أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 4















المزيد.....

الرواية : مَطهر 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3032 - 2010 / 6 / 12 - 09:19
المحور: الادب والفن
    





إنّ الموجودَ مَفقودُ .
عامٌ كاملُ مَضى ، مذ بدأ عبدُ الله بخط الأسطر الأولى ، الواجفة ، من تذكرة حياته ؛ منذ أن شعّ في داخله ، المُظلم ، نورُ الحنين إلى المَوطن الأول ؛ نورٌ ـ كطرف البرق ، ما عتمَ أن تبعَهُ وابلٌ من غيث الكلمات . وإذ أهملَ فروضَ الإيمان ، جميعاً ، إلا أنّ صلاته ما تفتأ موّجهَة ً نحوَ قِبلة الشام الشريف ؛ نحو مدينته ومَسقط رأسه.
هنا في المنفى ، إذاً ؛ في يوم حارّ نوعاً ـ شبيه بيوم فائتٍ ، عتيق ، قبلَ ثمانية عشر عاماً ـ كانَ على ذلك الخبَر الطازج ، المُستطير ، أن يهبّ على كينونتي مُبعثراً حَرْفاً حرفاً كلماتِ كناشي هذا : " إعدامُ الباب في فارس ". لم أعرف الرجلَ قبلاً ، قط . بيْدَ أني كنتُ مُهتمّاً بمُتابعَة سيرته ووقائعه . فلا غرو ، والحالة هذه ، أن أتفكّر بعبَث المقدور ؛ حينما عقدتُ في ذهني حِسْبَة ، مُقتضبَة ، لأخلصَ من ثمّ بأنّ عُمْرَ الباب ، حينما ماتَ مَشنوقا ، كانَ لا يَتجاوز الحادية والثلاثين عاماً : وحَسْبي أني إلتقيتُ بمن سيكون عليهم أن يُبشروا بظهوره ـ بإعتبار أنهم ثلة من حواريّيه ، المَوعودين ـ وكنتُ في تلك السنّ ، نفسها .
ذلكَ حَصَلَ في مدينة القدس ، عند عودتنا إلى الشام عن طريق عكا . إنّ رفيقَ رحلتي ، القاروط ، كانَ هوَ من إقترحَ عليّ الإيابَ برّاً ، ما أن أنهينا مُهمّتنا في القاهرة . وعليّ كانَ أن أقبلَ اقتراحه ، مُغتبطاً مُمتناً ، طالما أنه سيجنبني خوضَ غمار اليمّ ، الكائن على حافة الآخرة . وما لم أكُ أعلمه عندئذٍ ، أنّ البك ، الماكر ، كانَ يَحملُ في جرابه رسالة من العزيز إلى والي العتبات المَقدسية ؛ المُقيم في مقرّه بعكا . فلنعُدْ إلى هناكَ ، على كلّ حال ، لنرَ ما كانَ من أمر تلك الرسالة ، السرّية .

" إنّ العزيزَ ، لعلمكَ يا آغا ، مُستاءٌ من مَسلك عبدي باشا ، غير الوديّ "
قالَ لي القاروط ، ممهّداً لما سيفجأني به من خبر مهمّته ، المَعلومة . آنذاك ، كانت قافلتنا قد خلفتْ الصحراءَ وراءها وباشرَتْ طريقها حذاء الساحل الفلسطيني ، لكي تمكث ليلة مَبيت في رفح ، ومن ثمّ تواصل في اليوم التالي ، صباحاً ، مَسيرها إلى القدس . ولحُسن فألنا ، فلم يَعترض القافلة أيّ طاريء غدر ، مألوف ، من لدن البدو النهّابين السلاّبين . ويتعيّن عليّ الإشارة هنا ، بأنّ الفضل في ذلك كانَ يعود لسلطة عبدي باشا ذاتها ، الشديدة.
" إنّ العزيز يَصِفُ والي عكا بأفدَحَ النعوت ؛ وربما أهوَنها " النمرود ". علّة الأمر ، ظاهراً ، أنّ عبدي باشا أخذ يُشجّعُ الفلاحين المصريين ، الهاربين من الجندية والسُخرة سواءً بسواء . إنه يَفعل ذلك مُتعمّداً ، ما دام يتحصّلُ مالاً من أولئك الناس ، المُلتجئين إلى الولاية الشامية عَبْرَ عكا ". كانَ البكُ يتكلّم بصوتٍ خافت ، بالرغم من أننا بمعزل عن رفاق الرحلة الآخرين ؛ ثمة ، في خان المسافرين ، الواقع في أحد أرباض البلدة .
" أليسَ هوَ بنفسه ، من كانَ قد إلتجأ فيما مضى إلى مصر ، مع المير بشير ، فوجدا الحماية لدى حاكمها ؛ حينما نالهما غضبُ الباب العالي ؟ " ، سألتُ القاروط باهتمام مُعتمِداً أيضاً الهمسَ . فأومأ برأسه إيجاباً ، ثمّ كشر عن بَسمة ساخرة : " ولذا استحقَ لقبَ النمرود "
" ولكنكَ ، يا بك ، قلتَ أنّ ذلك هوَ سبب الخلاف ، الظاهر ؟ "
" أجل . أما سَبَبُهُ الحقيقيّ ، فإنه يُداور في فلك آخر . إنّ طموحات العزيز ، باتتْ اليوم معروفة لمن يهمّهم الأمر ، على الأقل . وأكثر هؤلاء يتقون تلك الطموحات ، طالما أنهم لا يَرغبون بتغيير الوضع القائم "
" قصْدُ كلامك ، بحَسب ما فهمته ، أنّ والي عكا يَخشى أن يَفقد منصبه ، ما لو سيطرَ العزيزُ على البلاد الشامية "
" عفارم . وأعتقدُ أنّ ذلك هوَ حالُ الآخرين ، أيضاً ، من عمال بلادنا الشامية : فإنهم وبالرغم من امتعاضهم من اصلاحات الباب العالي ، الأخيرة ، لعلى استعداد للمُنافحَة عن سلطته حتى رمقهم الأخير . إنّ مسألة التغيير غايَة ً في التعقيد ، ولا يُمكن قبولها مِنْ لدُن مَنْ اعتادوا عُمراً على الوضع القائم للسلطنة ؛ والذي ، بدوره ، ترسّخ على مرّ الأزمان والحِقب . إنّ ذلك بالنسبة لهؤلاء ، كما لو كانَ دينهم ، الحنيف ، ويأتي من يُجبرهم على الارتداد عنه ". قالها القاروط ، ثمّ ما لبثَ أن أخذ بالتثاؤب . فسكتّ عندئذٍ عن المُجادلة ، مُدركاً أنّ أجلَ النوم قد حانَ .

قبيل الفجر، أفقتُ مُنغصاً بحلم ٍ مُخلبَس . إذاك ، كانت العتمَة ما تفتأ تهذي بخمرة صاحبها الماجن ؛ القمر . فقمتُ من فوري لأداء فرض الصلاة ، لكي أستعيدَ سكينة روحي في حضرة خالقها . في المَصلى ، تسليتُ بوجود مرتادين آخرين ، من المُسافرين في رَحْلنا . فتبادلتُ مع أحدهم الكلامَ ، لدى فراغنا من الفرض . هذا الرجل ، الشائخ نوعاً ، كانَ تاجراً من القدس مُعتاداً على السفر إلى مصر لمُبادلة بضائعه بغروش المُشترين . وحينما يؤوب من هناك ، كانَ يفعل الشيء عينه في مدينته ؛ حيث اُخبرتُ منه أنه يَمتلكُ محلاً لمنتجات الزيتون ، يقعُ في قلب القدس القديمة. وبما أنّ العطارة كانت مهنتي، سابقا، فمن الطبيعي أن يهتمّ ذلكَ التاجر بمعارفي في شؤون الصابون ؛ الذي كانَ في مُبتدأ القرن ما زال تجارة رابحة للغاية .
" إنّ بعضَ ولاة دمشق ، كانوا يحتكرون صناعة الصابون ويَفرضون رقابة ، صارمة ، علينا ، نحنُ تجارها ، كما على الفلاحين ممن يَمدّوننا بخامتها " ، قالَ لي العجوزُ مُطلقا تنهّدة الذكرى . ثمّ أضافَ " ولقد تخلصنا من جورهم ، ولله الحمد ، مذ أن فصلت الولاية الفلسطينية عن دمشق ، بسعي من مولانا عبدي باشا ". فسألته عندئذٍ بغير إكتراث : " فأنتَ إذاً ، أطالَ الله بعمركَ ، عاصرتَ العديد من أولئك الولاة الشوام ؟ "
" نعم ، ولا ريب . لا أنكرُ أنّ بعضهم كانَ عادلاً ويتعفف عن أكل حقوق رعيّته . إلا أنّ ذلكَ كانَ مَعدناً ثميناً ، نادراً . والعجيب ، أنّ الخلقَ من عامّة وأعيان وعسكر ، كانوا يَستهترون بالوالي العادل ، فيصفونه بميوعة المرأة وخلاعة الغلام ، ثمّ يتضامنون معاً على افشال مهمّته في الولاية إلى حدّ أن يُكاتبوا الآستانة بحقه . ولله في خلقه شؤون "
" لعلكَ سَمِعْتَ بما جرى في الشام ، مؤخراً ؟ "
" آه ، نعم . ليَحفظنا الربّ من شرور أولئك القوم ، المُبتدعين " ، نطقها الرجلُ بعفوية. وأدركتُ من يعني بكلامه ؛ طالما أنّ مفردة " البدعة " أضحَتْ مُلتصقة بجلد أتباع أبن وهّاب . فما أن همَمتُ بالتعليق ، حتى واصلَ العجوز قوله : " لقد كانَ من الممكن ، قبلاً ، استئصال شأفة غرسة الشرّ هذه ؛ حينما اجتاحَ هؤلاء الأعراب البلادَ الشاميّة ، حتى وصلوا حوران . ولكنّ ذلك الوالي ، المَدعو بالكنج الكردي ، عجز عن التصدّي لهم لأنه كانَ هوَ بنفسه سادراً في الجهل والتزمّت والضلال . قبل ذلك ، قامَ الكنجُ باحتكار الصابون ، صناعة وتسويقا ، وسامَ التجارَ ألوان التنكيل ". وما لم يكُ يَعلمه هذا التاجر ، أنّ أبن الكنج ـ أو ربيبه بالأصح ـ موجودٌ معنا في الخان ؛ وأنه في حجرتي ثمة ، يغط في نوم عميق ، سادر .

انتهزتُ سانحَة الفطور ، فأومأتُ برأسي خفية ً ناحية التاجر ، المقدسيّ ، قائلاً للقاروط بدعابَة : " إنه يَعرف أشياء كثيرة عن والدك ، المرحوم ". فحرّكَ البكُ رأسه نحوَ الرجل ، المطلوب ، لكي يستلّ لمحة من سحنته ، فما عتمَ ان أجابني بمَرَح أيضاً : " يبدو من هيئته ، النظيفة ، أنه تاجرُ صابون "
" إنكَ بنفسكَ ، يا بك ، أبنُ تاجر صابون ". تطلعنا ببعض هنيهة ً ، ثمّ ما عتمنا أن انفجرنا معاً بالضحك الصّخاب ، حدّ أنّ أصحابنا ، المُنهمكين بالأكل في قاعة الطعام ، التفتوا نحونا بنظرات فضول واستغراب . عندئذٍ ، هممتُ بنقل ما قاله ذلك التاجر ، مُستهلاً بموضوع الوهّابيين . وإذا بالقاروط يُبدي شيئاً من التململ ، ولا يلبث أن يقترحَ عليّ أن نتمّمَ حديثنا ، خارجاً . وربما سَهَوتُ ، قبلاً ، عن التنويه بخصلة البك ، المُتمثلة بتدخينه الشره . وكانَ يَستعملُ لذلك أداة ً خشبيّة ، صغيرة ، مَصقولة بعناية ؛ تسمّى بالغليون . فما أن أضحينا أمامَ مدخل الخان ، حتى أخرجَ البك أداته تلك وشرَعَ في مدّها بمدقوق التتن . فحينما اشتعلت جذوة الغليون ، تصاعد منه عبقٌ طيّب النكهة متماهياً بدخان رماديّ ، خفيف . وكانت هذه ، أيضاً ، سانحَة لحديثي عن أهل البدعة : " إنّ التدخينَ حرامٌ ، بحسب أبن وهّاب . حتى ويقال أنّ أبنه ، وخليفته ، يشنق من يُضبط من رعيّته وهوَ يدخن علناً ". فهزّ البك رأسه دلالة على علمه ، ثمّ قالَ لي : " في زمن أبي ، الكنج ، هوجمَتْ ولاية الشام من لدن أعراب أبن وهّاب . من جهته ، فإنّ أبي لم يكن مُتزمتاً قط ، أؤكدُ لكَ بصدق ونزاهة. كلّ ما في أمره، أنه حينما علمَ بما فعله أولئك الأعراب في العراق ، من استباحة وابادة وتدمير ، خشيَ أن يَتمكنوا أيضاً من اجتياح الولاية الشامية . فلكي يُداهنهم ، اتخذ تلك الاجراءات الصارمة ، الغريبة ؛ من قبيل تمييز النصارى واليهود بملابس خاصة ، بأن يكون اللون الأسود للأولين والأحمر للآخرين . كذلك الأمر بالنسبة لرعاياه المسلمين ، فقد فرضَ على الرجال أن يطلقوا اللحى وعلى النساء النقاب مع منعهنّ من الخروج للدرب إلا لسبب قاهر . وأبطل تعاطي الخمور والتتن والملاهي ووضع الغواني في الحديد حتى يتبنَ ، ومن عادتْ منهنَ لممارسة عملها قذف بها في لجة بردى . وربما أنتَ تعلم ، يا آغا ، أنّ مهنة البغاء قد حَظيتْ دوماً باعتراف الشهبندر ، فكانَ لصاحباتها جمعيتهنّ ، الخاصّة ـ كباقي جمعيات أهل الحِرَف ، في أسواق الشام " . أوضحَ لي البك ما كانَ من لبْس ، في سيرة والده بالتبني . وأظنّ أنه لحظ تغيّر لوني ، ما أن وصلَ في كلامه إلى حديث الغواني : فإنّ صورة زمرّد ، المسكينة ، طالعتني إذاك مُتواشجة مع صورة تلك الفتاة ؛ التي اُغرقتْ في نهر بردى بعدما هُشِمَ بدنها بأحجار الراجمين ، المَمْسوسين بتحريض شيخ الشام ، السابق .

" وماذا بشأن صحّة الأقاويل، عن ثروة الكنج ، المكنوزة هناك في القلعة ؟ "
سألتُ القاروط على حين غرة ، وفي نيّتي حثه على الإعتراف بسرقة الكناش . وكالعادة ، لم يَبدُ على ملامح مُحدّثي، الخالدة ، أيّ تأثر . ولكنه سَرَحَ ببصره بعيداً ، نحوَ صفحة البحر الأزرق ، المَسفوع بأشعة الشمس ، الذهبية ، فيما كانَ يُصلح من حشوةغليونه . وما لبثَ أن أجابني بهدوء وهوَ يُحدّق ملياً في عينيّ : " أجل ، إنه كلامٌ صحيح . وأعتقدُ أنّ الوزيرَ المَغدور ، بدوره ، كانَ يَبحثُ عن ذلك الكنز ؛ المُقدّر بإثني عشر صندوقا من الذهب "
" أنتَ تقصُد سَعيه لإمتلاك ذاك الكتاب ، المَفقود ؛ المَنسوب للشيخ البرزنجي ؟ "
" آه ، نعم . لقد سبقَ للدالي باش ، آغا يقيني ، وأخبركم بالأمر . ولكن ، ما لم تعلمه لحدّ الآن ، يا آغا ، أنّ الوزيرَ أسرّ للدالي باش نفسه بسرّ هذا الكنز . فقبيل ساعة من مَصرعه ، ولما شعرَ الوزير بأنّ أجله حانَ حقا ، فإنه قال للآغا بحسرة وبما يُشبه الهذيان : " بدءاً ، كنتُ بصدد تقديم هديّة للسلطان ؛ وهيَ كناش البرزنجي ، الذي كانَ يُودّ الاستئثار به واخفائه عن أعين الناس . علاوة على ما كانَ من رغبة الباب العالي ، الأخرى ، بالحصول على ذلك المخطط ، المطلوب ؛ الذي يُثبت كون المسجد الأموي مَبنياً على صورة الصليب ، تمهيداً لتدميره بقنابر القلعة ، بعدما تكون قدسيّته قد بَطلتْ. بعد ذلك ، فكرتُ طويلاً بإمكانية أن أتملك أنا بنفسي ثروة َ الكنج ، القارونية ، المَخفيّة على أغلب ترجيح في البرج الثالث عشر ، السرّي ، من القلعة تلك ، اللعينة . ولقد كلفتُ ثقاة من رجالي بالأمر . إلا أنّ بحثهم الدؤوب ، المَحموم ، كانَ بلا جدوى . ولو أنك ، أيها الدالي باش ، جئتني بالكناش من منزل الشاملي ، لتغيّر كلّ شيء في هذه الحاضرة . بل وكنتُ قد تحدّيتُ الصدر الأعظم ذاته ، وحللتُ بمكانه ثمة في الآستانة . أنتَ تفهم ما أعنيه ؛ البرطلة وإلى ما هنالك من أمور السلاطين ، المُعتادة " . أبديتُ فضولاً واضحاً بحكاية الساعة تلك ، الأخيرة ن من حياة الوزير : " إنها ثروة أبيكَ ، يا بك ، ما كانَ يدور الحديثُ عنها . واعذرني إذا قلتُ ، بأنّ ردّ فعلك في هذا الأمر غريبٌ بعض الشيء ؛ وكأني بك غير مبال به ؟ " ، قلتُ للقاروط مُستفهماً، علّ كلماتي تستفزّ غرورَه وكرامته على السواء . على أنّ قسماته بقيَتْ خالية من التعبير ، حينما بادرَ لإجابتي إثر وَهلة تفكير : " لا أدري حقا ، ما إذا حدّثكَ الزعيمُ عن طلبي الكناش منه ؟ " . ولم ينتظرَ جوابي ، بل استأنفَ من فوره " وقد أنكرَ ، بطبيعة الحال ، أنه يَمتلك الكتاب ؛ مع أنّ الذي أهداه إياه سبقَ له أن خبّرني بذلك . عندئذٍ ، تدخل وصيفُ الشاملي في هذا الموضوع ".

" أيها الداهية ، أمنَ المُمكن أن تعترفَ لي بهذه البساطة ؟ "
ساءلته في سرّي ، وأنا بغاية الدهشة. ولكنني ، بالمقابل ، تذرعتُ بالصمت ولم أكن لجوجاً : فما دامَ البك سَيُفضي أمامي بما يَعرفه عن حكاية الكناش ، فإنّ سبباً ما ، طارئاً ، هوَ ما يَدفعه لذلك. في الإبان ، كنا قد عُدنا أدراجنا ودونما أن نشعُرَ باتجاه أقدامنا . فلما صرنا أمام النزل ، مُجدداً ، أشرتُ للبك أدباً أن يتقدّمني بالولوج خللَ المدخل .
هناك ، في الحجرة التي نشغلها ، بالدور الأرضيّ ، جلسَ رفيقُ الرحلة على كرسيه ، المُفضل ، فيما اقتعدتُ بدوري على طرف سريري . برهة أخرى ، وما عتمَ فمُ مُحدّثي أن تبَرْطمَ ثانية ً: " قلتُ ، أنّ ذلك الوصيف ، ذي الوجه المَملوط ، قد اهتمّ بموضوع الكناش . وأخبرني بنفسه ، لاحقا ، بأنه كانَ معتاداً على التنصّت لما يدور في حجرة أعمال سيّده . المهم ، أنّ الخسيسَ أبدى لي رغبته بالمساعدة وبمقابل صرّة من الغروش الذهبية . وأعترفُ لكَ ، أيها الصديق ، بأني ضعفتُ وقتذاكَ أمامَ إغراء تملك الكتاب . وربما ستعذرني ، لو أقسمتُ الآنَ أمامك، بأني ما شجعتُ ذلك المأفون على فعلته . بل أخذتُ الأمرَ على منقلبٍ آخر : إنّ خبرَ الكناش ، أضحى معروفا لذاك الشخص الخسيس ، ومن المحتمل جداً أن يَصلَ بشكل أو بآخر للوزير وتكون الطامة الكبرى . وإذاً ، فكرتُ على الصورة التالية : الأفضل أن أكون أنا ، صاحب الحق بالميراث ، من يشتري ذمّة هذا الوصيف من أن يَفعلَ ذلك شخصٌ آخر ، دخيل ". وحينما نطقَ القاروط جملته ، كما لو كانت مَحفوظة في صدره أصلاً ، فإنّ نبرَة صوته كانَ فيها ما يُشبه التوسّل والرجاء . عندئذٍ ، ما كانَ يجوز لي الصمتَ أكثر . فتوجّهتُ لمُحدّثي بالقول : " أيها البك المُبجّل ، لا حاجة بكَ قط للإعتذار " . لقد خاطبته بلهجة صادقة ، رأيتُ أنها أثرتْ فيه نوعاً . ثمّ استدركتُ قائلاً : " إني أفهمُ تماماً قناعتكَ ، بكونكَ أجدر الناس بتملك ذاك الكناش ، طالما أنّ الأمرَ يتعلق بثروة أبيك. ولكن ، أرجو منكَ إجابتي بصراحة ، ما دمتَ من الثقة فيّ أن أعلمتني بسرّكَ : أتنوي إعادة الكتاب لصاحبه أم ستحاول فكّ رموزه وصولاً إلى كنز الكنج ؟ "
" إنّ خبَرَ الكنز ، لعلمكَ يا عزيزي ، ليسَ له ذكر على الإطلاق في نسخة الكناش ، التي تسلمتها من وصيف الشاملي . وإني لفي ريبةٍ ، من أنّ المَقبورَ قد استلّ منه بعض الأوراق ، أو أنّ سيّده بذاته من سبقَ له أن فعل ذلك ؛ بغية إفقاد الكناش قيمته ، الحقة " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 4