أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 9















المزيد.....


الفصل الثالث : مَنأى 9


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3008 - 2010 / 5 / 18 - 15:23
المحور: الادب والفن
    




" أجل ، إنني " الذكرُ " ، الوحيد ، في هذه المدرسة "
ردّدتُ قولي ، مراراً ، خلال اليوم ؛ وتحديداً ؛ منذ أن دَهَمَتني تلك الفكرة ، المُفسّرة مسلك كبيرة الحافظات معي ، الغريب ، إثر مقتل العشّاب . ولكن ، كم أسفتُ لتعجّل كبيرة في غسل وتكفين العجوز ، التعس : كنتُ أرجو أن يُتاحَ لي فرصة إلقاء نظرة عن قرب ، مُتمعّنة ، على حال الجثة . كذلك كنتُ أودّ مُعايَنتها ثمة ، في موضعها ؛ أين تمّ الجرمُ . وحتى الخنجر ، أداة القتل ، لم يتسنّ لي رؤيته ؛ وكنتُ أودّ تفحّصه ، أبضاً .
هكذا ، ودونما وعي ، رأيتني أقارنُ بين جريمَتيْن ، لا يكادُ يربط بينهما شيءٌ ؛ من حيث الظروف والملابسات . إلا أنّ إشارات مُبهَمَة ، من هنا وهناك ، كانت ما تفتأ توخز ذهني ، وتحثني على إعمال الفكر بوعي وصبر وانتباه .
أول إشارة ، إنّ كلاً من وصيف الشاملي والعشّاب العجوز ، كانَ قد وقعَ صريعاً بطريقة غادرة ، كما وبأداة مماثلة . الإشارة الثانية ، أنّ كلا الجريمَتيْن تمّ التوقيت لهما ، عمداً أو اتفاقاً ، خلال فترة مُضطربة وداهمَة . الإشارة الثالثة ، أنه في كلا الدارَيْن ـ مكانيْ الجرم ـ كانَ هناك كتابٌ ، مفقودٌ ، قد تمّتْ سَرقته بعدما عثرَ عليه ؛ كناش الشيخ البرزنجي وحزمة أوراق ياسمينة . الإشارة الرابعة ، حقيقة أنّ شبهة العلاقة الجسديّة ، المُحرّمة ، كانت مُسجّلة في دار الشاملي وفي دار الحديث سواءً بسواء. الإشارة الخامسة ، أنّ نفس الأشخاص ، قد شاركوا في حَبك مَقدور المأساتيْن ؛ أنا والشاملي والمَملوكيْن ونرجس .

ولكنني ، الآنَ ، لم أعُد الذكرَ الوحيد ، هنا . سبعة رجال ، كانَ عليهم أن يُضافوا ـ ولوْ إلى حين ـ إلى رقم وحدانيّتي ، في هذه الدار ، الكبرى ، المَنذورة للنسوة الحافظات وطالباتهنّ . ففضلاً عن وجوه الموكب ، الخمسة ، شاءَ شيخ الشام الجديد ، النقشبندي ، الانضمام لصحبتنا . وكانت كبيرة ، في واقع الحال ، هيَ من أصرّ على استضافة الجماعة على العشاء ؛ بمناسبة وصول خليفة مولانا من الآستانة ، العليّة ، مُحمّلاً بمرسوم منصبه ، السامي . وكنتُ في هذه الساعة ، الملولة ، ما أزال في حجرتي . ثمة وقت بعد ، كاف ، لحين أجَل الوليمة . ومن حسن الفأل ، أنّ الجوّ عندئذ عادَ إلى طبيعته ، المألوفة ؛ إلى عذوبة الأيام الأخيرة ، من الربيع . بَيْدَ أنني ، عوضاً عن الخروج إلى الحديقة ، للتروّح بالنسائم ، المنعشة ، كنتُ اللحظة هنا ، بين الجدران الأربعة ، الكئيبة والخانقة .
نعم . كنتُ أقلّبُ وجوهَ الجريمة ، الأخيرة ، على شتى الاحتمالات . ولكن ، ما أن وصلتُ في افتراضي إلى الإشارة تلك ، الخامسة ، المُختتمَة باسم نرجس ، حتى وجدتني أحيدُ عن برودة العقل إلى حرارة القلب . مخنوقاً بالانفعال ، صرتُ أكثر كدَراً ومَوْجدة لحقيقة إهمال الفتاة ، المُتعمّد ، شأنَ اللقاء بي . فحتى مع وجود والدها ، في الدار ، كان بإمكانها ، لو أرادتْ ، أن تتدبّر الأمرَ خفية ً. ولأعترف ، على كلّ حال ، بأنني حينما كنتُ أستعيدُ صورة نرجس ، المُفتقدَة ، فإنها كانت تتماهى مع صورة صديقتها تلك ، الخرقاء. وكم أدهشني ، إلى ذلك ، أن أكتشفَ بأن هاتيْن الصورتيْن ، المُتمايزتيْن ولا ريب ، قد سبقَ لهما أن تواشجتا في جسَد واحد ، مُلتحم بجسدي ؛ في تلك الليلة ، الحافلة بالمُعاشرة والمُؤانسة : هنا ، على فراش المتعة هذا ، كنتُ ليلتئذ أتمثلُ ، مُلتخاً ثمالة ً، وَجهَ نرجس حسب ، عندما جازَ للعتمة ، البهيمة ، أن تحْجُبَ عن بصري وَجهَ الأخرى ؛ شمس .

ما أن عقدتُ ، في ذهني ، المقاربَة تلك ، المُوافقة بين المرأتيْن الصديقتيْن ، حتى أخذني وعلى حين فجأة ، خاطرُ فكرة غريبة ، مُريبة . إذاك ، تمثل لي احتمالٌ آخر ، يُفسّر لغز مقتل العشّاب ، لم أكن قد فكرتُ فيه البتة إنه احتمالٌ ، لو صحَّ ، فسيلغي آثارَ الإشارات جميعاً ، السالفة الذكر : وهوَ أنّ الرجلَ ربما يكونُ ماتَ ، انتحاراً . هذا الخاطرُ ، ما كانَ يجوز لي التفكير فيه ، طالما أنني أتكلمُ عن أخ في العقيدة ، راحل . بكلمة أخرى ، فلم يَجر ذلك الاحتمال في ذهني ، أبداً ، بما أننا مسلمون ؛ ننكرُ إلى حدّ التكفير مبدأ الانتحار ـ أيْ قتل المرء نفسه ، عمداً ، وبغير وجه حقّ . على المنقلب الآخر للأمر ، عليّ الإشارة هنا ، بأنّ أتباع أبن وهّاب ، المهووسين ، كانوا يفتون بالشهادة، في سبيل الله ، لمن كانَ يندفعُ ؛ مُنتحراً ، وهوَ يحملُ شعلة النار بيده لكي يحرقَ زوايا وتكايا الصوفيّة . إلا أنّ هذا ، حديثٌ آخر .
" ما من شك بأنّ كبيرة ، بدورها ، ستردّ فرضيّتي ببرهانها المَسنود أيضاً بالإيمان " ، قلتُ لنفسي منزعجاً . وإذ نحّيتُ أمرَ المرأة ، الآمرة ، فكانَ عليّ التفكير بداع ما ، مُجز ؛ يبيحُ لرجل عاقل ، مؤمن ، أن يقبلَ خسارة الحياة الآخرة ، الباقية ، لمجرّد النكايَة بالحياة الأولى ، الزائلة . مهموماً ، تذكرتُ إذاك أنّ أيام التسكع والرخاء قد وَلّتْ ؛ وأنه آنَ وقتَ الجدّ والعمل. بهذه الحالة ، فلن يكون بمقدوري ، مستقبلاً ، المَضيّ بتقصي تفاصيل معميّات موت عشّاب دار الحديث ، أو مغامض جريمَتيْ دار الشاملي . فلم أعُد الآنَ ذاك المُطارد ، المُتنكر بصفة الغير ، بل رجل مسئول ؛ وأحد أركان مجلس العمومية ، قبل أيّ اعتبار آخر . أجل ، لقد قرر الشاملي أن يُعيدَ تشكيل المجلس من أفراده ، الناجين من مقدور القتل . وكانَ في وارده كذلك ، أن يضيف إلى المجلس بعضَ الوجهاء ، الآخرين ؛ مثل شمّو آغا وآغا أميني والشيخ سراج العابدين . هذا الأخير ن إذا قبل فكرة التعيين ، سيضفي على العمومية ولا غرو الشرعية ، المطلوبة ، قدّام الباب العالي .

ثقل رأسي بالأفكار ، فرأيتُ أنه خيرٌ لي أن أغفو سويعة ؛ بما أنّ القيلولة فاتَ وقتَها. فما مضى على نومي سويعة أو نحوها ، حتى رأيتني أنهضُ من رقادي فزعاً . فقد أصدى في سمعي صوتُ نفير عظيم ، مُصمّ . إذاك ، كانَ المَشهدُ المتمثل أمامي لا يمت للعالم الآني ، بل للعالم الآخر . في أنقاء بريّة لا نهاية لها ، نقلتُ خطوي مُتأثراً خطى من يتقدّموني إلى ميعاد ، حتم . ثمة ، عند مختتم المفازة ، أبصرتُ قنطرة رهيبة ، هائلة العلو، تشرفُ من كلّ ناحية على واد مبهم ، سحيق . " إنه الصراط ، ولا ريب " ، هتفَ داخلي فيّ . فأدركتُ من نظرة واحدة ، جَزعَة ، أنني أمامَ الجنة والجحيم . فإلى يمين القنطرة ، كانَ الوادي مبسوطاً بخضرة اليانع من الأراك ؛ فيما يسارها ، كانَ غائراً بسعير الأوار . عندئذ ، غشيَ عليّ من هول المنظر . أفقتُ ثانية ً ، لأجدَ دوري قد حانَ . ثلاثة أشخاص حسب ، كانوا يسبقونني في هذا الصفّ من الآدميين ، الموعودين بالحساب . دهشاً ، لم أرَ حولي أياً من الملائكة ، المُفترَض إشرافهم على الموكب حراسة ًوتنظيماً . إلا أنّ بصري هداني ، في آخر المطاف ، إلى بغية تساؤلي : هناك ، على مدخل الصراط ، المُتقن العمارة ، كانت تقف امرأة ما ، مُنقبة الوجه ومُسربلة من الرأس إلى القدمَيْن بملبَس أسود . ثرثرة الرجال ، الثلاثة ، أضحَتْ تتناهى إليّ بوضوح ؛ فعلمتُ ـ ويا له من اتفاق عجيب ـ أنهم الشيخ والقاضي والانكشاري .
" اسمعني جيّداً ، يا شيخ الشام " ، صاحَتْ المرأة بالرجل الأول ثمّ بادرته بالقول " عليكَ أن تحلَّ هذا اللغز : ما هيَ المَطيّة التي نلعنها في الحياة الأولى ، ونباركها في الحياة الآخرة ؟ ". فتردد الشيخ قليلاً ، وما عتمَ أن أجابَ : " إنها الحمارُ " . فأمسكته المرأة بيد واحدة ، فرفعته إلى الأعلى ثمّ قذفتْ به إلى هاويَة سَقر ، خالداً فيها أبداً . راعني للحق ، ما أشهده . فأين ميزان الحسنات والسيئات ؛ أين الشهود والقرائن والأدلة ؟
وعلى أيّ حال ، جاء دور الثاني ؛ القاضي . ما أن أصاخ للسؤال اللغز ، حتى قالَ بحيرة : " لعلها البغل " . فلحقَ التعس برفيقه ، من لحظته . ثمّ حانَ موعد الثالث ، الانكشاري . فلم يكن حظه ، هذا البائس، بأفضل من صديقيْه . إذ أجابَ وهوَ يرتعش : " من المؤكد أنها الجحش " .
حينما حانَ أجلُ التالي ، اقتربتُ من موقف المرأة الهولة ، وكنتُ أكثر ثقة بالنفس . طرَحَتْ هيَ سؤالَ لغزها ، فأجبتها على الفور : " إنها الغانية " . وإذا بها ترمي نقابها عن سحنة دقيقة القسمات ، ناصعة ـ كمرمر شاميّ . ثمّ أعقبَتْ ، على الأثر ، بخلع ملبَسَها . كانت الآنَ عارية تماماً ، بجسد لا مثيل لحسنه ؛ فلم أشكّ بأنها الحوريّة ، الموعودة . ولكنني ، عندما استرددتُ بصري من بدنها ، لأحدّق بوجهها ، إذا بي أمكثُ في حيرة ، بيّنة : كانت ملامح الحورية الساحرَة ، البهيّة ، تتناوبُ بدأب في منقلبها لأشكال مألوفة ، مُفتقدَة . كنتُ أرى فيها باستمرار ، وعلى التوالي ، هيئة زمرّد ، فياسمينة ، فنرجس ، فشمس . قلتُ لها مأخوذاً : " فأنت إذاً أركانُ السرّ ، الأربعة ، التي تسندُ عَرْشَ القدّوس ؟ ".

عدّة طرقات ، مُوقعَة بأدب على باب الحجرة ، أيقظتني من مَنامي .
أعقبََ ذلك تطامنُ رأس المَملوك ، المَنحوس ، المستأذن بالدخول إلى حضرتنا . مؤخرة الصقليّ ، الممتلئة ـ كما هيَ حال مثيلاتها عند الخصيَة ـ أخذتْ من ثمّ تجتسّ أرضية المصطبَة بحثاً عن وضعيّة ، مُريحة . ولكنّ الصقليّ ، فارقَ ملبَسَ خادمات الدار ؛ مثلما كانَ قد فعله ، قبلاً ، رفيقه الروميّ . الظلال تكاثفت في الغرفة ، فطلبتُ من المملوك أن يُضيء المشكاة . في تلك السانحة شئتُ أن أرقبه بتمعّن . فلا بدّ أنّ أمراً ما ، مُلحاً ، يَشغل ذهنه ؛ لكي يبدو بهذه الهيئة المُتعبَة ، الضائعة . من ناحية أخرى ، كانَ غيابه عن محفل الموكب ، لافتاً ، وبالضدّ من سلوك رفيقه ، الروميّ . إنّ تصرفات الصقليّ ، بشكل عام ، صارتْ غير محمودة وتدعو للتساؤل . أيمكن أن يكونَ مصيرُ ياسمينة ، المجهول ، أثرَ فيه بشدّة ؛ فانزوى إلى فراغ العزلة والعبث ؟
" لقد عُقدَ الصلحُ ، أخيراً ، بين المُتخاصمين . مَرحى " ، بدأ المَنحوسُ تجديفه . تطلعتُ نحوه مُشفقاً ، ولم أحر بكلمة . من الأفضل ، مع أنداد هذا المملوك الماكر ، أن يتذرع المرءُ بكثير من الصبر ، والصمت أيضاً . كانَ يتشاغلُ بتقليب لفة ، صغيرة ، بينَ يديه . إذاك تذكرتُ ، مُجفلاً ، حزمة أوراق ياسمينة ، المسروقة . انتبه لتحديقي ، المُثابر ، في الغرض الموجود معه ، فما كانَ منه إلا التلويح به . " تفضل، يا آغا ، وأنظر إلى هذه التحفة " ، قالها وهوَ يمدّ إليّ اللفة . حينما تناولتها من يده وفتحتها ، إذا بإطار خشبيّ ، مربّع ، يُطالعني بصورة شخص ، ملوّنة، مرسومة بيد ماهرة ، متقنة الصنعة . وكانت هذه ، صورة الصقليّ نفسه . بطبيعة الحال ، لم تكُ هيَ المرة الأولى ، التي يُشافه فيها بصري فنّ تشخيص البشر ، الغريب على تقاليدنا وعقيدتنا . فقد سبقَ لي أن عاينتُ مرضى من طرف الموكلين ، الإفرنج ، وكانت جدران صالوناتهم ، الرَحبة ، مغروسة بالتصاوير الطبيعية والآدمية وحتى الحيوانية . أجل ، إنهم مغرمون بالكلاب ، بشكل خاص ، ويجعلونها أحياناً بمنزلة أفراد عائلاتهم . في إيماننا ، نوصّفُ بالنجاسة هذا الحيوان ، الوفيّ ؛ فما بالكَ بتصويره .

ولكن ، أنّى لهذا المملوك بمن يَرسمه ؛ وهوَ المَحصورُ ، دوماً ، بين جدران مُستقرّ سيّده ؛ هنا ، في سوق ساروجة أو ثمة ، في القنوات . فإذا به يَسبق سؤالي ، فيما كانَ يستردّ غرضه بالقول : " إنه من عمل مريضتكَ " . حاولَ اصطناع البراءة ؛ إلا أنّ قسماته ، المُتأصل فيها الخبثُ ، خانته على الأرجح . من ناحيتي ، بوغتُّ في البدء بذكر المُشرفة . ولكن ذاكرتي ، اليقظة ، استدركتْ الأمرَ . فاستعدتُّ على الفور مَشهَدَ الحجرة العلوية ، الذاخرة جدرانها بفنّ صاحبتها ، الغريب التكوينات والألوان . فسألته على الأثر : " أأنتَ من طلبَ منها ، إنجاز هذا التشخيص ؟ "
" كلا ، يا سيّدي . إنّ تلك المشرفة ، على حدّ علمي ، ترسمُ كلّ من تعرفه " ، أجابَ برصانة . إنه خنزيرٌ ، ربيبُ القراصنة هذا ؛ خنزيرٌ آدميّ ـ غفرانكَ يا ربّ . إن فعلَ " يَعرف " ، في اللغة العربية ، يعني أيضاً المُضاجعة . على أنني ، مُداوراً ، قلتُ له مبتسماً : " وإذاً ، كانَ جديراً منها أن تقترحَ رسم الحكيم ، الذي عالجها " . وإذا به يقول بنبرة جدّية : " أعتقدُ أنها فعلت ذلك ، يوم أمس " . ولكن ، أيمكنُ أن تعني إشارة الماكر ، الموسومة ، معرفته بما جرى بيني وبين المشرفة في ليلة اليوم ، المنقضي ؟
" إنّ المشرفة ـ بحَسَب تأكيد سيّدتنا ـ عَمَدَتْ إلى رَسمكَ من الذاكرة ، حالما غادرتَ أنتَ حجرتها " ، استدركَ المملوكُ موضحاً . بدوري ، رأيتني بحاجة ولا غرو ، لتوضيح آخر منه : " ومن هيَ سيّدتكَ ، تلك ؟ " . فأجابني الأخرق ، فيما يَرْمُش عينيْه بحركة أنثوية : " إنها الوصيفة ، السابقة ، بطبيعة الحال " ، ثمّ أردفَ قائلاً باحتفاء " يبدو أنّ الأبّ أعترفَ بابنته ، أخيراً . فالشاملي الكبير ، وحالَ وصوله للدار ، كانَ قد أمَرَ بأن نتعاملَ مع نرجس باعتبارها سيّدتنا " . حينما يَجمَعُ أحدٌ من المَملوكيْن الفعلَ أو الفاعلَ ، في جملة قوله ، فمن المفهوم أنه يقصدُ رفيقه الآخر ، أيضاً .
لقد استعادتْ نرجس ، إذاً ، اعتبارها ونسَبها . هذا خبرٌ طيّب ، بحق . فلنرجع إلى خبر المشرفة تلك ؛ التي كانَ حريّ بها أن تدعى " مُشخصة " . بَيْدَ أنني ، عندما هممتُ بتوجيه سؤال آخر عنها ، إذا بالمملوك يقول لي بنبرة متظاهرة ، مُبيّتة : " المسكينة ، شمس . يقولون ، أنها أصيبتْ بالانهيار ، حينما علمَتْ بمقتل العشّاب " . للوهلة الأولى ، لم أفهمَ سبباً ما ، معقولاً ، لكي يفوه هذا الماكرُ بمعلومته ، الأكثر جدّة ، وهوَ بهيئة من اللؤم والصفاقة . فسألته بلهجة عادية ، متكلفاً اللامبالاة : " فلا ريبَ أنّ المُعلّمَ ، المَرحومَ ، كانَ قريبَ شمس هذه ؟ "
" بل كانَ عشيقها ، كما يزعمون " . في تلك اللحظة من الحيرة ، كانَ رأسي يَدورُ ، ويدور . لقد عادتْ هواجس التقصّي ، المُجنحة ، تنهكُ فضائي بتحليقها خلاله . فتمنيتُ لو أنّ المَملوكَ ، المَنحوس ، يختفي عن أنظاري ، أبداً . فتباً له من أفاك ، مأفون . وبؤساً لابتسامته الكريهة ، الشبيهة بتكشيرة الوحش . نعم . كنتُ أهمّ بالانهيال على رأسه ، الأخرق ، بفأس هذا السؤال القاطع : " وماذا كان شغلكَ ثمة ، في كوخ العشّاب ، في اليوم الفائت ؟ " . ولكنّ رفيقه ، الروميّ ، أطلّ عندئذ من باب الحجرة ، مستأذناً بدوره : " كبيرة تطلبكَ ، يا سيّدي . إنهم بانتظاركم هناك ، على مائدة العشاء " .

كانَ مساء يوم ربيعيّ ، حارّ نوعاً ، مناسب لعشاء في طلاقة الهواء . هنا ، في الرواق الفسيح ، المُتصدّر صحنَ الدار ، شاءتْ كبيرة الحافظات أن تحتفي بالزائرين ؛ من وجوه وأعيان البلد . حينما أصرُّ على أنهم كذلك ، فإنني لا أتجاهل حقيقة ؛ أنّ المدينة القديمة برمّتها ، ما تفتأ بقبضة وجاق القابيقول ، القاسيَة . هذه الحقيقة ، يزدردها بصعوبة هؤلاء المُجتمعون الآن على طاولة الطعام . بيدَ أنهم ربما يعزون النفسَ بأنّ الحالَ الآن أفضل بما لا يقاس مما مضى . فعلى الأقل ، يُسيطرُ المجلس على معظم ضواحي الشام ؛ من الصالحية شمالاً وإلى سوق ساروجة جنوباً وحتى إلى الميدان البراني . وهذا كان قد تحقق بفضل شمّو ىغا ، الذي وحّدَ في قوّة مشتركة ، معادية للقابيقول ، كلّ من الأورطات وحرس العمومية وبقايا اليرلية . وهو أمرٌ هام للغاية . وقد فهمتُ ، من ناحيتي ، هذه الحقيقة ؛ فبادرتُ لمصالحة آمر الدالاتية ؛ آغا يقيني . فعندما أن تلاقينا ثمة ، عند الظهيرة ، في الساحة المحدقة بمقام ركن الدين الصالحاني ، فإنه مدّ يده لمصافحتي . إلا أنني عانقته أيضاً وقبلتُ رأسه . وقد سرّ الآمرُ من تصرفي ، معتبراً ذلك ولا غرو استرداداً لكرامته .

المُضيفة ، كبيرة ، ومع أنها لا تكبرُ عمراً بعضَ الحاضرين من ضيوفها ، إلا أنها كانت تتصرّفُ وكأنها أمّ الجميع . هكذا ، أخذ كلّ من الحضور مكانه ، المُحدّد ، على المائدة : تصّدرَ المجلس الشيخ النقشبندي ، وإلى اليمين منه قعدَ الشاملي والعريان والقوّاص . أما إلى يسار الشيخ ، فجلس شمّو آغا والقاروط وآغا يقيني . من جهتي ، فضلتُ ذوقا أن أكونَ على طرف المائدة الأيمن ، بمواجهة كبيرة الحافظات . ولقد سرّتْ المرأة من تواضعي ، كما أفصحَ عنه فمُها البسّام وعيناها المتلألئتان . القاروط بدوره ، كانَ يتطلع إليّ بمودّة وصداقة . إنّ خدَمه أيضاً كانوا بتصرف الدار، مع المَملوكيْن السعيديْن ؛ الذيْن عادا إلى سابق صفتيْهما هيئة ً ومعاملة .
فما هيَ إلا برهة هيّنة ، ومركز الطاولة يتوالى فوقه الأطباق . قدّمتْ أولاً أصناف السلطات والمشهيات ، مع دوارق وأقداح الأشربة ، المثلجة . فما أن فرغنا من مُبتدأ الوليمة ، حتى تواترَ خبَرُها بأنواع المآكل ؛ المشوية والمطبوخة والمسلوقة . ثمّ ما لبثتْ الحاشيَة ، المُلحقة ، أن أتحفتْ المُختتمَ بالفواكه والحلوى . بعدَ فراغنا من تناول العشاء ، وغسل أيدينا ، انتقلنا إلى داخل الرواق ذي الأرضية المرمرية ، المُشكلة من مشاقات بيض وسود . ثمة ، كانَ علينا الاسترخاء على المصطبَة الدائرية ، المغطاة بالدكك الخشبية والمظهّرة بالبسط والطنافس والنمارق . نورُ المكان ، كانَ ساطعاً بفضل المسرجة ، العظيمة ، المتدلية من سقف الرواق . وقد ضافرَ ذلك ، ما كانَ من أضواء الشمعدانات الكبيرة ، الفضيّة ، المركونة في الكوى الصغيرة ، المُصمّتة ، المحفورة في الجدران .

بالمقابل فنورُ جلستنا ، ولا غرو ، كانَ السراج النقشبندي . أتكلمُ مَجازاً ، مُحيلاً لصفة اسم الشيخ . وفي واقع الحال ، فإنّ شيخ الشام هذا ، الجديد ، وإن كانَ ذا سحنة ناصعة ، إلا أنّ الجهامَة لا تفارقها إلا في سوانح ، نادرة . كذلك الأمر ، فإنّ بوارق الدهاء والمكر والحذر ، كانت تشعّ في سواد عينيّ الرجل ، المُبطنتيْن ، المُشرفتيْن على أنفه الأقنى وفمه الواسع ، الشهوانيّ . كانَ مُهَندماً بمَلبس أهل الآستانة ، المُسْتحدَث . ولداعي مظاهر المَشيخة ، أضفى على هيئته عمامة الرأس ، الموشاة بخيوط براقة من الحرير الأسود . إلا أنّ شيخنا ، من ناحية أخرى ، كانَ يُفارق أخوانه المتصوّفة في موضع آخر من مسلكه . فهوَ لم يكن يتمتمُ ، على طول الوقت ، بالتعاويذ المُختلفة المقاصد والاتجاهات . إنه ، بهذه الحالة حَسْب ، جديرٌ بأن يخلفَ مولانا ؛ مجدّد الوقت . ولكنّ كثيرين من المشايخ والمريدين ، كما هوَ معلوم ، كانوا ينكرون وراثة سراج العابدين للخلافة . كانوا يرون أنه حازها بدون وجه حق وبالضدّ من الوصيّة البهائية ، الخالدية ؛ فأطلقوا عليه نعتَ " الغاصب " .الشيخ القبّان ، رحمه الله ، كانَ يتزعّمُ أولئكَ المُعترضين . فكانَ موته الفاجع ، بالتالي ، فائدة لهذا الدّعي .
" الحمد لله الذي جَمَعنا في هذا المكان ، المبارك ، بعدما أجليَ عنه الأوباشُ " ، استهلّ شيخنا الأمسيَة بدعاء شكره . وكانَ يُسعدني ولا ريب أن أتمّمَ جملته ، بالقول : " الأوباش الغاصبون " . وكأنما قرأ الشيخ الكلمة في ملامحي ، طالما أنه رمَقني من طرف عينيه بنظرة مواربة ، غير طيبة . ففيما سلفَ من ظهيرة اليوم ، كانَ شمّو آغا قد قدّمني لصاحب السماحة ، مذكراً إياه بصفة المرحوم والدي ـ كحواريّ قديم لمولانا . بَيْدَ أنني ، صمّمتُ مُخلصاً ألا أبتدهُ عداوة ً، بعدُ ، مع أيّ من أركان المجلس أو من الذين يمنحونه تأييدهم ومباركتهم . إنّ هزيمتنا ، المُنكرة ، أمامَ القابيقول ، كانت من واردات أهوائنا وانقسامنا وفرقتنا .
شخصٌ آخر ، من الحضور ، كانَ يشاركُ الشيخ شعوره تجاهي . إنه قوّاص آغا ، الذي كانَ اللحظة يجلس بمقابلي تماماً ، يرشقني بين فينة وفينة بشوارد مزورّة ، هاربة من عينيه الكبيرتيْن ، المُجهدَتيْن . لقد تناهى إليه ، بكل تأكيد ، حكاية الرؤيا ؛ فكانَ يُحنقه، بطبيعة الحال ، أن أكونُ أنا بطلها وليسَ هوَ ؛ باعتباره كانَ خطيب ياسمينة . ولكن في آخر الأمر ، فكرتُ ، فإنّ آمر اليرلية هذا ، السابق ، كانَ جديراً بالرثاء .

على أنّ فكرة داهمَة ، مُريعة ، عليها كان أن تبلبل خاطري بقوّة : لقد ذبحَ عشّابٌ عجوز هنا ، في هذه الدار ، الكبرى ؛ عجوز ، كانَ على ما يبدو يقترف بحق الدارسات نفس ما كانَ يُمارسه من موبقات ، وصيفُ الشاملي ، المغدور ؛ الذي كان في حياته مفتتناً بالخصيَة المماليك .
وإذاً ، ألا يمكن أن يكونَ احتمالاً ، معقولاً ، ما اُخذتُ به على حين غرّة ؛ بأنّ أحدنا سيلحقُ بمصير صاحبنا ، اللدود ؛ المرحوم آغا أميني . إنها أمسيَة لطيفة ، رائقة ، تذكر المرء بأمسية سابقة ، مماثلة ، في بيت الشاملي بالقنوات . فمن هوَ ذاكَ الجاني، بيننا ؛ الذي سيدسّ السمّ ، خفيَة ً ، في فنجان القهوة المُهيّلة ، المرّة ؟

> ويليه الفصل الرابع من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " صراط " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13


المزيد.....




- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 9