أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الشاعر والكاتب طارق حربي في حوار عن العراق والشعر والمنفى















المزيد.....


الشاعر والكاتب طارق حربي في حوار عن العراق والشعر والمنفى


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 3010 - 2010 / 5 / 20 - 13:41
المحور: الادب والفن
    


أجرت الحوار .. نور القيسي
كثيرون هم العراقيون الذين ملأوا المنافي في بقاع الارض المختلفة، بسبب الحروب الدونكيشوتية للنظام المقبور التي حصدت أرواح مئات الآلاف من شباب العراق، أو ممن هربوا من غياهب سجونه التي حفظت في حيطانها وذاكرتها أسماء ووجوه من مروا بها، سواء إلى مثواهم الاخير في المقابر الجماعية، أو ممن حالفهم الحظ ليتركوها الى فرصة جديدة من الحياة، ليجدوا أنفسهم خارج أسوار الوطن المستباح بعد الانتفاضة الشعبانية سنة 1991 ، فتتلقفهم غربة أمرّ من غربتهم داخل الوطن .
الشاعر والكاتب والصحفي طارق حربي أحد مثقفي العراق الذين تركوا الوطن في دائرة الاتهام بعد احداث الانتفاضة، ليتخذ من رمال وقيظ صحراء رفحاء السعودية، محطة لقطاره الذي سينطلق بعد ثلاث سنوات بعيدا إلى حقول الجليد النرويجي، هناك حيث افترش بساط أسفاره كمستقر دائم له، ملتحفا الجليد في رحلة لازالت مستمرة منذ أكثر من سبعة عشر سنة، ظل فيها العراق والناصرية حاضرين في ذاكرته المنفية على الدوام، يتفاعل معهما كل يوم وساعة ودقيقة من خلال موقعه الإلكتروني الرائع سومريون.نت، يؤانسه في وحشة غربته، ويتسقط من خلاله أخبار الوطن كل حين، ولعله يتابع ما يدور في العراق من دقائق الامور أكثر من كثير من عراقيي الداخل، من ملَّ صراعات الكراسي وصمّ أذنيه عن أصوات الانفجارات، وسخر من أحلام الارهابيين مغسولي الدماغ الذين حلموا ومازالوا بجنات خلد تملأها حور العين!، ليلاقوا ربهم وقد تلطخت أيديهم بدماء الابرياء من بنات وأبناء العراق .
نحاول في هذه الحوار استدراج الشاعر طارق حربي ليبوح لنا بما احتفظت به ذاكرته من محطات المنافي وأوجاع السنين :

* هناك الكثير من العراقيين وأعني بالكثير هنا المثقفين وليس عامة عراقيي الخارج، الذين اختاروا المنافي سكنا لهم وتركوا الوطن في دائرة الاتهام ... ماهي ظروف تركك للوطن ؟
- كان السبب المباشر لمغادرتي الوطن (مع أربعة من الأشقاء)، هو انتكاسة انتفاضة آذار الخالدة 1991 ، ولم يكن ممكنا حينذاك البقاء في الناصرية، فنزحنا مع آلاف النازحين إلى مدينة سفوان الجنوبية، وبعد نحو ثلاثة أسابيع حملتنا طائرات سلاح الجو الأمريكي من هناك إلى مخيم رفحاء الصحراوي بالمملكة العربية السعودية، وأقمنا في فندق (الخمس نجوم!) نحو ثلاث سنين مع ثلاثين الف لاجىء، قبل أن يقرر مكتب الأمم المتحدة في المخيم إعادة توطيننا في مملكة النرويج.
ولم يكن لشطر من قصيدة بريخت "لا تـدق مسماراً في حائط لا تعلـق صورة على جدار فإنـك في غـد عائـد" رصيد في أرض الواقع السياسي العراقي، بعدما أطال (محررنا) في تسعينيات القرن الماضي، ولحسابات إقليمية ودولية معروفة، من عمر الطاغية ونظامه، فدققنا مسامير بقائنا وعلقنا صور العراق وآبائنا، ومقاطع شعرية مرسومة بجماليات الحروفية العربية.
المثقفون والكتاب والفنانون والمفكرون والكفاءات، وكنتيجة طبيعية لتقاطعهم الفكري والاخلاقي مع نظام الطغيان، كانوا من بين ملايين العراقيين الذين شردوا خلال عقود التسلط والقمع، وشهد العراق موجة هجرة كبيرة بعد غزو الكويت وفرض الحصار في التسعينيات، وأظن أن هناك مئات الآلاف من العراقيين اليوم وبمختلف الأعمار، مازالوا يبحثون عن فرصة لمغادرة العراق نهائيا، بعد سيطرة الاسلام السياسي على الحكم، وتنفيذ أجنداته الطائفية والاقصائية.
أرجح أن العراق - في المدى المنظور على الأقل - لن يصل إلى مرحلة الاستقرار السياسي، تكفي لكي يستتب الأمن والأمان، ويتخلى المواطن عن فكرة الهجرة إلى أرض الله الواسعة.

* ما هو معنى الغربة في (خواطرك وشعرك وقلمك ودفترك الخاص) وهل تخيلت يوما أن الاغتراب سيكون له محطة في حياتك؟
- تمت التمارين الأولى على الغربة عن الناصرية خلال الخدمة العسكرية (4 سنوات)، ثم في شرق البصرة كجندي احتياط : من ألف الحرب إلى كيميائها إلى مأساتها إلى يائها (8 سنوات)، وبعدما وضعت أوزارها (تولتني بالرضاعة يد السوافي) في رفحاء، على حد تعبير الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين، في قصيدته الشهيرة يقضان (نسبة إلى حفيده الذي ولد في مخيمنا حينذاك)، ومن غربة في الوطن إلى غربة الموت الزؤام على حدوده مع إيران، إلى لظى الرمال في رفحاء (ثلاث سنوات)، إلى حقول الجليد (17سنة)، رحلة صحارى وعزلة وقارات ساخنة، أو ميتة من البرد وشموس غائبة طوال العام، حتى (كدنا في المنافي ننسى لغات امهاتنا) كما كتب الشاعر الألماني هولدرلن.
ولطالما شعرت أنني مواطن بلاناصرية في أوسلو : غريب الوجه واليد واللسان، ليس لأن عاصمة النرويج لايمكن عدها إلا قرية متواضعة من قرى المانيا مثلا أو فرنسا، حيث تغلق أبواب محالها التجارية في المساء، ويجتاحها شبح الظلام والبرد والوحشة، حتى يكون من الخطأ اطلاق صفة عاصمة أوروبية عليها، وتصبح الأجزاء الحيّة المتبقية في جسدها، هي محطة القطار وعيادة الطبيب الخفر وعدد قليل من المقاهي والبارات نصف المضاءة، أما المنطقة التي أقيم فيها هنا في ضواحي أوسلو، فلايكاد يمر في شارعها الرئيس المغطى بالجليد طوال العام تقريبا، أكثر من شخص أو اثنين كل ساعتين أوثلاثة!
لكن أي مدينة تحتوي قلب الشاعر وتسكّن أوجاعه الكونية!؟
وهل تحتويه مدينة في هذا العالم، أم هو من يحتوي المدن ويضمها تحت جناحيه، خلال تحليقه أو جلوسه على محور الكون - بحسب أرشيبالد مكليش - ليتأمل في الأشياء من حوله!؟.
نعم تخيلت يوما أن يكون الاغتراب إحدى محطات حياتي، وكم رددت شطرا شعريا حفظته للشاعر الالماني غوته حينذاك (الهرب..الهرب..من هذه البؤرة..ولتنطلق في فسيح الأرض!)، فقد كان انعدام شروط المعيش سواء في الناصرية أو العراق، سحق آدمية المواطن (بعث/شرطة سرية/حروب/جيش شعبي/ تقارير/حصار اقتصادي/ كراهية الناصرية المتبادلة مع المركز/عدم الاهتمام بها وإعمارها) زائدا مشكلة الفقر، جعل حلم الهجرة من العراق منذ وقت مبكر يداعب مخيلتي، وكان حلما ترامى خارج أسوار القفص ليعبر المحطات دون توقف، بعدما أكل اليأس والفقر والحروب - وبلا معنى- جزءا عزيزا من حياتي!

* هل النرويج - إقامتك الحالية - محض اختيارك أم الصدفة وحدها من قادتك إلى هذا البلد الاوربي النائي، المغطى بالثلوج أغلب أيام السنة، وكيف تزاوج بالسلوك بين طارق حربي الجنوبي وبين ثقافة الغرب وسلوكه .. وماذا اضافت لك الجنسية الاوربية كانسان؟
- دعيني أبدا من نهاية السؤال فأنا أخرج جنسيتي (هوية الأحوال المدنية) بين وقت وآخر لكي أتأمل فيها، مستعيدا من خلالها زمانا مفقودا، ومكانا آيلا للسقوط باستمرار في الذاكرة المنفية، جنسية طحنتها سرف الدبابات والحروب الصدامية طحنا، بحيث لم تعد لها أية قيمة، سواء على الحدود أو محطات السفر، المطارات أو نقاط التفتيش!!
وذكرت في أحد فصول كتابي (جمهورية رفحاء) أنني خرجت من حطام العراق بدينار وربع الدينار وهوية الأحوال المدنية لاغير!، فيما كان بيننا نازحون مصريون حملوا معهم الذهب والدولار والدينار، ويمكن تشبيه حالي وأي مواطن عراقي بحال أهل الكهف، الذين خرجوا بعد مئات السنين، ولم يجدوا قيمة شرائية لقطع النقود التي كانت في حوزتهم!
أما الجنسية النرويجية فيدعمها دستور دائم وعادل يتساوى أمامه جميع المواطنين نرويجيين وأجانب، وبما يشعر حامل الجنسية بمسؤولية المؤسسات عنه إنسانا ومواطنا، ومن الطبيعي أن يضيف اكتسابها الاحساس بأنني مواطن مُنح حرية كانت مفقودة، وأمانا كان ينتهك بسهولة في أجواء الحروب والدولة البوليسية، ورخص قيمة الانسان في بلادنا .
لكن أنا في النرويج منذ سبتمبر /1993 غريب الوجه واليد واللسان، والذي اختارني لها هو مكتب الأمم المتحدة في مخيم رفحاء لاأنا، يعني حظ يانصيب!، وكنت أرضى - نظرا للمعاملة الوحشية واللاإنسانية التي تلقيناها على أيدي مضيفينا المسلمين السعوديين!!- بإعادة التوطين في أي بلد يحفظ لي وأشقائي آدميتنا ويشعرنا بالأمان، ونتنعم فيه بالحرية والرفاهية.
وكانت النرويج منفى أبديا.

* كيف تقيم الوضع الثقافي الراهن ومامدى قدرة شريحة المثقفين على التغيير في انماط وسلوك المجتمع!؟ وهل هناك اغتراب بين المثقف والمجتمع حسب تصورك؟
- تعرض المشهد الثقافي العراقي بعد التغيير (2003) إلى هزات عنيفة، فقد تعرضت المؤسسات العلمية والثقافية وتأريخ العراق للتخريب والتدمير المنظم، المتحف الوطني والمكتبات والمعاهد الموسيقية والمسارح ودور السينما، مراكز التوثيق والمباني التأريخية والمواقع الأثرية وكل ماله صلة بثقافة البلد وحضارته وتاريخه، وبلغة منظمة اليونسكو "مُحيت ذاكرات ودمرت هويات ثقافية!".
في المقابل انفتحت آفاق جديدة للعراقيين بعد عقود طويلة من العزلة عن العالم، وكانت حرية الرأي والتعبير والنشر والكتابة، لكننا أصبحنا بأزاء وزارة ثقافة كسيحة استباحتها المحاصصة الطائفية والحزبية، ورأسها ضابط شرطة مرة وإمام جامع تارة!، فلم يُشتغل على مشروع ثقافي نهضوي يعيد تشكيل معالم الثقافة والهوية الوطنية العراقية، وفيما أهملت السلطتان التشريعية والتنفيذية - المؤلفتان من أحزاب حكمت العراق أصلا بدون مشروع وطني - حقل الثقافة، لم تصدر تشريعات تنهض بمسؤولياتها وتفعل دورها الحاسم، وسمحت الأحزاب والحكومة بإقامة تجمعات ومنظمات طائفية، بديلة عن المؤسسات والنوادي والجمعيات والمراكز، مولتها من خزينة العراق المنهوبة.
إن النهوض الوطني الشامل بواقع الثقافة يستدعي وضع استراتيجيات طويلة الأمد، تساهم فيها الحكومات عبر تخصيص الأموال اللازمة، وليس الانشغال بإصدار قرارات مضحكة تمس حرية المواطنين، مثل ارتداء الحجاب والحلاقة وعدم خلط الخيار والطماطة في ماعون الزلاطة!، أو منع بيع الخمور وتناولها كما فعل مجلسا محافظة ذي قار والبصرة مؤخرا!
ولاشك أن النخب المثقفة لاتستطيع النهوض لوحدها بمهمة تفعيل مشروع الثقافة وقيادة عملية التغيير الواسعة، دون عمل مؤسساتي ملزم ومنظم، تتبناه وتموله الحكومات المحلية والاتحادية، إن الثقافة العراقية ولكي تنهض وسط الخراب الشامل متمثلا بستة ملايين أمي، في الأجواء الأسطورية والدينية وانتشار الخرافات وغيرها، تتطلب قيام مشروعها باجتثاث الثقافة الفاشية أولا وتأثيراتها وأبعادها، وإعادة بناء المؤسسات الثقافية، التي لاتقل أهمية عن بناء المشاريع الخدمية مثل الكهرباء والماء والطرق والجسور والبنى التحتية.

*هل يتاثر الشاعر بالغربة إيجابا أم سلبا؟ وهل يشعر بالانسلاخ عن جذوره في الغربة أم أنه يحاول الالتصاق أكثر بالوطن الام، وما مدى تاثيرها في تكوين المفردة الشعرية في قصائده ومحاور هذه القصائد ؟
- تعتبر ظاهرة الاغتراب قديمة قدم نشوء المجتمعات البشرية وظهور الأزمات فيها، ويشير العديد من الباحثين إلى صورة مؤثرة في المخيال الديني تجمع بين (اللغة والفردوس والمنفى)، فقد خلق الله آدم (...وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا..البقرة 31) ، ليمسي - بعد ارتكاب الخطيئة - طريدا ومنفيا ، باللغة التي سيكتشف بها العالم ويبدأ التأريخ.
لاشك أن المنفى يشكل ذروة الاغتراب الروحي والوجداني، فعدم ثبات الارض تحت قدمي المنفي يولد تصدعا مستمرا لهويته، وصعوبة في تأقلمه مع الواقع الجديد، أما الشاعر فيشعر فيه بوحدانية وانكشاف مستمرين، تعيده إلى النقطة الأولى أي حينما تصبح اللغة وطنا افتراضيا، ويبدأ بالاشتغال عليها والتأمل فيها، بحثا عن أجوبة شافية لأسئلة الحياة والسياسة والحب والوطن والمنفى وغيرها .
معلوم أن مصطلحات الاغتراب والشتات والنزوح والتشرد، والمنفى بما يفرضه من شروط قسرية : الزمان والمكان، لها صدى في الآداب العالمية، أوديب الذي حكمت عليه الآلهة بالنفي والتيه عن مملكته، ولانعدم موضوعات الحنين والعودة إلى الوطن في الآداب الرافدينية والفرعونية، ثمة غربة أمرىء القيس والمعري والمتنبي وأبو فراس الحمداني، وفي مطلع القرن العشرين هناك أدب المهجر الذي شكل علامة بارزة وتجديدية في الأدب العربي، وهناك الأدب الأوروبي المنفي بين الحربين الكونيتين وصعود الأنظمة الشمولية، ومنفى أدباء أمريكا اللاتينية وغيرها.
في الواقع يشكل الشعر العراقي المهاجر ظاهرة ملفتة، بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر مع عبد الغفار الأخرس وعبد الغني الجميل الشاعر ومفتي بغداد، وثورته ضد الوالي العثماني سنة 1832 ، ودفاع الشاعر الأخرس عنه حيث يقول: لقد طفت في شرق البلاد وغربها وقاسيت في أسفارها كل شدة، وهناك الشاعر عبد المحسن الكاظمي المعروف بمنفاه الاختياري إلى مصر سنة (1911)، خوفا من السلطات العثمانية إلى أن توفي فيها.
ويشهد أدب المنفى صراعا بين هويتين ووجودين انسانيين، إنه أدب أضيف إليه المنفى كمحمول ويغطي الأجناس الأدبية كلها، وبين اللغة والمكان يتأرجح أدب المنفى ويكتب أسطورته، وقد يكون المنفى في داخل الوطن نفسه حيث يميل الشاعر والكاتب إلى الانكفاء على ذاته، ولايعدم وجود مبدعين عراقيين، كتبوا نصوصا يمكن اعتبارها منفية رغم أنه يعيشون في بلادهم!؟، ومثلهم من كتبوا نصوصا يحاكون فيها وطنهم فيما هم منفيون عنه!؟
وفي السياق الانطولوجي للمنفى نراه يحرر الطاقة الانسانية على الكتابة والفعل، ويسهل طريق الوثوب والابداع ويجعل النفس تواقة، بعدما تواشجت فيها جملة قضايا : تجاوز الذات وتحررها ووقوفها على جبل مطهرها، وتوفر شرط الحرية كأحد شروط الابداع بالابتعاد عن عيون الرقيب ومقصه، ومن الطبيعي أن تتأثر كتابتي شعرا ونثرا بمضامين النفي في أفق الوعي الجديد، وتكون المفردة والشطر الشعريين معمدة بالتجارب الجديدة، بعد مراحل طويلة من الاحتكاك بثقافة الآخر والقراءات والتجارب وممارسة الحرية.

* هل تحلم بالعودة يوما الى أرض منحتك الانتماء والهوية رغم انك في أرض منحتك الامان ولم تمنحك الهوية!؟، فانت لازلت عراقيا ولايمكن أن تكون طارق حربي النرويجي!!؟
لاشك أن الفضاء البيني الذي يجد المنفيُّ نفسه فيه، بعدما وسمت تجربة المنفى حياته وأصبحت مرتكزا لها، يعزز الاحساس بالغربة عن المكان والهجرة الدائمة، وهكذا يجد نفسه بين أرضين غير مستقرتين، تحملان كل دلالات الهجرة القسرية وتحولاتها.
فالأولى هي أرض الوطن المستعادة عبر الذاكرة واللغة، والثانية هي أرض المنفى التي يصعب التلاؤم معها، والتعاطي معها أو أن يكون مقلدا لثقافتها في جدلية استلاب الهوية، التي كفت أن تكون مغلقة على نفسها، بل انفتحت على هويات وثقافات مغايرة وتصادمت معها، من جهة ثانية لم يعد المنفى منفى بعد تقدم وسائل الاتصال في عصرنا، فقد ضمته العولمة مع الوطن تحت جناحيها، ففي الحالة العراقية كان السبب الأول للنفي هو نظام الطغيان وسقط في مزبلة التأريخ، ولم يعد الوطن ذلك المكان المتخيل الذي يصعب الذهاب إليه والعودة منه، فقد غادر الكثير من كتابنا ومواطنينا إلى الوطن بعد سنة 2003 خاصة، أضف إلى ذلك ماتتيحه وسائل الاتصال (انترنت/ فضائيات/ وسائل نشر سريعة/ دردشة إلكترونية) من ارتباط افتراضي بالوطن البعيد القريب.
من جهة ثانية يجمع المنفى النقيضين : فهو مطلوب كجهة للخلاص من أحوال سياسية أو اقتصادية، صعبة وكارثية، لكن تكتب فيه الشكوى سواء من خلال الاعمال الأدبية أو الرسائل بين الناس العاديين، والمنفى تجربة وجودية شديدة التعقيد يعاني فيها المنفي من استلاب هويته وتقييدها، وكانت تشكلت من خلال محطات الاقتلاع والتيه والهجرة والرحيل.
لايمكن لي أن أكون مواطنا نرويجيا يوما ما، أوربيا أو أمريكيا أو غير ذلك فـ (أنا الـعـراق لســاني قـلــبــه ودمـــي. فــراتـــه وكـــيــــانـــي مــنه أشطارُ/ الجواهري)، وأتذكر دائما إجابة الروائي جيمس جويس على سؤال وجه إليه، خلال غربته الطويلة في أوروبا، إن كان يتوق إلى العودة إلى إيرلندا فقال : ومتى تركتها!؟
لكن جل ماأخشاه بعد العودة إلى العراق أن أكون غريبا في المكان الغريب!

* اين يجد طارق حربي المثقف نفسه في الشعر أم في الصحافة أم في أتون السياسة !؟، وماهو رأيك في تقسيم الأدب العراقي إلى أدب الداخل وأدب الخارج ؟
أجد نفسي في الشعر والصحافة والسياسة وكتابة رسالة إلى صديق، وتعليق في (الفيسبوك) أو على نص أدبي مهم في أحد مواقع (الانترنت)، وسواها من النشاطات التي يمكن أن يتحقق فيها شيء من الذات، ويترجم شعلة الحماس للجمال والابداع.
وجدتني بعد سنة 2003 أقرب إلى كتابة المقال منه إلى كتابة الشعر، ولايعني ذلك التخلي عنه نهائيا ونشره بين وقت وآخر، لكن الأوضاع الراهنة التي تشهدها بلادنا أحدثت هزة عنيفة، سواء على المستوى الشخصي في التعاطي مع القضية العراقية، أم على مستوى الكتابة، فوجدت أن التصدي لنظام الطغيان، قبل التغيير وبعده بكتابة المقال السياسي، والتنبيه للمخاطر الجدية التي تحيق بالعراق، أكثر فاعلية من كتابة الشعر بكل أنواعه وأبعد تأثيرا.
ليس لأن وظيفة الشعر - في عصرنا - ماعادت حماسية تؤلب الجمهور لأغراض عصبية، كما في الشعر العربي القديم حيث يعد الشاعر صوت القبيلة، بما يعادل في عصرنا بث قناة فضائية!، بل إننا في ذروة المأساة العراقية، أحوج مانكون إلى مواجهة عدو شرس ومخططات ارهابية، إذ مافائدة كتابة قصيدة في الوقت الذي يقتل فيه العراقيون بالجملة، في الشوارع والأسواق والأماكن العامة خلال العمليات الارهابية!؟
دعيني هنا أحيي الكثير من المواطنات والمواطنين العراقيين من خارج الوسط الأدبي، فقد أتاحت ثورة الاتصالات والمعلومات للكثيرين منهم، أن يعبروا عن آرائهم بصراحة تامة، ويكتبوا في مواقع (الانترنت) مقالات وتعليقات، عززت الجهد الوطني للتصدي للارهاب والوقوف مع بناء الدولة الجديدة، ناهيك بفضح الفساد والمفسدين ونقد مراحل البناء الجديد.
من جهة ثانية فإن تجزئة الأدب العراقي إلى "أدب داخل" و "أدب خارج"، أي أدب سلطة وأدب معارضة وهو مااختلقه النظام البائد، يحمل الكثير من علامات الاستفهام، فهل أن من تجاوز حدود العراق وواصل الكتابة من مغتربه يوصف بأنه (أدب خارج!)، ومن بقي في العراق وأبدع يوصف بأنه (أدب داخل)، أم أن هنالك سمات جمالية متراكمة ذات ملامح مشتركة لهذا النوع من الأدب، يمكن أن تعني شيئا للنقاد والدارسين!؟
في إطار ثقافة عراقية مهاجرة، يشكل الأدب العراقي المكتوب في الخارج، بما أتيح له من الحرية والانعتاق من سلطة الرقيب، جزءا حيويا من بنية الأدب العراقي، لحمله دلالات الاضطهاد والقهر بمعنى أنه أدب قضية يحمل هما عراقيا، فالكاتب الذي ولد في العراق ثم اضطرته الظروف السياسية إلى الاغتراب والمنفى وواصل الكتابة من هناك، فهذا يعني أن دوافع الكتابة متصلة مع تغير المكان، ولافرق بين مكان وآخر فالابداع يتجاوز الحدود.
وحينما يغادر الشاعر وطنه إلى دولة مجاورة : مخيم أو عاصمة، وبعدما يسترد أنفاسه فيها ويرى إلى وطنه من بعيد، سيكتشف في هامش الحرية المتاحة له، زيف الثقافة الفاشية التي عاش ضمن آلياتها الرهيبة، ونلاحظ بعد التغيير أن الأحزاب الدينية ورثت بامتياز آليات تلك الثقافة وأعادت إنتاجها، فخوفا من المفخخات والكواتم والاغتيالات خشي الكثير من الكتاب والمواطنين العاديين، نقد الحكومات المحلية والاتحادية والأحزاب والشخصيات وتناول ملفات الفساد، ولجأوا إلى الكتابة بأسماء مستعارة، وكان آخر ضحايا حرية التعبير عن الرأي هو الشهيد سردشت عثمان (حلاج كردستان) الذي قتل بسبب نقده اللاذع لفساد الحكومة الكردية، ولدينا قوائم بأسماء المئات من شهداء الصحافة العراقية.
أرجح أن أدب المنفى سيشهد الكثير من التحولات في العراق الجديد، أهمها تخطي التصنيفات وأن يكون بمواجهة أقداره الوطنية.
وعدا أن الأدباء العراقيين الذين عاشوا زمانين ومكانين هم في إبداع متصل، بما اكتسبوا من تجارب وعرفوا من ثقافات ساهمت في التعزيز النوعي لانتاجهم، فإن الأدب العراقي وجد نفسه دائما موحدا أزاء القضايا الوطنية الملحة، مقابل الانقسامات والتشرذم الذي وسم مسيرة الأحزاب الآيديولوجية قبل التغيير وبعده..

* تركت الحروب تاثيرها في نفسية الشاعر وسادت مفردة الرصاصة والدم، واتسمت لغة الشاعر بلغة الحروب وتلونت بها، فيما أصيبت المفردة الغزلية بالانتكاس، هل تاثرت لغة الشاعر بهذا التلون أم أن أوربا وجمالها تركت تاثيرا ما في لغة طارق حربي الشعرية ؟
- خرجت من العراق بعد اثني عشر عاما قضيتها في الخدمة العسكرية : ثمانية منها في الحرب المجنونة كما ذكرت، وخرج معي نصي الشعري المحمل بأصوات المدافع وصافرات الانذار وسيارات الاسعاف، استغاثات الجنود ونفاق العريف وتملق رأس عرفاء الوحدة لآمر السرية للحصول على إجازة (جمعة وخميس) ، صور من المعركة وقبور بلا شواهد وجثث نصف مدفونة، بقي منها قطعة قماش ظاهر من بزتها العسكرية فوق التراب وبقعة دهنية لاغير، وقد لايجد الشاعر في لحظات المواجهة المصيرية مع الموت إلا وجه الحبيبة يستحضره ويحاوره، في دلالة واضحة على استمرارية الحياة والوقوف بوجه الموت البشع، وفي الأفق المضمخ بالدم والدخان لابد أن تحمل المفردة والشطر الشعري مضامين الفجائعية، وتتراجع المفردة الغزلية، مع أن الشعر الغزلي أكثر خلودا في تاريخ الأدب من ملاحم الحروب والموت والدمار، لكن هذا لايعني أنني توقفت عند عتبة نص الحرب أو ماساة مخيم رفحاء أو مضامين النفي والاغتراب، فقد كتبت العديد من نصوص الحب والغزل موزعة على مجاميعي الشعرية، بينها على سبيل المثال لاالحصر (قصيدة حب عراقية) و(يابنات النرويج) و (على الفرات) و (ليدوم حبهما طويلا) وغيرها.

* بم يحلم طارق حربي وماهي أمانيه ؟
- لاأمنية تتقدم على أمنية استقرار الأوضاع السياسية في بلدي، وتنعم الشعب بالسلام والأمان والرفاهية، وبناء المؤسسات الدستورية والديمقراطية، وتشريع قوانين تدعم المرأة والطفل والثقافة والبيئة والمجتمع المدني وغيرها، واستثمار الثروات الوطنية وتوزيعها توزيعا عادلا بما يكفل انهاء الفقر وتخفيف الاحتقان بين مكونات الشعب، وكم وددت لو أن الخارجية العراقية اشتغلت، وغيرها من مؤسسات الدولة المعنية، على تغيير صورة العراق السلبية في الخارج، التي عمل النظام الطاغي ثم قوى الشر والظلام والرذيلة من بعده على طمسها وتشويهها، كم تمنيت أن لاتكون لكلمة (عراق) دلالات الحروب والفقر والتخلف والعدوانية، لكن البلد المسالم الباني للحضارة الجديدة المساهم في تعزيز الأمن والسلام في المنطقة والعالم.
أما أحلامي الشخصية فهي العودة إلى وطني بعد طول اغتراب والعيش فيه عيشا كريما، وممارسة لذة الكتابة فيه وإليه، وأن أقوم بطباعة كتبي (النثرية والشعرية والمترجمة عن اللغة النرويجية).

18/5/2010
النرويج/ أوسلو



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أربعة (سيناريوهات) غير مقبولة!
- من وحي العيد الوطني النرويجي!
- من المحاصصة الطائفية إلى المحاصصة الانتخابية الرقمية !
- أزمة تشكيل الحكومة..إلى أين!؟
- مساهمة في ملف (الهوية الوطنية العراقية)
- مؤتمرات الارهاب وتأخر تشكيل الحكومة!
- العراق يمر بمأزق سياسي..ماالعمل!؟
- أيها الوطن
- حجرٌ ملَبَّدٌ بالغيوم
- ذباح العراقيين يقلد أوسمة!
- إتلاف الأطعمة الفاسدة في الناصرية..إلى متى..!؟
- لا لجعفر الصدر كمرشح تسوية بديلا عن المالكي!
- نتائج الانتخابات وتغليب المصلحة الوطنية العليا
- ماهذا الغموض..ماالذي يجري!؟
- تحولات في المشهد السياسي العراقي
- تأخير أم تزوير!؟
- انتصار الحبر على الدم!
- شكرا قداسة البابا!
- ماذا وراء زيارة علاوي للرياض والقاهرة!؟
- من سرق أنبوب النفط من مدينتي!؟


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الشاعر والكاتب طارق حربي في حوار عن العراق والشعر والمنفى