أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نذير الماجد - حين يكون -جان كالاس- سعوديا !















المزيد.....

حين يكون -جان كالاس- سعوديا !


نذير الماجد

الحوار المتمدن-العدد: 3041 - 2010 / 6 / 22 - 20:16
المحور: المجتمع المدني
    


في العام 1762م حين كانت فرنسا ومعها أوروبا تشهد مخاض التنوير والثورة، كانت الهمجية ووحشية القرون الوسطى تطل برأسها وهي في رمقها الأخير. ففي ساحةٍ أمام كاتدرائية تولوز المدينة الفرنسية التي كان فيها الصراع الديني على أشده، واجه رجل في الرابعة والستين قدره البائس لوحده، وبعد جولة من التعذيب والتنكيل بغية انتزاع الاعترافات، اقتيد جان كالاس العجوز نحو ساحة الكاتدرائية، دقوا أطرافه بالمسامير على صليب وهو يستغيث ويناشد المسيح لنجدته ويتألم وتسيل الدماء من أطرافه، وبعد ساعتين من الألم والعذاب شنق ثم شدو جثمانه إلى خازوق وأحرق أمام الملأ.

جان كالاس الرجل الذي يعمل في حانوت بسيط في تولوز، هو أحد الذين دفعوا ثمن التعصب الديني المنتشر في العصور الوسطى، حيث كان ينتمي إلى طائفة الهيجونوت، وهي أقلية بروتستانتية خاضت صراعا دينيا عنيفا مع الأكثرية الكاثولويكية في فرنسا. ومثل كل الأقليات عانى الهيجونوت من اضطهاد شديد وتمييز طائفي مقيت في الحقوق والامتيازات.

الفرنسي البروتستانتي كان لا يتمتع بالمواطنة الكاملة التي يحظى بها الفرنسي الكاثوليكي. إنه كمواطن من الدرجة الثانية له وضع قانوني خاص، حيث لا يحق له الترشح للوظائف العامة كما لا يستطيع بموجب هذا القانون أن يمارس شعائره الدينية أو يزاول التبشير لمذهبه حتى في وسط أسرته.

أحد أبناء جان كالاس كان قد درس القانون سعيا وراء الوظيفة، ولكنه كمهرطق وضال وجد الأبواب موصدة أمامه، وليس له سوى أن يخفي مذهبه ويتحول إلى الكثلكة، فسعى نحو ذلك لكنه أخفق فانتحر، وما كان للسلطات إلا أن تلفق تهمة القتل ضد أبيه بذريعة سعيه للحؤول دون تحول الإبن إلى الكثلكة، فاقتيد الأب المثكل نحو أعواد المشنقة بعد أن صودرت جميع أملاكه لتواجه أسرته قدرها مثكولةً مرتين.

ولكن كالاس هذا الشيخ المنكود لم يكن وحده الذي ذبح قربانا على مذبح الدين والضمير، صحراء التاريخ تئن بالجماجم ورؤوس المنكوبين الذين اجتزت رؤوسهم قرابين وضحايا للتعصب الديني ولهمجية الإنسان ووحشيته، والتهمة هي نفسها لم تتغير: مخالفة في الاعتقاد وإيمان مغاير لإيمان المجموع.

إن التعصب الديني قديم قدم الدين نفسه، فمحنة جان كالاس تتكرر في التاريخ، وليس هو وحده من يمتحن في ضميره وحريته الدينية ولكنه كان محظوظا إذ خلد التاريخ اسمه كعنوان وعلامة لهمجية التعصب الديني وهو العنوان الذي حظي بحصة الأسد في النضال الفكري الذي خاضه أمثال ديدرو ودالمبير وروسو وفولتير.

فولتير وحده خاض معتركا حاميا في خصوص هذه القضية، لأن محنة كالاس أثارت عقول فلاسفة التنوير وقلوبهم. فاشتغل فولتير وناضل من أجل رفع الظلم الذي وقع على أسرة كالاس ورد الاعتبار والكرامة للقتيل وفتح القضية من جديد مطالبا بالتحقيق في مجريات الحكم ووثائقه، بل إنه كتب على إثر هذه القضية رسالته الشهيرة في التسامح، تحدث فيها عن مأساة جان كالاس وقال: " هل لي إذن أن أقترح أن يكون كل إنسان حرا في إتباع ما يمليه عليه عقله هو، ويؤمن بما يوحي به إليه عقله المستنير أو المخدوع أيا كان شريطة أن لا يعكر صفو النظام العام؟ وإذا كنت تصر على القول بأن عدم الإيمان بالديانة السائدة جريمة فإنك بذلك تتهم المسيحيين الأولين وآباءك الأقدمين وتبرر عمل من تلومهم على اضطهادهم وتعذيبهم.. وإذا كان ينبغي أن يكون للحكومة الحق على معاقبة الناس على أخطائهم فمن الضروري أن تتخذ هذه الأخطاء شكل الجرائم. ولن تتخذ الأخطاء شكل الجرائم إلا إذا أزعجت المجتمع وعكرت صفوه، وهي تقلق بال المجتمع إذا ولدت التعصب. ومن ثم يجدر بالناس أن يتفادوا التعصب ليكونوا جديرين بالتسامح".

هذه الدعوة الفولتيرية والتي أخذت شكل احتجاج وتمرد وصرخة ضد الظلامية والهمجية والتعصب الديني كانت عاملا حاسما في ترسيخ التسامح والمساواة في الحقوق كواقع اجتماعي ومطمح رئيسي في عصر الاستنارة وصولا لإلغاء كافة أشكال الاضطهاد والتمييز والتعصب الديني، وهو ما يثبت أن فولتير شأنه شأن أخوته الفلاسفة لم يكن محض ظاهرة فكرية ونشاط ثقافي، أدبي أو فلسفي، وإنما كان فوق ذلك مناضلا ومصلحا اجتماعيا.

فولتير تشرب بحب الإنسان مسكونا بهاجس سعادته ورفع الألم والتعب والشقاء عنه، وهي وإن كانت رغبة حالمة وطموح طوباوي بدليل أن الحداثة نفسها ستنتج عنفا وتمييزا عنصريا لا يقل فداحة عن سابقه في القرون الوسطى، إلا أنها كانت تمثل روحية الفيلسوف وحاسته الإنسانية حين يقاتل بالكلمة دفاعا عن كالاس ورفاقه، وأغلب أعمال فولتير تأتي في هذا السياق، فلو لم يكن فولتير لما كان جان كالاس، ولو لا فولتير لكان كالاس مثل غيره من الضحايا مجرد رقم في صفحة من صفحات التاريخ.
إن فولتير وبكل ما تحمل الكلمة من معنى هو أنموذج المثقف الذي يعبر عن حاجات مجتمعه بأمانه وصدق. فكان كالاس بفضل فولتير هو بمثابة مسار أخير في نعش الكراهية والأحادية والتزمت الديني.

ولكن حتى القرن الواحد والعشرين لاتزال هذه الهمجية والتي استباحت دم كالاس تسفر عن وجهها القبيح حتى وإن تبرقعت بجلباب القضاء، فكالاس هذه المرة هو شاب سعودي يقتل بتهمة شتم الله والرسول، مع فارق أن كالاس السعودي هذا لم يتوفر له فولتير سعودي يدافع عنه ويقدم مقتله قربانا على مذبح التسامح والتغيير، والقصة هنا تحكي محنة الشاب السعودي صادق مال الله الذي أعدم في العام 1992م بعد سنوات من الاعتقال التعسفي، والتهمة هي نفسها التي قادت كالاس إلى المشنقة: إيمان مغاير واعتقاد مخالف!.

في البداية كان الشاب صادق بصفته مهتما بقضايا الفكر الديني والنقاشات المذهبية يخوض نقاشا بريئا -كما يفترض- مع رجل دين سلفي وشى به لاحقا للسلطات بذريعة أن المواطن صادق اعتنق المسيحية رغم أن النقاش نفسه كان يستدعي الاستشهاد بالإنجيل، إلا أن القضاء المنحاز مال إلى تصديق التهمة أولا ثم استبدالها بتهمة شتم الله والرسول وهي التهمة الجاهزة التي توجهها الظلامية ضد الآخر المختلف مذهبيا في كل مرة تكشف فيها وجهها القبيح.

ورغم إنكار الشاب صادق مال الله لكافة التهم الموجهة ضده أقدمت السلطات على تنفيذ الحكم وإعدامه حتى وإن تاب، وليس أسهل من تدبيج إعلان بصياغة تتضمن تهم جاهزة كما هي الصياغة التالية: "لقد أقدم المدعو صادق عبد الكريم مال الله سعودي الجنسية على سب الله جل وعلا وسب القرآن الكريم وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بانه كاذب دجال مفتر وان ما اتى به ظلال وانه مشعوذ مخادع يستعين بالشيطان ولان هذا العمل ليس كمجرد الردة عن الاسلام بل ان هذا جرم وجب القتل ولا يدفع القتل عنه توبة"

للقضية هنا مع الشهيد صادق مال الله أوجه شبه عديدة مع قضية جان لاكاس، كلاهما صدح بمعتقده وأنكر التهم، وفيما كان لاباس يتوسل بالمسيح ويؤكد انتحار ابنه، كان صادق يعلن الشهادتين ويصدح بصوت التكبير الذي ينم عن احتجاج وشعور مرير بالظلم، ولكن المحنة مع صادق في تداعياتها وتأثيراتها لا تشبه محنة كالاس التي كانت وقودا للتغيير، فثمة فوارق تزيد من حجم الهوة في الزمن والسيرورة الاجتماعية بين وسط احتضن التغيير ووسط آخر لازال يرفل في نعيم الراحة والسكون.

الواقع السعودي ليس فيه مثل فولتير الذي يصدح حانقا صارخا بوجه الاستبداد الديني: إني أجل إلهي ولكني أحب الجنس البشري. ولئن حظي جان كالاس بمثل فولتير فأعيد فتح القضية برمتها، فإن صادق واجه مصيرا أسوأ، فقد قتل مرتين، مرة على يد الجلاد وأخرى حين أسدل على قضيته ستار التجاهل والنسيان والإهمال من كل من يفترض بهم أن يقوموا بما قام به فولتير.

إن صادق مال الله جرح نازف في واقع يفتقد مثل فلاسفة التنوير وشجاعتهم ونضالهم المستميت من أجل رفعة الإنسان وإلغاء التمييز وتكريس حرية الاعتقاد والضمير، وستظل روحه تصيح: أسقوني، أسقوني حتى يولد فولتير سعودي!



#نذير_الماجد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التصوف كخطاب تنويري
- التشيع والشيرازي وفلسفة التاريخ *
- عندما يتحول التاريخ إلى دين -3-3-
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (2-3)
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (1-3)
- ماراثون القطيف وصديقي المتشائم
- تمرين على السياسة الشخبوطية !!
- من اللاهوت إلى علم الأديان: محاولة للفهم
- ما وراء كلمات العريفي
- السيستاني والعريفي والتقيؤ الطائفي
- بين المتدين الأصولي والشامان
- البطولة الزائفة
- أنفلونزا التبشير المذهبي
- ذهنية التحريم في العقل الشرعوي
- عيد وطني ينقصه وطن !!
- حول اشكالية العلمانية في الاسلام
- المهدي المنتظر في القرن الواحد والعشرين
- قناة العربية ترشق الحجارة وبيتها من زجاج!
- الأيديولوجيات الدينية وسؤال الحداثة
- أعداء الحرية ينتصرون لها في ايران!


المزيد.....




- ألمانيا تعاود العمل مع -الأونروا- في غزة
- المبادرة المصرية تدين اعتقال لبنى درويش وأخريات في استمرار ل ...
- مفوض أوروبي يطالب باستئناف دعم الأونروا وواشنطن تجدد شروطها ...
- أبو الغيط يُرحب بنتائج التحقيق الأممي المستقل حول الأونروا
- الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين لاستئناف تمويل الأونروا بعد إ ...
- مفوض حقوق الإنسان يشعر -بالذعر- من تقارير المقابر الجماعية ف ...
- مسؤول أميركي يحذر: خطر المجاعة مرتفع للغاية في غزة
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر خارج منزل تشاك شومر في مدينة نيويو ...
- مسؤولان أمميان يدعوان بريطانيا لإعادة النظر في خطة نقل لاجئي ...
- مفوض أوروبي يطالب بدعم أونروا بسبب الأوضاع في غزة


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نذير الماجد - حين يكون -جان كالاس- سعوديا !