جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3035 - 2010 / 6 / 15 - 09:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التحالفات التآلفات التكتلات هي جزء لا يتجزأ من النشاط الديمقراطي, وكذلك فإن الانشقاقات بين الأحزاب والفرق والكتل هي تعبير عن تبدل حالة فكرية لم تعد قادرة على أن تعبر نفسها إلا من خلال كيان جديد وعناوين مختلفة. إن هذا النشاط على مستوى الأفكار والمناهج والأوعية التنظيمية لن يخمد أو يبرد إلا بعد أن تنتهي عملية بناء الدولة الجديدة, وحيث يمكن لمناهج هذه الدولة المستقرة على مجموعة أفكار ومؤسسات أن تعبر عن نفسها من خلال أحزاب لا تتجاوز عدد الأصابع. فإذا ما رأيت دولة يتعدى تعداد أحزابها ذلك العدد فعليك أن تعرف إن هذه الدولة أما إنها لم تتكون بعد أو إنها في سبيلها للانهيار.
ليس من وسيلة للوصول إلى فهم أي تحالف يقوم على الساحة العراقية أو على أية ساحة مثلها إلا من خلال تلكما السياقين, أي سياق الدولة السائرة نحو التكون وما تفرضه صيرورتها من ولادة أو تقارب أفكار قادرة على أن تعبر عن الذات الجديدة المتكونة بتنظيمات قليلة ومحددة, أو سياق الدولة المعرضة للتدهور والذي يفرض تخلخلها أو تفرض انشقاقاتها ولادة المزيد من الكيانات الجديدة التي تتناسب زيادتها طرديا وحجم التشققات في بنيتها الأساسية.
لقد جاوز عدد الأحزاب التي تشكلت بعد الاحتلال الحد الذي يقبله عقل ومنطق, وإذ لم تكن هناك سياقات وشروط لعملية تأسيس هذه الأحزاب فلقد كان بإمكان أية مجموعة وبعدد محدود من الأنصار أن تشكل حزبا أو فريقا سياسيا جاهزا للعمل أو التبضع, وما كانت الساحة العراقية خالية من هذه الدكاكين في ظل الأوضاع القيمية المتدهورة بسبب دخول المجتمع العراقي في مرحلة يمكن أن أسميها مرحلة ترتيب الذات وإعادة التكون من جديد.
إن العدد الكبير للأحزاب السياسية وتناثرها إن لم يعاد النظر فيه وفق قواعد العمل الديمقراطي الوطني سيكون بذات الضرر الذي يؤدي إليه العمل السياسي المغرق في المركزية والفردية, غير أن ضبط هذا العدد لا يمكن أن يكون وليدا لقرارات انضباطية فنية بحتة وإنما يجب أن يأتي نتيجة لترشيق الحالة السياسية والثقافية بما يؤدي بالنتيجة إلى إلغاء البدانة السياسية المرضية.
إن البلدان التي أنجزت إلى حد كبير بناءها الاقتصادي والثقافي وفق أسس محددة ومعرفة لم تعد بحاجة إلا إلى ذلك العدد القليل من الأحزاب القادرة من جهة أولى على إدامة الفعاليات الديمقراطية, والمؤهلة من جهة ثانية لمنع حالة التبعثر السياسي الذي لا يتناغم مع حالة التمركز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
بذلك لا يمكن النظر إلى الأحزاب بمعزل عن اعتبارها تعبيرا سياسيا عن حالة اجتماعية واقتصادية وثقافية متلازمة, فإن تنوعت هذه الأحزاب وتناسلت بشكل لا يعبر عن هذه المتلازمة فلسوف يكون تنوعها وتناسلها هو نوع من التكاثر السرطاني الذي من شانه أن يتسبب بأضرار كارثية أكيدة. أو يكون تناسلها ذاك تعبيرا عن حالة اللامعنى التي قد تمر بها مجتمعات مبعثرة تحاول بالكاد تجميع أوصالها والعودة مرة أخرى للسير على طريق الحياة.
لهذا يمكن القول تحديدا إن التبعثر السياسي الذي شهدته الساحة العراقية بعد الاحتلال كان تعبيرا عن حالة التشرذمات القومية والدينية والمذهبية التي سادت تلك الساحة بعد غياب الحالة المركزية السياسية المطلقة, وبدى في بعض مستوياته أيضا كمحاولات متعجلة لملأ الفراغ السياسي من قبل قوى إقليمية متباينة الأهداف والمرامي, مثلما عبر أيضا عن نشاط مافيوي كان ارتدى ثيابا سياسية مفضوحة.
من المهم جدا أن نولي اهتماما كبيرا للسنوات الأربعة الماضية التي قدر لها أن تعبر بالدولة العراقية الجديد ة من خانقها الطائفي المحتدم إلى مساحة (تفاهم طائفي وطني) كان مؤملا له أن يعبر بالدولة, في مرحلة لاحقة, إلى حالة (اطمئنان طائفي وطني) بالمستويات والأشكال التي تؤدي, في مرحلة لاحقة, إلى ولادة جيل وطني عراقي لا مكان للطائفية في ضميره وبرامجه وثقافته.
لن نكون مضطرين هنا للخوض في تفاصيل التكون العراقي الجديد, اختصارا نستطيع أن نقول
إن الفوضى كانت خلاقة, ليس بالمعنى الذي قصدته كونداليزا رايس وإنما لما خلقته تلك الفوضى من ظروف ودروس وأفكار كان من شأنها أن تحدد الخيارات العراقية بين ( أما آن نكون أو لا نكون), فلم تعد الساحة العراقية, بعد أن أوصلها الصدام الطائفي إلى منتهى الإنهاك, لقادرة على أن تستمر بذات المعطيات. لقد بات عليها أما أن تعيد تشكيل الجغرافية العراقية بما يتناغم وحالة الفرقة بلا عودة إلى التكوينة العراقية السابقة أو أن تعيد لحمتها من جديد.
وكان من ضمن ما أفرزته حالات الضرورة تلك أن بدأت الحالة السياسية ذاتها تتكيف لكي تتناغم مع تلك المعطيات أو لكي تنبثق عنها. في الحالة الأولى أسرعت القوى ذات الصياغات الطائفية الفكرية والتنظيمية إلى إضافة العديد من عناصر المذهب الآخر لكي تكتسب درجة شكلية من التناغم مع الواقع العراقي الجديد الذي جرب مسارات الطائفية المهلكة, أما ما انبثق من تشكيلات جديدة فكان أهمها مجاميع الصحوات التي لم تكن تعبر عن حالة سياسية وتنظيمية متماسكة وإنما كانت حالة عبور إلى فضاء آخر بعيدا عن القاعدة والإرهاب.
لكن أهم ما شهدته الساحة السياسية من تطورات هو نزوح (الدعوة) عن حلفائه السابقين ونجاح زعيمه نوري المالكي بتحقيق العديد من الإنجازات الأمنية التي مكنته من تجاوز حلفائه بخطوات واسعة. وفي سعيه للمحافظة على الصدارة السياسية أنجز الدعوة تأسيس ائتلافه الجديد(دولة القانون) الذي بدأ يعبر عن حالة وطنية وإن كانت محمولة في أغلب محطاتها بعربة الطائفة أو حتى الطائفية.
ونتيجة لهذا التقدم واجه المالكي عملية صراع محتدم بين الهوية الطائفية لحزبه وبين الهوية الوطنية لدولته.
على الطرف المقابل, كانت أمواج الحالة السياسية المضطربة قد أغرقت قوارب ودفعت إلى الجرف الجديد قوارب أخرى وبين هذا وذاك كنا نرى إن هناك دلتا وطنية عراقية كانت قد أخذت بالتكون.
اختارت الغالبية السنية قارب العراقية للإبحار نحو تلك الدلتا بينما اختارت الغالبية الشيعية قارب دولة القانون للوصول إليها, وأقول الغالبيتين الشيعية والسنية لأنني لا أريد أن أصور الأمر هنا وكأن تلك الدلتا قد أصبحت خالية من الرواسب وإن ماءها صار نقيا صافيا وإنما أنا أشبهها هنا بنهر النيل في السودان. فمن على جسر أم درمان تستطيع أن تميز بسهولة إن ذلك النيل هو في حقيقته نيلين, واحد أبيض والآخر أزرق وقد تكون اللونان نتيجة مرور النيل في مناطق مختلفة التربة أعطته اختلاف لونيه قبل أن يصبح بلون واحد فيسير صافيا ورائق.
إن ما تكون في العراق في مرحلة ما قبل الانتخابات نيل أشبه بنيل السودان, نصفه أبيض ونصفه أزرق, لكنه رغم اختلاف لونيه كان يسير باتجاه اللون الواحد, تماما مثلما كانت عليه العديد من العوائل العراقية التي تكونت بامرأة سنية وبرجل شيعي أو بالعكس وصار أولادهما مثل نيل السودان أو مثل دلتا ذلك النيل.
إن العراق كاد أن يشهد في المرحلة الأخيرة ولادة نيله الواحد, لكن ثمة قوى كثيرة, في داخل العراق وفي المنطقة المحيطة به ومن خارج تلك المنطقة لا تريد للنيل العراقي أن يتكون ولا للدلتا العراقية أن تظهر.
تريد من العراق أن يرجع إلى المربع الأول.. ولكن هذه المرة ليبقى فيه.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟