|
بستان رودس
حمودي عبد محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3031 - 2010 / 6 / 11 - 14:01
المحور:
الادب والفن
بستان رودس
في كل مساء من أيام عطلتنا التي قضيناها في جزيرة اليونان ، كنا نذهب إلى بستانه الجميل الذي يقع في المدينة القديمة ، وفي سوقها الرئيسي ، وخلف سور عال ضخم لقلعة عظيمة ، تجسد سنوات الحروب ، وأبطال ملاحم شعر الإغريق ، والآلهة الراعية لأوديسوس ، إذ في هذه الجزيرة وقف تمثال رودس العملاق ، وهو من عجائب الدنيا السبعة ، وقف إجلالا لإله الشمس هيليوس ، ساقاه متباعدتان تمر من بينهما سفن السلام والحرب . البستان عبارة عن مطعم هادئ ، في مدخله ببغاء كبير زاهي بألوان ريشه الأخضر والأصفر والأسود يقف على جذع شجرة قديمة ، يرحب بالقادمين من بعيد ، وتزين البستان أشجار خضراء مثمرة بأنواع الفواكه التي تتدلى من غصونها إلى أسفل ، وهناك عين ماء رقراقة صافية تحيطها زهور تبعث روائح عطرة ، وأضوية خافتة تبعث ضياء أشبه بألوان قوس قزح ، وتمتد أيضا ساقية ضيقة ملتوية ، وملتفة على حافات البستان يخرخر فيها ماء عذب . كنا نجلس أنا ومحبوبتي قرب عين الماء ، نستقي شرابا أحمر من يد ناعمة لفتاة حسناء كأنها عذراء هذا البستان ، ننتشي في الشراب فرحا وبهجة ، وأكثر ما كان يثير البهجة هي تلك العصافير المزغردة بأصوات لطيفة تتردد في البستان . وينما كنا في طقوسنا المسائية المعتادة البهيجة جلسا فتى وفتاة ليس بعيدين عنا تحت شجرة مشمش محملة بثمارها الناضجة الزاهية بلونها ، وقد كانت الفتاة تذرف الدموع بصمت والفتى ينظر إليها بذهول واندهاش ، لا أدري لماذا اعتقدت حينها أنها دموع حزن الفراق أو الوداع الأخير ، وأنا أعرف أن آلهة الإغريق لا تبارك دموع الحزن ، بل تبارك دموع الفرح ، فتجلت لي أن هذه الآلهة لا قلب لها ، وأنها آلهة ملوك وأباطرة وأبطال حروب ، وأنها قاسية متعصبة ، غير مرغوب فيها ، غير جديرة بالعبادة ، وقد غدت لي إنها غير موجودة على الإطلاق ، بالرغم من أن قدسيتها كانت طاغية على شعب اليونان في زمن قديم . لم تمر لحظة انفعالية لهذا المشهد حتى نظرت باستغراب إلى وجه محبوبتي الذي توهج بسرعة تأسفا لفيض الدموع مثل نهر نيزك ، وغالبا ما كان يلوح في سمات وجه محبوبتي ذلك الطابع الذي يعبر عما في داخلها ، خاصة وراء نظرتها الثاقبة ألف تفسير ، المرتبطة بتغير ملامح وجهها ، إذ نظرتها كانت فيها ملامح حزن نحو البعيد كما لو أنها أرادت أن تخلدها في هذه اللحظة بالذات ، إلا أنني اكتشفت أنها تبدو أقوى من المعتاد ، ونحن ننظر في اتجاه بعضنا بشيء من الحنان ، بشيء من الألفة في نفس الوقت ، لكن نظراتها بدت لي في هذه المرة فيها شيء من الغرابة ، وإفراط في الابتعاد والحزن والقلق ، لذلك بدت لي أن الأمور قد لبست رداء الحيرة ، والتبست أكثر مما عليه ، فخرجنا من البستان بعد أن دفعنا فاتورة الحساب ، واتجهنا نحو ساحل البحر من نهاية السوق . كنا نمشي على ساحل البحر كمن انبثق من ليالي ألف ليلة وليلة ، نتنشق أنسام البحر العذبة ، وطيف سرور يصلنا من عمق العصور كي تتعلق عيوننا بنجوم السماء المتلألئة فوق هذا الكون العجيب ، وفي داخلنا إحساس بحب الأرض ، وكنوزها ، وروافدها ، وسعتها غير المتناهية ، لتجبلنا عليها بود ، ونعيش أحلام ثراها ، ونعيمها ، وكذلك نعيم السماء ، في برهة سعادة الروح ، حيث كانت أصابعنا متشابكة مسحورة بهذا الكون ، آنئذ تعانقنا بحب وشغف ، لتناصرنا صرخات من البحر التي بدت في صمتها مدوية ، لتضفي سر الوجود العظيم علينا ، وجودنا الحقيقي نحن الاثنين ، بجوهر التأمل لأنفسنا ، ولما حولنا . فجأة رحت أصغي إلى أصوات أخرى ، تلك الأصوات الغامضة التي تأتيني من بلادي ، ومن شبح مآسيها . لم تكن الأصوات متشابهة ، فهي ليست أصوات ملائكية ولا سماوية ، ولا تشبه أصوات آلهة الإغريق ، بل أصوات شعب يكاد يكون في دموع حزينة ، هذه الأصوات التي كنت غالبا أجد نفسي تحت تأثيرها ، لذلك التفتت إلي محبوبتي ، خاصة وهي تعرف جيدا عندما أسهو في البعيد ، وأسرح في الخيال ، وأطلق العنان لذهني ليجول في الذكريات ، فقالت بنعومة لتواسي عبادتي لهذا الشرود : - هل جاءتك أصوات الوطن ؟! كنت أمزق صورا لخيبات بلادي المتلاحقة ما بين الضوء والعتمة ، وأنا أقول : - للأسف ، ليس للعراقيين حياة ، ليس لهم سوى مصير . حينئذ كنت أرغب أن أسمع موسيقى سومرية عذبة ، تملأ روحي أنغام فرح ، أو أصوات بهيجة من آلهة بابلية تعظم هذا الوجود التي هي الأجدر بذلك إلا أنني لذت بالصمت ، وأنا أطوف بخيالي إلى عذراء بلادي ، وهي تتغنى بأغنية بلادي منبعثة من صميم قلبها في حمرة غروب الشمس ، وتتمطى شاطئ دجلة مثل غصن بان . تركنا ساحل البحر ، واجتزنا شارع وساحات ضاجة بالسواح ، حتى انحدرنا في زقاق الترف الطويل الذي يؤدي إلى الفندق ، والزقاق كعادته في كل ليلة يزدحم بأصحاب الهوى من الشبيبة المخموريين ، والمتشبعين بالمخدرات ، الصاخبين في ضجيج الرقص والموسيقى ، والخلاعة .صعدنا إلى غرفتنا ، وجلسنا في شرفتها التي تشرف على الزقاق ، والبحر ، لم تأخذنني عجائب البحر ، ولا عجائب الهوى إلى عوالمها ، بل أخذني القمر بعلوه وبهائه وبياضه ، وأنا أضع اليد اليمنى لمحبوبتي على صدري ، لأفتخر بملمسها في حركة ذات مغزى أشبه أن تكون استعراضية للحنان والوجود وعدم الافتراق وكأن في هذه الحركة تجلى وعد خالد بيننا دون شهود ، دون اتفاق ، وعد في صمتنا الأزلي . وضعت رأسها على كتفي مسترخية ، وهي تطرف بعينيها ، وتبتسم ابتسامة لطيفة خفيفة ، وقد توردت وجنتاها تحت سماء زرقاء مشعة فوق كل شيء ، مطرزة بالنجوم ، أحسست بدفء أنفاسها الناعمة ، كما لو أن نسمة من عبيرها لفني بأريجه . كنت مسحورا في هذا النقاء الذي يجمعنا في ليل منور متألق بضوء القمر ، ونحن ومضة في ظلاله على الأرض ، وفي الصمت الذي تحرسه روح الليل المقدس ، صمت كان يدحض ، وينفي الدموع الحزينة ، صمت لم يكن خاليا من البعد والمحتوى العميق كعمق بحر ، لذلك عززته في الكلام حين سألتني بخفوت : - نحن لن نفترق ، أليس كذلك ؟! هكذا كنت أديم النظر إلى السماء ، وأنجم تقتاد مع الليل أنجما ساطعة ، وتحكم ليلي المنور ، وأنا أكرر : - بالطبع ...
حمودي عبد محسن 11 / 6 / 2010
#حمودي_عبد_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا أنتظر حكمك
-
ليلة الثلاثاء
-
قصيدة البؤس
-
قناع الموت
-
وقد مضت الأعوام
-
الحداثة في رواية الأرسي
-
من أقواس المتاهة
-
الحداثة في رواية المقهى والجدل
المزيد.....
-
“بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا
...
-
خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر
...
-
الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا
...
-
الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور-
...
-
الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
-
على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس
...
-
الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
-
“جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور
...
-
فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
-
بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|