة النفط من أجل تركيز اختصاصات الوزارة بالشؤون التنظيمية في القطاع والمساهمة في الخطط ومتابعة التنفيذ فقط. كذلك لم يتم التوصل إلى حل معقول مع حكومة إقليم كردستان عدا استلام النفط المنتج.
أما بخصوص وضع وتنفيذ ثلاث خطط متزامنة لتحقيق الزيادة المطلوبة في الإنتاج وهي خطة عاجلة لزيادة إنتاج النفط الخام بمعدل 500 ألف برميل يومياً وخطة متوسطة الأمد للصعود بالأنتاج الى أربعة ملايين برميل يومياً وأخرى بعيدة المدى لزيادة إنتاج النفط الخام إلى 6 – 8 ملايين برميل يومياً، فإن الوزارة لم تعلن عن تبنيها للخطتين الأولى والثانية وما هي الفترات الزمنية لكل منهما ومن أين سيأتي الأنتاج الأضافى وكيف. أما الخطة بعيدة المدى فهي الأخرى لم تُتّبع وإنني أرى أن الهدف الرامي للوصول بالأنتاج الى 6 – 8 ملايين برميل يومياً، ربما في غضون 6 – 7 سنوات هو هدف معقول جداً كمرحلة أولى ولا أعرف لماذا أهمل هذا الرأي لصالح تطوير 12 مليون برميل يومياً وما هي الحكمة في ذلك.
ولا أريد هنا أن أُطيل ولكني لا بد أن أتساءل أين هي وزارة النفط من تنفيذ البقية الباقية من التوصيات؟ مثلاً ماذا تم بشأن اختيار القيادات النفطية على أساس الخبرة والكفاءة وليس المحاصصة أو الانتماء الحزبي أو الطائفي؟ وما هي الخطوات التي اتُّخذت من أجل تحسين الوضع المعاشي وظروف العمل في القطاع النفطي والارتقاء بالرواتب والأجور المقدمة إلى العاملين في القطاع النفطي بهدف تحسين كفاءة الأداء؟ وهل أصبحت وزارة النفط والشركات النفطية التابعة لها قادرة على استقطاب والتعاقد مع الخبراء والكفاءات التي تحتاجها ومنحهم أجوراً تنافسية؟ هذا غيض من فيض من تساؤلات تجري في ذهني وذهن كل خبير نفطي عراقي غيور على مصلحة بلاده. ولكن الجواب عن هذه التسائلات ليس ببعيد. أنها المحاصصة اللعينة التي ابتلت بها السياسة العراقية، إذ بفضلها أصبح كل فريق يعمل على هواه ولا محاسبة هناك ولا هم يحزنون.

س : العراق اليوم وبعد جولات التراخيص عملاق قادم للسوق العالمية ، كيف نبني استراتيجية متوازنة بين العرض والطلب من اجل تعظيم عائدات النفط لدعم عجلة التنمية ؟

ج: إنه لصحيح جداً القول بأن العراق عملاق قادم الى السوق العالمية، ولكن غزارة الأحتياطات النفطية لوحدها لا تكفي أن تجعل منه عملاقاً إذ ينبغي أدارة تلك الأحتياطيات واستغلالها بحكمة، وإن واحداً من أوجه الأدارة الحكيمة هو السيطرة على مستوى الأنتاج وتوقيته بما ينسجم مع أهداف سياسة العراق النفطية، وإلاّ فإن سوء الأدارة بما فيها الخطأ بالتوقيت قد يقود الى نتائج عكسية تماماً وعندها سيصبح مثل العراق كمثل من يحمل سلاحاً جيداً ولكن يصوب ذلك السلاح لنفسه بدلاً من تصويبه الى الهدف المطلوب. أنا أقول هذا وأمامي الآن مشهد جولات التراخيص في السنة الماضية، وكيف أعطيت جواهر حقول العراق غير المطورة دفعة واحدة في جولة التراخيص الثانية بدون مبرر. بدايةً كان بودي أن أرى أنتاج العراق وقد ارتفع في هذا الوقت الى ثلاثة ملايين برميل يومياً، وهذا ما كان سيحدث لو أن وزارة النفط بقيت تعمل بموجب الخطة العقلانية التي اتبعتها في بادئ الأمر والتي كانت تقضي برفع إنتاج الحقول الحالية (المنتجة) كالرميلة والزبير وكركوك بمقدار نصف مليون برميل يومياً خلال 18 شهراً وذلك كمرحلة أولى على المدى القصير. وكان سيتم ذلك بواسطة عقود إسناد فني مع الشركات العالمية لولا أن الوزارة غيرت رأيها بعد مفاوضات طويلة وتبنت بدلاً عن ذلك عقود الخدمة الحالية. وبذلك ضاع نحو سنة من الوقت أضافة الى 500 الف برميل يومياً من الأنتاج كان العراق بأمس الحاجة لها بالأمس قبل اليوم واليوم قبل غداً.

ولقد كان بإمكان الوزارة التعاقد مع شركات النفط الأجنبية وشركات الخدمات النفطية لأضافة سعة إنتاجية قد تصل الى 4 – 5 ملايين برميل يومياً من الحقول المنتجة حالياً فقط لكي يصل أنتاج العراق الى 6 – 8 ملايين برميل يومياً في غضون 7 – 8 سنوات. وبذلك ستكون الوزارة قد أنجزت الخطة متوسطة الأمد بالتداخل مع الخطة بعيدة المدى وبالتوازي مع إعادة بناء وتوفير البنى التحتية اللازمة للنقل والتصدير وكذلك تأمين عناصر إدامة مستوى الإنتاج. كل ذلك عملاً بموجب توصيات ندوة خبراء النفط والاقتصاد التي ذكرتها آنفاً. حينئذ ستكون الوزارة قد هيأت نفسها لوضع مريح يتيح لها التعاقد بثقة مع الشركات العالمية لتطوير الحقول المكتشفة غير المطورة، ولكن ليس دفعةً واحدة وإنما حقلاً واحداً أو أكثر كل مرة وبما تمليه حالة التوازن بين حاجات العراق المالية وتلبية الطلب العالمي على النفط والتعاون قدر الأمكان مع الدول الأخرى ذات العلاقة للمحافظة على تماسك منظمة الأوبك وتمكينها من أداء واجباتها التي وُجدت من أجلها.

ولكن وزارة النفط قفزت فوق كل ذلك الى جولات التراخيص مباشرة لتعطي كل ما يملك العراق من حقول ذات وزن - عدا حقل كركوك لأسباب سياسية معروفة – في غضون ستة أشهر فقط (حزيران – كانون الأول 2009). وكما هو معلوم الآن فأن تلك العملية تمخضت عن عشرة عقود مع الشركات العالمية صادق عليها فعلاً مجلس الوزراء. ولكن هل أن الأعتراضات التي سقتها تواً تعني الدعوة لألغاء تلك العقود والبدئ من المربع الأول بعد مرور هذا الوقت الطويل؟ الجواب كلاّ! علينا – والمصلحة العامة تقتضي - أن نعترف بالأمر الواقع، فقد سبق السيف العذل أو، بعبارة أخرى، أن "الفأس وقع بالرأس" كما يقول المثل. على أن البرلمان القادم ، كما أعتقد، سوف لن يكتفي بمصادقة مجلس الوزراء كما ترغب وزارة النفط بذلك، وذلك لأسباب قانونية من جهة ولأهمية تلك العقود القصوى ولتعلقها بحياة الشعب العراقي بل وبمستقبل العراق من جهة أخرى. وسيطالب المجلس بأحالة العقود إليه من أجل دراستها ومناقشتها ولربما أجراء تعديلات على بعض بنودها قد يجدها ضرورية لكي تنسجم مع مصلحة العراق قبل المصادقة النهائية عليها. وأعتقد أيضاً أن هذا الأجراء (الأحالة الى البرلمان) الذي يعارضه وزير النفط الحالي، هو حق من حقوق المجلس التي تبقى مشروعة بغياب قانون النفط والغاز الذي لم يتم إصداره رغم مرور أكثر من سنتين على أحالته الى البرلمان نظراً لأستغلاله كوسيلة للمناكفة والتنابز بين الكتل البرلمانية وبالضد من مصالح العراق الحيوية. زد على ذلك أن مناقشة العقود التي أبرمتها وزارة النفط مع الشركات الأجنبية وكذلك المصادقة عليها لا زالت هي من صميم واجبات مجلس النواب لأن الدستور العراقي الحالي لم يلغي القوانين القديمة ذات العلاقة فهي باقية ونافذة المفعول ما لم يتم ألغائها. وإذا استمر السيد وزير النفط بالأصرار على تجاوز مجلس النواب في هذا الأمر الخطير، كما فعل خلال السنة الماضية فإني أتساءل هل كان صدام حسين أكثر وطنية وأكثر حرصاً في الألتزام بقوانين البلاد وهو الذي أحال إتفاقية حقل الأحدب مع الشركات الصينية واتفاقية حقل غرب القرنة مع الشركات الروسية الى البرلمان في حينه من أجل المصادقة؟

إن تنفيذ تلك العقود بكاملها ينطوي على صعود إنتاج العراق الى نحو 12 مليون برميل يومياً بنهاية 2017 (هذا بغض النظر عن إنتاج أضافي من كردستان العراق قد يصل الى مليون برميل يومياً في ذلك الحين)، فهل قامت وزارة النفط بأجراء دراسة وافية لحالة سوق النفط العالمية ووجدت أنها ستتمكن من تسويق هذا الأنتاج الهائل دون التأثير عكسياً على الأسعار أو على إداء منظمة الأوبك أو كليهما معأً؟ أم أن وزارة النفط أنجزت جولات التراخيص اعتباطاً ودون التفكير بوقع هذا القدر الهائل من الأنتاج على السوق وعلى تماسك منظمة الأوبك، علماً أن العراق هو أحد مؤسسي هذه المنظمة الحيوية؟ أن المجال هنا لا يتسع لمناقشة تفصيلية للعرض والطلب العالمي على النفط في المدى البعيد ويستحسن أن أعرض رأيي الِشخصي بأيجاز. أن أغلب التوقعات المتعلقة بالطلب العالمي على النفط وبالأمدادات النفطية من خارج منظمة الأوبك تشير الى أن صافي الطلب على نفط الأوبك سيزداد بنحو ستة ملايين برميل يومياً بحلول سنة 2020 وربما سيصعد الى ثمانية ملايين برميل يومياً بعد سنة 2025 ولغاية 2030. ولو افترضنا جدلاً أن منظمة الأوبك ستترك العراق خارج الحصص الأنتاجية (كما هي الحالة عليه الآن) لنهاية سنة 2016 ثم ستخصص له سقفاً إنتاجياً قدره 6 ملايين برميل يومياً خلال الفترة 2017 – 2025 ليصعد ذلك السقف الى 8 ملايين برميل يومياً خلال الفترة 2026 – 2030، وهذا ما يجب أن يطالب به العراق بناءً على السنين العجاف التي مرّ بها منذ سنة 1980، فما هي الخسائر المالية التي ستلحق بالعراق نتيجة قيام وزارة النفط بالأتفاق مع الشركات الأجنبية لتطوير سعة أنتاجية قدرها 12 مليون برميل يومياً بدلاً من الألتزام بتوصيات الخبراء التي قضت بأضافة 6 – 8 ملايين برميل يومياً فقط. في هذه الحالة ستكون السعة الأنتاجية الفائضة عن حاجة العراق 6 ملايين برميل يومياً خلال فترة السنوات 2017 - 2025 تنزل الى 4 ملايين برميل يومياً خلال فترة السنوات 2026 – 2030.

أن تطوير سعة أنتاجية من قبل الشركات لا تُقدم مجاناً بل ستقوم تلك الشركات باسترجاع كُلف التطوير من العراق أما بهيئة نفط أو نقداً أو ديناً (بفائدة طبعاً). أن كلفة التطوير لبلد مثل العراق يقدر بنحو 10,000 دولار للبرميل اليومي الواحد من الحقول غير المنتجة، وهذا يعني أن الكلفة الكلية لتطوير سعة أنتاجية قدرها أربعة ملايين برميل باليوم تبلغ 40 مليار دولار و الكلفة الكلية لتطوير سعة أنتاجية قدرها ستة ملايين برميل باليوم تبلغ 60 مليار دولار. فإذا كانت سعة العراق الأنتاجية الفائضة هي 6 ملايين برميل يومياً خلال فترة السنوات 2017 - 2025 تنزل الى 4 ملايين برميل يومياً خلال فترة السنوات 2026 – 2030، فإن معدل الكلفة الكلية الموزون بعدد السنين سيكون نحو 53 مليار دولار. أن هذه ليست خسارة العراق الناتجة عن تطوير سعة أنتاجية لا حاجة لها فحسب، وإنما تلحقها كلفة الأدامة لهذه السعة الفائضة فالأدامة ليست (بلاش). تقدر كلفة الأدامة هذه الأيام للبرميل اليومي الواحد المنتج للنفط الخام نحو 300 دولار سنوياً، وهذا يعني أن كلفة الأدامة الكلية لستة ملايين برميل يومياً والتي ستكبل العراق هي 16 مليار دولار خلال فترة السنوات 2017 - 2025 وستة مليارات دولار خلال فترة السنوات 2026 – 2030، أي أن مجموع خسائر العراق خلال فترة السنوات 2017 – 2030 لأدامة سعة أنتاجية لا حاجة لها ستكون 22 مليار دولار. ومثل هكذا كلفة لن يقبل بها بلد غني كالسعودية وهي البلد الوحيد في العالم الذي يحافظ على سعة أنتاجية فائضة لا تتجاوز مليوني برميل يومياً، وذلك من أجل الحفاظ على استقرار سوق النفط الدولية ومن أجل السيطرة والهيبة أيضاًً. وبجمع كلف التطوير والأدامة ستبلغ خسائر العراق مبلغاً خيالياً قدره 75 مليار دولار خلال الفترة الزمنية 2017 – 2030.

وبعدُ، فأنا لا أعرف لماذا يأتي وزير "محاصص" ليتخذ قرارات مضرة بمصلحة الشعب، ويلعب بوزارة النفط حسب توجهاته، وهي الوزارة الحيوية التي انتهى الشعب العراقي، هذا الشعب الكريم والعريق، بالأعتياش عليها بعد أن فقد كل شيئ آخر تقريباً (شكراً لساسة العراق)، ثم تستمر دولة القانون بالتمسك به وحمايته! وأن حيرتي لتزداد حينما أشاهد دولة القانون سعيدة بوزيرها وهو على وشك أن يفرط بعشرات مليارات الدولارات تعود لشعب جريح نحو 23% منه يعيش تحت خط الفقر! وإنني ليحزنني أشد الحزن، بل أشعر باالعار، حينما يشرف وزير عراقي على تبديد نحو 75 مليار دولار (قارن مع 61,7 مليار دولار إجمالي إيرادات الميزانية لسنة 2010) وقسم كبير من آبائنا وأمهاتنا وأخوتنا وأخواتنا وأطفالنا أصبحوأ يعتاشون على ما تجود به مزابل العراق ليقضوا بعد ذلك لياليهم بجحور من الصفيح بجانب تلك المزابل!

س : كيف ترى مشكلة صناعة الغاز واستخراجه في العراق ؟

ج: تبلغ احتياطيات الغاز الطبيعي العراقي المثبتة حالياً نحو 112 تريليون قدم مكعب، وبهذا الحجم من الاحتياطي يأتي العراق بالمرتبة العاشرة بين دول العالم الغنية بالغاز الطبيعي. وخلافاً لمكانة العراق النفطية التي تضعه ثالث دولة نفطية بالعالم، وبموجبها يملك العراق نحو 9٪ من الاحتياطي العالمي للنفط، فإن العراق حالياً يحتوي على أقل من 2٪ من الاحتياطي العالمي المثبت للغاز الطبيعي. أما بخصوص إمكانيات العراق الغازية المحتملة وغير المكتشفة فهي تبدو كبيرة جداً وتقدر بنحو 332 تريليون قدم مكعب، يُعتقد أن 164 تريليون قدم مكعب منها هي بصفة غاز حر أي ليس مصاحباً للنفط، في حين أن الباقي وقدره نحو 168 تريليون قدم مكعب فهو غاز مصاحب للنفط أو ذائب في احتياطيات العراق النفطية المحتملة (غير المكتشفة بعد). ويمكن تصنيف احتياطيات العراق الغازية المثبتة كما يلي: 70٪ منها مصاحبة للنفط، 20٪ تتكون من الغاز الحر، والباقي 10٪ يتكون من غاز القبعة وهو غاز يغطي طبقة النفط في بعض الحقول النفطية. يقع نحو 83٪ من الغاز المصاحب في الحقول النفطية الجنوبية، في حين يقع الباقي (17٪) في الحقول الشمالية والوسطى. ويُبرّر الانحراف الشديد في هذا التوزيع أن حوالي 75٪ من الأحيتاطي المثبت للنفط يقع في الجنوب، كما أن نسبة الغاز المصاحب للنفط المستخرج من الحقول الجنوبية تبلغ نحو ضعف النسبة في الحقول الشمالية والوسطى. إن الغاز في الحقول الجنوبية هو غاز حلو (يحتوي على مقادير ضئيلة جداً من الكبريت، وهذه صفة جيدة) مقارنة مع غاز الشمال الحامض والذي يحتوي على نحو 7٪ من كبريتيد الهيدروجين.

لم يكن العراق في البداية موفقاً باستغلاله لهذا المورد العظيم فقد كان يهدر حرقاً. وسبب ذلك أن شركات النفط خلال حقبة الأمتيازات كانت تبحث عن النفط فقط، أما الغاز فكان يحرق نظراً لصعوبة تصديره بذلك الوقت، ولم تجبر أتفاقيات الأمتياز شركات النفط على ضرورة استغلال الغاز داخل العراق كمصدر نظيف للطاقة أو كمادة أولية (لقيم) في الصناعات البتروكيمياوية. وقد استمرت تلك الحالة حتى أوائل الستينات من القرن الماضي حين بدأ استغلال جزء يسير من الغاز المصاحب المنتج من حقل الرميلة كمصدر طاقة بدلاً من نفط الوقود في محطات توليد الكهرباء وبعض المعامل الصناعية في منطقة البصرة. وقد كان لي الشرف أن أكون في سنة 1963 أول مهندس عراقي من جهة الحكومة العراقية (وليس الشركات) يشرف على تشغيل وصيانة محطة معالجة غاز الرميلة ثم نقل الغاز المعالج الى محطة توليد الكهرباء ومعمل الورق في النجيبية وأبو الفلوس. ولقد زادت كميات الغاز المصاحب المستحصلة داخل العراق حينما تم أنشاء مشروعي تجميع ومعالجة الغاز الطبيعي في الشمال والجنوب. فمشروع غاز الشمال الذي تم تشغيله في سنة 1983 صُمم لمعالجة نحو 700 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز الخام. أما مشروع غاز الجنوب، وهو المشروع الاكبر حجماً، فقد اكمل في سنة 1985، إلا أنه أرجئ تشغيله حتى بداية سنة1990 . وصُمم هذا المشروع لمعالجة نحو 1,5 مليار قدم مكعب يومياً من الغاز المصاحب من حقول الرميلة والزبير.

وكان الغاز المصاحب المنتج داخل العراق قبيل سقوط النظام السابق يسد الطلب المحلي، غير أن البنية التحتية لمشاريع الغاز، شأنها شأن البنية التحتية النفطية، تعرضت هي الأخرى الى بعض الخراب المباشر نتيجة للعمليات العسكرية، وغير المباشر نتيجة لأعمال النهب والتخريب. وبذلك انخفضت بشدة كميات الغاز الجاف المجهز لتوليد الطاقة الكهربائية وكذلك الغاز السائل المستعمل في البيوت العراقية من أجل الطبخ. وقد زاد الحالة سوءاً انخفاض أنتاج الغاز المصاحب نظراً لأنخفاض أنتاج النفط مما اضطر العراق لأستيراد الغاز السائل وكذلك التحول بصورة كبيرة تجاه نفط الوقود (النفط الأسود) في توليد الطاقة الكهربائية. وقد قامت الشركة الأمريكية كي بي آر بأجراء معظم الترميمات المطلوبة في البنية التحتية الغازية قبل مغادرة العراق. وكان على وزارة النفط أكمال عملية الترميم الباقية وهي بسيطة، ولكن الوزارة لم تفلح في أكمال الترميمات المتبقية مما نتج عنه استمرار هدر اغلب الغاز المنتج عن طريق حرق نحو 700 مليون قدم مكعب يومياً وكذلك الأستمرار في استيراد الغاز السائل من الخارج.

إن أهم السبل لإعادة بناء الاقتصاد العراقي هو إعادة الحياة للقطاعين الصناعي والزراعي وخلق بيئة مؤاتية للاستثمار الخاص بما فيه الوطني والأجنبي. ومن بين الشروط التي تتطلبها البيئة المؤاتية للاستثمار هو توفير طاقة كهربائية رخيصة نظراً لاعتماد الصناعات الصغيرة والمتوسطة عليها، وكذلك توفير الطاقة الحرارية والمواد الخام الرخيصة المتوفرة داخل البلد إلى الصناعات الكبيرة، وأهم تلك المواد الخام المتوفرة بالعراق بكثرة هائلة وتصلح مصدراً للطاقة و كمادة أولية (لقيم) أيضاً هي النفط والغاز الطبيعي. لقد كان المأمول من وزارة النفط التعاون والتنسيق مع وزارة الصناعة ووزارة الكهرباء من أجل توفير الغاز الطبيعي بغية استعماله لقيم في الصناعات البتروكيمياوية والكيماوية والأسمدة والصناعات كثيفة الطاقة كصناعات الألمنيوم والصلب، وكذلك تجهيز الغاز لتوليد الطاقة الكهربائية. إن الميزة الرئيسية التي يتميز بها الغاز العراقي كونه رخيص الثمن لإنتاجه مع النفط. ونظراً لرخص الثمن هذا، فإن المنتجات التي يدخل فيها الغاز – سواء كانت منتجات صناعية أم طاقة كهربائية – ستكون هي الأخرى رخيصة قياساً بالمنتجات التي تنتجها الدول الصناعية، كاليابان مثلاً، والقائمة على غاز مستورد بالأسعار العالمية.
ونظراً لهذه الميزة الفريدة فإن الصناعات المحلية المستندة إلى الغاز ستتميز بأفضلية نسبية وبإمكانها عند ذاك منافسة مثيلاتها بالأسواق العالمية. ولقد استفادت الدول المجاورة للعراق والغنية بالغاز من هذه المزية، وبالأخص المملكة العربية السعودية التي تمكنت من إقناع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية والمنتجة للصناعات البتروكيمياوية كأمريكا واليابان ودول أوروبا الغربية بأن الغاز الطبيعي المستعمل لإنتاج البتروكيمياويات في المملكة هو رخيص بطبيعته لكونه مادة عرضية من جهة ولعدم تحمله كلفة النقل إلى الأسواق العالمية – وهي تعادل نحو 30٪ من السعر النهائي لتلك المنتجات – من جهة أخرى. ولقد حصلت السعودية على تلك الميزة التنافسية عند دخولها عضواً في منظمة التجارة بعد مفاوضات مضنية.

لقد كانت الوسيلة الوطنية المثلى امام وزارة النفط في استغلال هذا المورد المهم هو القيام بأكمال الترميم المطلوب بأسرع وقت لأيقاف هدر الغاز واستعمال المنتج منه لتوليد الطاقة الكهربائية وكلقيم في الصناعات العراقية. ولكن، ولشديد الأسف، تقاعست الوزارة عن أداء هذا الواجب واستمرت في حرق الغاز ثم انتهت في النهاية بتوقيع اتفاق مبادئ مع شركة النفط العالمية شل صودق عليه من قبل مجلس الوزراء في أيلول 2008. تبلغ مدة هذا الأتفاق 12 شِهراً يمكن تمديدها لستة أشهر أخرى في حالة الحاجة لذلك. ولقد فرض هذا الأتفاق على وزارة النفط عدم أمكانيتها التفاوض مع شركات أخرى لاستغلال الغاز المنتج بمنطقة البصرة طالما بقي هذا الأتفاق نافذ المفعول. لقد تضمن إتفاق المبادئ هذا تكوين شركة مشتركة مملوكة بنسبة 51٪ من قبل شركة غاز الجنوب وبنسبة 49٪ من قبل شركة شل. إن الهدف من هذه الشركة هو جمع الغاز المصاحب، والذي يتم حرقه حالياً، ثم القيام بمعالجته وتصديره بعد سد حاجة الطلب المحلي، على أن يتم شراء هذا الغاز من شركة غاز الجنوب بالأسعار العالمية وبيعه محلياً وعالمياً بالأسعار العالمية أيضاً. ومن الجدير بالذكر أنني لم أطلع على ماهية هذا الأتفاق لولا تسلمي رسالة ألكترونية بتاريخ 23 تشرين الأول 2008 من الدكتور علي حسين بلو، رئيس لجنة النفط والغاز في مجلس النواب العراقي، طالباً فيها رأيي بخصوص أتفاق المبادئ هذا بين وزارة النفط وشركة شل كان مرفقاً مع الرسالة.

لقد كان اعتراضي الرئيسي على هذا العقد – إضافة الى اعتراضات أخرى - هو بيع الغاز للمستهلكين المحليين (محطات توليد الكهرباء، المجمعات البتروكيمياوية، صناعات الحديد والصلب والأسمدة والأسمنت والصناعات الإنشائية ... الخ) بالأسعار العالمية. إذ بهذا العمل ستفقد الصناعات العراقية المذكورة أفضليتها النسبية في الأسواق المحلية والعالمية، وستنافسنا المنتجات الأجنبية حتى في عقر دارنا بدل أن نعمل العكس كما تفعل السعودية وأيران الآن. وسيصيب الكساد والضمور الصناعات العراقية المستندة إلى الغاز وتختفي، لأن منافسينا الأجانب يفضلونا بالوقت الحاضر بقدراتهم التكنولوجية والإدارية والتسويقية وكذلك بانتاجية القوة العاملة لديهم ولا نفضلهم ألا بالسعر. وسوف لن تتمكن وزارة الكهرباء من تزويد الطاقة الكهربائية إلى القطاع الصناعي والقطاع الزراعي بأسعار تفضيلية لمساعدتهما على النهوض والنمو والمنافسة بمنتجاتهما محلياً وعالمياً. أن الذي سيحدث في العراق بسبب الأتفاقية مع شركة شل هو بخلاف ما يحدث بالسعودية وأيران الآن بشأن استغلالهما لمواردهما من الغاز الطبيعي بصورة وطنية وعقلانية.
.
لقد مُدّد أتفاق المبادئ مع شركة شل ستة أشهر ثم مُدّد ستة أشهر أخرى في آذار الماضي. وبحلول الواحد والعشرين من هذا الشهر (آيار 2010) يكون قد مضى 20 شهراً على توقيع اتفاق المبادئ ولا نعرف ماذا يجري بين الوزارة والشركة وماذا تم التوصل اليه، فنطاق السرية مضروب عليه رغم تبجح المسؤوليين بالشفافية. ولم يحدث شيئ يذكر بشأن استغلال الغاز إذ لا زال يحرق منه 700 مليون قدم مكعب يومياًً. وقدرت خسائر العراق نتيجة هذا الحرق بنحو 1,5 مليار دولار سنوياً. يضاف الى ذلك أن الغاز المهدور حرقاً غني بالغازات السائلة التي تحرق هي الأخرى. وتقدر كميات الغازات السائلة التي تحرق بهذه الطريقة بنحو 4,000 طن يومياً أو ما يعادل 300 ألف قنينة غاز يومياً من النوع المستعمل للطهي في البيوت العراقية. ومن المؤلم أن هذه الكميات الكبيرة تحرق في حين يحتاج العراق الى استيراد 1,000 طن يومياً من الغاز السائل لسد الطلب المحلي. فهل هذا هو الواجب الوطني الذي قامت به الوزارة تجاه البلد علماً أن وزارة الكهرباء بأمس الحاجة الى الغاز الجاف، وربات البيوت العراقية بأمس الحاجة الى الغاز السائل، والعراق بصورة عامة بأمس الحاجة لأحياء صناعاته المستندة الى الغاز؟

س : كيف نبني شركة النفط الوطنية العراقية ؟

ج: لقد تم في نيسان 1987 دمج شركة النفط الوطنية مع وزارة النفط، وقد كان ذلك القرار غلطة أستراتيجية كبيرة. فبدلاً من تطوير شركة النفط الوطنية ومنحها استقلاليتها بتقليص هيمنة وزارة النفط عليها، ثم بنائها على أسس حديثة بقيادة مجلس أدارة متمرس وكفوء، نراها قد وقعت في قبضة بيروقراطية مقيتة لا تنسجم مع متطلبات شركة حديثة تملك سلطات واسعة وتتسم بسرعة القرار. وبينما تقوقعت وتشرنقت مؤسسات شركة النفط الوطنية بتبعيتها لوزارة النفط، وخسرت على مر السنين كوادرها القيادية وتراجعت أمكانياتها الفنية، نرى شركات النفط الوطنية الأكثر حظاً في الدول المجاورة، وبالأخص شركة أرامكو السعودية وشركة النفط الوطنية الأيرانية، قد تطورت بكافة أمكانياتها الأدارية والتقنية والعلمية. وأصبحت تلك الشركات حاضنات للكوادر الوطنية على اختلاف مهاراتها، تفيض على بلدانها الناهضة بخيراتها الوفيرة من العلوم والخبرات الأدارية والهندسية والتقنية والعلمية. وها هي أرامكو السعودية، أكبر شركة نفط بالعالم، أصبحت تنجز مشاريع وطنية خارج مجال اختصاصاتها ولكنها مشاريع تتسم بالنفع المجتمعي العام. و اختيرت مؤخراً لتنفيذ المشروع الرياضي العملاق المتمثل بأنشاء مدينة الملك عبد الله الرياضية في جدة بعد أن نجحت في بناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا في غضون سنتين.

إذا أريد لصناعة العراق النفطية النجاح فلا بد من أعادة الحياة ألى شركة النفط الوطنية على أسس تجارية حديثة. ولقد كان موضوع أحياء شركة النفط الوطنية حاضراً في ذهن الخبراء وجاء في قمة التوصيات التي ذكرتها لكم (أرجو الأطلاع على مداخلتي الشخصية بهذا الشأن والتي وردت بكتابي"الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل، صفحة 403 – 404"). وأنني أرى من المفضل أن أذكرها لكم بهذه المقابلة كما وردت بالكتاب، وأرجو نشرها كما هي لتعميم الفائدة:
""بالأمس تساءل المعنيون بالأمر من وزارة النفط، وكذلك إخوتي الخبراء، عن المثالب والنواقص والمآسي التي حاقت وتحيق بوزارة النفط والشركات التابعة لها والحقول النفطية المنتجة مع منشآتها ولوازمها فوق الأرض وتحتها:
- لماذا لم ينجز ال 220 مشروع بموجب خطة الترميم التي أُعدت خلال أشهر بعد سقوط النظام؟
- لماذا لا يجري الاستثمار الخارجي الذي تقوم به شركات النفط الأجنبية بالعراق في جو سليم وشفاف؟
- لماذا هذا الهروب المستمر للكوادر النفطية؟
- لماذا لم يرتفع إنتاج النفط الخام في عمليات المنبع (Upstream)؟
- لماذا لم تتم إضافة طاقات تصفية جديدة في عمليات المصب (Downstream)؟
- لماذا، لماذا، لماذا؟ في حين كان المفروض أن يحدث كذا وكذا وكذا!"
ثم استطردت لأقول: «أنا لاحظت أن الجميع تقريباً يتكلم عن مثالب وزارة تنخر بها البيروقراطية ويقودها المحاصصون، والجميع يريد شركة نفط وطنية حديثة، يقودها مجلس إدارة عليم بشؤون النفط وفنون الإدارة، وتقوم بتنفيذ الأعمال دوائر متخصصة. شركة بإمكانها جذب واستغلال الكفاءات المهنية. شركة تملك السلطة في العمل والتعاقد مع الغير. شركة لها قوانينها المناسبة لطبيعة أعمالها ولا يقيدها الروتين الحكومي وقوانين الخدمة المدنية. شركة بإمكانها طوي الزمن إن هي أرادت الإسراع بالعمل. ولكن أين هذه الشركة، وأين قانون النفط والغاز وأين الدستور المعدل، وهو القانون الأعلى الذي يلد قوانين البلاد ولكنه – وبنفس الوقت – يقيدها بمواده وروحه؟ فلا شركة هناك، ولا قانون للنفط، ولا دستور معدل، لماذا؟ إن الداء أيها الأخوة هو في الحالة السياسية الغريبة في البلد التي أفرزتها الطائفية والأثنية والمحاصصة. إن الداء هو في غياب الشعور بالمواطنة وفي خدمة الأجندات الحزبية. أما الدواء فهو عند الساسة أيضاً، وليس عند الخبراء! وداوني بالتي كانت هي الداءُ، وإن الله لا يغير قوماً حتى يغيروا ما بأنفسهم!».

كان قانون شركة النفط الوطنية قد استوجب أصداره مشروع قانون النفط والغاز الفدرالي الذي صادق عليه مجلس الوزراء وأحاله الى مجلس النواب في شباط 2007. وأخيراَ، ولربما استجابةً لتوصيات الخبراء، صادق مجلس الوزراء على مسودة مشروع قانون شركة النفط الوطنية في 28 تموز 2009، ثم أحيل الى مجلس النواب قبيل عطلة المجلس الصيفية. ولم يحدث شيئ يذكر بعد ذلك كما هو معلوم. إذ تبقى مسألة أعادة أنشاء شركة النفط الوطنية معلقة على أشكالية صدور قانون النفط والغاز الفدرالي الذي، بدوره، يستوجب تشكيل المجلس الإتحادي للنفط والغاز لكونه يتمتع بدور أشرافي على شركة النفط الوطنية. ولابد أيضاً من استصدار قانون أعادة هيكلة وزارة النفط لأن إعادة أنشاء شركة نفط وطنية مستقلة يستوجب انسلاخها من الوزارة. وسوف لن تُحل هذه الأشكاليات القانونية ما لم يبدأ الساسة العراقيون بالعمل من أجل الوطن وبنياتٍ حسنة.

يبقى أن أذكر مشكلة أخرى ستواجهها شركة النفط الوطنية عند إعادة الحياة لها وهي مشكلة التراخيص والعقود العشرالتي وقعتها وزارة النفط مع الشركات العالمية. إن مدة العقد الواحد 20 سنة يمكن زيادتها الى 25 سنة. إن الذي يحيرني ويثير دهشتي هو هذه المدة الطويلة التي اختيرت لهذه العقود، إذ خلال مدة 25 سنة من الزمن يمكن "شفط" كل ما لدى العراق من نفط مكتشف خصوصاً إذا علمنا أن الشركات اختارت حدوداً مبالغ بها لمستوى الذروة الأفقي للأنتاج (Production Plateau) أو (هضبة الأنتاج). فأولاً أنا أرى أن لا مبرر هناك لمثل هضبات الأنتاج العالية التي اقترحتها الشركات الأجنبية والتي هي ليست في مصلحة العراق في الوقت الحاضر. وثانياً أرى أن وزارة النفط على خطأ في قبول 20 سنة كمدة لتلك العقود يمكن زيادتها الى 25 سنة. فاذا قارنا الأمر مع أيران نجد أن هذه الجارة لم تقبل بأكثر من سبع سنوات لتطوير حقولها من قبل الشركات الأجنبية رغم ضغوط الشركات والحصار الأمريكي الشديد الذي تتعرض له منذ عقود! ولكنها، وبضغوط من الشركات لتحسين شروط عقودها، ولربما بسبب الحصار الذي تعانيه أصبحت تفكر الآن بزيادة مدة عقودها الى عشر سنوات. وبهذا يظهر الأيرانيون أكثر وطنية وحرصاً على موارد بلادهم مقارنة مع العراقيين الذين أصبحوا يقودون وزارة النفط هذه الأيام، علماً أن الأحتياطيات النفطية المثبتة لدى أيران حالياً هي أكثر مما لدى العراق. أما بخصوص موارد الغاز الطبيعي فأن إيران تأتي بالمرتبة الثانية بالعالم بين الدول الغنية بالغاز أذ تملك احتياطيات مثبتة من الغاز أكثر مما لدى قطر، وتعادل احتياطياتها أكثر من تسعة أضعاف ما لدى العراق. وأذا قارنا الأحتياطيات المثبتة للبلدين من النفط والغاز معاً، وعلى أساس المكافئ الحراري – وهي وحدة القياس المتبعة عالمياً – نجد أن أيران تملك في 1/1/2010 نحو 2,4 ما يملكه العراق من موارد النفط والغاز، ومع ذلك نجد أن الأيرانيين لا يفرطون ولو بجزء يسير من مواردهم النفطية وبالأخص في شؤون أدارتها والسيطرة عليها، في حين أننا حاضرون لتسليم كل ما لدينا من نفط الى الشركات الأجنبية لمدد طويلة جداٍ وبهضبات أنتاج مضرة بالمصالح العراقية..

وبعد أن عرضنا مدة العقود التي قبلت بها وزارة النفط، وإذا علمنا فوق ذلك أن حصة العراق في تلك العقود تم تخفيضها من 49% الى 25 % وبالمقابل تم تصعيد حصة الشركات من 51% الى 75%، سيتبين لنا الوضع المزري الذي ستنتهي به شركة النفط الوطنية العتيدة. إذ ستنتهي بكونها شركة هامشية هزيلة لا تملك صلاحيات أدارة الحقول التي ستسيطر عليها الشركات الأجنبية. وفي حالة انتظار هذه الشركة 20 – 25 سنة حتى تنتهي مدة العقود، فأنها، على الأغلب، سوف لن تجد إلاّ حقولاً ناضبة غير ذات فائدة لأدارتها، وسيكون النفط العراقي الحالي قد تم أنتاجه من قبل الشركات الأجنبية بموجب عقود قانونية، وتم استهلاكه من قبل شعوب أخرى عطشى للموارد العراقية. ولا أظن أن مجلس النواب كان سيقبل بهذه النهاية الفاجعية لموارد العراق النفطية وشركة نفط العراق الوطنية. ولكن وزير النفط – بالتضامن مع من يؤيده - نجح في منع أحالة تلك العقود الى مجلس النواب حتى يتمكن ممثلوا الشعب من أداء واجباتهم المكلفين بها من قبل الشعب الذي اختارهم لحماية حقوقه بأي وسيلة متاحة لهم.

س: ما هي رؤيتك إذن لمعالجة الموضوع؟

ج: أنني أرى بعد التوضيحات التي أوردتها ما يلي:
1) أن يتم الفرز بين الحقول المنتجة حالياً وتشمل بصورة رئيسية كلاً من الحقول التالية: الرميلة، كركوك، غرب القرنة1 والزبير (وقد أضيفت إليها مؤخراً حقول ميسان) وبين الحقول المكتشفة وغير المنتجة حالياً وأهمها: مجنون، غرب القرنة2 وحلفاية. ففي حالة الحقول المنتجة تقوم شركة النفط الوطنية العراقية - بعد أعادة الحياة لها - بتشغيل هذه الحقول وإدارتها. وستتمكن هذه الشركة، وبمساعدة شركات استشارية متخصصة، من زيادة الأنتاج طبقاً لمقتضيات خطة أستراتيجية أقتصادية طويلة الأمد (2010 – 2030) وبواسطة عقود خدمة (Service Contracts).
2) لا يجوز تسليم الحقول المنتجة حالياً الى الشركات الأجنبية بأي حال من الأحوال. ذلك أن هذه الحقول الكريمة انتهت بكونها بوليصة تأمين الدخل اليومي للشعب العراقي في هذا الزمن الردئ. وبموجب ما جرى خلال السنة الماضية وهذه السنة نرى أن السيد رئيس الوزراء ووزير نفطه وافقا على تسليم تلك الحقول الى شركات أجنبية ولا زالا يدفعان الأمور بذلك الأتجاه. وبنجاحهما في ذلك العمل يكونا قد سمحا لأيادي أجنبية أن تمسك بقوت الشعب اليومي وتسيطر عليه، وهذا ما لم يحدث حتى في زمان الأستعمار البغيض.
3) لا يجوز ارتهان هذه الحقول بالذات بعقود طويلة الأجل (20 – 25 سنة) كما تزمع حكومة دولة القانون عمله الآن. كما لا يجوز ارتهانها حتى بعقود قصيرة الأجل يفقد في ظلها الشعب العراقي سيطرته عليها. وأذا كانت الشركات الأجنبية التي ستسيطر على هذه الحقول تأتي الآن من دول صديقة فإن هذه الصداقات قد لا تدوم مثلما تدوم مصالح تلك الدول، والساسة العراقيون يجب أن يعرفوا هذا قبل غيرهم. ثم نحن لا نعلم ما تضمر لنا الأيام القادمة إذ قد ينشب نزاع بين العراق وبين تلك الشركات ربما يتوقف على أثره انتاج تلك الحقول. وبذلك قد لا يتمكن العراق من التصرف بالأنتاج طالما بقي النفط المنتج مادة لنزاعات قانونية في محاكم دولية (مقراتها باريس أو لندن مثلاً) . وقد تُوقِف تلك الشركات الأنتاج لظروف تدّعيها بكونها قاهرة (Force Majeure) بعرف القانون، وقد تكون تلك الظروف حقيقية كالحرب أو العنف أو الكوارث الطبيعية. ولكن هذا الشعب العريق، أن كان هو المسيطر القانوني على تلك الحقول، سوف لن يوقف الأنتاج طبعاً، فهو لايعرف ظروفاً قاهرة ولا يعترف بها ولن يوقف الأنتاج تحت أي ظرف من الظروف، أذ سيستمر أبناؤه الأشاوس بتشغيل حقولهم لتأمين أسباب العيش الكريم لشعبهم الأبي حتى لو تعرضوا ألى القتل الواحد منهم تلو الآخر.
4) يمكن التعاقد مع الشركات الأجنبية لتطوير الحقول المكتشفة غير المنتجة على أسس العقود التي تم الأتفاق عليها مع الشركات مؤخراً، بعد دراسة تلك العقود من قبل مجلس النواب وإجراء التعديلات التي تقتضيها مصالح البلاد العامة. وأقترح هنا تقصير مدة العقد الواحد الى أمد أقصاه عشر سنوات، إذ خلال هذه المدة الطويلة من السنين ستتمكن شركة النفط الوطنية من ابتعاث الطلبة العراقيين الى الخارج (كما تم ابتعاثي في سنة 1957 مع أخوتي الطلبة المتفوقين على نفقة شركة نفط العراق آنذاك) من أجل الحصول على شتى الأختصاصات المطلوبة في الصناعة النفطية، لسد النقص في الكوادر المهنية الجيدة التي أصبحت تعاني منها صناعة النفط العراقية الآن. هذا ويجب أن يتم انتقاء الطلبة المبعوثين طبق شروط معقولة ليس من بينها الأنتماء الديني أو المذهبي أو السياسي ودون التفريق بين ذكر أو أنثى.
5) تخفيض الزيادة الكلية في الأنتاج الحاصلة من تطوير سعات إنتاجية جديدة الى نحو خمسة ملايين برميل يومياً بدلاً من 9,6 مليون برميل يومياً كما هو مخطط له الآن. وبأضافة الأنتاج الحالي البالغ 2,5 مليون برميل يومياً الى الزيادة المقترحة سيصل الأنتاج الكلي للعراق بحلول سنة 2017 الى نحو 7,5 مليون برميل يومياً يمكن أن تستوعبها السوق ومن دون التأثير الكبير على منظمة الأوبك خصوصاً في حالة تعاون الأخيرة لأعطاء سقف إنتاجي مناسب للعراق.
6) يمكن تقاسم الزيادة المقترحة بالأنتاج، وقدرها خمسة ملايين برميل يومياً، بالتساوي بين الحقول المنتجة حالياً والحقول غير المنتجة والتي سيتم تطويرها من قبل الشركات العالمية. ويمكن تقييد الزيادة في الوقت الحاظر من الحقول غيرالمنتجة ب2,5 مليون برميل يومياً بدلاً من 4,7 مليون برميل يومياً كما هو مخطط له الآن. ويمكن إنجاز ذلك بأحدى الطريقتين التاليتين: ا) تخفيض هضبة الأنتاج من هذه الحقول بمقدار2,5 مليون برميل يومياً أو ب) تطوير هذه الحقول بأوقات مختلفة بصورة يكون معها الأنتاج الأضافي نحو 2,5 مليون برميل يومياً. ونفضل الطريقة الأولى لكي نشرك أكبر عدد ممكن من الشركات في آن واحد.
أن الهدف من وراء السيطرة الوطنية على الحقول المنتجة حالياً و كذلك تخفيض إنتاج هضبة الحقول الغير مطورة هو ليس محاربة الشركات الأجنبية قطعاً. وأنما الهدف من وراء ذلك الدفاع عن مصالح الشعب العراقي والمحافظة على ديمومة تلك المصالح وازدهارها. أما بخصوص الشركات الأجنبية فأنني، على العكس، أؤمن بالتعاون معها وحماية المصالح المتبادلة معها بغض النظر عن جنسيتها (عدى أسرائيل طبعاً). كما أؤمن بأن الشركات الأجنبية هي مصدر لا يمكن الأستغناء عنه في مجالات التكنولوجيا المتقدمة وفنون الأدارة الحديثة ويجب والحالة هذه التعاون معها بما تتطلبه المصالح المتبادلة. إن العراق في هذه المرحلة بأمس الحاجة لمثل هذه الشركات لتطوير حقوله النفطية التي طال إهمالها نتيجة للظروف العصيبة التي مر بها خلال الثلاثين سنة الماضية. ولا بأس من التعاون مع الشركات التي كانت ستقوم بتطوير الحقول المنتجة، وهي بي بي، سي أن بي سي، أكسون موبل، شل، أَني، أوكسي، كوغاز وغيرها من الشركات لتطوير حقول العراق المنتجة حالياً وزيادة أنتاجها، ولكن ليس على أسس التخلي عن السيطرة على تلك الحقول لأسباب أستراتيجية تطرقنا أليها. ولا بأس من التعاون مستقبلاً مع تلك الشركات وكذلك الشركات العالمية الأخرى لتطوير حقول جديدة يضيفها العراق الى حقوله المنتجة حسب الحاجة. هذا وللعلم أن مأ أقترحه هنا ليست دعوة للأكتفاء بأنتاج عراقي لا يتعدى 6 - 8 مليون برميل يومياً بل يتعداه حتماً وقد يصل الى 12 مليون برميل يومياً ولربما أكثر، ولكن كل شيئ يجب أن يحدث بالوقت المناسب، والتوقيت المناسب هو جزء لا يتجزأ من الأدارة الجيدة.

أخيراً أود أن أذكر هنا بأن شركة النفط الوطنية هي نصف شركة بالواقع. ذلك أنها، منذ تأسيسها في سنة 1964 أقتصرت فعالياتها على عمليات المنبع فقط (Upstream) أي عمليات الأستكشاف والتطوير والأنتاج ولم تشتمل فعالياتها على عمليات المصب (Downstream) أي عمليات تكرير النفط وتوزيع المنتجات النفطية. وبعبارة أخرى أن شركة النفط الوطنية العراقية ليست شركة متكاملة كباقي شركات النفط بالمنطقة، وهذا خلل كبير يجب تلافيه. ولقد أبقى مشروع قانون النفط والغاز على هذا الخلل ولم يعالجه، وكأنه أراد بذلك الأبقاء على شركة النفط الوطنية خادمة لحاجات العالم الخارجي بتزويده ما يريده من النفط الخام تاركاً حاجات الشعب العراقي للمشتقات النفطية تسده مؤسسات أخرى. لذلك أرى وجوب معالجة هذا الخلل وخلق شركة متكاملة عمودياً (Vertically Integrated) وفي هذا التوازن كفاءة في الأدارة والأنتاج والتنسيق، وبالتالي خدمة أفضل لمصالح الشعب والبلد.
س : ونحن ننتهي من لقائنا ، ماهي دعوتك للحكومة القادمة في صناعة النفط والغاز في العراق ؟

ج: هذا السؤال عام، ولكني سأركز على ثلاث نقاط فقط، ثم أنتهي بكلمة أخيرة:
أولاً:- أطلب من الحكومة القادمة القضاء المبرم على الفساد بالوزارة وعدم ترك ثغرات يدخل منها هذا الفساد. عندما سُئل السيد وزير النفط من قبل أحدى الفضائيات في مقتبل العام الماضي عما أذا تم نصب عدادات النفط أجاب بأن منظومة قياس النفط قد اكتمل نصبها 100%، كما تم تعييرها وهي الآن تشتغل بكاملها. وعندما أجريتُ بحثاً صغيراً عن الفساد المستشري بالعراق من أجل نشره في الفصل السادس عشر من كتابي عن الأقتصاد العراقي وجدت أن أجابة السيد الوزير لم تكن دقيقة مع الأسف ولا تنسجم مع تقارير المجلس الرقابي والمدققين التي صدرت فيما بعد. فـقـد ذكر المجلس الدولي الاسـتـشـاري والرقابي (IAMB) المعين من قبل الأمم المتحدة للإشراف على عوائد العراق النفطية، ذكر في تقرير له في 26/4/2009، إن الحكومة العراقية بطيئة جداً في نصب أنظمة قياس النفط المنتج والمصدر من أجل السماح بالشفافية المطلوبة لعمليات الإنتاج والتصدير. وقال المجلس أنه "قلق لأن واحداً من بين التوصيات الأولى، منذ 2004، وهي المتعلقة بقياس النفط، تبقى غير كاملة التنفيذ. أن المؤشرات من وزارة النفط تبين أن التنفيذ سيتم في 2011 في أحسن الأحوال. أن المجلس يشجع الحكومة العراقية بشدة على وضع خطة بجدول زمني، يقرّه مجلس الوزراء، لتأمين تنفيذ هذا المشروع". وقالت شركة التدقيق العالمية KPMG في آخر تقرير لها، وهي شركة اختيرت لتدقيق مصروفات صندوق تنمية العراق، "إن تحرياتنا في كانون الأول 2008 كشفت بان نصب منظومة قياس النفط لم يكمل منها سوى 33%... ولا يمكن التأكد من كميات النفط المنتجة في حالة غياب منظومة كاملة للقياس"

وفي بيان صدر لها إثر اجتماعها النصف سنوي في تموز (يوليو) 2009 – أي بعد ادعاء السيد الوزير بأن منظومة قياس النفط قد اكتمل نصبها 100% - قالت (IAMB) أن مهمتها ستنتهي بنهاية هذه السنة (2009) وأكدت، من بين أمور أخرى، على مهمة تطوير "خطة عمل محددة زمنياً" مصادق عليها من قبل مجلس الوزراء لإنجاز النظام الشامل والمتكامل الموصى به لقياس النفط العراقي المنتج والمصدر والمستهلك داخل العراق طبقاً للممارسات العالمية المعتمدة في الصناعة النفطية. إن النظام الشامل والمتكامل لقياس النفط يعني تسجيل كل برميل نفط خام ينتج وينقل ويصدر وكل برميل نفط خام ينتج وينقل ثم يصفى محلياً من أجل الاستهلاك الداخلي أو التصدير (لكي تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر). وذكرت شركة التدقيق العالمية KPMG في آخر تقرير لها لسنة 2008 أمثلة لأعمال وزارة النفط مثيرة للقلق، منها:
• قامت شركة نفط الشمال في السنة الماضية (2008) بحرق 1,4 مليون برميل من مكثفات النفط لعدم تمكنها من بيعها، وقامت بتدمير حقول بإعادة ضخ 605,000 برميل نفط فيها، ولم تتمكن من توضيح أسباب فقدان 698,000 برميل نفط، يُعتقد أنها سُرقت.
• تشير سجلات وزارة النفط إن الإنتاج المسجل لحساب شركة نفط الجنوب في 2008 هو أقل بما يربو على ستة ملايين برميل مما تدعيه الشركة المذكورة.

أضافة الى التقارير التي ذكرتها تواً والتي تخالف ادعاءات السيد الوزير، أنني أتساءل الآن هل أنجزت وزارة النفط مهمة تطوير "خطة عمل محددة زمنياً" مصادق عليها من قبل مجلس الوزراء لإنجاز نظام شامل ومتكامل لقياس النفط طبقاً للممارسات العالمية المعتمدة في الصناعة النفطية؟ وأتساءل أيضاٍ أليس التقاعس في إكمال نصب منظومة قياس كميات النفط المنتج داخل العراق والمصدّر إلى الخارج يدفع إلى الفساد ويشجع على السرقة؟

ثانياً:- أن مشروع قانون النفط والغاز يستدعي صدور قانون لإعادة هيكلة وزارة النفط. أنا أقترح في هذه المناسبة ألغاء وزارة النفط وأنشاء محلها وزارة للطاقة، خصوصاً وأن كافة شؤون النفط التشغيلية ستتولاها شركة نفط وطنية جديدة متكاملة عمودياً (أي مشتملة على جزء يتعلق بأعمال النفط الخام وجزء آخر يتعلق بأعمال المشتقات النفطية بضمنها عمليات التصفية). في هذه الحالة أقترح ألغاء وزارة الكهرباء هي الأخرى بحيث تلحق مهماتها الأدارية والتنظيمية تحت مظلة وزارة الطاقة، أما الأمور التشغيلية (توليد الطاقة الكهربائية، توزيعها،...ألخ) فستقوم بها "شركة الكهرباء الوطنية". وستنضوي تحت مظلة وزارة الطاقة هيئات لطاقات جديدة لابد للعراق أن يبدأ العمل بها، ولو على نطاق ضيق بداية، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الذرية،....ألخ). وبهذه الحالة سيسهل التنسيق بين شركتي الكهرباء الوطنية والنفط الوطنية بخصوص حاجات الأولى للنفط والغاز وحاجة الأخيرة للطاقة الكهربائية...ألخ بما يخدم مصالح العراق الوطنية. أما الآن، وبعدم وجود وزارة طاقة يبقى الشعب العراقي يعاني من المشكلة الأزلية في اختفاء الكهرباء. ونرى تبعاً لذلك مشهد وزيري النفط والكهرباء يتناطحان بين آونة وأخرى، كلٌ فرح بما عنده وكل طرف ينحي بلائمته على الطرف الآخر، فيما الشعب الذي ابتلى بهم، وهو الضحية الأولى، يكتوي بنيران غياب االخدمات الأساسية ومنها توفير الكهرباء واسطوانات الغاز السائل للطهي والبانزين النظيف. ولو كان الحاكم المشرف على أمور الشعب هو صدام حسين بقسوته المعهودة وليس دولة القانون، لألهب ظهور هؤلاء بالسياط ولألفيت الواحد منهم يحمل النفط على ظهره الى محطات الكهرباء، ولرأيت الغاز، بدلاً من حرقه هباءً، يجري في الأنابيب لتوليد الطاقة الكهربائية كجريان الدم في عروق هؤلاء الوزراء (وبضغط مرتفع أيضاً)، ولرايت الكهرباء يجري بعكس الأتجاه لتشغيل كابسات الغاز (المتوقفة حالياً طبعاً) من أجل نقل الغاز الى محطات الكهرباء لتوليد التيار الكهربائي من أجل خدمة هذا الشعب الصابر. ولكن هيهات لدولة القانون أن تستعمل القسوة الصدامية – ولا نريدها أن تفعل ذلك – ولكن الله واكبر حتى حساب (ماكو)؟ والوزراء على راحتهم يسرحون ويمرحون؟

ثالثاً:- إن الاقتصاد العراقي معلول ويحتاج إلى طفرات تنموية كبيرة ولسنوات طويلة لكي يتعافى ويتحول من اقتصاد ريعي أحادي الجانب يعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على استخراج وتصدير النفط إلى اقتصاد متطور ومتوازن ذو قاعدة عريضة ومتنوعة بعيدة عن هيمنة القطاع النفطي وذات نمو مستدام قادر من جهة على توفير فرص عمل جديدة للداخلين سنوياً إلى سوق العمل وقادر من جهة أخرى على توفير زيادة معقولة ومستمرة في الدخل الفردي من أجل إحراز تحسن مستمر في مستوى معيشة السكان.

إن مهمة إحراز الطفرات التنموية المذكورة، ولسنوات طويلة، لا يمكن إنجازها بمجرد الاعتماد على الفائض النفطي الممول للنفقات الاستثمارية في الميزانية الحكومية. إن الفائض النفطي هذا ضئيل أولاً، ومتقلب صعوداً ونزولاً ثانياً، وتخصصه الحكومة بصورة رئيسية لصيانة البنية التحتية وتوسيعها والاستثمار في نواحي خاصة تتعلق بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل الصحة والتعليم وتوفير الكهرباء والماء وخدمات الصرف الصحي ...إلخ. إن الاستثمارات الحكومية هذه، والمعتمدة أساساً على ما يفيضه القطاع النفطي بعد سد النفقات التشغيلية الموضوعة في الميزانية، هي محدودة بطبيعتها، وليس باستطاعتها تحقيق الطفرات التنموية المطلوبة. إن الذي سيحقق التنمية المطلوبة للوصول إلى اقتصاد متطور كما نريده للعراق هو الاستثمار الخاص بما فيه الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يجلب معه ليس فقط رؤوس الأموال اللازمة وإنما يجلب معه أيضاً التكنولوجيا المتطورة وفنون الإدارة الحديثة كما يمكنه فتح الأبواب الخارجية لتصدير ما تنتجه رساميل تلك الاستثمارات.

من أجل تخمين الاستثمارات الواجب القيام بها خلال فترة زمنية معينة لابد من معرفة الأهداف المتوخاة من هذه الاستثمارات، والتي قد تحددها خطة البلد الاستراتيجية للتنمية الاقتصادية خلال الفترة الزمنية المعينة، ومنها النمو السنوي الحقيقي المطلوب في الناتج المحلي الإجمالي، النمو السنوي الحقيقي للدخل الفردي، حجم الطبقة العاملة في البلد ومستوى البطالة المسموح بها...ألخ وكذلك معرفة طبيعة اقتصاد البلد وكفاءته من حيث الإنتاجية ومدى قدرته الاستيعابية. لا أعرف أن كان العراق قد وضع بعد سقوط النظام خطة استراتيجية للتنمية الاقتصادية، ولا أعتقد أنه يملك مثل هذه الخطة بالوقت الحاضر. وللقيام بتخمين حجم الأستثمارات التي سيحتاجها البلد لنفترض أن النمو الاقتصادي المطلوب تحقيقه هو 12 بالمائة سنوياً لمدة 20 سنة خلال الفترة الزمنية 2010-2030 وذلك من أجل تعويض الأقتصاد العراقي عما فاته من نمو، وهذا النمو ليس من الصعب تحقيقه نظراً لكون الاقتصاد العراقي ينطلق الآن من قاعدة متدنية بعد تدهوره بمعدل 3.3% سنوياً منذ سنة 1980. وبموجب هذا النمو السنوي وافتراضات لا مجال لذكرها هنا ولكن ستجدونها بالكتاب، سيكون مجموع تراكم رأس المال المطلوب نحو 2,770 مليار دولار خلال الفترة 2010-2030، أي بمعدل 140 مليار دولار سنوياً تقريباً، وذلك بالأسعار الثابتة لسنة 2008.

إن هذه المبالغ كبيرة جداً بمقياس العراق ولا يمكن أبداً التعويل على ما تدره الصادرات النفطية من أموال لتوفير حتى جزء يسير منها. وسبب ذلك أن الميزانية الحكومية الاعتيادية (أي التشغيلية) ستلتهم الجزء الأكبر من أموال الصادرات النفطية في كل سنة، ولن يبقى إلا ما يكاد يكفي لإعادة بناء البنية التحتية وتوسيعها لمواجهة حاجات السكان الذين تتزايد أعدادهم باستمرار، بضمنها حاجات التعليم والصحة والسكن. إن المبالغ الهائلة المطلوبة لتنمية الاقتصاد العراقي، والحالة هذه، يتعين أن يتولاها القطاع الخاص، وفي ذلك سيكون للاستثمار الأجنبي المباشر حصة الأسد. على أن الاستثمار الأجنبي المباشر سوف لن يدخل العراق ما لم تتوفر له البيئة التنافسية المؤاتية، خصوصاً وإن مختلف بلدان العالم تتبارى فيما بينها لاجتذاب هذا النوع من الاستثمار.

هناك شروط عدة ينبغي العمل على توفيرها لكي نتمكن من خلق البيئة التنافسية المؤاتية لا مجال لذكرها هنا ويمكنكم الأطلاع عليها في الفصل العشرين من الكتاب بعنوان "خارطة طريق إقتصادية". على أن رؤوس الأموال الخاصة جبانة بطبيعتها ولا تدخل ساحةً للعمل بها ما لم يستتب بها الأمن والاستقرار. وعليه لا يمكن تحضير البيئة المؤاتية للاستثمار داخل العراق من أجل إعادة بناء البنية التحتية المهدمة وإنعاش الاقتصاد العراقي وتنميته ما لم يتوفر الجو الأمني الاعتيادي الخالي من العنف والإرهاب والجريمة والتخريب. إن مهمة توفير الأمن داخل العراق تقع على عاتق الحكومة العراقية أولاً وأخيراً. ونظراً للظرف الخاص الذي يمر به العراق في الوقت الحاضر فإن هذه المشكلة لا تحل باستعمال القوة فقط. ذلك أن مشكلة الأمن بالعراق لها أبعاد سياسية بالتأكيد، ولا بد لأساليب القوة وأساليب السياسة أن تتضافر فيما بينها لإيجاد الحل الناجع لهذه المشكلة العراقية، وقد يتطلب الأمر أخيراً إجراء مصالحة وطنية بين جميع الفئات السياسية المتناحرة. مصالحة حقيقية ليست كالمصالحات الشكلية التي جرت من قبل.

كلمة أخيرة أود توجيهها الى الساسة العراقيين بواسطة جريدة الصباح الموقرة. أن العراق أصبح دولة ريعية بامتياز نتيجة للنكبات التي توالت عليه من كل حدب وصوب، وأصبح هذا البلد يعتاش أكثر من أي وقت مضى على مايدره القطاع النفطي من أموال. ومن أحدى الدلائل على ذللك هي أنه ما أن هبط سعر النفط الى أقل من الثلث في نهاية 2008 حتى زلزلت الميزانية زلزالها. وما دعوة خبراء العراق النفطيين والأقتصاديين للتداول بشؤون سياسة العراق النفطية ألا صدىً لذلك الزلزال. ولقد كان ذلك المؤتمر تضاهرة وطنية بحق، بل محاكمة علنية لسياسة البلد النفطية.

إن واحداً من الآثار السلبية للدولة الريعية هو عدم اهتمامها بتنويع وتنمية القاعدة الأقتصادية. وفي حالة العراق أضحت السلطات التي تعاقبت على الحكم بعد سقوط النظام السابق لا تلتفت للقطاعات الأقتصادية الأخرى، عدا قطاع أستخراج النفط الخام وتصديره. وإن من أهم تلك القطاعات المهملة الواجب الألتفات إليها هما قطاعا الزراعة والصناعات التحويلية، ناهيك عن القطاعات الأنتاجية الأخرى. إن تفسير تصرف حكومة الدولة الريعية المؤذي لاقتصاد البلد هو أن الحكومة تعتمد في ظل هذه الدولة على ما يدره قطاع الأستخراج لتمويل ميزانيتها السنوية وهذه أموال غير متعوب بها. ولا يهمها كثيراً والحالة هذه بناء وتنمية القطاعات الأنتاجية الأخرى من أجل استغلالها كقاعدة ضريبية لتمويل الميزانية الحكومية كما تفعل الدول المتقدمة (والناهضة أيضاً).

وحتى وإن أرادت حكومة دولة ريعية التوجه نحو بناء اقتصاد مزدهر ومتنوع ليبتعد عن الأعتماد على صادرات المواد الأولية (النفط في حالة دول الأوبك) فمن أين لمثل هذه الحكومة العقل والحكمة والكفاءات المهنية والأدارية اللازمة لعملية صعبة ومعقدة كبناء إقتصاد دولة إذا كانت الحكومات في أغلب هذه الدول تأتي بواسطة الأنقلاب العسكري لكي يتقاسم المناصب العليا في البلاد ضباط الأنقلاب، وهمهم الأول هو الأثراء السريع والتمتع بمزايا السلطة؟ وأذا تمكن أحد المغامرين من جمع كامل السلطة بيده، سيان إن كان ذلك المغامر ضابطاً كما في العديد من الدول الريعية، أم مدنياً مثل صدام حسين في حالة العراق، فإن بيئة الدكتاتورية والقمع تكون عادة طاردة للكفاءات والمهارات النادرة التي تحتاجها عملية البناء. والدكتاتور – المعجب بنفسه وبرأيه عادة – سرعان ما يحاط بزمرة من الأنتهازيين الذين لايحسنون سوى تزيين أفكار الدكتاتور وتبريرها لينتهي اقتصاد البلد حطاماً تذروه الرياح، كما حدث للعراق.

ولقد جاءت لحكم العراق، بعد سقوط النظام، الأحزاب والتنظيمات المعارضة لذلك النظام، وقد توسم الشعب بها خيراً في بادئ الأمر. ولكن "يا فرحة المادامت"، إذ انحدرت تلك الحكومات بالعراق الى الحضيض بعد أن بدأ العراق يحوز بسهولة على الميداليات الذهبية في الفساد وعدم الأستقرار والتخلف والفقر. وأصبح "دولة" رئيس الوزراء محاطاً كأحاطة السوار بالمعصم بشلة من "الحبربش" الّذين ساعدوا دولة الرئيس بالحصول على المنصب الأعلى بالبلاد. وقد أصبح هؤلاء، وبمعية بعض الوزراء المتنفذين، الجدار المانع المحيط بالعراق والطارد لذوي الكفاءات الذين تحتاجهم البلاد في أعادة البناء. فأبناء العراق من ذوي الكفاءات الذين بقوا خارج العراق سوف لن يتمكنوا من العودة الى بلدهم والمشاركة في إعادة بنائه طالما استمر اعتبارهم خطراً يهدد مصالح ذوي النفوذ والسلطة بالبلاد.

بقي أن أقول إن التمدد في كرسي السلطة وعدم الرغبة في التزحزح عنه هو مثلب آخر من مثالب الدولة الريعية (صادرات النفط العراقي تمول نحو 91% من ميزانية 2010). فالحاكم، بعد أن يؤمّن تمويل الميزانية من ريع موارد البلد الطبيعية وليس من جيوب دافعي الضراب، يفقد الرغبة في تسليم السلطة الى حاكم آخر حتى في ظل انتخابات يفترض كونها ديمقراطية. ومما يشجع على ذلك أيضاً تذوق السلطة من قبل الحاكم، واعتقاده بأن مسألة الحكم سهلة بعد أن يرى الريع جارياً بسهولة الى الخزينة وأمور الدولة تبدو وكأنها تسير لوحدها. وكم كنت أتمنى لو أن السيد المالكي تنحى للدكتورعلاّوي حال أعلان نتائج الأنتخابات، وبذلك كان سيضرب لنا وللعالم أجمع مثلاً رائعاً في تداول السلطة سلمياً، ولدخل التأريخ كأول رجل دولة في تأريخ العراق الحديث يضع اللبنة الأولى لبناء دولة ديمقراطية عربية. ولكان استولى على عقول وقلوب الشعب العراقي بقيادته ائتلاف دولة القانون لتأليف حكومة ظل ضمن معارضة قوية وحكيمة، تراقب الحكومة كالنسر وتسدد خطاها كلما زاغت عن جادة الصواب. ولربما تيسر لها مستقبلاٍ أن تسقطها بسحب الثقة عنها لو تبين أن أداؤها لا يستقيم مع تطلعات الشعب في تحقيق الأمن وإرساء الأستقرار وتوفير الخدمات وبناء البنية التحتية وتنمية الأقتصاد.

يقال عن الشعب العراقي إنه شعب ذكي ولكنه يفتقر الى الحكمة. فهل سيبرهن الساسة العراقيون الحاليون خطل هذا القول؟ أم أنهم سيسوقون البلاد الى المجهول الذي لا يحمد عقباه؟ إن هذا الأخير هو ما نخشاه!



#محمد_علي_زيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة القانون تبدد 75 مليار دولار من أموال الشعب العراقي وتعر ...


المزيد.....




- وزير المالية القطري يجتمع مع نائب وزير الخزانة الأمريكية
- هل تكسب روسيا الحرب الاقتصادية؟
- سيلوانوف: فكرة مصادرة الأصول الروسية تقوض النظام النقدي والم ...
- يونايتد إيرلاينز تلغي رحلات لتل أبيب حتى 2 مايو لدواع أمنية ...
- أسهم أوروبا تقلص خسائرها مع انحسار التوتر في الشرق الأوسط
- اللجنة التوجيهية لصندوق النقد تقر بخطر الصراعات على الاقتصاد ...
- الأناضول: استثمارات كبيرة بالسعودية بسبب النفط وتسهيلات الإق ...
- ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران
- صحيفة: إسرائيل جمعت أكثر من 3 مليارات دولار منذ بداية الحرب ...
- ماذا تتضمن المساعدات الأميركية الجديدة لإسرائيل وأوكرانيا؟


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل