أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نوري قادر - هكذا ولدت ابنتي رغد















المزيد.....

هكذا ولدت ابنتي رغد


محمد نوري قادر

الحوار المتمدن-العدد: 3032 - 2010 / 6 / 12 - 20:39
المحور: الادب والفن
    



هكذا ولدت ابنتي الصغيرة رغد ..هي الآن طالبة في معهد النفط المرحلة الأولى ونزولا عند رغبتها كتبت لها قصة اليوم الذي ولدت فيه......
عند ساعات الصباح الأولى ,ولم يكن الفجر قد بزغ , وبعض أصوات لأعيرة نارية هنا وهناك تخترق الصمت وتمزق السكون ونباح الكلاب السائرة وقد اتخمت باللحم البشري لجثث تركت في مكانها ممزقة في الأزقة والشوارع فأصبحت تهاجم بعنف وشراسة كل من يقترب منها , كالذئاب اذا اجتمعت مع بعضها البعض في وليمة لم تحسب حسابها , ممتدة على طول الطرق حتى دخولها المدينة .
في تلك الليلة كان الوضع ينذر بالخطر ,كما هي الليالي التي سبقتها ,لكنها لم تكن مثلها أبدا , فلم يكن للجيش ومن يشاركونه المجزرة قد دخلوا المدينة بعد سوى ثلاثة أيام لقمع الثورة وكما أصبحت يسمونها فيما بعد بالانتفاضة ضد نظام دموي لا يعرف معنى للرحمة , والتي هي بحق ثورة ضد التعسف والظلم والتسلط أعقبت انسحابه وهروبه من الكويت حيث سحقت قواته هناك سحقا بأيادي تآمرت عليه لتدميره في غرف سرية رسم بدقة وإتقان للخلاص منه , ورهان علني دعي الجميع إليه بلا استثناء وضع على موائد القمار والسمسرة ,باتفاق مع من يعنيهم الأمر ,لأنه خالف قواعد اللعبة , وخرج عن الطريق الذي رسم له ,فأصبح أحمقا يهدد مضاجعهم ,ولم يتعظ من دروس التاريخ ,فوقع في الفخ والشباك التي نصبت إليه ,فاصطادوه في وضح النهار .وكان علينا أن ندفع ثمن تلك الحماقات , كما هو شأن الشعوب المغلوبة على أمرها..
كان الظلام حالكا فقط من نور ضئيل لمصابيح اتقدت من علب لزجاجات فارغة ملئت بالنفط ,تخترق زجاج النوافذ لغرف شبه مظلمة لمنازل أقفلت أبوابها بأحكام خوفا من اللصوص الذين وجدوا ضالتهم في فوضى عارمة تعيشها مدينة بمعزل عما يحدث لها في العالم , وكأنها لم تكن موجودة على الخارطة . كنت في خوف أعيش مع نفسي , كما هم الذين يعيشون من حولي , لكنه ليس من قادم ما , فهو لم يشغل بالي في تلك اللحظات , بل خوف أن يطرق الباب أحدا اعرفه ,لأني تركت زوجتي قريبة عند أهلها وهي توشك على الولادة , تشعر بآلام المخاض منذ المساء ,حيث يوجد من يعتني بها , ولم يبعدوا سوى أمتار معدودة عن منزلي ,وكم تمنيت أن تحدث الولادة في النهار لأنه يوجد من تستطيع أن تستعين به , وكنت اعلم إنها قد تحدث في أي وقت ,ولكن ليس في هذا الوقت بالذات , لكنها أصبحت أمر لا مفر منه حين طرق الباب صوتا لاهثا يأمرني أن أسرع بقدر ما استطيع ,فعرفت إنها تطلبني وإنها تولد الآن ,أو إنها توشك على الولادة ..خرجت مسرعا ,لكنني أصبت بقشعريرة مفاجئة سرت في جسدي عندما وجدتها تقف عند الباب تنتظرني والخوف يبدو جليا على وجهها ,قلقة جدا , تدعوني أن اصحبها إلى مستشفى الولادة فلم تعد تقوى على تحمل الألم .
لا تخافي .. كوني قوية ,
هزت رأسها وهي تتبعني بخطى متثاقلة نحو طريق لم يبعد كثيرا عن موقع سكني أتكئ على عكاز يساعدني في الوقوف والتنقل من مكان لآخر , توقفت مرات عديدة في الطريق وأنفاسها المتقطعة بسبب الآلام , كان الخوف هاجس مشترك بيننا نتقاسمه عندما تتلاقى النظرات , خوفا أن تلد وهي تمشي, وهي واقفة في أي لحظة , ولم اعرف ماذا افعل , ولم يكن بمقدوري أن افعل أي شيء فقد كانت الشوارع مقفرة , لا يوجد احد , لا يوجد من يستطيع المساعدة, لكنها رغم ذلك لم تأبه لما يدور حولها وكانت قوية جدا ولم تخشى شيئا وذلك ما لم أعهده بها رغم الألم . لم يكن الطريق طويلا ,لكنه صار طويلا كأنه لا ينتهي , حيث اتجهت نحو ساحة لوقوف السيارات تزدحم نهارا تقع قرب مبنى اتحاد نقابات العمال عسى أن أجد سيارة تنقلني إلى مستشفى الولادة , وكنت احلم أن أجد واحدة ,لكنني لم أجد سوى نار مشتعلة لإطارات عجلة تحترق وسط الشارع لأحدى المفارز والدوريات المنتشرة وأكوام هائلة من الأثاث عبث بها الآخرون نهارا , لم يوقفني احد , وكنت اعلم إن أحدا ما في ركن أو زاوية أو زقاق يراقبني , لكنه لم يعني لي شيئا بالرغم من الخوف والقلق , فما يشغلني في تلك اللحظة هو البحث عن سيارة لاشيء آخر , وقفت في وسط الشارع , انتظرت طويلا , ولكن دون جدوى , لا يوجد احد , لا معنى للوقوف , لا معنى للانتظار , المدينة كلها غارقة في نوم عميق , لا وجود للحياة , فقط الحياة للكلاب , كلاب أصبحت شرسة ومتوحشة جدا بعضها هاجمنا وكان عكازي له فائدة كبيرة في هشّها . قررت الذهاب إلى مفرزة لم تبعد كثيرا كنت اعلم بوجودها في الصباح أقيمت على أعتاب دائرة سرقت كل محتوياتها لم يبق منها سوى هيكل لجدران بائسة , وجدت ثلاثة منهم يحملون السلاح خائفين جدا شهروه في وجهي يطلبون مني التوقف , فتوقفت , لكن شعورا بالخجل والحرج صاحبهم عندما علموا وعرفوا إن معي امرأة توشك على الولادة ولم يكن باستطاعتهم أن يفعلوا شيئا , انهارت قواي, شعرت بإحباط شديد , فلعنت نفسي ومن حولي وتعثرت قدماي وسقطت على الأرض , نهضت , لا اعرف ماذا افعل , نظرت إلى وجهها كانت دموع كالبلور تتساقط من عينيها لكنها لم تشعر باليأس ولم يكن هو قد تسلل إليها رغم الموت الذي لم يبعد خطوات منها وعلى مقربة جدا منها ,قررت الرجوع مرة أخرى للساحة , لم يتغير شيء , كل شيء كما هو , لا يوجد احد , لا يوجد سوى الخوف والانتظار , لحظات عصيبة لا تريد أن تنتهي مملوءة بالتحدي والصراع مع الخوف والألم , الخوف من الولادة ,.. فهل إن للولادة كل هذا الألم ؟!!نعم إني عرفت إن لكل ولادة الم , فهذا الهلع والزفير له ما يبرره منذ الأزل ولن ينتهي ..عند ذلك الصمت ظهرت أنوار لسيارة قادمة تتجه نحوي , فتجدد الأمل , توقف فجأة وكاد يصدمني لأني كنت في وسط شارع مظلم يضيئه ما تبقى من تلك النار المشتعلة للإطارات , فقد كنت في حيرة من أمري لا اعرف ما يدور حولي ولا أراه فقط تلك المرأة التي تقف على شفا الهاوية , تبدد القلق بسرعة فائقة , وتجدد مرة أخرى فقد كانت السيارة كبيرة جدا ومن سيارات الحمل ولا يمكن الصعود إليها أبدا خاصة لامرأة على وشك الولادة , ولم اعرف ماذا افعل , لعنت نفسي مرات عدة , لـِم يحصل هذا , تذمرت كثيرا , شعرت برغبة عارمة في الصراخ في هذا الصمت المطبق , في هذا الوجود الذي يبعث الاشمئزاز والقلق , لا ادري ما أصابني , لكنها كانت قريبة مني , فقد شعرت برجفة مفاجئة حين وضعت يدها على كتفي , انتبهت لنفسي , كأنها تريد أن تقول لي إنها تعرف ما يعتريني من شعور , ولم يبق سوى أن ننتظر , ولكن ,ماذا لو حصل ما لا انتمى ,ليس بمقدوري فعل أي شيء ,وبقيت نظراتنا تصطدم بعضها ببعض لغة نتقاسم فيها القلق ,عاجزين تماما ننتظر , كانت دقائق معدودة لكنها أصبحت أعواما من العذاب الذي لا يريد أن ينتهي , حتى ظهرت دورية مسرعة للشرطة بسيارة مهشمة ترجل أفرادها وهم يأمرونا بالصعود إليها , ربما أخبرهم احد بوجودنا , وربما هو واجب يقومون به , أو حدث صدفة , لا يهم , ليكن ما يكون , فقد فرحت كثيرا وذلك ما كنت أتمناه , حيث وصلنا ما نريد ,وعادت سيارة الشرطة مسرعة إلى المكان الذي كنا به لأنهم تركوا بعض منهم هناك عند الساحة ينتظر عودتهم ,
كانت المستشفى أبوابها مغلقة تماما ,مظلمة , حارس وحيد يقف عند البوابة جاء مسرعا ليخبرنا انه لا يوجد احد , وإنها سرقت بما تحتوي من أجهزة ومعدات وحتى أسرّتها, ولا يوجد سوى جدران وأبواب وشبابيك محطمة , هل يعقل أن يكون الخراب بهذا الشكل وتلك الهمجية , ربما لا احد يصدق ذلك ولكنها حقيقة وقعت, هل من فعل ذلك يعتريه ضمير , وهل حقا إنهم يملكون من الحضارة شيئا , وتجدد اليأس...
وكان علينا الذهاب إلى مستشفى آخر يقع في الجهة الأخرى من المدينة حيث يتواجد الأطباء هناك , ذلك ما اخبرنا الحارس به , لكن الذهاب ليس بالأمر السهل فقد حطمت الطائرات كل الجسور التي تربط المدينة مع بعضها البعض لتمنع وصول الإمدادات العسكرية للجيش أثناء المعركة , الجيش الذي هرب من المعركة ومن الجحيم الذي قذفهم الأحمق فيه , ولم يبق سوى رصيف للمشاة من الجسر السريع تسير عليه السيارات الصغيرة أحيانا والذي لا يخلوا من المخاطرة , وكان لابد منه , فلا يوجد طريق آخر. لم يكن الفجر قد بزغ بعد , لكن الجهد أخذ مأخذه منها إضافة للألم والقلق معا وهي تنظر إلي تتلوى امسك يدها الراجفة وهي تعصرهما عصرا ..حتى خرجت سيارة من مبنى مجاور ,أوقفته ,وبعد توسل وافق أن يصطحبني إلى حيث أريد لأنه يخاف السير على الرصيف المتبقي من الجسر , ربما هو في مهمة ما , أو واجب تحتم عليه الخروج في هذه الساعة , وهو بدون أدنى شك من رجال وأزلام النظام حيث لا يستطيع أحدا الخروج من البيت في مثل هذه الساعة , ركبنا على عجل وأصبح الخوف رفيق لنا نتقاسمه معا بعد توقفات عدة لرجال يقفون في تقاطعات الطرق يحملون بنادقهم, يفتشون القادمين وأسئلة أخرى تافهة عن وجهتهم وماذا يحملون معهم حتى وصولنا.
كان المرضى ومن تعرض لإطلاق ناري يملئون الغرف والممرات التي اكتظت بهم يستغيثون من الألم , حيث لم تستطيع المستشفى استيعابهم وقد فقدت كل المستلزمات الصحية والأساسية لإسعافهم وفي حالة يرثى الجبين تجعل من يراها يجفل لمرآها , وأن هؤلاء وجدوا عنوة ولا يستحقون الحياة التي يريدون أن ينعموا بها ويعيشون فيها ..لكنني شعرت ببعض الأمل حين اصطحبت الممرضة زوجتي التي جاءت على عجل في عربة تشق طريقها بصعوبة بين المرضى والراقدين على الأرض في الممرات المزدحمة بهم وهي تطلب من ذويهم أن يفسحوا المجال لها كي تنقل المريضة التي انهارت تماما وهي تصعد العربة ترمقني بنظرات فاحصة يملئها الحب والأمل , وكان الفجر قد بزغ .



#محمد_نوري_قادر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أعلنوا الوفاء
- من النافذة
- أنا وصحرائي
- هلوسة
- احتراق
- حاكم
- بائع الطيور
- زيحوا الستائر
- إيماءة في كأس ثمل
- للوداع الأخير...
- لا شيء يقلقني أكثر
- الطيور تعشق احلامها
- هل أقبل الخريف
- نتيجة
- تائه
- إنعكاس للظل
- أحزان على قارعة الطريق
- أعلان
- المأساة
- سألت نفسي


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نوري قادر - هكذا ولدت ابنتي رغد