أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 4















المزيد.....


الأولى والآخرة : صراط 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3018 - 2010 / 5 / 29 - 14:14
المحور: الادب والفن
    


ما يَزيدُ عن الأسبوع ، علينا كانَ أن ننتظرَ هنا ، في الغرب ، قبلَ أن يتفضلَ الأميرُ بشير فيوافقُ على استقبالنا في قصره ؛ أو بالأصح ، في مقرّ إقامته ، المؤقت . لا أقولُ ذلكَ ـ حاشا مقامه ـ تذمّراً من قلة واجب ؛ وإنما على سبيل التنويه ، حَسْب . فهذا الرجلُ العظيم ، المَنعوتُ من رعيّته بـ " المير " ، كانَ من أقدَر الناس فهماً للأصول ، وبالتالي ، من أكثرهم كرَماً وسخاءً .
" هذا التبذيرُ كلّه ، قد دفعَ ثمنه أهلُ الجبل جوعاً وحرماناً وفاقة وصبراً " ، قالَ لي لاحقا عبد اللطيف أفندي بنبرته المألوفة ، المُرتابة . وعلى كلّ حال ، فإنّ وصولنا ، نحنُ جماعة المَجلس العموميّ ، إلى مقرّ الأمير ، لم يكُ أيضاً سهلَ المنال . وبالجملة ، فإنّ مشاقَ وصعوبة طريقنا إلى الغرب ، كانا في نظرنا ليُعادلا ما تجشمناه من خشيَة وحذر وقلق ، خلال الجزء الأول من رحلتنا : وأعني بذلك ، ما كانَ علينا أن نكابدُهُ ثمة ، على الطرَف الشامي من الطريق نفسه ؛ المَرصود بعين عَدوّنا ، الانكشاريّ.
وكنا قد عدنا إلى ركوب الدليغانس ، إثرَ إستراحتنا ، الليلية ، في شتورة . إلا أنّ سهولة الطريق ، عبرَ البقاع ، علاوة على الإنهبال بمناظر الطبيعة ، الساحرة ، شاءا أن يُسكرا ركاب العربة قليلاً أو كثيراً . ولعلّ الفضل في نجاحنا ، أخيراً ، باجتياز عقدة " صوفر " ، كانَ من نصيب خيول عربتنا ، الأصيلة . فلقد كانت خيولنا، إذا جازَ التعبيرُ ، أبأسَ مراساً من أن تستسلم لوعورة الطريق ، الشديدة ، فلم تخر عزائمها أبداً . بيْدَ أنّ ركاب الدليغانس ، المُرفهين ، شاركوا إلى النهاية كلاً من الحوذيّ والخدَم في جرّ العربة ، منذ وقت استهلالها بارتقاء طلعة صوفر ، المُخيفة المُنحدرات والمُشرفة على الوديان السحيقة . وحينما أعُمّمُ مفردة " الركاب " ، فلكي لا أظلمَ الفتاتيْن ( نرجس وشمس ) ؛ اللتيْن أسهَمَتا بنشاط ودأب في توجيه المَطايا ، عندما لم يَعُد في إمكان الحوذيّ ، المَلول ، أن يتحكمَ لوحده في أعنتهم .

كرَمُ المير ، شافَهُ غيرُنا من ضيوفه ، بطبيعة الحال . إلا أنّ سبباً ما ، لم أكن قد أدركته بعدُ ، كانَ علّة استقبالنا الحافل ، المؤثر ، من لدن جماعة حاكم جبل لبنان . فما أن آبَ رسولنا من دير القمر ، حتى رأيناهُ محاطاً بثلة من الحراس ، المُسلحين ، الخشني المَنظر . وقبلَ أن يتسنى للجزع أن يَحتلّ روعَ كلّ منا ، بادرَ أولئك الحراس إلى إطلاق الأعيرة النارية ، المُبتهجة ، من بنادقهم الإنجليزية . ثمّ ما لبثوا أن أمروا حوذيّ عربتنا ، المُحتار ، بتوجيهها نحوَ قرية الغرب ؛ أين كانَ يُقيمُ أميرهم ، بشكل مؤقتٍ ـ كما اُخبرنا منهم .
كنا عندئذٍ في بلدة عاليه ، ذات الجناب العالي في الإمارة ، نغتذي من ملاحة غاباتها وصخورها وعيونها و .. حسانها . إنّ الدروز ، الذين يُشكلونَ غالبيّة سكان البلدة ـ وكذلكَ في الكثير من مناطق الجبل ، الأخرى ـ كانوا يَمتازون بالحُسْن نساءً ورجالاً . على أنّ نوعاً من الأسى ، كانَ ممزوجاً بخمرة هذا الجمال الخلوق ، فجعلَ تأثيره في نفوسنا أشدّ فداحة ً.
فمنذ إعدام الشيخ بشير جنبلاط ، قبل نحو خمسة أعوام ، لم يَعُد المير بشير الشهابي ، بنظر رعيّته هؤلاء ، سوى راع لطائفة الموارنة فقط ؛ فلم يقبلوا بسلطته عليهم إلا مُرغمين .
من بلدة عاليه وحتى قرية الغرب ، كانَ على عربتنا أن تسيرَ على سَجيّةٍ واحدة ، تقريباً ، مُشرفة على مَشهَد خليج بيروت ، المُبهَم الملامح ؛ والذي كانَ مَحجوباً ، فجراً ، بكتلة من الضباب ، الكثيفة . وكما لو كنا مُتسللين ، دخلَ موكبنا قرية الأمير ، الآنية ، يُحيطنا التكتم والصّمت . على أنه ، بالمقابل ، فقد بُذلَ منزلٌ لإقامتنا ، مُنيفُ الهامَة ، يطلّ من واجهته ، الغربية ، على ذلك الخليج ، الموسوم . مكانُ إقامتنا ، كأنما هوَ قصرٌ ؛ بأدواره الثلاثة وقبوه الشاسع ، فضلاً عن فخامة عمارته ، الإفرنجيّة الطراز ، والمُتداخلة بتفاصيل محليّة ، على جانب كبير من الإنسجام والدقة . كما أنّ أثاث المنزل ورياشه ، كانا ينمان عن رهافة ذوق أصحابه . وعليّ كانَ أن أعلمَ ، لاحقا ، أنّ مالك الدار ، الأصليّ ، ما كانَ سوى الشيخ بشير جنبلاط نفسه ؛ المَقتول غدراً بأمر من والي صيدا ، وبتحريض من المير بشير .

" إنّ السلطنة ، العليّة ، هيَ غولٌ مُفترسة لا توفر حتى أبنائها "
بدأ الأفندي كلامه ، مُشيراً إلى ما سَبَقتْ إليه الإشارة من حال الراعي والرعيّة . ثمّ أردفَ قائلاً : " بحُكم فلسفة الخلافة الهمايونية، الأولى ، فلم يكن ليجوز، هنا في الجبل ، أيّ نوع من هيمنة لطائفة على أخرى. ولكنّ الباب العالي ، في زمننا ، راحَ يقلب تلك الحكمة ، الموسومة ، عن طريق الدسّ بين الطائفتيْن وإثارة الأحقاد بينهما . وكانَ باشاوات الشام وصيدا وعكا ، همُ أدواته في ذلك التدبير ، دائماً " . كنا في هذه الآونة ، في حجرةٍ فارهة ، مُخصصة لي هنا ؛ في الدور الثاني من منزل الضيافة ، الميريّ . وكانت حجرة عبد اللطيف أفندي ، الأكثر بهاءً و سِعَة ، تقومُ بمقابل حجرتي . الوقتُ كانَ مساءً مُعتدلاً ، يَميل نوعاً إلى البرودة ، القائمة بين رطوبة البحر وجفاف الجبل . وإذاً ، كنتُ قد تعشيتُ ، قبل ما يزيد عن الساعتيْن ، حينما آويتُ إلى فراشي ، طالما أنّ الغدّ ، صباحاً ، كانَ موعدنا مع سموّ أمير البلاد ؛ بشير الكبير . عندئذٍ كانَ الأفندي عند الباب ، يستأذن مني بالدخول . وكانَ في تلك اللحظة مُهندماً بمنامته ، الإفرنجية ، المؤلفة من قطعتيْن ؛ القميص والسروال ، القطنييْن .
وقلتُ لمُحادثي بصوتٍ خفيض ، مُلاحظاً : " ألهذا الداعي ، كانَ إخباتُ المير بشير ؛ بادعائه الإسلام جهراً ، فيما هوَ على ملة النصارى .. ؟ " . وكنتُ في سبيلي لإتمام جملتي ، بمفردة " الكفار " ؛عندما تذكرتُ أنّ الأفندي ، أصلاً ، كانَ من تلك الملّة ؛ وربما يَسوئه أن يَسمَعَ هكذا نعتٍ ، مَشنوع ، على لسان شخص مثلي . وكأنما أدركَ الرجلُ ما كانَ من أمري ، فإنه هزّ رأسَهُ بحركةٍ تعبّر عن الأسف ، وأجابني من ثمّ : " لقد أزعجكَ ، كما أذكرُ ، توصيفي لحاكم الجبل ، بأنه بلا دين ما ، مُحدّد . وفي واقع الحال ، فهذا يَشملُ أيضاً جميع الحكام في السلطنة ، وحتى الخليفة نفسه ". لم أسْتسِغ بحال ، هذا الحُكم ؛ بل واستهجنته في قرارة سرّي . فنبَرْتُ مُجادلاً من فوري : " إنّ السلطانَ المُعظم ، أيّده الله بنصره ، هوَ خليفة جميع مُسلمي الأرض . إنّ حقيقة جدارته بالخلافة ، لا يُماري بها أحدٌ ولا حتى خصومه ؛ من كفار ورافضة وزنادقة وهراطقة . فكلهم يَسعى لصداقته ، وحتى مُحالفته ، بوصفه أميرَ المؤمنين ، قبل أيّ إعتبار آخر "
" هذا الإطناب ، يا آغا ، كانَ يَستحقه خليفة عظيم ، سالف ؛ بمقام السلطان سليم ، الغازي . إلا أنّ العصرَ تغيّر تماماً ، ليسَ في عالمنا الإسلامي حسب ، وإنما في أوروبة أيضاً وخصوصاً . أجل ، إنّ فهمنا لهذه الحقيقة ، يختصرُ علينا جملة، وافرة ، من المعميات . ولعلّ موضوع الخارطة ، أهمّها طراً الآنَ ـ كما بالنسبة لي ولكَ ، على الأقل " .

ما أن صُكَّ سَمعي بصَفعة مُفردة " الخارطة " ، حتى رأيتني أجفل دونما وَعي . إنّ هذا ، على أيّ حال ، كانَ مُبتدأ حديثنا ، أنا والأفندي ، عن الكناش ذاك ؛ الذي سلّمته لي حفيدته ، نرجس ، قبلَ أكثر من أسبوع . وإذ أقصي الآنَ اسمَ " ياسمينة " ـ كلاحقة لصفة الكناش ، فلأني تيقنتُ بأنه عبارة عن أوراق ، مُنتزعة بمهارة من الكتاب الأصليّ ، " النفحُ الليلكي والفتحُ الجَرْمُكي " ؛ الموضوع بقلم الشيخ البرزنجي ، رحمه الله : إنّ كونَ الكناش هذا ، الأصل ، غير مُرقم الصفحات ، هوَ ما أجاز لياسمينة الجرأة على سلّ ما حلا لها من تلك الأوراق ؛ وفيها تلك الخارطة ، الخطيرة الشأن .
نعم . لم اُجانبَ الفطنة والحصافة ، حينما سبقَ وقررتُ أن أطلعَ عبد اللطيف أفندي على تفاصيل مغامض الجرائم تلك ؛ التي كانت أمكنتها موزعة ، بتساو ، بين القنوات وسوق ساروجة . بيْدَ أنّ هذا الموضوع ، الأكثر جدّة ( الخارطة ) ، كانَ عليه أن يَجُبَّ ما قبله ـ ولوْ إلى حين . ففي ليلة أمس ، عندما أعادَ إليّ الأفندي حزمة الأوراق تلك ، بعدما اطلع عليها بتمعّن وصبر ، فإنه فجأني بالقول هامساً : " لا شأنَ للوزير بكنز الكنج ، المزعوم . إنه كانَ يَسعى ، بكلّ تأكيد ، إلى هذا المُخطط " . قالها ، وهوَ يخرجُ الخارطة من طيّ أوراق الكناش ، المُنتهَك ، ليضعها بمستوى عينيّ : وكانَ أول ما يلفت نظر المرء ، هوَ شكل الصليب ، المَعروف . فإذا دققَ بصورة أفضل ، فإنه سيعرف أنّ هذا عبارة عن مخطط لكنيسة ما ؛ وكانَ من السهولة قراءة أسماء الأماكن ، المُرقمة ، من قبيل " المذبح " و " الهيكل " و " الصرح " .. وغيرها .
" أنظر هنا ، من فضلك يا آغا . ستجد أنّ شكل المُخطط مُستطيلاً ؛ كما هوَ معلومٌ عن العمارة الرومانية " ، قالَ الأفندي مُتبسّماً وأضافَ " إن مخطط دمشق القديمة نفسه ، كانَ مُصمماً على الشكل نفسه . فإنّ الرومان ، الذين حكموا المدينة مُطوّلاُ ، اعتبروها أول الحواضر العشرة ، في امبراطوريتهم العظيمة ( أو " الديكابوليس " بلغتهم اللاتينية ) . كما أنهم أطلقوا عليها اسم " العذراء " ، تيمناً بحاميتها ؛ الآلهة مينرفا . كذلك فأبواب المدينة القديمة ، السبعة ، شيّدَ كلّ منها موسوماً بأحد أسماء النجوم ، السبعة ، المثباركة بعقيدة اولئك الوثنيين : فباب توما ، كمثال ، كانَ يرمز لنجم الزهرة ؛ وباب الفراديس لنجم عطارد .. وهكذا مع البقية " .
فقلتُ له بلسان مُحتار : " ولكن ، يا سيّدي ، ما علاقة هذا المخطط ، التليد القِدَم ، مع خطط ذاك الوزير ، المارق " . فما كانَ من مُحدّثي ، على دهشتي ، إلا التوقف عند المفردة ، الأخيرة : " المارق ؟ آه ، الآنَ عليّ فهم هذه الصفة ، المُلصقة بشخص الوزير . وكنتُ قبلاً ، حينما سمعتها أول مرة ، قد استغربتُ وقعها في أذني : فالمارق ، هوَ الشخص الخارج عن دين قومه ؛ فما هيَ صلة ذلك برجل ، مثل الوالي ، دخلَ في نزاع مع الانكشارية وأعيان المدينة حولَ رسم ضريبي ، مُستحدَث ؟ ". وأجابَ الأفندي على سؤاله بنفسه : " لأنّ صديقنا كبيرُ الأعيان ، الشاملي ، كانَ هوَ من نشرَ ذلك النعت ، على أغلب ترجيح . فإنه كان قد تأكّدَ ، بشكل ما ، من أنّ كناش البرزنجي ، كانَ مطلوباً من الوزير بسبب هذه الخارطة بالذات . إنكَ بدوركَ ، يا عزيزي ،على علم أيضاً بداعي الأمر : كانَ الوزيرُ يبغي قصفَ المسجد الأموي بقنابر مدفعية القلعة ؛ كانَ يريدُ إزالة رمز دمشق القديمة ، أبداً " .

وقتذاك ، كنتُ أنصتُ لحجج هذا الرجل النابه ، العلامة بحق ، وأنا مَبهوراً بسعة اطلاعه كما وبقدرته على ربط المواضيع ببعضها البعض . وحينما لم أبدِ تعليقاً ما ، على كلام الرجل ، فإنه تركني مع أفكاري هنيهة من الوقت . نعم . كنتُ أتفكر آنذاك بأمر آخر ، ربما سَهَوتُ عن إخبار الأفندي به : أنّ سراج العابدين النقشبندي ، شيخ الشام ، سبقَ له أن أفتى للوالي ببطلان قدسيّة المسجد الأموي . فما كانَ منه ، المارق ، إلا تهديد الوجاقات بالكفّ عن قصف مقرّه انطلاقا من المسجد ، قائلاً أنه سيردّ على مصدر نيرانهم ومهما تكن العواقب . فما كانَ مني إذاك إلا إعلام محدّثي بجليّة الأمر . ثمّ أعقبتُ ، مُنبّهاً : " ولكن ، لو سمحتَ لي ، يا سيّدي . إنّ بضعَ قنابر ، كانت تتساقط كلّ فينة ، مُتباعدة ، ليسَتْ سبباً لقرار في غاية الخطورة ؛ قد يُكلّف الوزير حياته ؟ "
" عليكَ أن تعلمَ ، يا آغا ، أنّ الباب العالي بالذات ، هوَ من كلّفَ الوزير بمهمّة الخلاص من رمز الشام الشريف ، الأكثر قداسة وأهمّية " ، نطقها الأفندي ودونما أن يَخفضَ من نبرة صوته . بيْدَ أنني استدركتُ ، في ذهني ، بحقيقة وجودنا في إمارةٍ ، مسيحية في واقع الحال ، شكّلتْ طموحات أميرها ، دوماً ، مَصدرَ همّ الآستانة . على ذلك ، سألتُ جدّ نرجس إثر لحظة تردد : " ولمَ ، برأيكَ ، سيأمر البابُ العالي بتدمير الجامع الأموي ؛ ما دامَ العثمانيون ، لا غيرهم ، من نعتوا مدينتنا ، المُقدّسة ، بـ " شام شريف " .. ؟ "
" لأنّ زمنَ القداسة ولّى ، يا عزيزي . نحنُ اليومَ في زمن السياسة . أجل ، هوَ ذا دينُ العصر ، الجديد : لقد أطلّ عصرُ القوميات برأسه ، خلل باب هذا القرن ومنذ مُستهلّه : إنّ الحملة الفرنسية ، قد فتحتْ أعين القائمين بالأمر ، ثمة في الآستانة ، على تلك الحقيقة . قبل ذلك بزمان ، كانت شعوب أوروبة ، التي سبقَ والتختْ دَهراً بالدين ، قد أهملتْ جانباً اهتماهها بمنازعات البابا مع الفرق الهرطوقية والمارقة ـ كاليسوعية والارثوذكسية ـ لكي تتعرّفَ على هويّاتها ، الوطنية ؛ على لغاتها وثقافاتها وتقاليدها وأعرافها ، الخاصّة "
" ولمَ ستكون الشام ، وليسَ مدينة أخرى ، محط اهتمام الباب العالي ذاك ، المُفترَض ؟ "
" لأنّ هذه المدينة ، وليسَ غيرها من مدن المَشرق ، من يهتمّ بها الآنَ عزيزُ مصر " ، أجابني الأفندي وعلى شفتيه بسمَة مُقتضبة ، مُلغزة . ثمّ استطردَ على الأثر : " أنتَ ولا بدّ تتذكر ، ما كانَ من حديثنا عن أصل بعض السلالات ، الحاكمة ـ كالشهابية والمعنية والجنبلاطية . وإذاً ، فإنّ أصلَ محمد علي باشا ، أيضاً ، يمتّ لسلالة بني أيوب ؛ أو على الأقل ، هذا ما يَزعمُه من حوله ، من الحاشيَة ، ونقلاً عن لسانه "
" محمد علي باشا نفسه ، الأرناؤوطي ، والي مصر ؟ " ، قاطعتُ محدّثي وأنا بغاية الذهول . فاتسعَتْ ابتسامة الأفندي ، وأجابني بتوكيد : " أجل ، إنه على كلّ حال من قوميّتك . فوالده ، كان ينحدرُ من أسرة سراة ، معروفة ، في ديار بكر بالأناضول . وسببُ شهرته بـ " الأرناؤوطي " ، لأنه قادَ كتيبة جند ألبانية ، حينما كانَ يَخدم في سالونيك . وهناك ، في تلك المدينة ، ولد للضابط هذا ، الكرديّ ، إبنه محمد علي . وكلّ من تسنى له حظ الوجود بالقرب من عزيز مصر ، سيُدرك بسهولة تمسّكه بأصله وفخره به : فإنّ معظم قيادات جيشه ، في البر والبحر ، من ولايات كردستان ؛ العثمانية والصفوية على حدّ سواء ". وبالرغم من غبطتي بهذه المعلومة ، النادرة ، فإنني سألتُ الأفندي مُتشككاً : " كأنكَ تعني ، يا سيّدي ، أنّ عزيز مصر ، المُحنك ، يريد استعادة مجد سلالته المَزعومة ، الأيوبية ؟ "
" هذا حقّ ، يا آغا . وسلطان الآستانة ، بنفسه ، يعرفُ هذه الحقيقة ، أكثر من غيره . إذ منه طلبَ عزيزُ مصر ولاية الشام ، مُحدداً تخومها من جبال طوروس وحتى حدود ولاية الموصل : أي أنه بذلكَ يريدُ وصلَ امبراطوريته ، الموعودة ، مع إمارة بدرخان شمالاً ، وإمارة بابان شرقاً . لقد أراد الولاية ، ظاهراُ ، كتعويض عن خسارته اسطوله ، في معركة استقلال اليونان . والباب العالي ، من جهته ، يَخشى أن تكون مثال اليونان ، نفسها ، حافزاً لمزيد من الولايات ، العثمانية ، لكي تحكم ذاتها . وبالفعل ، فإنّ بدرخانَ أصبحَ هوَ الحاكم ، الحقيقيّ ، لإمارته الغنية ، الشاسعة ، ولحقه أمراء آخرون في كردستان . كما أنّ المير بشير ، الكبير ، لم يَعد يهتمّ بالسلطان ، حينما يعمد لعقد الاتفاقات السياسية والتجارية مع ممالك الغرب ، في البندقية وفرنسة . ولا حاجة لذكر مصر ، لأنها من زمان باتتْ مستقلة عن الآستانة ، لا يربطها بها سوى الاسم ، حسب " .

إيه ، يا شرّة العُمر . إنني لا أفتأ ، في البكرة والعشيّ ، أطلبُ الرحمة والمَغفرة للأفندي عبد اللطيف ؛ ذلك العلامة الكبير ، الواسع المعرفة والغزير التجربة . نعم . هنا ، في جزيرة السُرْغون هذه ، أستعيدُ حصافة رأي الأفندي ، حول عصر القوميات ؛ الذي بشرني هوَ بانبثاق شعاعه ، قبل أكثر من ثماني عشرة سنة . أتذكر كلامه ، الغريب عن سمعي آنذاك ، فيما هوَ اليومَ تعلّة الكثير من الأحداث السياسية ، التي عصفت بمشرقنا ؛ وكانَ من أهمّها ، ولا غرو ، عصيان كلّ من عزيز مصر ، محمد علي باشا ؛ وأمير بوطان ، بدرخان باشا ، وهزيمتهما من بعد بسبب التدخل الأوروبي ، المُسلّح ، وليسَ بقوّة عساكر السلطان . وكذا الأمر ، بالنسبة للنهاية الحزينة لإمارة بابان ؛ التي اختتمت فصول مأساتها بنفي آخر أمرائها إلى الآستانة . هذا الأخير ، كنتُ قد تعرّفتُ عليه ، في حينه ، في قصر بدرخان في الآستانة. آنذاك ، كانَ الرجلُ برفقة شاعره ، الأثير ، المُكنى باسم " نالي " ؛ وهوَ الشاعرُ ، الذي قرأتُ في ملامحه ، قبلاً ، اسمَ سميّه ؛ النبيّ الخضر ، المُنتظر ، عليه سلام الله . ولكن ، فلأكمل حكايتي ، فإنّ وقتَ رواية مراحلَ حياتي ، اللاحقة ، لم يَحن بعدُ. ولا أدري ، حقا ، ما إذا كانَ سيحين ، فعلاً .

" ولكنكَ ، يا أفندي ، لم تحدّد لي علاقة الخارطة بمسجدنا ، الأموي ؟ "
سألتُ مُحدّثي باهتمام شديد ، في تلك الليلة ، الحافلة ، التي شهدَتْ حظوتي بمعارف عجيبة ، على غاية كبيرة من الخطورة . وأجابني السيّد ، مُستفهماً بنبرة طريفة : " أحقا ، لم أذكر لك ذلك حتى الآن ؟ " ، ثمّ استأنفَ إثرَ مهلة من التأمّل : " فاعلم إذاً ، أنّ عمارة المسجد الأموي ، المُقدّسة ، أساسُها شكل الصليب ؛ المُعدّ كفراً في عقيدة محمّد . فقد بنى الخليفة ، الوليد عبد الملك الأموي ، ما أراده هوَ " دليل عظمة الإسلام " ، فوقَ أساسات كنيسة يوحنا المعمدان ؛ الذي نسميه في العقيدة الإسلامية بالنبي يحيى " . قالها ، وامتنعَ فجأة عن الاستطراد . لأنه في تلك اللحظة ، طرقَ أحدهم على باب الحجرة . وقمتُ بنفسي لأفتح الباب ، لأجدَ نرجس عند عتبته . وفيما كنتُ مُحرجاً للغاية ، قدّام جدّها ، فإنّ الحفيدة ، الجسورة ، لم تأبه باجتيازي والدخول للحجرة لتحيّته : " ها ؟ ، أنتَ هنا يا أبتي ؟ " ، هتفتْ للأفندي بلهجة جذلة وهيَ تطبعُ قبلة ً على وجنته اليسرى . وما عتمَتْ أن قالت له ، فيما هيَ تشمل الغرفة بتحديقة مُسدّدة من عينيها الآسرتيْن ، الفضوليتيْن : " أنتَ لم تكن ثمة ، في عشكَ ؛ فأدركتُ بأنكَ هنا لدى صديقك ، الآغا " . عندئذ ، تطلع إليها جدّها بنظرة مُستفهمة ، وقد حَدَسَ بأنها تحملُ خبراً ما . وإذا بالفتاة تقول ببساطة : " تحت في قاعة الطعام ، ما أن أنهينا العشاء ، أنا وشمس ، حتى حضرَ رسولٌ من لدن الأمير . إنه فلاحٌ ، على ما يبدومن مَظهره ، وكانَ على معرفة ببعض الخدم " ، قالتها وهيَ تتضاحك .
" سيّدي ، إنّ سعادة المير يطلبكم ، أنتم وجناب الآغا " ، قالَ الرسولُ بأدب ، متوجّهاً بخطابه لعبد اللطيف أفندي . وكنا الآنَ في صالة الضيافة ، في الدور الأول ، المُضاءة بأنوار الشمعدانات ، الخافنة . وقبل أن يستدير الرجلُ لمغادرتنا ، أفلتَ من فمه هذا الخبر ، الصاعق : " قبل قليل ، تناهى لعلم المير، أنّ العامّة ، الدهماء ، هناك في الشام ، قد اقتحموا السراي وقتلوا واليهم ، ثمّ مثلوا بجثته . وقيلَ لسعادته ، أيضاً ، أنّ قبَجي مولانا السلطان ، ربما لاقى المصيرَ نفسه " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4


المزيد.....




- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 4