أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أمير أمين - ثلاثون عام على الحملة والإختفاء ومغادرة الوطن !















المزيد.....

ثلاثون عام على الحملة والإختفاء ومغادرة الوطن !


أمير أمين

الحوار المتمدن-العدد: 3046 - 2010 / 6 / 27 - 15:56
المحور: سيرة ذاتية
    


كان عام 1978 شديداً وصعباً عليّ وعلى إسرتي ورفاقنا عموماً ،حيث بدأت نذر الشؤم تلوح في الأفق وتلبدت سماء العراق بسحب سوداء إبتدأت في آذار حينما عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إجتماعاً في بغداد لدراسة الوضع الداخلي وقد وجهت اللجنة نقداً واضحاً وصريحاً للسلطة وسياستها ولنهج حزب البعث..الخ الذي أوعز قادته في أيار لصحيفة الراصد بأن ترد على الحزب بإسلوب تهديدي وبعيد عن روح العلاقة الجبهوية المبنية على ممارسة النقد البنّاء..وقامت السلطة بنفس الوقت بإعدام 31 مواطن شيوعي وصديق للحزب بتهم وحجج واهية ولا تمت للمنطق بصلة !!.(.وإستشعر الحزب الشيوعي عمق المخاطر وعقد المكتب السياسي إجتماعاً في حزيران لدرء المخاطر عن الحزب وإتخاذ بعض إجراءات الصيانة وحفظ حركة الكادر..).ولم تكتفي السلطة بذلك وحسب وإنما أصدرت في تمّوز مرسوماً بإسم ( مجلس قيادة الثورة )..يعتبر فيه النشاط السياسي غير البعثي في القوات المسلحة عملاً لا شرعياً عقوبته الإعدام !! ..في هذه الفترة كنت في الخدمة العسكرية كجندي مكلف وفي دورة للتدريب على الرماية لناقلةBMP1 ..كنت فرحاً جداً مع زملائي وأصدقائي ونحن نتلقى الدروس النظرية ونتدرب على أجزاء الناقلة من الداخل والخارج ولما أوشكت الدورة على الإنتهاء جرى إستدعائي في النصف الثاني من شهر آذار من قبل ضابط التوجيه السياسي النقيب غازي ثجيل(1)الذي أكد لي بأنني معروف لديهم وأن أي تحرك من قبلي سيؤدي بي للإعدام !! ثم جرى طردي من الدورة وإبعادي الى مدينة أخرى بهيئة غير مسلح مع إثنين من الشيوعيين وثالث من حزب الدعوة ...وأصبحت معلماً لمحو الأمية لصفين من الجنود وضبّاط الصف وكانت المخابرات تلاحق خطواتي . وفي تمّوز سافرت الى بغداد وكنت بالزي المدني وحظرت آخر إحتفال علني للحزب في مقر اللجنة المركزية حيث إحتفلت مع رفاقي في حدائق المقر بمناسبة 14 تمّوز في الذكرى العشرين لقيامها !! وكان حضوري مجازفة كبيرة في ذلك الوقت ولكني كنت مدعواً من قبل أخي سمير الذي كان يعمل شغيلاً في مقر بغداد !(2) . ومر عام 78 وجاء عام 79 المليء بالمخاوف على كل شيء وخصوصاً على الحزب ومستقبل الوطن الذي كان العفالقة يفرطون به بمنتهى السهولة!! لكي ينفردوا بالسلطة ويشنوا الحروب ويدمروا الوطن وأهله !! وتصاعدت الحملة وأخذت طابعاً ممنهجاً شمل جميع المحافظات.. وجرى خطف آلاف الكوادر وتمت تصفية عدد كبير منهم وإنتزاع الإعترافات وأخذ البراءات القسرية من الآخرين !..في هذه الأثناء بدأت أفكر بشكل جدي بالهروب من الجيش لا سيما وأن المراقبة بدأت تشتد عليّ وقمت بمحاولة في بداية آذار وملأت إستمارة إجازة أخذتها من أحد أصدقائي العاملين في القلم وركبت بالسيارة متوجهاً الى بغداد وعند خروجي قامت إحدى السيطرات بإيقاف السيارة وطلب الإنضباط إجازاتنا وكان من الطلاّب الذين أدرسهم ! ناداني بكلمة إستاذ هذه إجازتك غير مختومة !!! ولم ينفع معه الكلام وطلب مني الرجوع للوحدة ووضع ختم رسمي عليها قائلاً ( أرجوا المعذرة : هذه هي الأوامر ! )..شعرت أنها لم تكن الأوامر كما قال ولكن إسمي موجود عندهم وهو مبلّغ بمنعي من السفر خارج نطاق مدينتي الصغيرة ( جلولاء ).. عدت الى موقعي العسكري وبدأت أشعر أنهم يحاولون الإمساك بي !! رجوت رئيس عرفاء الوحدة بأن يمنحني إجازة وشرحت له مختلف الأسباب الموجبة وإقتنع بذلك لكنه قال : بعد إسبوع ..وكان أثقل من جبل على قلبي ! ثم إستلمت الإجازة ولم أعد للآن !! وسافرت الى الناصرية وحضرت فاتحة جدتي لأمي التي توفيت في 15 آذار وفي فجر الثاني والعشرين منه هربت الى بغداد..كان بيتنا شبه خالي لأن العائلة كانت كلها شيوعية ومستهدفة لغرض التصفية الجسدية ..وإبتدأ تحرك السلطة ضدنا كعائلة حينما قاموا بطرد أخواتي الثلاثة الصغيرات من الدوام في ثانوية الوحدة وحرمانهن من الدخول لإمتحانات نصف السنة إلاّ إذا إنتمين للإتحاد الوطني(3) ولم تنفع الجهود بعودتهن مجدداً لمقاعد الدراسة !!...دق جرس الأنذار في البيت .. لم نكن نخشى السقوط أبداً لمعرفتنا بأنفسنا !..وكان همنا الأول والأخير هو كيفية الحفاظ على حياتنا وشرف العضوية التي نحملها..ومن هنا بدأنا بالتحرك صوب العاصمة الحبيبة التي وصل اليها الأخوان داود وسمير ثم زوجة أخي وإبنتها والشهيدة موناليزا وكوثر .. ثم سافرت أنا بعدهم ولم يبقى في البيت سوى الوالدة والأختين الشهيدة سحر وإنتصار وإبنة أخي روزا وكان عمرها سنة ولم يستطيعوا من أخذها معهم لأن أمها كانت حامل وعندها طفلة صغيرة وهي بهذه الحالة تعتبر صيداً ثميناً لمنظمات حزب البعث الإرهابية لذلك عملنا جاهدين لتسفيرها خارج العراق منذ وقت مبكر الى حد ما..وفي بغداد رتبت صلتي بأخي داود الذي كان مختفياً في مكان ما في الحيدرخانة مع عدد من الرفاق بينما كنت أنا في بيت الشهيد جمال سلهو أبو زياد وأتردد أيضاً على بيت آخر في الإسكان ببغداد هو بيت الأخ الكاتب حاكم كريم عطية والذي كان هو الآخر شيوعي ومطارد مع أخية الأصغر صباح وكان البيتان من معارف أخي سمير الذي إستطاع السفر مع أخي داود في أواخر آذار الى إحدى الدول الإشتراكية بعد أن إشتدت الحملة وحاولوا خطفه من كلية العلوم ولم يبقى له إلاّ فصل واحد للتخرج !! وقاومهم بالضرب والهروب من الباب الخلفي ولم يعد لمقاعد الدراسة فيها للآن !! وكنت أنا في توديعهما في مطار بغداد المزدحم بالمسافرين ورجال الأمن العراقي !.. أصبحت صلتي مع الشهيد أبو رؤوف ..حيث أنه غادر العراق بعد مدة قصيرة وأصبحت صلتي بالشهيد سكرتير المحلية أبو كريّم وبالشهيدة أنسام التي ألحّت عليه بتدبير وضعي للسفر خارج العراق لاسيما وأن أجهزة السلطة بدأت تكثف الدوريات لغرض إلقاء القبض عليّ بعد صدور الحكم علي ّ بالإعدام !! (4) كنت حذراً جداً أثناء تجوالي في بغداد وعملت لي هوية طالب وأطلت شعر رأسي وعملت بعض التغييرات لهيئتي العامة بحيث أن سيارة اللاندروفر البيضاء القادمة برجال الأمن من الناصرية الى بغداد لم تتعرف عليّ قرب سينما سميراميس ، ففي ذلك الوقت قامت مديريات الأمن وخاصة في المناطق الجنوبية والوسطى بإرسال سيارات الأمن التابعة لهم لمطاردة الشيوعيين وإصطيادهم في بغداد ونجحوا في القبض على بعضهم !.
كانت لقاءاتنا الحزبية محدودة ببعض الرفاق وسرعان ما تنتهي فنعود الى أماكن إختفاءنا ..كنت أتمشى يوماً في شارع الرشيد وكان مكتضاً بالمتبضعين وصادفت أحد أعز أصدقائي الذين لم أرهم منذ مدة طويلة ، لكنني لم أستطع من إيقافه والتحدث معه لأنني لم أعرف وضعه من الناحية السياسية في تلك اللحظة وكم تمنيت أن أسلم عليه وأقبله وأنصرف مسرعاً لكنني لم أفعل ذلك ! وتذكرت حينها الشاعر ناظم حكمت حينما قال : يا بلدتنا هل نستمتع في أرجاءك بالضحكات !!.
كنّا نخشى حتى الضحك خوفاً من أن تسمع تلك الضحكات من قبلهم ونغيب في المجهول !! وفي يوم آخر شاهدت الشهيد البطل فيصل ماضي أبو ربيع يتمشى بالقرب من متحف الشمع وكان مسرعاً ، سلّم عليّ بإبتسامة حزينة ولوح بيديه من بعيد وإبتسمت له ولم أشاهده منذ ذلك الحين وسمعت أنه قد صفي من قبل المجرمين بعد أن أجهزوا على زوجته الرفيقة الرائعة جداً نجية الركابي التي سقوها عصير السانكويك المخلوط بسم الثاليوم !!(5) .. كانت الضربة الموجهة للحزب ومنظماته سريعة وقاتلة بينما كان تراجع الحزب وخوضه النضال السري بشكل مرتبك الى حد ما وجرى الإيعاز لكل رفيق بتدبير نفسه ووضعه وجاء أغلب الرفاق الى العاصمة ولم يعرفوا شيئاً عن توجه الحزب وفي إحدى المرات وجدت الرفيق يحيى أبو زكريا كان يصيح بإسمي من إحدى المقاهي وبصوت عالي وحينما وصلت اليه بادرني بالسؤال :ما هو الموقف الآن !!! لأنه يعرف أنني من عائلة شيوعية وقريبة للقيادة ، قلت له فوراً : دبّر نفسك ، وإذا كنت تستطيع السفر فيمكنك مغادرة العراق، وكان هذا الشيء هو المطروح حينذاك ، لكنه أصر على معرفة رأي الحزب بما وقع عليه !! تركته ولم أعد لذلك المكان أو لغيره وكنت أقوم بإستبدال أماكن تحركاتي ..في 21 نيسان سافرت مع الشهيدة أنسام والفقيدة أم الشهيد جمال الى النجف لإحياء أربعينية جدتي أم عبد الله رحمها الله..إستطعت أن أرى جميع الأقارب وإلتقيت بوالدتي وأخواتي، عدت الى بغداد..كانت الأحداث تغلي ..رفيق سقط ..رفيق إستشهد ..رفيق سافر ..الخ وكنّا نخشى من الذين جرى الإمساك بهم ووقعوا مرغمين صكوك البراءة من العمل في حزبهم الشيوعي..كنت طيلة الفترة أفكر بكيفية الحفاظ على حياتي حتى لا ينال مني أحد ونجحت في ذلك المسعى الذي جاء أيضاً بفضل البيوت الشيوعية التي قامت مشكورة بإحتضاني ورعاية عدد كبير من الرفيقات والرفاق وإنقاذ حياتهم ..ولما جاء شهر آيار إتسعت الحملة وأغلقت جريدة الحزب المركزية طريق الشعب وصفيت مقراته ومطابعه وممتلكاته وكانت السجون والمعتقلات مليئة بخيرة المناضلين والمناضلات وأستخدمت الأجهزة الأمنية مختلف الوسائل وأبتكرت تقنيات جديدة لإنتزاع الإعترافات من الشيوعيين وأصدقاءهم ، في الوقت الذي جرى فيه تحريم التعذيب في الدستور العراقي حسب المادة 22 ( A ) والمادة 127 من قانون الإجراءات الجنائية !! والذي لم يطّلع عليه الجلاوزة ّبالتأكيد ! وحتى لو إطلعوا عليه فستبقى النتيجة كما هي !! وتمت تصفية عدد من الرفاق والرفيقات وجرى سقي عدد منهم سم الثاليوم وقام رجال الأمن بعمليات إغتصاب لبعض الذكور والإناث من السياسيين أو من أقاربهم ( وهذا ما أكدته منظمة العفو الدولية في دراستها لوضع العراق حينذاك ).. في أواخر أيار حسمت مسألة مغادرتي لأرض الوطن وساعدني الحزب بعمل جواز سفر أصلي وبصورتي الشخصية ولكن بإسم آخر ..وإستلمت الجواز ولم أكن مصدقاً عينيّ !! وعند العصر حجزت تذكرة السفر الى دمشق .. إلتقى بيّ الشهيد الطيب أبو كريّم وأعطاني مساعدة مادية من الحزب مقدارها 60 دينار وترددت في أخذها ، لكنه قال : أنك لا يمكن أن تسافر دون مبلغ بسيط من المال وأكملت على المبلغ عدة دنانير وصرفت ما عندي وسافرت بمبلغ 200 دولار أي ورقتان وكنت حينها أرى الدولار لأول مرة في حياتي وتصورت أن هذا المبلغ هائل بحيث أنه يكفيني لأكثر من سنة !!.. في 31 أيار وكان يومي الأخير في بغداد .. إستقليت باص مصلحة نقل الركاب وصعدت في الطابق الثاني لكي أرى العاصمة لآخر مرة ! تذكرت كتاب ( تحت أعواد المشنقة ) وكيف أن الرفيق الذي أقلته سيارة ذاهبة به للإعدام !! كان غير مكترث للأمر وهو ينظر الى سيقان فتيات مدينة براغ الجميلة ويقول لنفسه من خلال زجاج النافذة : ألآن يمكن أن أعدم وأنا مرتاح بعد أن رأيت كل تلك السيقان الجميلة !! هذا هو الشيوعي الذي كان ينبض بالحياة قبيل ساعات من إعدامه !! شبعت من النظر وفجأة وقف الباص ولم يتبقى به أحد غيري !سألني ( الجابي ): إلا تريد النزول !! قلت له : أين نحن !! لم يجبني ، لكنه أشّر بإبهامه على فمه قائلاً : أخونا مدوخ الجمجمة اليوم ! إدعيت بأنني قد أضعت الناس الذين أريد التوجه اليهم ، إقتنع وقال : عد معنا من جديد لأن هذه هي آخر منطقة .. فرحت كثيراً وشاهدت مناطق أخرى من الجهة الثانية ونزلت الى نفس المنطقة التي ركبت منها ثم ذهبت لمطعم تفوح منه رائحة رأس الخروف وكان عشاءً دسماً إحتسيت بعده بضعة أكواب من الشاي.. عند الصباح ودعت عائلة الشهيد جمال سلهو وتوجهت الى نقليات أبو التمّن قاصداً سوريا بعد أن صفيت بعض الأوراق وتخلصت من إستمارة العضوية التابعة لي ولوالدتي وقمت بإحراقهما كما أنني أحرقت نسخة من البيان الشيوعي كان فالتر أولبرشت رئيس المانيا الشرقية قد وضع توقيعه الشخصي عليها (6).. عند الحدود جمع السائق جوازات السفر لإرسالها داخل إحدى الكابينات لوضع ختم الخروج عليها .. إنسللت خلف السيارة لكي لا يشاهدني أحد من رجال الشرطة ولكني سمعتهم ينادون على إسمي الموضوع داخل الجواز !! أصبت بالفزع وقلت لنفسي إنقبض عليّ !!.. دخلت الى الغرفة وكانت مليئة بالركاب الذين بدؤوا يسألوني عن سبب عدم وجودي هنا معهم ، إعتذرت للجميع وكان ضابط الشرطة ينظر لي بتركيز وهو يحدق في الجواز ، ثم قال لي : هل صحيح أنك معاون ملاحظ ! حيث أن صغر سني وضعف بنيتي لا توحيان بذلك وهذا طبعاً كان خطأً جسيماً حاولت الإفلات منه بصعوىة خاصة وأنه بادرني بسؤال آخر كنت متهيأً له هو : ما إسم مدير دائرتك ، وأين تقع ؟ أجبته بسرعة كانت أسرع من نبضات قلبي !! .. سلمني الجواز قائلاً للجميع : الله وياكم ! وأنا أشك بأنه قد صدّق كلامي !.. لم أتحدث مع الركاب وأخيراً وصلنا الى نقطة الحدود السورية وكان رجال الشرطة في ذلك الوقت لا يأخذون رشاوي كما هو الوضع الآن وشربت الشاي السوري لأول مرة وأعطيتهم عملة عراقية كانت باقية عندي فأعادوا لي بعضاً من عملتهم المعدنية !!.. طرت من الفرح وأنا أرى النقود السورية وقمت بدون وعي مني بتقبيلها ! لأنني الآن في بلد ثاني لا يعدمني ! أنا حر .. أنا أعيش..ولما وصلنا دمشق كانت الشمس مشرقة والهواء طيب وعليل .. فرشت أغراضي على الأرض وأخرجت دجاجة مشوية كنت قد جلبتها من بغداد ومعها كانت بعض الفواكه ، قمت بمضغها وأنا على الرصيف وكان قربي رجل يبيع الحليب الساخن ، طلبت منه شيئاً وناولته النقود التي كنت أقبلها قبل سويعات وإنزعجت لأنه أخذها مني لأنها كانت قد بشرتني بالحرية !!.. مشاعر لا توصف كانت تختلط في دماغي.. أأبكي لأني فقدت بلدي أم أفرح لأنهم لم يستطيعوا الإمساك بي ! كنت أتناول طعامي والناس وخاصة الفتيات كنّ ينظرن إليّ بتعجب أو إشفاق ! .. إرتحت قليلاً وأخرجت ورقة صغيرة من جيبي .. تمعنت بقراءتها وكنت أخشى من عدم معرفة العنوان.. لحظات صمت .. أعطيتها الى الرجل الذي إبتعت منه الحليب قائلاً له : هل تعرف من أين أركب للوصول الى هذا العنوان ؟! إستلم مني الورقة وسرعان ما قال ببساطة :هذا دكتور الكل تعرفه !! ثم وضح لي كيفية الوصول وعرفني برقم الباص .. صعدت مع حقيبتي الى داخل الباص وكنت أنظر الى لوحات عيادات الأطباء التي كان يمتلأ بها الشارع ، وفجأةً قرأت الإسم الذي أريده ، صحت بأعلى صوتي على السائق : قف !! أنا أريد النزول هنا !! تباطيء في السير قائلاً لي باللهجة السورية : شو على كيفك أخي ، ما في مناطق للنزول ، ثم توقف بعيداً عن مكاني وقال : تفضل إنزل وبلا صياح !! قفزت من الباص حاملاً حقيبتي وقد التوت إحدى قدمي وبدأت أعرج في مشيتي الى عيادة الطبيب ! رفعت رأسي قليلاً الى الأعلى وتأكدت من العنوان وتذكرت إشارة الصلة وقمت بإعادة حفظها بيني وبين نفسي .. دخلت العيادة وإذا برجل كبير السن تبدوا عليه الوسامة يتناول مني الحقيبة وينطق هو بالإشارة : ( يسلم عليك أبو عبّاس !! ) ثم يشبعني بالقبل وتمنيات حارة بحمداً لله على سلامتك وغيرها ، قلت له أنك فاجئتني ! لقد قالوا لي أنت قل له .... ولم يدعني أكمل قائلاً : أعرف وأنا عرفتك من رفاقنا العراقيين ، كان هذا هو الرفيق الرائع الشيخ الطبيب نبيه إرشيدات عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الذي عالج فوراً الألم في قدمي وكتب لي وصفة أفادتني كثيراً في تخفيف الألم في الأيام اللاحقة.. شربت معه النسكافه وإتصل بأحد رفاقنا .. جاء الرفيق أبو باسل وإستقبلني أحر إستقبال حينما صافحني وقام بتقبيلي مع كلمات شيوعية صادقة تذكرت من خلالها ما كان يقوله الشاعر العراقي سعدي يوسف( وحين صافحتني صار كل إغترابي هاجس للجذور !.. )....وأوصلني الى فندق أوغاريت وحجز لي غرفة فيه ووجدت هناك عدد من العراقيين والعراقيات كانوا قد وصلوا قبلي ... فرحت كثيراً حينما أصبحت أعيش بحرية وفي وسط رفاق الحزب مجدداً....

.....................................

هوامش::1 في عام 1983 وبينما كنت في القامشلي السوريةأشاهد توزيع( أنواط الشجاعة ) على الضباط العراقيين من قبل صدام حسين في التلفزيون العراقي نطق المذيع بإسم المقدم غازي ثجيل وهو نفسه النقيب الذي حقق معي وحذرني من الإعدام .
2:كان الإحتفال كبيراً وشاهدت فيه الرفيقتين نزيهة الدليمي وعائدة ياسين وعدد من أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي .
3:أكملت الدراسة فقط الأخت كوثر وحصلت على شهادة جامعية في الطب من جمهورية أوكرانيا ولم تكمل الأخت إنتصار الثالث المتوسط وإستشهدت الأخت الصغرى سحر ( أم محمد ) ولم تكمل دراستها .
4: لم يكن الحكم صريحاً ولكني إطلعت عليه صدفة كان موجوداً برسالة من الإستخبارات العامة لأربعة جنود مكلفين تدعوا وحدتهم لتسليمهم فوراً الى معسكر الرشيد وكان إسمي الأول في الرسالة حسب الحروف الأبجدية وقد فسّر لي الجندي الذي كان يحملها وهو من رفاقنا بأن ذلك معناه الإعدام !!وكان إسمه ضمن القائمة ولكنه قال لي أنه سوف يستسلم وطلب مني عدم العودة وأكدت له ذلك حينما التقيته صدفة في بغداد ولم التقي به لحد الآن .
5:الثاليوم هو عبارة عن عنصر فلزي يشبه الرصاص وهو معدن ثقيل يستخدم في سم الفئران التجاري ويعتبر من الأساليب المفضلة لدى قوى الأمن العراقية للتخلص من المعارضين السياسيين وكان يخلط غالباً مع شراب السانكويك أي عصير البرتقال ويعطى للشخص المستهدف لغرض تصفيته الجسدية !!
6: حصل أخي داود على هذه النسخة في صيف عام 1973 حينما مثّل محافظة ذي قار في مهرجان الشبيبة العاشر المنعقد في برلين الشرقية ضمن وفد العراق الجبهوي الذي كان يتكون من الشيوعيين والبعثيين !!



#أمير_أمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيوعيون يعودون الى وطنهم في نفس العام
- كيف ننتشل الطلبة والشبيبة من واقعهم المزري في العراق ؟
- أوبريت جذور الماء في الناصرية
- مسرحية الحواجز..البداية التي لم تكتمل !
- حكاية البقرة والضفدعة في قراءة الصف الثاني إبتدائي !
- ربع قرن على إستشهاد ..سحر بنت الحزب
- بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الشهيد ( أبو الندى ) و ...
- في أربعينية الفقيد الخال بدري عرب !
- عمي جوعان يحب الحرس القومي !!!
- الداد ... المهمة الاولى لحكومتنا القادمة !


المزيد.....




- في ظل الحرب.. النفايات مصدر طاقة لطهي الطعام بغزة
- احتجاجات طلابية بجامعة أسترالية ضد حرب غزة وحماس تتهم واشنطن ...
- -تعدد المهام-.. مهارة ضرورية أم مجرد خدعة ضارة؟
- لماذا يسعى اللوبي الإسرائيلي لإسقاط رئيس الشرطة البريطانية؟ ...
- بايدن بعد توقيع مساعدات أوكرانيا وإسرائيل: القرار يحفظ أمن أ ...
- حراك طلابي أميركي دعما لغزة.. ما تداعياته؟ ولماذا يثير قلق ن ...
- المتحدث العسكري باسم أنصار الله: نفذنا عملية هجومية بالمسيرا ...
- برسالة لنتنياهو.. حماس تنشر مقطعا مصورا لرهينة في غزة
- عملية رفح.. -كتائب حماس- رهان إسرائيل في المعركة
- بطريقة سرية.. أميركا منحت أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أمير أمين - ثلاثون عام على الحملة والإختفاء ومغادرة الوطن !