عبد الامير خليل مراد
الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 22:27
المحور:
الادب والفن
الغياب أو التغييب مفردتان ذات دلالة مختلفة , وإذ كانت الثانية مفردة منحوتة من الأولى , غير إن هناك فرقا كبيرا بين الغياب المفاجئ الذي تفرضه بعض الحالات الاعتبارية , كالغياب عن المدرسة ,أو عدم الحضور إلى فعل حادث وبين الغياب القسري ذلك الغياب الذي يتحصل بفعل الموت ,فالموت هو الرحيل الأبدي الذي كتب علينا نحن البشر , وليس من راد لهذا الفعل الفيزياوي الذي يقرر مصائرنا سواء أردنا ذلك أم لم نرد ,وقد ورد في الموروث الديني إن الموت خط على بني ادم كما خطت القلادة على جيد الفتاة .
ونحن حين نأتي على ذكر الموت ليس لنا إلا أن نستذكر تلك الفجيعة التي غيبت واحدا من رموزنا الثقافية , ذلك الرمز الذي اثكلنا وهو في ذروة عطائه الثقافي والإنساني , حيث صادر تطلعاته معول الإرهاب الدموي الذي لم يبق لإنسانية السواد من قيمة , فكيف بالمثقف الذي اعتمد الكلمة النقية في كفاحه من اجل صناعة الحياة .
لقد كانت الأقدار تتربص بالمبدعين واحدا ... واحدا , وهذه هي جذوة الاستشهاد الثقافي لن تنطفي ... عزيز السيد جاسم وحياة شرارة والبريكان وكامل شياع وحسن مطلك وحاكم محمد حسين واطوار بهجت , حيث تطول القائمة بالمستشهدين على درب الثقافة , وكان فقيدنا الأديب قاسم عجام ذو القلم الحر الأصيل في طليعة هؤلاء المضحين والمستشهدين من اجل ثقافة المسؤولة, فقد غيبته ماكنة الإرهاب وأصبح قاسم عجام ذلك المبدع الذي افتتح مسيرته الإبداعية بنقاوة التوجهات ورصانة الفعل الإبداعي ناقدا ...وكاتبا...وأكاديميا لم يتعب من مقاومة الرداءة والابتذال في الحياة الثقافية وقد صار بفعل هذه المزية شمسا لاتحتاج إلى دليل كي نتلمس مافي أعماقه من عنفوان ورغبة في الإقبال على المحبة ونبذ الضغينة والارتداد عن قيم التسامح والسلام.
فليس بمقدورنا أن نحيط بما كان يحلم به قاسم ....وقد تحقق له مااراد ... حرية ...وأفق لاتحده مسافة, وليس لهذا الحلم من منتهى ...فقد انتهج الصراحة والوضوح والبحث عن الاكتشاف في معظم كتاباته إذ يعطي من ذاته الشيء الكثير كي يلتقط من سائليه طرق الاختلاف والإقرار بالمنهج الصحيح , وهو من الأسماء القليلة التي تهتم بالأدباء المهمشين والمعزولين عن دواليب الصحافة الرسمية .
لقد كان قاسم غاية في التواضع , فحين يقدم إلى فعاليات اتحاد الأدباء الأسبوعية يبدأ جلاسه بالتحية المهذبة, حيث يصافح رواده واحدا ... واحدا ,وكان لايكتب أو يبدي ملاحظات بتأثير العلاقة العابرة أو الاخوانيات أو محاباة هذا الاسم أو ذاك , وأتذكر إنني أهديته في يوم من الأيام مجموعتي الشعرية ( صحيفة المتلمس ) , واخذ يقلب فيها أمامي ونحن نجر الخطى في طريقنا إلى العمل , ثم أغلق وريقاتها وقال لي أتعلم إني لا اكتب عن أي إصدار مهما كبر حجم صاحبه , بل اعمد إلى تجاوز الاسم ولم اكتب إلا عن الإبداع المقموع ,وقد أهداني ذات مرة كتابه الرائع ( الضوء الكاذب في السينما الأمريكية) , فكتبت عن هذا الكتاب رأيا بغية نشره في إحدى الصحف العراقية آنذاك , وقد أردت اطلاعه على مضمون هذا المقال قبل تقديمه إلى النشر , فأجابني يا صديقي لا أريد أن اطلع على ما أبديت من رأي على الكتاب , فأنت حر في ذلك ولك ما أردت سواء كان رأيك معي أو ضدي , وكم تمنى علي أن يقرأ ما ذهبت إليه منشورا في تلك الصحيفة .
لقد كان قاسم مثلا في العفوية ونكران الذات والانتصار للفقراء , ولم يلجأ إلى الثقافة كمتطلب للوجاهة, أو كباحث عن نزوة عابرة , فالرجل يمتلك مشروعا ثقافيا مؤسسا على المعرفة والالتزام والتنوع , وهو يحاول من خلاله تسويق طروحاته البناءة وتأكيد القيمة الحقيقية للإنسان وحرية التعبير , حيث اخذ على عاتقه تبني المشروع السينمي في العراق ونقده وتوجيه المؤسسة الإعلامية عبر آرائه وأفكاره الجريئة التي دأب على إعلانها في مجلة الثقافة الجديدة لتصحيح مسارات الفنون الدرامية , ومنها التمثيليات والمسلسلات والأفلام التي تعرض على الشاشة الصغيرة , وكانت توصلاته ونقداته محل اهتمام المشاهدين والمعنيين بهذه الفنون , لاسيما إن هذا الميدان يفتقر إلى الموضوعية والدقة وندرة المتخصصين في آفاق هذا الفن الجديد .
لقد كان قاسم عبد الأمير عجام يقبل علينا وهو يتطاير فرحا ومسرة , فلم يعد مقص الرقيب يختلس من اسطره ما يشاء , وهو الكاتب المشاكس الذي تعود على الاسترسال والإفاضة في الحديث عن كل صغيرة و كبيرة, سواء ما يجود به في الفعاليات الشفاهية على منبر اتحاد الأدباء , أو في الكثير مما يكتبه من آراء ومقالات في الصحافة اليومية.
هاهو قاسم عجام ...الحزين الذي لم يفصح , والضمير المجبول على حب الخير والجمال مازال بيننا أبجدية نتهجى في أخاديدها ضلل البهاء , ومنارا نستدل بخيلائه إلى حيث المروءة والنقاء .
لقد غادرنا أبو ربيع ذو الطلعة البهية , وهو يرمق العالم بمرآته هو ...لا بمرآة الآخر المتشكك , فالآخرون في عينيه هم الملائكة والطيبون الانقياء ... ولم يكن يعرف هذا الناسك النبيل إن أحفاد هابيل الذي يرتجي لم يتبق مندوب منهم نلوذ به على هذه الأرض , بينما في الجانب الآخر من تلك الغابة القلقة ألف قابيل يعض على نواجذه وهو يتناوشنا في كل لحظة كي يفتك بما تبقى من نثار أضلعنا في عز الظهيرة .
فأهنأ ايها الحاضر المجدد بما أنهرته لنا
ذكرا طيبا
وأحفادا بررة
وبمثلها حسن الختام
#عبد_الامير_خليل_مراد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟