|
الفصل الثالث : مَنأى 6
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 17:16
المحور:
الادب والفن
" إنّ أبي سيبيتُ ليلته في مكان آخر ؛ في سوق ساروجة . إنه في ضيافة وجيه مصريّ " إنها نرجس ، إذاً ، من كانت قد فجأتني ليلتئذ بمعرفتها لغز غياب الشاملي . لم يكن لديّ شكّ ، بطبيعة الحال ، بأنها كانت تقصُد القاروط ؛ فهوَ الوجيهُ المصريّ ، الوحيد ـ على حدّ علمي ـ الذي يقيم في هذا الحيّ ، الراقي . وكانَ والدها ، قبيل اختفائه ، قد طلبَ من كبيرة أن تنقل منامَة ابنته من الدور الأرضيّ إلى الدور الفوقانيّ . عند ذلك ، شاءتْ نرجس أن تشارك مشرفة الردهة ، الثالثة ، حجرتها الصغيرة ؛ بما أنهما أصبَحتا صديقتيْن . من هناك ، كانت البنتُ الحسناء ، الجَسورة ، قد تسللتْ إلى مكاني هنا ، بعيد منتصف الليل مباشرة ً. وها هوَ الفجرُ ، بدوره ، يتسللُ إلى حجرتي ، خلل الكوّة المُعتليَة جدارها القبليّ : إنه يعلنُ عن حضوره ، الحَييْ ، بعلامة متدلهة من زقزقة عصافير الحديقة ، القريبة ، كما وبمَشام الشمْشير ، العَبق ، المُسَوّرَة أغراسُهُ ، المُقبّبَة ، الحوضَ الضيّق ، الرابضَ حذاء باب الحجرة .
" لا بدّ أنهم ثمة ، في المَسجد ، لحَظوا تغيّبك عن صلاة الفجر " قلتُ لنرجس ، المُتمدّدة قربي برخاء جَسَدها الجميل ، الرشيق ، المُكتنز حَسْب عند الردفيْن والنهديْن . إذاك كان رأسُها ، المُعشَّقُ بلهَب من عقيق الشَعر، متوسّداً على النمْرَقة جنباً لجنب مع رأسي المُتمَلمل ، المَلول . حينما أفصحتُ لها عن قلقي ، التفتتْ إليّ لتجيبني بنبرَة لا مُبالية : " أعتقدُ أنّ شمْس ، صديقتي ، قد تدبّرتْ الأمرَ " " أهيَ تلك المُشرفة ، التي كانت سببَ المأزق ؟ " ، تساءلتُ باهتمام . فما كانَ من وجه نرجس ، الصَبوح ، إلا الإظلام بتجهّم ، مُبين ؛ وكأنما شبحٌ ما ، ملعون ، قد تجسّمَ لعينيْها . ثمّ ما لبثتْ أن أخذتْ نفساً مَديداً ، مُثابراً ، وقالت باحتقار : " يا لذاك العجوز ، القذر. إنه الشيطانُ بعينه " " إنه شيخُ الشام ، بعد كلّ شيء " " الشام ؟ لم يبقَ من هذه المدينة ، المَلعونة ، سوى اسمها حسب " " لا تنسي أنها مدينة الله . إنّ كلمة الحَقّ ، ولا ريب ، سَتبثُّ أخيراً في مَنطق خلقه " " هذا سيكونُ ، بعدما يفنى الخلقُ بالطاعون والجراد " ، قالتها بتأثر ومَوْجدة . أدركتُ أنّ الفتاة الفاتنة ، الحَصيفة ، كانت تعني الوهّابية والانكشارية . ولكن ، ما لم يكن بمُسْتوى إدراك كلينا ، أنّ هاتيْن الآفتيْن ، المَوْسومتيْن ، سيكونُ عليهما جرّ أذيال الهزيمة من هذا الحيّ ، على الأقل . نعم . يومان ، على الأثر ، وظهرَ الشاملي بيننا . ولكن ، أيّ ظهور مُباغت ، مُبهر ، كانَ عليه أن يجتليَ عندئذ .
غادرتْ نرجس غرفتي ، من غير إبطاء . إلا أنّ النعاسَ ، كانَ ما يفتأ عصياً على عينيْن ، ذاويتيْن ، أجفى النومُ أجفانهما. قبل ذلك ، حينما كانت البنتُ عندي ، داهمَني الدوارُ مرة وراء الأخرى . إنّ الريَبَ كانت تتناهبني من جديد ، بعدما جازَ لها أن تخمُدَ على أثر مفاجأة حضور ذلك الشيخ ، الشيطان . في مهبّ هذه الهواجس ، رأيتني أهملُ شأنَ صلاة الفجر ؛ التي فوّتُ ميقاتها ، على كلّ حال . إنه شبَحُ القاتل ، من شاءَ الآن أن يقلقَ رقادي . فحينما هتفتُ بالشاملي ، في ظهيرة الانكشارية تلك ، الجهنمية ، أن ينقذ ياسمينة من براثن القاتل ؛ فإنني كنتُ أعني ولا غرو ، قوّاص آغا . غرْسُ هذه الشبهة ، كنتُ أنميه في ذهني يوماً أثر يوم . إلا أنني ضرَبتُ صفحاً عن ذلك أخيراً ، عندما أضحى مصيرُ آمر اليرلية بعلم الغيب ؛ مع ترجيح مقتله بيد منافسيه ، ثمة في بيت كبير الأعيان . لا أنكرُ أنّ عبارة حانقة ، أفلتتْ من لسان سرّي ، تؤكد عزمي على متابعة القاتل ، حتى لو كانَ قد أرفقَ سرّه معه إلى القبر . شبهة القتل ، المُلتصقة بجلد اليرلي باشي ، كانَ لها عندي أكثر من داع ؛ سواءً بسواء أكانَ ذلكَ مُبرَمَ يقين أو محضَ شكّ . في أمسية الجدَل ، التي سبقتْ ليلة الأورطات ، أرادَ المُضيف أن يندَه على الخادم ، لكي يُخفف من وهج المسْرَجة ، المُعلقة فوق رؤوسنا ؛ بهدف اتقاء شرّ الهوام ، المزعج . وإذا بآغا أميني يهبّ عندئذ من مجلسه ، لكي يُعالج الموضوع بنفسه . للحظات ، كانت أبصارُ الآخرين ، جميعاً ، متعلقة بالرجل ؛ وهوَ مستو بقامته ، المَمشوقة ، ويده ممدودة نحوَ ذلك الغرَض : أليسَ من الوارد أنّ قوّاص آغا ، وقد انتهزَ الفرصة ، السانحة ، كانَ لحظتئذ يدسّ مَدقوقَ السمّ ، خفية ً، في فنجان منافسه ، اللدود ؟ كما أنّ موضوع خطبة ياسمينة ، كانَ بدوره قد دفعني للتوجّس بأمر آخر ، يخصّ مقتل الوصيف . وهوَ احتمال كون القوّاص ، من تواجدَ معَ خطيبته في حجرتها ، في ليلة الأورطات تلك ، وقبيل لقائي معها . فما دامت حجرة أبنة الشاملي تملك درجاً ، سرياً ، يُفضي للقبو ، فكان وارداً أن يكونَ الرجلُ قد استخدمَ المفتاح ( المسروق من الوصيف ) ، بهدف التسلل إلى البيت التحتاني ، بدون أن ينتبه أحدٌ له . فإذا كانَ الوصيفُ ـ المُشرع بمحاولة الفرار من الدار ـ قد فضحَ ، اتفاقاً ، وجودَ القوّاص ثمة ؛ فلا يُستبعَد إذاً أن يكونَ سقط صريعاً بخنجره . وربما هذا كانَ سبب إحجام ياسمينة ، المُثير للاستغراب ، عن استعمال الدرج المؤدي للقبو في لحظة الخطر تلك ، المُميتة : فهل كانت قد سمعَتْ صرخة الوصيف ، المُحتضر ؟ في هذه الحالة ، يكون القوّاص قد قتلَ آغا أميني عَمْداً ، بينما أنّ مقدوراً جعله يقتل الوصيف اتفاقا . إلا أنّ قبوله خطيباً من لدن ياسمينة ـ ومهما يكن معنى شروطها لإتمام عقد القران ـ لهوَ أمرٌ مُحيّر ويثير أيضاً تساؤلات جمّة . إنها فتاة عاقلة ولا ريب ؛ ذات شخصية قوية ، مستقلة. فضلاً عن حجاب قسَم أبيها ، المنذور لسعادتها الزوجية . فلمَ إداً ستضع حياتها ، بهذه السهولة ، بينَ يديْ آمر اليرلية ؛ وهوَ المعروفُ بصلفه وتعنته ، علاوة على كونه متعدد الأزواج والجواري ؟ أيمكن أن يكونَ دسّه السمّ لآمر القابيقول ، كانَ بطلب من خطيبته ؛ وأنّ ذلك هوَ الشرط الرابع ، السرّي ، لقبوله بعلاً ؟ ولكن ، لمَ تتورّط امرأة ، فتية ، مثل ياسمينة ، بموضوع شنيع يُنافي مَسلكها ورهافة مشاعرها ؟ أبسبب كناش البرزنجي ؛ الذي كانت قد قرأته ـ كما سلفَ وعلمنا ؟ كلّ ما أوردته ، آنفا ، إنما كانَ من افتراض مخيلتي . وفي نهاية المطاف ، إذا كانَ القوّاصُ جانياً ، فإنه في هذه اللحظة بين يدي ملائكته ؛ وربما يحاسبونه حساباً ، عسيراً . أما نحنُ ، البشر الفانين ؛ فلا يجوز لنا إلا طلب الرحمة للميّت.
بالمقابل ، فأكثر من إشارة ، كانت الآن تتجه نحوَ نرجس ، مُحيلة ً إياها إلى صفة الجاني ، أو بالقليل ، أداته . أورادُ الشبهة ، داوَمتُ على ورْدها من قراءتي لدلائل ، عديدة ، في سطور كتابَ الحكاية، التي سبقَ أن روتها إبنة الشاملي هذه ، البكر ، والأشبه بأسطورة . أوّل دليل : أنّ الانكشاريّ الذي اختطفَ ماريا ، أمّ نرجس ، لم يكن سوى آغا أميني ؛ وهوَ من عَمَدَ إلى وَهْبها للشاملي كهديّة . ولا ننسى ، أنّ كناش البرزنجي ، كانَ أيضاً عربونَ صداقة الرَجليْن . الدليلُ الثاني : يُداور في فلك حقيقة ، معروفة ؛ في كون الوصيف ذاك ، قريب القادين ، من دأبَ على تنفيذ أوامرها الوخيمة ، الأكثر مدعاة للتكتم والصمت ـ كدَسّ السمّ لهذه أو تلك من غريماتها وأبنائهن . الدليلُ الثالث : هوَ إجابة نرجس المُرتبكة ، المُتلعثمة ، على سؤالي لها ، عن كيفية قضائها الساعات الرهيبة لليلة الأورطات ، المَهولة. فبحَسَب ما أفادتني به ، أنها كانت " تتسلى " في المطبخ صُحبَة خدم الدار ، حينما دوهموا بنذير الهجوم ؛ فما كانَ منها إلا أن رافقت الخدم خلال فرارهم ، والتجائهم من ثمّ للمسجد الصغير ، المجاور . دلالة المَطبخ ( السّم ) ؛ أليستْ كافية ، وحدها ، لكي يرتابَ المَرءُ بمسلك الفتاة ، في تلك الليلة ؟ الدليلُ الرابع : ما يَربط نرجس من علاقة مع الصقليّ ؛ علاقة ، تبدو عاديّة مَظهراً ، إلا أنها تتبَطنُ غموضاً ، أيضاً . إنهما أصلاً من بلدَيْن ، مُختلفيْن . ولكنّ البنادقة والصقالبة ، كما هوَ معلوم ، يوحّدُ بينهما اللغة الطليانية . فمنذ عودة نرجس لبيت أبيها ، قبل حوالي نصف السنة ، طلبَ منها المملوكُ ، برجاء وإلحاح ، أن تساعده لكي يستعيد بدوره لسانه الأم . دلالة العلاقة ( الانتقام ) ؛ ألا تحيلنا كذلك إلى حقيقة أخرى ، لا تقلّ سطوعاً ؛ وهيَ أنّ كلاهما كانَ يترصّدُ نفسَ العدوّ ـ وصيف الشاملي ـ الذي ألحقَ بهما آذىً لا يمكنُ علاجه ؟ الدليل الخامس : أنّ الصقليّ ، لم يُنكر تغييره ملابسي ، عندما غشيَني بحرانُ الحمّى . ولكنه أنكرَ قطعاً أن يكون قد عثرَ على حزمة الأوراق تلك ، التي كانت طيّ الملابس . كذلكَ كانَ المملوكُ ، قبلاً ، قد ادعى بأنه لم يقرأ الكناش ، حينما عثرَ عليه رفيقه ، القبرصيّ ؛ وأنه لم يفعل ذلك أيضاً ، لما أعادته له ياسمينة بعدَ فراغها من الاطلاع عليه . الدليل السادس : أنّ كلّ تلك الأمور ، الخطيرة ، حصلتْ بعد عودة نرجس إلى بيت أبيها ـ كوصيفة مزعومة لأبنته . والسؤال هنا ، لمَ لمْ يَنبُس الصقليّ بكلمة واحدة عن هذه المُقيمة ، الجديدة ، وما إذا كان لها علمٌ بموضوع الكناش ؟ الدليل السابع والأخير : أنّ نرجس ، التي سلمتْ لي حزمة الأوراق بحسَب طلب أختها ، قالت لي بلهجة صادقة ، لا يُمكن الرَيب فيها ، أنها لم تقرأ متنها . وخلالَ رواية البنت لحكاية اختطاف أمّها ، فإنها أفادتني بأنها استفادتْ من يوميات شخصية خلفتها ورائها هذه ، المرحومة ، مكتوبة بلغتها الطليانية . يمكنُ لهذه المعلومة ، غير المَكتومة ، أن تكون قد تناهتْ للصقليّ ؛ فتوهّمَ بأنّ ياسمينة ، بدورها ، كان قد سبقَ لها وكتبتْ يومياتها في تلك الأوراق ، المُسلمة إليّ عن طريق نرجس . بهذه الحالة ، أليسَ من المعقول أنّ المملوكَ عمَدَ إذاك إلى سرقة " كناش ياسمينة " ، خوفاً من أن يصلَ ليد أبيها ، المُخيف ، فتفتضحُ سيَرُ العشق ، السرّية ، المُدوّنة على سُرر وأرائك وبُسُط الحَرَمْلك والخدَمْلك ؟
" عليّ أن أعمُدَ إلى إجبار الصقليّ على الكلام ، حتى لو اضطررتُ لتهديده " فكرتُ في سرّي ، وأنا أتمثلُ سحنة المملوك ، المَرسومة بريشة المكر . قبل أن أستسلم لسلطة النوم ، الغاشمة والساغبة في آن ، تمنيتُ من الله مُخلصاً أن يحفظ الشاملي وأهله ، أجمعين . وحينما أفقتُ ، مرّة واحدة حسب ، أدركتُ أنّ غفوتي ، المطوّلة ، كانت بلا أحلام أو كوابيس . نعم . كان ذلك من شدّة التعب والإرهاق والقلق . نهضتُ من فراشي ، على أيّ حال ، مُتيقناً أنها ساعة الظهيرة ، أو أزيَد من ذلك بقليل . ثمة ، في الردهة الظليلة ، الرطيبة ، المفتوحة على مناظر الحديقة والمَعْشبَة ، كدتُ أن اصطدمَ بإحدى نساء الدار . ولكن ، يا للموقف الفكه . إنه القبرصيّ ، من كانَ يقفُ أمامي بهيئته المُضحكة ؛ بملبَس نساء المدرسة المُحتشم ، الأسوَد . رأيته متغيّر اللون ، لاهثَ الأنفاس . وكانَ التوجّسُ باد في عينيه الكبيرتيْن ، الجميلتيْن . عندئذ قال لي ، بأنّ المملوكَ الآخر ، رفيقه ، مفقودُ الأثر منذ الفجر ." كيفَ ذلك ؟ ألا تنام معه في نفس الغرفة ؟ " ، سألته باهتمام . أجابني بلهجة مُداورة ، لم تخفَ عليّ : " أجل ، ولكنه أفاقَ مُبكراً ربما " . دبّ فيّ القلق ، ولا غرو . استعدتُّ بلمحة واحدة ، ما كانَ من تصاريف أمور الصقليّ ، الغريبة ، في هذه المدرسة : لا أعني حسب ، موضوع " كناش ياسمينة " ؛ وإنما أيضاً ، مسلك المملوك هنا ، المُتسم بالكسل واللامبالاة . بطبيعة الحال ، لم تكُ هذه هيَ المرة الأولى ، التي يختفي فيها عن الأنظار مهملاً ما يتوجّبُ عليه من عمل . " هل عادَ سيّدكَ ، أحيراً ؟ " ، سألتُ القبرصيّ ، فهزّ رأسه نفياً . فما كانَ مني إلا أن تركته مع هواجسه ، ثمّ مَضيتُ نحوَ عملي ؛ مضيتُ ، بدوري، مع هواجس معدتي ، الفارغة . هناك ، في كوخ معلمي ، العشّاب ، كانت مفاجأة أخرى تكمنُ لي . كانَ صاحبنا ، المملوك المفقود ، المُتنكر أيضاً بهيئة الخادمات ، متمدداً بطوله فوق الديوان الخشبيّ الرث ، المُتهالك ، وقد علا غطيط غفوته . جلبَ الصقليّ الغداءَ من مطبخ المدرسة ، ثمّ ما عتمَ أن شاركني فيه . لم يكن ما نأكله هوَ الطعام المُقتصََد ، الاعتباطيّ ، للدارسات والمشرفات والعمال والخدم . كانَ أمامنا ، إذاً ، أصنافٌ مُستساغة ، مُتنوّعة ، من وجبَة غداء كبيرة ومساعداتها ؛ أصناف ، مُطنبَة بالسلطات والمُشهيات واللحوم والخضار . إذاك ، كنتُ ألتهمُ الطعامَ بلذة الجائع النهم ، حينما وجدتها مناسبة ، سانحة ، لإستنفاض خبيئة المملوك . فسألته بنبرة ، مَرحَة : " علمتُ أنكَ تلميذاً ، مُثابراً ، لدى الوصيفة ؟ " ،. وإذا باللقمة ، المُعتركة مع أسنان الصقليّ ، الناصعة المصقولة ، تكاد تخرج وضحكته المُستهترة : " إنكَ تعني ، يا سيّدي ، وصيفة ياسمينة تلك ، المزعومة " ، قالها وقد كفّ عن الضحك . لم تأخذني إجابته ، الصريحة ، على حين غرة . لقد تمنيتُ حينئذ أن يستمرّ المملوكُ ، الماكرُ ، على صدقه معي . على ذلك ، توجّهتُ إليه بمساءلة أخرى : " وهل خبر نرجس ، الخفيّ ، كانَ مكشوفاً لكم من زمان ؟ " . لقد تعمّدتُ أن استخدمَ صيغة الجمع ، لكي يعرف هوَ بأنني أعني أهل بيت الشاملي ، أيضاً . فأجابني من فوره ، دونما حاجة لوهلة تفكير : " لم أعرف أنها ابنة الشاملي ، البكر ، إلا بعدَ أجل قصير من وفاة القادين لكبيرة " " وماذا عن ياسمينة وصديقك ، الروميّ ؟ " " والروميّ ، أيضاً . أما أختها ، فإنها كانت ، بالطبع ، على علم بالأمر منذ اليوم الأول " " أنتَ تقولُ ، بالطبع ؟ " " أجل ، فماذا تعتقدُ أنتَ ، يا سيّدي ؟ " ، سألني الماكرُ بدوره . هنا ، سكتُّ برهة مُتذرعاً بالتأمل . إنّ خطتي ، كما أرى ، تسيرُ سيرها الحَسَن ، المَطلوب . وقلتُ أخيراً للمملوك : " لا رأي لي ، في الحقيقة . فلم يعلمني أحدكم ، قبلاً ، بأمر الوصيفة تلك ، المزعومة " . ثمّ أعقبتُ مُتسائلاً بنبرَة مُبيّتة ، مَقصودة : " ماذا كانَ برأيكَ وَجْهُ السرّ ، في أمر نرجس ؟ لم أرادَ أبوها التكتمَ على كونها ابنته ، حتى بعدما ماتت القادين ؟ " . وعلى غير مألوف عبيد الدار ـ غفرانك أيها الربّ ، المَعبودُ ـ حدّقَ المملوكُ في عينيّ مباشرة ً. ثمّ أجابني أثرَ مهلة من الصمت : " ماتت القادين ، أجل . إنما قريبها ذاك ، الوصيف ، كان حياً ما يفتأ " . نعم . لقد تيقنتُ الآنَ من حقيقة ، أنّ كلاً من المملوكيْن ، علاوة على نرجس ، كانَ على هيئة من الملمَح ، واحدة ، حينما يَنطقُ كلمة " الوصيف " .
" وإذاً ، فإنّ ذبحَ الرجل ، كانَ ولا ريب ، أفضل طريقة للخلاص من المأزق " قلتُ للصقليّ وأنا أتمعّنُ ، ملياً ، بسَواد عينيْه ، الألق . ولكن ، على غير توقع ، رَسَمَ هذا على شفتيْه بَسْمَة تشفّ ، قبلَ أن يُجيبَ بحبور : " ليسَ ذبح الوصيف ، حسب . إنّ اللعنة ، الإلهيّة أو الشيطانيّة ، حلّتْ ذلكَ المُشكل ؛ حينما أحترقَ منزلُ الشاملي ، أيضاً " . لعنة ؟ يا إلهي ، الرحيم . كأنني أمامَ جلاد الجحيم ذاك ؛ الذي سبقَ لي ، يومَ أمس ، أن تمنيتُ انتهاء شيخ الشام إلى يَديْه العادلتيْن ، المُريعتيْن . الآنَ أدركتُ ، جلياً ، لمَ فارقَ الصقليّ حذرَهُ وذعرَه ، عندما أخذ يُفصح بغير مُواربَة عن أحاسيس باطنه ، الحقيقة : لم يَعُد ثمة خشيَة من تعرّضه للمساءلة ، أو المُحاسبَة ، بعدما أضحى أولو الأمر ، بأنفسهم ، مُطارَدين ، مَطلوبينَ من لدن القوّة الغاشمة ؛ التي سيطرَتْ على زمام الشام . " أنتَ على حقّ ربما ، أيها المملوك . ولكن ، كيفَ سيكونُ أمركَ ، إذاك ؛ عندما تتغيّر صفة الوَضع ، مُجدداً ، فيعود إلى مألوف حاله ؟ " ، سألته هذه المرة بأوضح العبارات وأقساها . أخلدَ الصقليّ عندئذ لصمت مَديد ، مُريب ، وقد راحَ يمدّ بصرَه خللَ النافذة نحوَ مَشهد الحديقة ، الداني . من ناحيتي ، قمتُ إلى الجرّة الكبيرة نوعاً ، الموضوعة قربَ الباب والمُستعملة أحياناً ـ كمَيضأة . نهلتُ من مائها بضع جرعات ، ثمّ غسلتُ به يديّ . وإذا بالمملوك يلتفتُ إليّ بنظرة مؤسيَة ، فيبتر سكوته بالقول : " أدركُ ولا ريب ما تعنيه ، يا سيّدي . إنكَ تظنّ بأنني ذاكَ القاتل ، المجهول ؛ الذي تبحث أنتَ عن أثره " ، قالها وأضافَ متسائلاً " وعلى فرض أنني من ذبحَ الوصيف ، فما هيَ مصلحتي بدَسّ السمّ لآغا القابيقول ؟ " . تطلعتُ إليه ، وسكتّ . جاء حظي لأستسلم أيضاً للصمت . كنتُ اللحظة أشفقُ عليه ، من صميم قلبي . بل وكنتُ على استعداد لمسامحته ، والتستر عليه ، لو كانَ " هوَ " القاتل ، حقا. وتشديدي على الضمير المنفصل ، إنما لكوني آنذاك ما أفتأ خائفاً من أمر جلل ، مُستطير : أن يكونَ شخصٌ آخر ، غير الصقليّ ، هوَ من تخلص من كلاً الرجليْن وعلى خلفيّة مُرتبطة بلغز الكناش ؛ وبالتالي ، أن تستمرّ سلسلة القتل على انفراطها حلقة وراء حلقة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
المزيد.....
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
-
منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|