أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميثم سلمان - قشور بحجم الوطن ( رواية 4-5-6)















المزيد.....



قشور بحجم الوطن ( رواية 4-5-6)


ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)


الحوار المتمدن-العدد: 3020 - 2010 / 5 / 31 - 10:47
المحور: الادب والفن
    


قلت له: "إنها طريقة ملتوية، فقد خدعتك لإجبارك على شراء سلعتها".
- لم تجبرني، لكنها وضعتني في لحظة يكون فيها خيار عدم الشراء صعبا وهذه براعة. وهو ما نحتاجه نحن العرب كي نتواصل مع الغرب. نريد طرح بضاعتنا بطريقة يكون فيها من الصعب عدم الشراء.
- هل تقصد اللعب بخصي الغربيين أم ارتداء القفازات بالتعامل معهم؟
- لا هذا ولا ذاك.
- قد تعني التعامل معهم بطرق ملتوية؟
- بل قل شطارة، وهو ما فعلته تلك العجوز.
- ربما تحقق نجاحا في تصدير سلعتك بطرق ملتوية أول مرة، ولكن ليس كل مرة. فالناس ستدرك اللعبة. ما تحتاجه الثقافة الشرقية والعربية بالذات لتوطيد مكانتها المناسبة في أرض الآخر هو كسر هذا القالب النمطي الذي يحشروننا به. أعتقد أن الخطوة الأكبر هي فصل الثقافة العربية عن الدين والترويج لها بطريقة تتناغم مع وعي المتلقي الغربي.
كنت أقضي وقتا طويلا مع هذا اللبناني في النقاش والحديث. نركن قرب أحد البارات أو المجمعات التجارية لنثرثر. إلى أن انقطعت أواصر علاقتنا بسبب واقعة مخجلة حدثت في إحدى ليالي الشتاء حينما تعطلت سيارتي. اتصلت به حينها لمساعدتي فعرض علي استعارة سيارته الخاصة لحين تصليح سيارتي التاكسي. ذهبت معه إلى بيته. كان يسكن مع صديقته الكندية في بيتها ذي الطبقتين. كان فجرا قارصا. ولتمسكه بأصول الضيافة دعاني للجلوس في البيت بينما ذهب هو ليشغل السيارة وينظفها من الثلج. طلبت منه قدح ماء فأشار لي إلى مكان المطبخ، مؤكدا علي التصرف كما لو كنت في بيتي على أن لا أحدث أدنى ضجة، فصديقته وولدها نائمين في الطابق العلوي.
وجدت على مائدة الطعام دورقا زجاجيا. أخذته مع قدح إلى الصالة بعد أن أطفأت ضوء المطبخ. قبل وصولي إلى الصالة قفزت صديقة صاحبي الكندية وهي ترمي شالاً شفافاً يلفع جسدها العاري. كانت تنوي خلق مفاجأة حب لذيذة مع صديقها، لكن شاءت الصدفة أن أكون أنا من يستلمها.
فرت المرأة خجلة من فعلتها وسقط الدورق من يدي على البلاط محدثا جلبة كبيرة، سمعت بعدها صوت ابنها وهو يبكي. رجع صديقي ورآني أجمع شظايا الزجاج المتناثر وصوت ابن صديقته يلعلع في البيت. رمقني بامتعاض وصعد لغرفة النوم. سمعتهما يتشاجران.
جاءني والشرر يتطاير من عينيه يقرعني بعتب مر: "كيف سقط هذا الخراء من يديك يا رجل؟". "لا أدري، ربما بسبب قدري اللعين"، جاوبته مرتبكا. سلمني مفاتيح سيارته وكأنه يطردني. خرجت من البيت وأنا عطشان وخجل، وفي رأسي صورة امرأة تتقافز بجسد ساخن لامع.
لا أعتقد أن صديقي قد عرف ما حدث. وربما لن يعرف أبدا. بعد أن أعدت له سيارته لم أره ثانية. أعتقد أنه حقد علي للأبد، له كل الحق، فقد أفسدت عليه مفاجأة عذبة كان سينعم بها تلك الليلة.
مفاجأة...
بعد سنتين وبينما كنت جالساً في أحد البارات أرتشف جعتي الهولندية المفضلة، هنكان، ربتت يد دافئة على كتفي. فور ألتفاتي قالت سيدة في أوج الألق، عبقها لم يفارق ذاكرتي: "بوووه". لكن تلك المرة بصوت أخف من سابقتها التي قالتها في بيتها. تلون وجهي بخليط من مشاعر الجذل والخجل والارتباك وسألتها: "ستكون مفاجأة حقيقة لو كنت عارية". قهقهت وهي تترنح.
- أين صديقك اللبناني؟
بسطت راحتها اليمنى ونفخت فيها وهي ترشقني بشرر الجنون والحب من عينيها الجسورتين. كنت أنظرها وأتخيلها ترمي شالاً شفافاً عن جسدها الأملس كل لحظة. تلك الصورة استحضرتها آلاف المرات في رأسي طوال عامين. سحبتني من يدي نحو حلبة الرقص. رقصنا لثلاث أغنيات متتالية. تماوجنا مع أجساد لدنة، طرية مدهونة باللذة ووميض اللازمان واللامكان. أجساد تعيد خطايا آدم وحواء في كرنفال انصهار الحرمان. تستنشق عبق الموسيقى المعجون بالانتشاء ولا يحكمها إلا غريزة الحب. تجرأت وهمست في إذنها: "أريدك أن تفاجئيني هذه الليلة".
- بشرط أن لا تمسك دورق ماء بيدك.
- لا احتاج لماء، فأنت ستروينني.
- هل لديك بيت كبقية الناس.
- نعم. لدي بيت ولكني لست كبقية الناس، أنا الآن طير أحلق في سماء عينيك.
- ابتسمت بغنج وخرجنا من حلبة الرقص إلى غرفة نومي.
بعد أسبوع ذهبت لبيتها عندما استرجعت صورتها الأولى في ذهني. استقبلني صغيرها بمسدس بلاستيكي، وقال بلغة صحيحة، أفضل من لغتي أنا الذي أسنه بعشرات السنين وأعيش أضعاف عمره في هذا البلد: "أرفع يديك. هل أنت أبي الجديد؟".
نظرته التواقة للحنان الأبوي تشبه هوسي في البحث عن ذاتي، ورغبته لعرض لعبته والتحدث معي أثارت شفقتي. كأنه ضائع يصرخ: "أنا موجود هنا". الأولاد بعمره عادة ما يكونوا أكثر غيرة منه على أمهاتهم من العشاق الجدد، في نظرهم هم ليسوا إلا وحوش تخطف أمهاتهم. وددت لو تزوجت أمه لمنحه أبوة مفقودة لكن سرعان ما تبخر هذا الهاجس المثالي حالما ظهرت أمه بتنورة جينز قصيرة. قادتني لغرفتها في الطابق العلوي بعد أن تركته يتفرج على فلمه الكارتوني المفضل. صاحت وهي تصعد أمامي بغنج: "عليك البقاء في الصالة، فكل ما تريده موجود في الثلاجة. أوكي؟".
- نعم ماما، أعرف ذلك، رد عليها وكأنه عاش هذا المشهد مرارا.
لم أطأ بيتها ثانية تجنبا لرؤية ابنها، وفضلت لقائها في شقتي فقط. هربتُ من مواجهة حقيقة قاسية، فجسدي المغروس في أرض أخرى يجعلني لا أختلف كثيرا عن هذا الطفل الذي لا يعرف أبيه.
أبوة...
تضمحل قوة الأصلاب والأواصر العرقية لو تحققت الإنسانية الكونية، حلم تناغم كل الألوان في لوحة الكون. حينها يعيش الإنسان أينما حب، بلا قيود، بلا فوارق طبقية، بلا استعمار، بلا حدود، بلا غزوات، بلا اضطهاد، بلا قتل. يحيا بلغة واحدة كالأنغام، كالحب. لكن ألا تغلف حلم اليقظة هذا السخرية عندما أكون لطخة تحيل أديم أرض غريبة إلى ما ليس هي عليه؟ لعنة هذه اللطخة قد يواجهني بها أي كندي يمتعض مني لسبب ما، يصرخ بملامحي: "أرجع إلى بلدك أيها المهاجر". هل يبقى لحلم كهذا أي جدوى حينما يقع احتلال ما؟ فلم تكف الاحتلالات والغزوات عن اجتياحها لعالمنا حتى هذه اللحظة. وبلادي جل ما تعرف الاستعمار.
غزو...
كنت أرقب الجحافل الأمريكية ومعاونيها من الدول الأخرى وهي ترج اليابسة والماء والجو بزحفها المهول نحو الوطن. أتسقط أخبار البلاد المصهورة بحرب جديدة. قرروا لها أن تكون قاصمة، فقد عزموا على إسقاط الطاغية فعلا.
في أحد أيام الترقب تلك أخذت امرأة حامل مع أختها إلى المستشفى. كانت ساعاتها الأخيرة للولادة قد أزفت. في الطريق إلى المستشفى توقفنا بسبب مرور قطار بضائع طويل. صراخ المرأة يتعالى مختلطا مع صوت احتكاك عجلات القطار وصوت المذياع الذي كنت دائما أتركه يعمل أثناء قيادتي للتاكسي إبان ذاك الزمن الرهيب المندوف بالقلق والترقب.
كنا غارقين في بحر من السيارات من كل الأنواع. بعضهم أطفأ المحركات وآخر تركها تعمل مما أضاف على المكان صخبا ملوثا بسموم تنفثها عوادم السيارات. تلوت الحامل من آلام الطلق، وراحت تعصر مسند الرقبة الأسفنجي للمقعد الأمامي، وتفرج ساقيها. وبعد اشتداد الألم وضعت حافظتها الجلدية الصغيرة في فمها وتمددت على المقعد الخلفي دافعة الباب بساقها اليسرى. فتحتُ الباب كي لا تحطمه. أما أختها التي وقفت خارج السيارة فسيطر عليها القلق والارتباك. كل ما تقوم به هو التحدث بهاتفها النقال، مرة مع زوج أختها وأخرى مع أمها.
"اطلبي الإسعاف أرجوك، فقد تلد في أي لحظة"، قلت لها بصوت يلفه التذمر.عالجتني بنظرة فجة مفادها الامتعاض من أسلوبي الآمر لها وكأنها ودت القول: "عليك أن تتفهم الموقف وتخرس. فعداد التاكسي يعمل". ثم بدأت تضغط بمضض على رقم الإسعاف (911). بدا عليها التردد وهي تتصل، فتكاليف سيارة الإسعاف باهظة، لهذا تختار الأمهات الذهاب بسيارة أجرة إلى المستشفى إن لم يكن لديهن تأمين صحي.
بعد فتحي للباب تشجع الناس المحشورين في السيارات المجاورة لمعرفة ما يدور. انقسموا بين فرح بالولادة وبين قلق على الأم وبين من يأسف لحظها العاثر لولاتها بهذه الطريقة.
قذفني المذياع بخبر عاجل ( دخلت الدبابات الأمريكية إلى شوارع بغداد...). ارتسم القلق على سحنتي، ترجمته إلى انزعاج مما يحصل في سيارتي، وصرت ألعن القطار لقطعه طريقنا نحو المستشفى، وأيضا لسده طريق سيارة الإسعاف التي كنا نسمع صفارتها وهي عالقة في الجانب الآخر من القطار. لم يدرك أي من المتجمهرين السبب الحقيقي لانزعاجي المفاجئ فقد كنت الوحيد من بينهم الذي يصيخ السمع للمذياع رغم الصخب الذي يلف المكان: صوت القطار، طلق الأم، أصوات محركات السيارات المجاورة، أصوات المتحولقين حولنا.
حضرت سيدة يبدو أنها ممرضة وقالت إن الجنين سينزل بعد لحظات فهناك سوائل أسفحت على جسدها. ثم سألت أخت الأم إن كان لديها منشفة أو أي قطعة قماش لمنع اتساخ مقاعد السيارة بالدم. أعطتها منشفة صغيرة وثوباً. لفت السيدة الثوب على هيئة أسطوانة ووضعته في فم الأم بدل الحافظة. طلبت من الحامل أن تدفع الجنين. تلقف الحشد تلك الكلمة وراح يصرخ بصوت واحد وكأنه يشجع فريقه: Push. Push. أدفع. أدفع...
رغم الصخب الطاغي على المكان، إلا أن أذني ظلتا مشدودتين لصوت المذياع. سمعت إعلان تهشم تمثال القمع وسط بغداد وأنا أقف مشدوها أراقب الجنين وهو يتنفس الهواء أخيرا.
وصل الغيث بينما رأس الجنين يشق طريقه خارج رحم أمه. قصوا الحبل السري في سيارتي الممتلئة بمخلفات الولادة. أخذوها للمستشفى ولم أشأ سؤال أخت الأم المربكة عن أجرتي. ذهبوا جميعا وتركوني حائرا بكيفية إزالة بقعة الدم الكبيرة على المقعد الخلفي.
قفز خبر يقول إن الدبابات الأمريكية تتجول في بغداد فيما كنت منهمكا بإزالة الدماء الكثيرة مستعينا ببرميل قمامة مطبخي. نظفت سيارتي في مرآب العمارة التي أسكن فيها، تحت أحد أعمدة الإنارة. شاهدني بعض الفضوليين من شرفاتهم وأنا أعصر منشفة كبيرة منقوعة بماء حائل للحمرة خارج السيارة، يرمقونني بوجل وكأني قاتل، مستغربين من كمية الدم حيث تحتم علي إملاء برميل القمامة البلاستيكي عدة مرات بالماء لإزالة الدماء.
لم آبه لهم لو لم تكن كاندي من بين المتفرجين. وددتُ لو صعدت إلى شقتها وأخبرتها عن سر هذه الدماء. أرتمي في أحضانها. أحرر دموعا محبوسة وملغومة بحسرات مخنوقة. هل أستغل تلك المناسبة وأطرق عليها الباب لأشرح لها سبب إزالة هذه الكمية من الدماء؟ قائلاً بلهجة الخاسر: "لقد احتلوا وطني!".
راودتني تلك الفكرة لبعض الوقت. فضلت الاستعانة بقنينة بيرة لتمنحني بعض الجرأة، وسبك قصة أكثر تشويقا لإثارتها. بعد كل قنينة أكرعها أقول لنفسي: "تلك الأحداث ليست بالمثيرة لديها". ثم أعيد صياغتها بطريقة أخرى، مضيفا بعض البطولات لنفسي كأن أكون أنا من ساعد السيدة الحامل على الولادة، وأنا من قص حبل المشيمة قبل مجئ سيارة الإسعاف. وأتبجح مستعرضا بطولة زائفة بعزمي العودة إلى بلدي للدفاع عنه ضد الغزاة. لكن بعد تخدير إحساسي بالمحيط وبزوغ نشوة الثمالة اللذيذة، أخذت السخرية تفوح مع أنفاسي. حينها واجهت ذاتي: "ماذا يعني لامرأة بهذا الجمال والرونق أن يحتل بلد يبعد آلاف الأميال عنها؟".
امرأة لا تشبه معظم الكنديات الصاخبات النزقات البارعات بعرض مفاتنهن. فهي رائعة بصمتها الجليل الموشي بالرزانة وسلام الروح. مما يجعلني أتردد قبل اقتحام سكونها وسلامها. لم أسمع لها أي صوت حتى وهي ترد على سلامي من بعيد في المرات التي يحالفني الحظ برؤيتها وهي في طريقها إلى الخارج أو إلى شقتها، ترد علي بكلمة (هاي) ليس لها رنين آدمي أسمعه، بل رنينها العذب يخترق قلبي رافعا من صخب إيقاعه.
اقرأ تحيتها على فمها النابض بالجذل، ترفقها تلويحة من يدها الناصعة الرقة، محركة أناملها الأربعة كمن يعزف على بيانو. عرفت اسمها من لوحة نظام الاتصال الداخلي المثبتة عند باب العمارة حيث يوجد زر لكل مسكن يقابله رقم الشقة واسم الساكن. 204 Candy -. حلوى. اسمها فقط يسيل اللعاب، فكيف عيناها العسليتان، شعرها الأحمر المنساب باسترخاء بهي على كتفيها، طلعتها المتوهجة الباهرة، ابتسامتها المشعة عذوبة ونضارة. شقتي 104 يعني أنها تسكن فوقي مباشرة. امرأة من الحلوى تقطن فوقي وأنا أحضن مراراتي!
أنهيت ليلتي وأنا أبوح دموعي للفراغ وباقي الرفاق الأزليين: الوحدة، القهر، الخسارة ومن لف لفهم. احترقت بلوعة العجز عن تغيير أي شيء بل حتى العجز عن إنهاء حياتي. قاومت رغبة دفع رأسي تحت سطح الماء لمدة كافية لسد منافذ استنشاق أوجاع الحياة التي صارت مثل الهواء. أغطس وأطفو مذعورا قبل أن يغمر الماء أحشائي. لا أحتاج أكثر من ثلاث دقائق كي أنهي ألمي وتذمري المتناسلين. لطالما غصت تحت الماء وأنا استلقي بسكينة وخنوع على ظهري في حوض الحمام كوسيلة مثلى لإطفاء شعلة القهر في جسدي، لكن سرعان ما أخرج رأسي متلهفا لاستنشاق الهواء. إنهاء الوجع يجب أن يكون خالياً من الألم. ممتع مثل جلسة سكر. تتخللها ثرثرة ومقبلات شهية. بوح طويل وتسجيل بكاميرا فيديو. حفلة إزالة الأنين بهذه الطريقة صارت هاجسي الجديد بعد أن أيقنت ذاك اليوم عدم قدرتي على الانتحار غرقا.
اضطررت للتوقف عن العمل في اليوم التالي أيضا بسبب تبلل المقعد الخلفي. كما أني كنت منهارا لما آلت إليه أوضاع البلاد. لم أكن لأستوعب مفارقة سقوط الطاغية باحتلال، انهيار دكتاتورية وتشييد مستعمرة. الطغيان مرض عضال، لا ريب، لكن ما فائدة استئصال مرض بآلات ملوثة بجراثيم فتاكة؟
هذا الاحتلال اعترض درب الثورة التي كانت ستنفجر عاجلا أم آجلا. كما انفجرت سابقا، عام 1991، وساهمت في إخمادها الجيوش الأجنبية والعربية بتفرجها على قوات الحاكم وهم ينسفون المدن والقرى بأهلها.
تسرب الخبر إلى الإعلام خلال ساعات، وسمعت عنوان الخبر المثير ( ولادة عسيرة في مفترق الطرق). ما كنت أفكر فيه حينها هو أجرتي. فقد كلفتني تلك الرحلة دخل يومين. خجلت من البوح بذلك للصحفي الذي أتصل بي ليسألني عن قصة المرأة التي سقط رأس جنينها في سيارتي.
صرت أشهر سائق تاكسي في المدينة. تحدث الناس عن الخبر لأيام. فيما بعد سألني الكثير من زبائني عن ذاك السائق الذي تحولت سيارته إلى ردهة ولادة لأفاجئهم بأني هو السائق بعينه. يبدون فرحهم لمعرفة ذلك، ويغرقونني بأسئلتهم عن التفاصيل.
في اليوم التالي أتصل بي الأب وسألني عن اسمي ليمنحه لبنته تخليدا لذكرى ولادتها في سيارتي وامتنانا لي. قلت له: "حسين، وهو للرجال فقط". لم يأبه لذلك. تدرب على التلفظ: هاسن، هوسين، هسين.
- نعم هسين، قلت مستسلما لرغبته.
سمعت من المذياع بعد أيام أن الطفلة هسين تعاني من ضيق تنفس ومشاكل صحية أخرى. مولودة لا تستطيع التنفس بسهولة في هواء تلوثه الحروب.
حرب...
أكره الحرب وخرجت مع المتظاهرين المنددين بها رغم معرفتي أن البعض من الجالية العربية والمسلمة يرفضها نكاية بأمريكا أو حبا بالنظام. تناغموا مع موقف الجالية العراقية رغم اختلاف الدوافع.
نحن ندرك بشاعة الطاغوت، فهو لا يرف له طرف إن أحترق ما تبقى من الوطن لتغذية وهم الصمود والكبرياء، والحقيقة هي السعي لتأبيد عرشه بأي ثمن. فصار يعد جيشه المتهالك والمعبأ بسلاح بائس لمقارعة جحافل مدججة بأحدث آلات العصر المريبة. ما كان من هذا الجيش المتهاوي والمنخور بالحروب الخاسرة، إلا التبخر بين ليلة وضحاها بعد دخول الدبابات إلى العاصمة.
بدأت بعدها مرحلة النسف الجماعي على أيدي فؤوس الظلام المراهنة على إطفاء أي بصيص وهج يلوح في الأفق. أيادي تشابكت لقمع الأمل: كلاب ملك القسوة الساقط توا من عرشه، وحوش تفسر اللاهوت بالدم، ضباع المليشيات بمختلف الرايات والمدعومة إقليميا. في مقابل كائنات آلية غريبة تدعي ترسيخ الأمل لكنها مرتبكة وخائفة وتتقن التعامل مع آلة الحرب أكثر من تعاملها مع البشر، ترفع شعار التغيير لكنها تريد قلع كل شيء من جذوره بعنجهية، غير آبهة بالنتائج، وترمي كل من يعترضها حتى لو كان مظلوما يرفض الغريب المتحكم بأرضه.
صار الوطن عبارة عن لغط مشحون بالدم، غموض قاتل. من يقتل من ولماذا؟ كل يرفع السلاح باسم الوطن والشعب المنكوب دوما يرفع النعوش.
في لحظة الغزو راودتني فكرة وحيدة، الدفاع عن البلد، كرد فعل. حتى إني بدأت أثور بوجه كل من يبرر الاحتلال على أنه حقق حلمنا بتلاشي الكابوس. أطلقُ كلماتي المطحونة بالعبرات مؤكدا: "لكن بثمن باهظ".
ردة الفعل الأولى حددتها المفاهيم النظرية للاستعمار والمقاومة. كنت متصورا أن كل من يرفع شعار المقاومة هو سام وفوق الشبهات. له صك غفران يمنحه إياه الوطن لتضحياته الكفيلة بغسل الذنوب. لكن عندما نظرت إلى كامل المشهد وجدت نفسي الوجه آخر لذات العملة، سواء كانت عملة مؤيدي التغيير أو العكس. فالذين يبررون الاحتلال يستندون إلى ذات المنطق الاستدلالي الذي قد يكون مقنعا نظريا لكن على صفيحة الواقع المرة ليس كذلك، يقولون: "لولا الاحتلال لما تحطم صنم الرعب". غير آبهين لحقيقة كون الاحتلال لم يفعل هذا من أجل العراقيين. والمنطق عينه يوظفه دعاة المقاومة (لا يوجد احتلال بلا مقاومة)، ويصموا آذانهم حينما أرد: "لكن ليس كل من يقاتل الاحتلال وطنيا. فقد يسعى البعض لدحر الجيوش الغازية من أجل استرجاع سلطة مفقودة أو لبناء نظام شمولي، متطرف، مذهبي لا يقل قمعا وقهراً عن السابق".
انعطافة الأحداث في هذا المنحنى أربكت قناعتي وجعلتني أحاكم نفسي، هل أؤيد مقارعة المحتل وأقف بجانب هؤلاء الذين يقاتلونه للعودة إلى سلطانهم الضائع متواطئين مع المتعطشين لدماء غالبية الشعب، أم أقف مع باقي الشعب الرافض للاحتلال سلميا بتشبثه بعملية سياسية هشة يقودها مرتشي أو قائد مليشيات أو متطرف أو سائس للدسائس، أم ارضخ لليأس المطبق من أي أمل بالتغيير، وقتل الاهتمام بما يدور، والتنصل حتى من الانتماء للوطن.
آثرت اختيار أهون الشرين متضامنا مع الغالبية العظمى من الناس، إيمانا بسلمية العمل السياسي. حركة بطيئة نحو التغيير في درب طويل. لكنه على الأقل يبعث بصيصا بالخلاص.
احتلال البلاد عاصفة هوجاء اجتاحت رأسي. والأكثر هيجانا منه هو تيار الموت العاصف الذي حصل فيما بعد. صار صباح العراق لا يحل إلا ببركان يحصد الأبرياء. ذبح، تفخيخ، خطف، تعذيب، اغتيالات، اعتقالات، سرقات، تخريب، ظلام، إعدامات، وغيرها من مظاهر جعلت البعض من العراقيين يتنكر لعراقيته. فبعضهم لا يقوى على مواجهة سيل الأسئلة: لماذا تقتلون بعضكم البعض؟ هل الدكتاتور هو الحل الأمثل لكم؟ من تؤيد من الجهات المتحاربة؟ هل أنت سني، شيعي، كردي تركماني، مسيحي، آشوري، سرياني، أزيدي، صابئي؟ هل أنت مع هذا أم ذاك؟ هل تتبع هذه الجهة أم تلك؟... مما دفع الضعفاء لأن يتخلوا عن الوطن ويستعروا منه.
دائما أفتخر بعراقيتي مؤكدا أن ما يحدث ليس للشعب يد فيه، فهو ضحية عوامل ظرفية وتاريخية. رغم إصراري على انتمائي للعراق أمام الآخرين، إلا أني لم أجب على السؤال الذي غرسه حسين في داخلي بقصصه عن تاريخ العراق (هل أنا مواطن أصلي في بلاد الرافدين؟).
بلاد...
أعيش وحيدا وبعيدا عن أرض الولادة، وتلك التي أنحدر منها أجدادي. أحيا على تراب يختلف تماما عن ذاك الذي أنعجنت به أنفاسي. لا أتحدث لغتي. لا أستطيع ارتداء ملابسي التقليدية إن رغبت بذلك. أجبرت على التناغم مع هيئة المجتمع بحش لحيتي والشوارب تماشيا مع الذوق العام وتخوفا من لصق تهمة التطرف بي. تطبعت على تفاصيل حياة يومية وسلوكيات دفنت الطباع الأولى. لا يوجد أي من عائلتي أو أصدقائي القدامى أو أقاربي. لا احمل حتى اسمي الحقيقي. طبقات من القشور المزيفة تتراكم على سحنتي فضاعت سحنتي الأصلية؟
وشائجي شمعية مع بلد المنفى، هو لا يعدو إلا مأوى. حتى وطني الذي ولدت فيه وتربطني معه حبال متينة من اللغة والثقافة والأهل والطقس والتضاريس يرميني بحقيقة مرة من فوهة التاريخ تقر بأني طارئ على أرضه. فجدي الأول كان مجرد صبغة لونت سطح الأرض بأصباغه المستوردة مشابه لما أفعله الآن في كندا. مجرد لون داكن يتراكم على نصاعة الهوية الأصلية لأرض الهنود الحمر. هذا ما واجهني به أحد السكان الأصليين عندما سألته عن رأيه بالمهاجر.
- لطخة صبغ تساهم في ضياع ملامحنا، قال لي بحزن.
يا له من وجع! أرفض الاستعمار وأنا نفسي أساهم في تغيير طعم بلد آخر. هل عانى جدي الأول الذي جاء بعد غزو أرض الرافدين قبل أربعة عشر قرنا هذه الثنائية في الهوية؟
لا أريد زراعة جيل من نسلي في أرض غريبة. لكن هل عليّ العودة إلى العراق كي أحافظ على نمو أغصان الشجرة في ذات الهواء، أم الذهاب إلى البلد الأصلي، أرض البذرة الأولى؟ حتما سأكون عرضة لنزاع من نوع آخر في أرض الولادة، فعيشي هنا لأكثر من عقد من الزمان علمني الكثير: النظام، القانون، التعامل الإنساني، القيم المتحضرة، الدستور الحديث، المدنية العالية، احترام المرأة، حقوق الإنسان. كلها مكتسبات مدنية، سواء اتفقت معها أم لا، لكني ألفتها وعشت في ظلها، وهي مما لا توجد في بلادي. إذن سأكون ساحة لصراع من نوع آخر.
أما الذهاب إلى البلد الذي هاجر منه جدي الأول، لإعادة السلالة إلى أرضها وسمائها الأولين، سيخلق صراعا من نوع آخر بل أكبر. سينظر إلي الناس كمهاجر ويسخرون مني إن قلت: "إني عائد إلى وطني الأصلي". فضلا عن معاناتي من اختلاف لهجتهم وتقاليدهم وبيئتهم عن تلك التي نشأت فيها. ماذا عساي فعله، إذن، كي أعيش كمواطن أصلي لا يعاني هذا الفصام الذي يهرش روحي؟ روحي التي تنخرها أرضة الموت؟
موت...
هطل الموت كالمطر الأسود على سفوح الوطن. موت متعدد وبلا سبب. حتى صار التوحش صورة ملازمة للعراق في أقبية الإعلام، مضاعفا ألمي. لحظت ذلك عند زبائني حينما يكون العراق موضوع حديث عابر لتزجية وقت الرحلة، يعني عند أغلبهم التوحش والقسوة، وهو مرتع التفخيخ والقتل والعنف والتمرد.
روعتني مرارة هذه الحقيقة، ومما زاد في وجعي هو أن العراق غدا وكأنه المكان الأوحد للإجرام. أكدتها مرة زبونة مسنة عندما صرخت: "إن كنت بهذا الجنون فاذهب إلى العراق واقتل نفسك هناك"، قالتها مخاطبة سائق طائش مرق مسرعا بسيارته من أمامي، وكدت أصطدم بها.
لم يسمعها أحد غيري، فالسيارة الأخرى التهمت عدة كيلومترات عندما قذفت السيدة عبارتها عائدة فورا لصمتها. لم أشأ مناقشتها وتبيان خطأ معلوماتها عن العراق. قد ترافقها هذه المعلومات الخاطئة إلى حين أجلها.
كيف أغير قناعة حشد كبير من المسنين الذين سيموتون قبل معرفة حقيقة كون العراق ليس كما يصوره لهم الإعلام؟ كيف يمكن إثبات أن الشعب العراقي منذ الأزل وهو ضحية تتنازع عليها الدول، خصوصا الجيران: عرب، فرس، ترك؟
أشد ما يحزنني هو أن هذه الصورة الإعلامية تلتصق في ذهن الكثير من الناس. نعم، هناك عنف جم في العراق منذ آلاف السنين وللآن. وقد عانى من وطأة دكتاتوريات رهيبة، آخرها سقط بغزو مدمر. لكن العنف ليس ملاصقا للشخصية العراقية بقدر ما هو رد فعل جمعياً على تراكم القمع والاضطهاد الممتد عميقا في تاريخ أرض السواد. اضطهاد لا يشبه غيره. قسوة منقطعة النظير مارسها طغاة من كل الألوان والأديان على المجتمع العراقي.
بيئة العراقي ليست لها مثيل في أي بقعة أخرى، عليه تكون ردود الأفعال على القسوة لا تشبه غيرها. العراق مثل فتاة مغتصبة تناوب عليها الجميع لإذلالها وانتهاك حرمتها والتمتع بمفاتنها؟
وطن ينزف على الدوام، لم يحكمه أبناؤه لأكثر من ألفي عام، منذ سقوط الدولة البابلية الثانية علي يد الدولة الكيانية الفارسية سنة 538 قبل الميلاد ولغاية سقوط آخر ملوك العراق. فبعد سقوط بابل على يد الفرس الذين حكموا أرض الرافدين لقرنين ونيف جاء اليونانيون وسيطروا على البلاد، ومن بعدهم حكم السلوقيون لأكثر من قرنين. ثم غزت الدولة البرتية الفارسية بلاد الرافدين منهية الاحتلال السلوقي لتحكم لغاية 226 بعد الميلاد. بعدها بدأ عهد الساسانيين الفرس مستمرا لغاية أن طردهم السيف العربي الإسلامي ليحكم البلاد خلفاء غير عراقيين حتى سقوط بغداد على يد المغول الذين دام سلطانهم مع التتر والتركمان حتى عام 1502. بعدهم حكم الصفويون والعثمانيون إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ليرضخ العراق تحت الحكم البريطاني. بعد ثورة العشرين يستلم الحكم ملك من الحجاز وتظل حكم المملكة حتى سقوطها بعد الانقلاب العسكري عام 1958 ليفتح عصر دكتاتوريات المؤسسة العسكرية يقودها، أخيرا، أبناء البلد. وهم ليسوا أقل قسوة وقمعا على الشعب من الغرباء. ينتهي آخر هذه الدكتاتوريات باحتلال أمريكي.
هل يمكن تخيل حجم الخراب والظلم والقمع الذي يتعرض له شعب يخضع لكل هذه الاحتلالات الممتدة لأكثر من خمسة وعشرين قرنا؟ كيف يمكن أن تتصرف قطة حُشر رأسها في علبة صفيح؟ ألا يكون لكل تلك الطُغَم الغريبة المفروشة على وسع تاريخ البلاد دور في تكريس التوحش في أرض السواد؟ كيف لا نسمى شعب بالضحية عانى شتى أنواع القتل والذل والقهر والحصارات؟ والآن تضاف دولة أخرى، أمريكا، للمنافسة على احتلال البلاد مشاركة القوى التقليدية التي افترسته واستعبدته لعهود طويلة.
قرون من الاستعباد والقمع والتشريد والموت الجماعي والنهب والاستعمار والدكتاتوريات، هي أمراض تفشت وغاصت عميقا في لحم البلاد المندوف بالقهر واللطم. ولكي يتعافى جسد البلاد وتُرمم أجزاؤه المتهالكة، يحتاج لزمن طويل يوازي طائلة المرض المستفحل فيه. بعدها، حتما، ستتغير تلك الصورة المروعة عن العراق. لكن، كيف يعم السلام وكل طاغية يأتي يحرق حطبه بنار من سبقه ليبقى الوطن مستعرا بالموت؟
القسوة نتيجة حتمية للظروف المواتية لها. فأساليب القتل المتوغلة في البشاعة تكمن في ثنايا كل مجتمع يمر بمرحلة مظلمة. ولا يستثنى أي شعب من هذه الحقيقة، حتى أكثرها تحضرا. فقد مرت الشعوب المتقدمة مدنيا بفترات حروب جعلتها تبرر القتل الجماعي والإعدامات.
و جرائم النازية بحق الملايين الأبرياء من اليهود، مثال شاخص دوما، لا يمحى من ذاكرة التاريخ. وكذلك جرائم أمريكا بقصفها المدن اليابانية وقتلها لمئات الآلاف خلال دقائق. حتى كندا التي تعيش فيها هذه العجوز وتريد من ذاك الطائش الذهاب إلى العراق لممارسة تمرده، تأسست على أساس محاربة السكان الأصليين واحتلال أرضهم بالقوة واغتصاب الكثير من فتياتهم. لحقتها بعد ذلك فضيحة المدارس الخاصة المخصصة للأطفال الهنود حيث يتم سلبهم من أهليهم واحتجازهم في مدارس لتعليمهم الإنكليزية والدين المسيحي، ومنعهم من ممارسة طقوسهم والتحدث بلغتهم. حدثت خلال السنين الطويلة من حجز الأطفال في هذه المدارس الكثير من حالات الاغتصاب مما اجبر الحكومة لإغلاقها والعمل على تعويض الضحايا.
نعم، كندا الآن ليست كالسابق حيث تغيرت القوانين والظروف. مما يتبعها حتما تغير الإنسان ظاهريا. حاليا هو أكثر لطفا وإنسانية من المستوطن الأول، البريطاني أو الفرنسي. الكندي مثل أي فرد آخر، يمتلك بذرة الجريمة في داخله لكنه يقمعها بقوة احترامه أو خوفه من القانون. الشعوب تتحضر وتؤمن بالسلام واحترام حقوق الآخرين بالتدريج ووفق التحول المجتمعي الشامل. وما زالت الشعوب تخلق قوانينها وتشرع السنن التي تحترم حقوق الإنسان والحيوان والبيئة. يتهذب سلوك الشعب بالقانون وليس القناعة الفكرية أو الروحية.
أهم عامل يعمق الهوة بين المجتمعات الغربية والشرقية عند مقارنة نسبة العنف في المجتمعين هو الوقت. فالعنف لا يتأصل في المجتمع، أي لا يرتبط به حتميا. العنف مثل نزوة تعتري المجتمع كتحصيل حاصل. وعليه يكون حاضر العرب يشبه ماضي الغرب.
بعض المؤسسات الإعلامية المسيسة كالتي خضعت لبثها هذه العجوز تبلور خطابها على أساس أن بعض الأيدلوجيات والديانات تبرر العنف، وبالتالي تصف أي مجتمع يتبنى ذاك الدين أو الايدولوجيا بالعنف بشكل مطلق. هذا تجني بل هو ضرب من العنصرية. محاكمة كل من ينتمي لمجتمع ما على أفعال المنظومة التي تسيطر عليه بغض النظر عن القناعات الشخصية للفرد، هو تعميم وتنميط أعمى. فليس من العدل محاسبة العراق مثلا على أفعال المنظومة الإسلامية بكل راياتها المتطرفة التي تمارس القتل المجاني لكل من لا يسير في دربها، والتي هيمنت على البلاد بعد سقوط منظومة الرعب.
ولا يمكن، مثلا، محاسبة كل المجتمع الكندي على وجود جماعات عنصرية وإجرامية ينبذها غالبية الكنديين. مثل جماعة البيض المتفوقين التي تعادي اليهود والمسلمين وأي عرق غير أبيض. إضافة إلى عصابات الجريمة المنظمة مثل عصابة ملائكة الجحيم وعصابة بانديدوس.
قبل وصولي إلى بيت العجوز، هممت لطرح بعض هذه الأفكار عليها، لكني لاحظتها بالمرآة الأمامية وهي تغط في نوم عميق. وحينما أصبحت قبالة بيتها، أخبرتها بوصولنا. كررت عبارتي بصوت أعلى. ربتُ على كتفها لإيقاظها فلم ينفع. بدت كالمغمى عليها. طرقت باب منزلها علي أجد من يعينني. طرقت كثيرا، لكن لا فائدة. ثم طلبت المساعدة من شركة التاكسي. قالوا: "خذها إلى المستشفى وهم سيتكفلون بالأمر". ذهبت إلى هناك. نقلها بعض المرضيين على نقالة إلى المستشفى. بعدها لم أعرف مصير تلك العجوز. هل كانت نائمة في سيارتي أم إنها فارقت الحياة قبل أن تتاح لي فرصة طرح الحقائق التاريخية أمامها؟
تاريخ...
هل يكفي الكشف التاريخي لتغيير القناعات، سيما تلك الراسخة بقوة التأثير الجمعي أو تلك التي غدت عقائد؟ ما هي ضرورة معرفتنا للحقائق التاريخية؟ هل هي فقط حاجة أكاديمية لا تقدم نفعا على صعيد الواقع الفعلي المعاش؟
الاكتشاف لا يشكل لحظة تحول فكري عند الناس الذين يؤمنون بحقيقة تسمو إلى مصاف العقيدة حتى لو اتفق عليه العلماء. يكون لتغيير الحقائق جدوى فقط عند الناس الذين يمتلكون ذهنية مرنة قابلة للتغيير. لا قيمة للحقيقة الجديدة عندما لا يوجد من يصدقها. وأكثر الموضوعات العلمية المعرضة للتزييف والدحض والتشكل وإعادة التشكل هي موضوعات التاريخ لعدم خضوعها للتجربة لأن المعرفة التاريخية تعتمد على الأدلة العقلية والنقلية وليست التجريبية. بالطبع الآلة ساهمت بشكل كبير بتحديد عمر اللقى الأثرية وعمر الإنسان وما حدث من تغيرات طبيعية لكن لا يتمكن العلم من الجزم مثلا بصدق ما قالته شخصية دينية قبل مئات السنين مثلا.
لا يمكن الوثوق من صحة أحاديث تلك الشخصية دون الاستعانة بالمدونات التاريخية المتوفرة. وتكون الحقيقة أبعد ما يمكن عن المنال إذا كانت هذه المدونات قد دبجت بعد عشرات السنين من الزمن الفعلي لقول الأحاديث، وتم تناقلها شفاها من شخص لآخر. ومما يفاقم التعمية والإبهام هو استفحال التنازع بين الموثقين طائفيا، وكذلك غياب توثيق محايد من خارج إطار هذه المنظومة. البعض يقرأ التاريخ كحقائق مطلقة كالمتدينين، حيث إنهم يسلمون بكل ما موجود في بطون المراجع، ويخضعون له كسنةٍ.
دين...
أللاهوت يدجن المؤمنين به ويجبلهم على الإطلاق والشمول، ويحيلهم إلى مريدون، أتباع، عباد، خدام، مطيعين. تتصلب رؤوس هؤلاء كلما حوكمت قناعاتهم التي هي عقائد يحرم مسها. حوارهم مع الآخرين للتبشير فقط وليس للبحث عن فكرة جديدة أو لمراجعة أفكارهم. فعل التفكير هو فقط لتكريس نتائج جاهزة، مؤكدة لديهم. أما من ينقش وهج الأسئلة على صلادة رؤوسهم فهو هازئ بدينهم و كتابهم المقدس.
خسرت الكثير من أصدقائي بسبب مداولة هواجسي معهم. وآخرهم كان حميد بعدما أطلقت رأيي عن تأسيس الدولة القائمة على الدين. كان مجرد رأي، كلمات، بإمكاني تعديلها وتغييرها إن اقتنعت بالرأي المعاكس. حيث لا تعني لي الفكرة إلا وجهة نظر قابلة للدحض والنقاش والتمحيص والتغيير، لا تربطني معها أواصر عقائدية أو أيدلوجية. ولا وجود لرقيب على مجرى أفكاري غير عقلي المتشكل على أساس العلم والتجربة الشخصية والإطلاع على التجارب الإنسانية، متفقا مع نيتشة بكون الاعتقادات الراسخة هي أعداء العقل. أما حميد فباب العقل لديه مثل مصفاة تغربل أي حقيقة تتعارض مع صورة الكون المطلقة المرسومة سلفا في مرسم العقيدة.
قلت له وأنا أراقب شابا ثملا يضع سماعتين على أذنيه ويتراقص مع أنغام موسيقى لا يسمعها إلا هو: "تأسيس الدولة على الشريعة يخضعها للمذهبية، وتصبح الدولة ظالمة لفئة معينة من الشعب".
رد من المطبخ وهو يعد لي الشاي: "لا يحدث هذا دائما. فإن اتفقت المذاهب على أصول الدين الواحد وتشريعات مؤسسها الأول ستبنى دولة دينية قوية تحترم كل مكونات الشعب".
قلت: " كيف يكون الاتفاق وهناك تباين دائم وجلي حتى على الأساسيات والسنن الأولى التي سنها صاحب الدين، وتبعه اختلاف بين الموثقين الأوائل في تلك الفترة وما لحقها؟".
كنا نتحادث وكلٌ منا في مكان. حميد مازال في المطبخ يغسل أقداح الشاي، وأنا واقف قبالة شباك الصالة، في شقته المطلة على الشارع العام، أتفرج على رقصات الثمل الذي وقف يعالج جهازه المربوط بإذنيه بسلكين أسودين بعد أن كف عن الرقص.
- أنا أقول في حالة الاتفاق، رد عليّ.
- ولماذا لم يحدث أي اتفاق في أي دين للآن؟
- هناك من يرفض الإيمان بوجود سلالة نقية منبعها الجذر الأول للدين. وهذه السلالة قد صانت أساس الرسالة. ورجالها المعصومون هم الذين حفظوا أصولها. وهم من توارث التعاليم الأولى من جدهم.
- يا عزيزي حميد! أنت تتحدث عن دين بعينه. سأتفق معك جدلاً بأن التوارث حافظ على أصالة الشريعة. لكن أليست هذه دعوة للآخرين لرؤية العالم من خلال شرفتك المؤطرة بتراث عقائدي تراكم وتعمق بفعل قرون من التنازع السياسي؟ شرفة كانت قد سحبت طرف سجادة الدين لساحتها فيما آخرون سحبوا طرفا آخر. ومع الزمن وتعدد الزعامات الدينية وتنازعها وتنامي القمع والنسف، أخذ كل واحد يشد سجادة الدين لمنطقته، وكل يدعى أنه الفئة الناجية.
- لا، بل هي دعوة لإتباع تعاليم متوارثة من الأصل. وتم نقل هذه التعاليم بلا تحريف على لسان أئمة أجلاء، لم يعصوا ربهم إطلاقا، ولهم كرامات كثيرة.
- تقول إنهم توارثوا التعاليم والسنن الأولى أبا عن جد. حتى لو كان عمر أحد هؤلاء ثمان سنوات عندما مات أبوه! هل يعقل أن يتسنى لطفل بهذا العمر حفظ كل تعاليم الدين والشرائع الأولى من أبيه؟
تنهد كمن سئم تكرار حقيقة معروفة وقال بثقة: "نعم. لم لا؟ فهم توارثوا العلم الإلهي والكرامة من جدهم".
- ألا تمنح الكرامات والمعجزات مباشرة من الإله؟ ولو كانت متوارثة لأصبحت كل الذرية بما فيها النساء هم أصحاب كرامات.كما أن المؤسس الأول لم يورثه رجل. والمعروف في تقاليدنا أن السلالة تنحدر من الذكور فقط.
- يبدو انك تجهل الكثير، ألا تعرف إن هناك نبي ينحدر من سلالة الأنبياء وليس له أب. يصح للأنبياء والأئمة ما لا يصح لغيرهم. وهم أصحاب معجزات وكرامات.
مر رجل في عجلة من أمره حاملا حقيبة على ظهره من أمام الشاب المنشغل بإصلاح جهازه. أستوقفه الشاب. الرجل يرفع يديه ويقربهما من بعضهما ثم يبعدهما بحركة تعني النفي، يبدو أنه كان يقول: "لا، لا أعرف إصلاح مثل هذه الأجهزة"، أو: "لا املك"، أو ربما: "لا أدخن".
- لكن يا حميد، كيف يتسنى لنا، الآن، معرفة تلك المعجزات والكرامات؟
- لا ادري ما سبب إصرارك على طرح تساؤلات ساذجة فندها الراسخون في العلم منذ مئات السنين! طبعا نعرفها من الكتاب المقدس الذي لا يعرف له الباطل طريقا، وكذلك من كتب التاريخ.
- بمعنى أنه لو أراد أحد التدين بأي دين عليه الإطلاع على معجزات ومنجزات المبلغ الأول لذاك الدين في كتابه المقدس ومراجعه التاريخية.
- نعم. وكذلك الإطلاع على سيرته لمعرفة مكارم خلقه وصفاته غير العادية.
مازال الشاب واقفا تحت الشباك ومنشغلا بجهازه. كان منظره مثيرا حيث تتضح عليه الثمالة، والانزعاج من جهازه. اقتربت منه فتاة تسير على عجلات صغيرة مرتبطة بحذائها. أستوقفها. عادت له. أعطته سيجارة. تحادثا ثم أعطاها جهازه. قهقهت الفتاة بغنج واضعة كلتا يديها على وجهها. يبدو أنها عرفت ما هي علة توقف جهازه. أعادته له فوضع الشاب السماعتين في أذنيه مبتسما. ثم ألقت عليه التحية وعاود الرقص بانتشاء.
أخيرا جاء الشاي وجلس حميد قبالتي على كرسيه الهزاز، الذي حصل عليه مع باقي الأثاث كمساعدة من منظمة الخدمات الاجتماعية الكاثوليكية، وهي منظمة تقدم الخدمات لللاجئين من كل بقاع العالم وتعينهم لمدة سنة. قلت له وأنا أدور بالملعقة في كوب الشاي: "اتفق معك على أن أي دين يقوم على الحياة الشخصية لصاحب الدين الأول. مما يضعف دور العقل والبراهين العلمية بإقناع الآخرين لتبني الدين الجديد بعد تأسيسه بمئات السنين. وعلينا الاعتماد على الدراسات التاريخية التي تؤكد معجزات صاحب الدين، وهذا يدخلنا في حيرة كبيرة في أي المصادر علينا الوثوق بها".
توقف عن هز كرسيه مثبتا قدميه على الأرض. ثم قطب مابين عينيه دلالة على نفاذ صبره قائلا بلهجة واثقة: "لدينا ما يكفي من المراجع غير المشكوك فيها. كما أن الكتاب المقدس يعتبر من الإعجاز الأبدي الذي لا يحتاج إلى دليل. وعلى الإنسان الحكم بنفسه باختيار أي دين يريد اعتناقه وفق ما يناسبه".
- ما أقوله هو إن الدين مثل شمع صب في قالب المؤسس. وغير معروف إن كان وحيا ألهيا من صب ذاك الشمع أم الإلهام. عليه تكون حياة ذاك الشخص هي أساس الدين. يعني أن فترة حياته الشخصية بعد إعلانه دينه تكون هي فترة الاتصال الإلهي أو جوهر الدين، ولذا تعد أي زلة ارتكبها المؤسس بمثابة ثغرة في ذاك الدين. كما أن أي تشريع يحصل بعد موته لا يكون سنة أوحى بها الإله.
- لا توجد أي شائنة في حياة المبلغين بالرسائل السماوية...
قبل إكمال عبارته رن هاتفه. وكان على الخط شخص أمقته جدا، ينوي زيارته. رغم الامتعاض الذي كان يبدو عليه من عبد الحسين لكنه أطراه بمديح زائف وأبدى استعداده لاستقباله في بيته. تململت لعدم ارتياحي من تصرفه. هو يعرف جيدا أني لا أطيق هذا الرجل. حاولت تأنيبه على ذلك: "هو الخوف الذي يجعلك تستسلم لرغبة شخص منافق وأنت لا تحبه لتستقبله على مضض في بيتك. وهو نفس الخوف الذي يجعلك تراوغ في دفاعك عن أفكارك الدينية. إلى متى تظل تخاف؟".
- أنت الذي تراوغ وتتمسك بأفكارك بعناد غير مبرر. أنا لا أخاف أحدا عدا الذي خلقني. وأسعى جاهدا لإرضائه لتجنب المعاصي وتحقيق العدالة في الأرض والشكر على نعمه والفوز بالجنة والاطمئنان الروحي وغيرها. كما أن تعاليمه يفرضها ديني الذي نشأت عليه وهو بمثابة هويتي.
رن جرس الباب. وصل عبد الحسين، فخرجت فورا ملقيا تحية يابسة. لا أريد سماع فحيح أفعى سامة. فهو قادر على أن ينغص ويعكر مزاج شعب كامل. الدسائس والنفاق ينفثها جسده كرائحة كريهة. هو مثل عنصر يشع نميمة. كنت أود لو طال نقاشي مع حميد لإزاحة الحواجز والجدران المشيدة بحجارة أفكارنا.
يتبع...



#ميثم_سلمان (هاشتاغ)       Maitham_Salman#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قشور بحجم الوطن (رواية 3)
- قشور بحجم الوطن (رواية 2)
- قشور بحجم الوطن (رواية1)
- غرائبية معقولة
- نصوص
- نص
- قنينة صور
- القراصنة مازالوا هناك
- قصص قصيرة جدا
- تقديس الأشخاص عند المسلمين
- قصة قصيرة
- قصص قصيرة جداً
- ارق ازلي
- انحياز الفضائية العراقية
- حلول تنتج مشاكل
- نحو حوارً متمدن
- الاربعاء الاسود
- فيصل القاسم وحكايات جدته العجوز
- امطار العراق
- قائمة الأ ئتلاف تسيء للمرجعية


المزيد.....




- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميثم سلمان - قشور بحجم الوطن ( رواية 4-5-6)