أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جان كورد - صوب معالجة تاريخية جادة للأوجلانية (3) : الأوجلانية والدين















المزيد.....



صوب معالجة تاريخية جادة للأوجلانية (3) : الأوجلانية والدين


جان كورد

الحوار المتمدن-العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 09:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"الذين انفصلوا عنا، يمكنهم توجيه النقد لي ولأفكاري" (الزعيم المعتقل عبد الله أوجالان)
‏الخميس، 06‏ أيار‏، 2010
في البداية سأستخدم كما في المقال السابق عبارة "السيد (آبو)" للاختصار، عوضاً عن الاسم الكامل للزعيم المعتقل عبد الله أوجالان، وأنبّه إلى أن الموضوع سيطول قليلاً بسبب أهميته وتشعبه...، كما أوكّد على أن ما يرد هنا ربما لن يكون الحقيقة الساطعة عن موقف الأوجلانية من الدين، ولكن هذه محاولة متواضعة مني لسبر أغوارهذه العقيدة السياسية الهامة في مجتمعنا الكوردي، ومدى اقترابها أوابتعادها عن الدين، والكورد في غالبيتهم العظمى، إما مسلم أو نصراني أو يزيدي أو يهودي، وقلّة منهم لايؤمنون بأي دين. وأستعين في معالجتي التاريخية بمقولة للفيلسوف البريطاني الشهير جورج برنارد شو: ((إن قول الحقيقة هي أعظم نكتة في هذا العالم!.))
وأوّد هنا التذكير بأن السيد حسين جمو في تعليق طويل له على احدى حلقات هذه المعالجة المتواضعة قد اتهمني بتأييدي لاسرائيل ضد سوريا، فهذا افتراء لا أقبله، وليست لي أي مقالة أو دراسة أو تصريح بهذا الشأن، كما أنه ليست لي أي علاقة بأي جهة اسرائيلية أو دولية، حيث أنني تارك للحياة التنظيمية منذ عامين، في حين أن النظام السوري الذي أعارض سياساته الداخلية بشدة، وبخاصة تجاه الشعب الكوردي، يبحث عمن يبني العلاقات بينه وبين اسرائيل والاسرائيليين...إنني على العكس من ذلك أؤمن بأنه لابد من السلام في المنطقة، والحرب ستكون مدمّرة لسوريا واسرائيل وغيرهما، وما أضاعه النظام (الجولان) في الحرب يمكن استرداده بالسلام، مع صون حقوق الجميع في العيش المشترك على أساس الاحترام المتبادل، وبخاصة الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة على أرض وطنه. فأرجو أن يكون هذا واضحاً للجميع.
معلوم أن حزب العمال الكوردستاني الذي أسسه السيد (آبو) مع ثلّة من رفاقه في آنقره، في منتصف سبعينات القرن الماضي، قد بدأ يستقطب اهتمام الشارع الكوردي في شمال كوردستان، أولاً، ويزداد انتشاراً في عموم كوردستان فيما بعد، وذلك في مرحلة كانت الثورة الكوردية الكبرى (1961-1975) قد تلقت ضربة مأساوية قاتلة بسبب اتفاقية الجزائر المشؤومة في عام 1975 بين الشاه الايراني محمد رضا بهلوي (القاجاري) وبين صدام حسين التكريتي، وبسبب خيانة وزارة الخارجية الأمريكية التي كان يديرها السياسي الشهير هنري كيسنجر للقائد الخالد مصطفى البارزاني (أنظر تقرير لجنة بايك الشهير بعد انهيار الثورة الكوردية في عام 1975)، وكذلك بسبب جملة من الأخطاء التي فرضتها ظروف ذاتية وموضوعية على الثورة (أنظر تقرير: لماذا تبقى الحقائق مكتومة عن الشعب الكوردي؟ المهندس سعيد عبد الوهاب (اسم مستعار!) الكادر القيادي المتقدّم في (ب د ك) في عام 1977)، إضافة إلى الدعم الكبير الذي كان صدام حسين يتلقاه من الشرق والغرب ومن بني جلدته العرب أيضاً...وحتى من النظام السوري (المعادي حزبياً)، الذي كان يضع مطاراته ليلاً في الصحراء التدمرية في عام 1974 في خدمة امداد القوات العراقية التي كانت تشن حرب الابادة القذرة على الشعب الكوردي بمختلف الوسائل والأسلحة والذخائر...وحيث أن موضوعنا هنا أمرآخر، فإننا لن نزيد في هذه النقطة أكثر مما قلناه.
وكان الصراع في مرحلة "الحرب الباردة" التي اندلعت في ظلها عدة حروب ساخنة، في دول العالم الثالث، على أشده، وبخاصة في المجال الاعلامي والثقافي، حيث كان المعسكران المتقابلان، الشيوعي والغربي، يصرفان أموالاً طائلة من أجل الهجوم الفكري – السياسي على بعضهما بعضاً. وكانت الكتب الماركسية – اللينينية تباع بأرخص الأسعار في شوارع المدن الشرق – أوسطية، والاذاعات السوفيتية تشن حملاتها على عالم "الامبريالية والصهيونية والرجعية الكومبرادورية وغير الكومبرادورية" أو ترد هجمات إذاعتي (بي بي سي) البريطانية و(صوت أمريكا) وغيرهما، صباح مساء. لقد كانت حرباً اعلامية شرسة بين الشرق والغرب، أججها الفشل العسكري الأمريكي الذريع في دول جنوب شرق آسيا، وانتصار الشيوعية في الصين وكوبا انتصاراً كاملاً... وفي بلدان المنطقة كانت الأنظمة التي تساندها قوى العالم الغربي، كما في ايران وتركيا، قد فشلت في تحقيق "الديموقراطية والحرية" تماماً، وسارت أنظمة قمعية رهيبة بالنظم السياسية في المنطقة، مثلما فشلت فشلاً تاماً في صون حقوق الإنسان وفي تحقيق العدالة الاجتماعية...
وكان هذان العاملان (هزيمة ثورة أيلول الكوردية والانتصار الكبير للشيوعية في عدة أوطان)، من أهم الأسباب الأخرى لانتشار الشيوعية في بلادنا، ومنها تركيا وكوردستان تركيا بالذات، باعتبار أن تركيا كانت ولا تزال تشكّل جسراً حيوياً بين الشرق الأوسط وأوروبا...
تشربت الحركة الكوردية بشكل عام أفكار الشيوعية عن القضايا القومية والوطنية، وانتشرت الكتب التي كتبها في هذا الصدد زعماء الحركة الشيوعية من أمثال فلاديمير ايليتش لينين، جوزيف ستالين، ماو تسى تونغ وغيرهم، وساهمت الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية لمنطقة الشرق الأوسط في بث الأفكارالشيوعية الأخرى، ومنها فكرة "الدين أفيون الشعوب!" حتى في الأوساط الكوردية الأشد محافظة من النواحي الدينية. ومن فصائل الحركة الكوردية التي تبنّت "الماركسية- اللينينية كفلسفة وعقيدة وفكر، حزب العمال الكوردستاني.
ومعلوم أن الحزب الذي يتبنّى الشيوعية يصبح مع الأيام عدواً لدوداً للأديان، رغم أن قائد الشيوعية البارز (فلاديمير ايليتش لينين) أشارعليهم بأن يتلوّن الشيوعيون بلون الأرض، حتى لاتكتشف حقائق فكرهم السياسي وايمانهم العقيدي. وحيث أن هذا الأمر بات معلوماً لدى الكثيرين من الناس، فلا حاجة للدخول في التفاصيل التاريخية للعمل الشيوعي بين شعوب المنطقة.
يقول السيد (آبو) بصدد ثورة أوكتوبر الشيوعية لعام 1917مايلي: ((تكمن الخاصية المميّزة لثورة أوكتوبر ضمن مسيرة التاريخ، باعتبارها التجسيد الأكثر عملياً (خلال هذه المرحلة) الذي يعبّر عن نظرية وممارسة مقاومات الطبقات والشعوب المظلومة والمستَغَلّة...)) (عبد الله أوج آلان، قضايا الاشتراكية الراهنة، ص 22)
يقول السيد (آبو) بأن التعريف والتحليل الصحيح للثورة الشيوعية تتمثّل في حزبه العمالي الكوردستاني: ((ويبدو اليوم واضحاً وبأسطع الأشكال الكيفية التي تجسّد بها التعرف والتحليل الصحيحين لثورة أكتوبر، في شخص حزبنا، وفي قدرات الابداع الخارقة التي يتمتّع بها.)) (المصدر نفسه، ص 97) كما يقول: (( تنبع طبيعة حزبنا الثورية والأممية لأبعد حد من طبيعة المرحلة التي تصالح فيها الحزب الشيوعي التركي مع فاشية (12) أيلول...)) (المصدر نفسه: ص 107)
بمعنى أن حزبه ملتزم التزاماً صارماً وصحيحاً بأفكار الثورة البلشفية، ثورة لينين الشيوعية...
والأحزاب الشيوعية اجمالاً تعتبر (الدين) عدواً فكرياً وسياسياً لها، ولذا فإنها تحاربه، بطرق ووسائل مختلفة، حتى باستخدام منظمات دينية صورية على شكل اتحادات وهيئات تحمل أسماء دينية برّاقة ويديرها في ظل قيادة الحزب الشيوعي أو العمالي رجال دين في حلل وأزياء تظهرهم صميميين في عقيدتهم، ولكنهم في الحقيقة يأتمرون بأوامر سادتهم وقادتهم الشيوعيين.
ولكن في حال حزب العمال الكوردستاني فإن الدين الوحيد الذي هاجمه بشكل علني وصارخ، دون الأديان الأخرى التي يعتنقها أبناء وبنات كوردستان والدول التي تقتسم كوردستان، هو الدين الإسلامي. وعليه فإن الرئيس أوجالان يقول: ((كلنا يعرف بأن الإسلام أعلن نفسه الدين الأخير. يتضح ويتبين – بمعنى من المعاني – من مقولة الدين الأخير والرسول الأخير بأن ذلك يعني النقطة الأخيرة من تطوّر العقل البشري وإنّ ما بعد ذلك سيكون زوال العالم.)) (المصدر نفسه: ص 28)
هذا في الوقت الذي لاينكر فيما بعد، من خلال تنامي حركته واتساع نطاق أتباعه وأنصاره، أن (( الإسلام هو الذي قضى على مرحلة العبودية الأكبر، الإسلام في حقيقته هو ثورة كبرى غيّرت العالم.)) ((سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 139) ولكن الإسلام لايعدو كونه "ثورة كبرى" مثل الثورة البلشفية أو ثورة سبارتاكوس على روما...في حين أن المسلمين (وهم أكثر مليار إنسان) يؤمنون بأنهم يعتنقون ديناً وأنهم يتبعون وحياً مرسلاً على نبي رسول، وليسوا أتباع ثورة طبقية أوعرقية أو اجتماعية.
إنه يسخر من مفهومي الجنة وجهنم في الدين الاسلامي، ويقارنهما بالمزاعم الاقطاعية، فيقول: ((كذلك نعرف بأن مفهومي الجنة والجهنم الأزليين من بين ادعاءات هذا الدين.أي أن انطلاقات العهد الإقطاعي القوية أيضاً، كانت تطرح نفس الإدعاءات ولفترة أطول، ولا تزال تطرحها بإصرار.)) (المصدر نفسه: ص 28-29) ولكن السيد (آبو) يتناسى هنا أن الشيوعية تعتبر نفسها نهاية النظم السياسية والفكرية أيضاً، ومن بعدها ستحقق الجنّة الأبدية على الأرض لجميع البشر،بل هو بذاته مؤمن بأنه ((لايمكن انكار خصائص اللينينية الأبدية)) (المصدر ذاته، ص 81)
وللك فإن (( درب (ب ك ك) تمثّل طريقة وشريعة، إذ أن الشريعة المتواجدة الآن بين الشعب الكردستاني هي شريعة (ب ك ك) الصحيحة والسليمة.)) (أنظر تحليلات 1990 – جلد 2، ص 60-61) ولايمكن لأحد القول بأنّ هذه مجرّد زلة لسان، فهو يكرر قوله على الشكل التالي: (( لقد عمل الأعداء بكل الوسائل والأشكال لابعادنا عن الشريعة، وإذا المرء ابتعد عنها فهو تماماً يصبح آثماً.)) (المصدر نفسه: ص 61) ثم يقول : (( أرى أنكم تسيرون قليلاً مع الشريعة، والشريعة التي تنشأ بيننا الآن شريعتكم أيضاً (ويقصد الدينية هنا) تدخل ضمنها، وتتحد معها في النهاية.)) (المصدر نفسه: ص 61)
ولايمكن فهم الموقف الأوجلاني عن الدين، بمعزل عن فهمه الشخصي للدين، قبل اقدامه على تأسيس حزبه في أنقره، بدءاً بما كان عليه الوضع ضمن عائلته الشخصية. ولذلك فإننا سنعود إلى:
- وضع الدين في العائلة:
لايذكر السيد (آبو) شيئاً عن علاقة أمه التي أنجبته بالدين في سائر كتبه وخطبه ورسائله ومداخلاته الخطابية المباشرة والتلفزيونية، ولكنه يصف أمه ب(الشريرة) وذات (الشخصية القوية) والمرأة التي كانت بينها وبينه عداوة مستمرة، كما لايذكر شيئاً عن عقيدة زوجته التي اقترن بها، أما بالنسبة لأبيه فقد ذكرنا في الجزء الأوّل من هذه المعالجة ما كتبه السيد (آبو) بنفسه عنه، حيث قال: ((لقد كان يقوم بفروض الصلاة، دون أن يقطع صلاة واحدة.. وكان هو أيضاً مسلماً قوياً ومبدئياً في اسلامه..كان نقياً جداً، وبعيداً عن الفتن والفساد، وفي هذه الناحية لابد وأنه نظيف جداً، غير أنه كان عديم التأثير وسلبي ومسلوب الارادة.)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 35-36)
ومهما تكن شخصية الأم قوية وشخصية الأب ضعيفة، فلا بد أن يكون للأب تأثير ما في شخصية الولد، وعليه فقد مارس السيد (آبو) في صغره وشبابه الطقوس الدينية وقام بالتعبّد حسب ما تعلمه من المتدينين المسلمين، ومنهم أبوه المسلم الصالح والمبدئي، النقي جداً، والبعيد عن الفتن والفساد.
وكتب عن نفسه مايلي: ((أذكر عندما كنت في الثامنة من عمري مبتدءاً وأقوم بالصلاة في البرد القارس وعلى الصخور كي لا يمضي الوقت هدراً، هذا مهم. وأتذكّر عندما كنت طالباً في الصف الثاني والثالث كنت أجمع الطلاب من حولي وأدعوهم إلى الصلاة.)) (تحليلات 1990 – جلد 2 )
وينطلق من هذا لابراز خصوصية قيادته، فيقول: ((وهذه هي خصوصية قيادة (ب ك ك) فهي مرتبطة بالدين والفلسفة والعلم... فإذا ما نظرنا إلى تاريخ الاسلام نجد أن للقيادة دور هام وبارز وحظيت باهتمام شديد من قبل المسلمين.)) (المصدر نفسه، ص 62) ولا أدري هل يعتبر المخاطبين أمامه مغفلين لدرجة أن يتصوّروا أن دورالقائد في حزب شيوعي الفكر يشبه دور الخطيب أو الإمام في الصلاة !.
ويقول: (( كان لقريتنا إمام جامع وكنت قد بدأت الصلاة في سن مبكرة جداً. آنذاك كنت قد حفظت أكثر من ثلاثين دعاءً.)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 41)
بل إن الشخصية المحمدية (ص) قد أثّرت فيه تأثيراً بليغاً، حيث يقول: ((لقد كانت سيرة النبي محمّد تستثيرني بشكل كبير، وكانت شخصية النبي تولد الأسئلة الكبيرة في رأسي... كنت أعيش بين الصخور وفي المغاور، فقد كنت أعتقد أن هنالك تشابهاً بين سلوكياتي وسلوكياته، كنت أرى نوعاً من التشابه في السلوك.)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 42)
ولايخفى أن التناقضات الكبيرة في العائلة (باعترافه هو أيضا) هي التي جعلته شخصية متناقضة مع نفسها، فكيف يتفق أن يقوم طفل أو صبي متدين تربّى على أيدي أب تقي للغاية بالاقدام على قتل الحيوانات والطيور دون سبب؟
فهو يقول: ((لم يكن هنالك عش واحد لم آخذ منه عصفوراً...كنت أحتل المرتبة الأولى في قتل الثعابين في البرية!)) (المصدر نفسه: ص 43)
أو (( رمي الأخ والأب بالحجارة...وسرقة النقود من حقيبة الأب..!)) (المصدر نفسه: ص 49) فهل في هذا السلوك تشابه بسلوكيات النبي محمد (ص) الذي دعا إلى احترام الوالدين وعدم قتل الحيوانات دون سبب وأمر بقطع يد السارق دون رحمة أو رأفة...؟
وعلم الرغم من ذلك فإن السيد (آبو) الذي خرج من طور الحياة في العائلة صوب المدينة، والذي قال عن نفسه ((لم أنخرط في الحياة الاجتماعية المدينية..لقد دخلتها في حدود ضيّقة.)) (المصدر نفسه: ص 52) يصطدم في المدينة التي انتقل إليها بجدته السليطة اللسان والقوية الشخصية، يعود إلى أحضان الدين باحثاً له في العبادة والتعلّم الديني عن مهرب من العائلة والظروف الاجتماعية التعيسة من حوله، فيقول: ((قمت بتقوية نفسي في العلوم الدينية واستمريت بصلواتي وممارسة الطقوس الدينية، وتأكدت أنني لست فرحاً في هذه المدينة (مدينة نزيب).)) (المصدر نفسه: ص 53-54) و((انشغلت بالأفكار الدينية وبالله، وكان هذا طيراناً آخر بالنسبة لي.)) (المصدر نفسه: ص 54)
وفي الوقت ذاته لاينكر أنه كان يقوم ببعض "السرقات!" من الأغنياء كالعنب والفستق. و((كنت أجد طعمه ألذ بكثير من العنب أو الفستق الذي يأتي دون تعب وجهد.)) (المصدر نفسه: ص 56) ثم يشبه سلوكياته بسلوكيات النبي الأمين (ص)...!
ونجد لدى السيد (آبو) رغم ماركسيته وشيوعيته عودة مستمرة إلى موضوع الدين، واستخدام رموزه وتراتب رجاله وعلمائه لابراز مكانته ضمن الحزب وبين الشعب. إذ يقول: ((عندما أنظر إلى نفسي، أجد أنني أعمل كما الأنبياء، وعملي قريب من عملهم.)) (المصدر نفسه: ص 124)
ولاينكر أن مفاهيم الفلسفة والاشتراكية والدين امتزجت في شخصيته، فيقول شيئأً مثيراً حقاً: (( الفلسفة والاشتراكية والدين، هذه مفاهيم توحدت وصهرت بي... لقد صنعت شيئاً آخر من هذا الثلاثي بحيث لا ينفصل أحدها عن الآخر.)) (المصدر نفسه: ص 130) كما يقول على الصفحة التالية مباشرة: ((إن الجوهري من الدين في نفسي، والأمور الخيّرة من الاشتراكية في نفسي، والأسئلة الكبرى من الفلسفة فيها أيضاً...)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 131)
إنه يستفيد من ذكر الدين وحشره في موضوعاته السياسية لاظهار مكانته الفوقية في الحزب وبين الشعب... ومن ذلك ((إنني مشيت على طريق الأنبياء، أما نمرود فكان دكتاتوراً، وحكايتي تشبه حكاية ابراهيم الخليل الذي أغلق نمرود عليه طريق الجبال، فأضطر إلى التوجه نحو...إنها تشبه حكاية النبي موسى عليه السلام في مصر.)) (المصدر نفسه، ص 216)، وقبل ذلك بقليل يقول ((كان أمامي خياران: إما الصعود إلى الجبال، وإما التوجّه نحو ساحة الشرق الأوسط...قمنا بتوجيه بعض الرفاق إلى الجبال وأنا فعلت ما فعله ابراهيم الخليل فتوجهت باتجاه الشرق الأوسط...باتجاه القدس.!)) (المصدر نفسه، ص 216)
والسؤال هنا هو: هل كان التوجه نحو القدس أو الشرق الأوسط "اضطراراً" كما في الجملة الأولى، أم "اختياراً" كما في الجملة الثانية التي تسبق في النص الأصلي الجملة الأولى؟
ويجدر القول هنا: ليس هناك نمرود قادرعلى "اغلاق" أو سد المنافذ على المقاتل الكردي الذي يريد حقاً التوجه إلى جبال كوردستان التي شهدت عبر التاريخ معارك الحرية التي قادها الأبطال ولايزالون، بدليل أن كل معظم السيد (آبو) يعيشون في جبال كوردستان، ومنهم من سالت دماؤهم في سبيل الدفاع عنها ببسالة عجيبة ونادرة.
يقول السيد (آبو) بأنه ((إنسان مؤمن بالله!)) (المصدر نفسه، ص271)، والايمان بالله يعني تنزيهه عن كل شيء، إذ (ليس كمثله شيء) بصريح القرآن الكريم، ولكن عندما يقول الصحافي نبيل الملحم الذي أجرى معه ذلك اللقاء الطويل الشهير: (( ثقافتي درزية، وعند الدروز فإن الجنة هي أن يصل الإنسان لرؤيته الله، ليس ذلك فحسب بل ليتقّرب من الله حتى يتوحّد معه وبه !)) (المصدر نفسه، ص 271) فإن هذا المؤمن بالله يعقّب على الصحافي مباشرة بقوله: (( أنا أشاطرك هذه الرؤية!)) (المصدر نفسه، ص 271).
ومعلوم أن الإنسان لايرى الله في هذه الحياة الدنيا، ولم يره أحد من قبل، وأن التوحّد معه وبه من أفكار بعض طرائق الصوفية كالاتحادية والحلولية أو الشيع التي لاتعتبر نفسها مسلمة، ومنها الطائفة الدرزية التي تجد نفسها خارج دائرة الاسلام. فكيف يتفق المؤمن بوحدانية الله بالحلولية والاتحادية؟
ثم يعود بعد صفحات قلائل ليقول مايلي: ((أنا لست بعيداً عن الله منذ نشأتي وحتى الآن، ولا أرى أحداً إلا وله إلهه، فلكل ربه، هناك من يعبد الإله الواحد، وقد تجد جماعات لكل واحد منهم إلهه، فالإنسان استمد قوته من الله وأوصل نفسه إلى هذه المرحلة عبر إيمانه، وكان الدين دائماً يحتوي على الفلسفة والعلم، ولكن الجانب الغالب فيه هو الخيال والبعد الروحي.)) (المصدر نفسه، ص 285) و ((الله خالق السموات والأرض وما بينهما، وقد اجتمعت هذه الأمور في الإسلام بالإله الواحد الأحد، وأنا مؤمن بهذه الفكرة، وقد وصفها سيدنا محمد (ص) بشكل جميل ورائع.)) (المصدر نفسه، ص 286)
تأثرت السياسة الأوجلانية بهذه التناقضات الفكرية، أوهذا المزج العقيدي بين الفلسفة والاشتراكية والدين في نفسية وعقلية القائد، الذي لاينكر جوهر الإسلام، ويشبّه أعماله بأعمال الأنبياء، ولكنه يقسّم الاسلام إلى (يمين ويسار)، حيث أن (( الأتراك دخلوا في هذا الصراع (اليمين واليسار) ونشّطوا مراكزهم فيه. اتخذوا المنحى اليميني وصعّدوا من منحى السنة، علماً بأن السنة تمثّل ظهور الاسلام وظهور الثورة الإسلامية...)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 141) ثم يربط ربطاً وثيقاً بين اليهودية والسلاطين العثمانيين الذي لجأوا إلى تركيا نتيجة الاضطهاد الديني الشرس لهم في اسبانيا، ويتهم اليهود بقيادتهم "الاسلام المزيّف!" المقصود به (اسلام السنّة) فيقول: (( لقد سيّر اليهود والسلاطين الاسلام المزيّف وفرضوه على المسلمين، ولذلك فإن حروب السلاطين ضد الشيعة في ايران وضد الدول العربية هي حروب يهودية)) (سبعة أيام مع آبو، نبيل الملحم : ص 144)
ولكن كيف يمكن اتهام سلاطين الدولة العثمانية بالانخراط في حرب يهودية ضد "الاسلام الصحيح!" للشيعة في ايران، أو اتهامهم بفرض الاسلام السنّي على العرب، والترك أخذوا ديانتهم من العرب، ومعظمهم من السنة، قبل دخول الترك في الاسلام أصلاً؟
ومعلوم تاريخياً أن السلطان عبد الحميد رفض مساعدة اليهود في الحصول على وطن لهم في اسرائيل، في حين أن السيد (آبو) نفسه يتهم عدو السلاطين وعدوالإسلام الكبير (مصطفى كمال) بأنه كان العضو الذي يحمل المرتبة /33/ في المحفل الماسوني لسالونيك، وكان ((بالأساس ضد الإسلام وجوهره، وحتى أن هنالك وثائق بخط يده تشير إلى أنه كان يخوض هذه السياسة عن وعي تام بنتائجها، لقد قاد حملة صهيونية كبيرة...إن تأسيس الجمهورية التركية ألحق ضعفاً كبيراً للإسلام... إن الخيانة الكبرى داخل الإسلام يمكن وصمها بالجمهورية التركية...والكمالية كانت صنيعة انجليزية صهيونية...!)) (المصدر نفسه: ص 152)
واختلاط أو امتزاج الأمور العقيدية في عقل السيد (آبو) دفع به إلى مواقف متشددة للغاية تجاه تنامي التيارات الاسلامية في تركيا وكوردستان، مع التأكيد على أنه أصاب كبد الحقيقة في كثير من المسائل المتعلّقة بالطرق الصوفية، ومن أبرزها النقشبندية التي صارت مطية للسلاطين العثمانيين، واستفاد من تسخيرهم لأغراضه مصطفى كمال المعادي للدن الإسلامي تماماً.
وما دفاعه المستميت عن "الاسلام الشيعي الصحيح!" إلاّ لارضاء دمشق وطهران، وكأن هذه الخدعة تخفى على السوريين والايرانيين، على العلويين والشيعة، فهم أذكى من أن يخدعهم كوردي بسيط أوعظيم.
يقول البروفيسور دكتور محمد صالح كابوري، مؤسس الحزب الإسلامي الكوردستاني في عام 1980 عن الصوفية في كوردستان: ((...فالدولة العثمانية التي تربّعت على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، وحكمت عدداً كبيراً من شعوب المسلمين، كانت دولة صوفية، تدين في الباطن للحقيقة الصوفية، وفي الظاهر للشريعة الإسلامية. فكانت في حكوماتها وفي فتوحاتها مدينة لطرق التصوّف، حيث كانت ترسل المشايخ والدراويش ليكونوا عيوناً وأعواناً، يمهدون الطريق، ثم يفتحون أبواب الحصون للجنود...)) (أنظر كتاب: مفاهيم، للبروفيسور دكتور محمد صالح كابوري، 1988، الطبعةالأولى)..
ويرى هذا العالم الجليل الكوردستاني الذي له تفسير سور قرآنية كالرعد وفصلّت، ودراسات عميقة في علوم القرآن وأصول الدين كالنسخ والناسخ والمنسوخ والقدر والمفاهيم الأساسية في الدين، ودرّس فترة طويلة من الزمن في جامعة الامام محمد بالرياض، أن الطرق الصوفية أدخلت العثمانيين إلى كوردستان وخدمتهم، ويقول أيضاً: ((وإلى يومنا هذا، فإن بعض الطرق الصوفية الكردية لازال يؤيّد الحكم التركي...على الرغم من تحوّل الحكم التركي من الصوفية العثمانية إلى الإلحاد والعلمانية.)) (المصدر نفسه)
كما يرى بأن هذه الطرق أصبحت عائقاً أمام أي حركة تحرر كردية، فيقول: ((فكثير من الطرق الصوفية الكردية –بقصد وبغير قصد- هي حجر عثرة في طريق أية حركة كردية تتصدى الكفر، أو تتحدّى الباطل، أو تثور في وجه الظلم والطغيان. )) (أنظر دراستنا المتواضعة: المسلمون والقضية الكردية، ص 28 المنشورة تحت اسم "كورداغي – نسبة إلى جبل الأكراد) في عام 1994 ضمن منشورات جودي في ألمانيا)
هذا العالم في كوردستان الذين لم يختلف في العديد من النقاط، وبخاصة تجاه الآربكانيين مع السيد (آبو)، وتجاه تحرير واستقلال كوردستان وبناء الدولة الكوردية المستقلة الموحدة، أصبح مثار اتهامات باطلة من قبل حزب العمال الكوردستاني ومن قبل السيد (آبو) بنفسه، حيث تم العمل على احتواء حزبه الإسلامي عن طريق تسخير بعض محبي الأضواء في الحزب الاسلامي الكوردستاني وجرّهم إلى تحالفات تكتيكية، بهدف القضاء على الاتجاه الذي مثلّه هذا العالم وثلّة من رفاقه، ومع الأسف تمّ للسيد (آبو) ما أراده بالفعل، بفضل جذبه الاعلامي وتفننه في اظهار الصفة الكوردستانية الشاملة أمام العديد من الفصائل التي دخلت معه في تلك التحالفات. ولاينكر أن بعض الأحزاب قد لعبت دوراً انتهازياً صارخاً في خدمة حزب العمال الكوردستاني بصدد هذا الموضوع، ولكن لامجال للتطرّق إلى ذلك الآن.
كتب السيد (آبو): ((لأننا نعمل جاهدين للوصول إلى المجتمع الكردستاني والتغلغل في أعماقه، وقد نجحنا لحد كبير، لذلك تتأسس أحزاب كردية مزيّفة، الأحزاب الاسلامية الكردية الأمريكية المنشأ، بل يقال أيضاً أن لحزب الرفاه: الجناح التركي والجناح الكردي.)) (المختارات جلد 2، ص 95) ثم يقول في الصفحة التالية، بعد عرض مزيد من العضلات الثورية والحديث عن دسائس الدولة التركية: (( والحق يقال مدوّا أيديهم إلى الأغلبية الساحقة من الفئات الدنيا في المجتمع الكردستاني. ومصادر متعددة جداً، فهناك الحزب الاسلامي الكردي الأمريكي المنشأ.)) (المختارات، جلد 2، ص 96) والمقصود بهذا الحزب: الحزب الاسلامي الكوردستاني الذي تأسس على أساس حق الأمة الكوردية في الوحدة والاستقلال والحرية على أرض وطنها كوردستان، في ظل الاسلام. فمتى وأين كان الأمريكان والأربكانيون والكماليون وزعماء الفرس والعرب من مسلمين وغير مسلمين مع تحقيق هكذا أهداف، حتى يدعموا ويسخّروا هكذا تيار؟ أما مجرّد الظن والاتهام بدون سند، فهذا لايغني عن الحق شيئاً. ولايستطيع أحد اثبات مثل هذه الاتهام بأمريكية الحزب الاسلامي الكوردستاني أو تركيته وعمالته للأربكانية دون دليل، وكان الأجدر بزعيم كبير مثل السيد (آبو) أن يستفيد من هكذا حركة كوردستانية في محاربة أعداء الكورد وكوردستان وليس الهجوم عليها.. ويبدو أنه كان يخاف على نفوذ حزبه بين الشعب الكردستاني من نمو هكذا تيار اسلامي كوردستاني... والله أعلم.
بالنسبة للأديان الأخرى التي يعتنقها قسم من الشعب الكوردي، يقول السيد (آبو): ((إننا نحترم جميع الأديان الموجودة في كردستان، السريانية والمسيحية نحترمها جميعاً، هناك اليزيديون أيضاً ولا يزالون يحافظون على دينهم. إننا نكن لهم احتراماً كبيراً، ونؤمن وننادي بالحرية والمساواة للجميع. أما بالنسبة للديانة الاسلامية في كردستان فموقفنا منها مطروح.... وعلى سبيل التذكير نقول إننا نحترم ونقدّرعالياً الانطلاقات التي قام بها المذهب العلوي في تاريخ كردستان....)) (نفس المصدر، ص 98) فهل العلوية مذهب اسلامي؟ عليه أن يسمع الجواب من أفواه شيوخ هذه الطائفة، قبل اعلانها مذهباً من المذاهب الاسلامية.
وبعد العديد من التلميحات بقبوله الحقائق الدينية ورفضه المزيّفة منها، يكشف عن حقيقة موقف حزبه من الدين الاسلامي، فيقول: ((ما هو الواجب قبوله في الحقيقة الإسلامية، وما هو الواجب رفضه؟ مما لاشك فيه أن الرّد على هذا السؤال، سيمكّن من بناء الاشتراكية بشكل أصلح وأسلم.)) (نفس المصدر، ص 100)
وخلاصة فكره في المجال الديني هي (( أن الدين والمذاهب في كردستان يجب أن تخدم الوطنية والديموقراطية لا الرجعية والذيليين والدول والحكومات. ويجب أن تكون للشعوب استقلاليتها في هذا المجال، في المجالات الدينية أيضاً.)) (نفس المصدر، ص 101)
و (( إذا كان لابد للإسلام من لعب دوره فإنّه مطالب باداء هذه الوظيفة، أي تصدّيه للغرب.)) ((نفس المصدر، ص 102)
وانطلاقاً من هذه المبادىء، وعلى أساسها وقف السيد (آبو) وحزبه من ورائه موقفاً معادياً للأربكانية، ومن بعدها الأردوغانية ذات الخلفية الإسلامية الصوفية، التي حملت حالياً بذور أفكار عن التحديث والتنمية والازدهارالوطني، والقيام باصلاحات دستورية بهدف ادخال تركيا في (النادي المسيحي: الاتحاد الأوروبي) حسب التعبير الأربكاني القديم، والانفتاح على الجيران (أرمينيا، ايران، آذربايجان) من ناحية الشرق والشمال، (العراق وسوريا) من ناحية الجنوب، و(بلغاريا واليونان من ناحية الغرب)، ومن ثم بعد الوصول إلى الحكم الشروع في الصدام الحذر وعلى مراحل مع النظام العلماني الآتاتوركي المتمثّل في الشريحة العليا من جنرالات الجيش، وبعض الأحزاب اليمينية واليسارية، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري (الاشتراكي – الديموقراطي!!!) الذي تأسس في مرحلة مصطفى كمال وتشرّب أفكاره، والحزب الطوراني الكمالي الذي كان يقوده الفاشي اليميني آلب أرسلان توركيش من قبل، والذي يؤلّه آتاتورك ويضعه فوق الدين والحكومة والدستور، بل يجعله أهم شيء في الحياة السياسية والثقافية التركية، ولايجد حرجاً في القضاء على أي نزعة تحررية للشعوب الخاضعة للترك، كالكورد والعرب والأرمن وغيرهم.
لقد أحدثت هذه التناقضات الفكرية الأوجلانية ، أو لنقل التغيّرات العميقة والمتقلّبة في المواقف تجاه الدين، مشاكل عميقة في المجتمع الكوردستاني. فعلى الرغم من حديثه المستمرعن المرأة ودورها ومكانتها، وحريتها، إلى درجة ابتكار حزب خاص بالمرأة لامثيل له في العالم كله باسم "حزب النساء الحرة"، فإنه ألبس المرأة سروال الرجل، ولفّ عنقها بالجمدانة الفلسطينية ووضع في أيديها السلاح وأرسلها إلى الجبال، دون أن يذهب بنفسه في أي يوم من الأيام منذ اعلانه الثورة، منتزعاً منها باسم الحرية والاشتراكية و"الاسلام!" أيضاً حقها في الأمومة والتمتّع بحياتها الأنثوية وانجاب الأطفال وتربيتهم، بحجة أن هذا هو الطريق لحرية المرأة، بل جعلها تتصرّف تصرّف الرجال، بشكل صارم وحاد في الحديث والحركات والاشارات واللباس، بدلاً من دعمها وافساح المجال أمامها لبناء الخلية الأساسية في المجتمع، ألا وهي في العائلة والمدرسة والمنطقة التي تحيا فيها.. وذريعة "حرية المرأة" باهتة حقاً، فالمرأة التي تذهب إلى المدرسة ومن ثم الجامعة والتي تنجب وتربي أطفالاً صالحين ومتعلمين أهم بالنسبة للمجتمع من المرأة التي تغيب عن المجتمع وتقاتل في صفوف الرجال، وتصبح كوماندانتاً في معسكر جبلي. فهناك مئات الألوف من الشباب الكورد، صناديد الرجال، لايلتحقون بحزب العمال الكوردستاني وقواته المسلّحة، وانما يذهبون طوعاً للخدمة الالزامية في الجيش التركي العدو، ولقد رأيت بأمّ عيني طابوراً طويلاً منهم وسط مدينة ماردين وأنا على طريقي إلى كوردستان الجنوبي مرة من المرات. فلماذا لم يتمكّن السيد (آبو) من كسب هؤلاء الذين بالطبع تلائم أجسادهم الجبال والسلاح والقتال بصورة أفضل من النساء. وهل يتكرّم علينا حزب العمال لنا بنشر قائمة بأسماء الفتيات اللواتي أصبن بمشاكل نفسية عميقة نتيجة انتزاعهن من أحضان المجتمع الذي يحتاج إليهن، بدلاً عن جعلهن مقاتلات ومنتحرات أيضاً في سبيل حرية الزعيم المعتقل؟
كما أدّت هذه التناقضات الآيديولوجية إلى استخدام ألفاظ ورموزغير كوردية وغير ملائمة للوضع الكوردي ومشكوك بأمرها، فصارت كوردستان (ميزوبوتاميا)، وتحوّل اسم البيشمركه (الذين يجابهون الموت) إلى (الكريلا) الاسبانية، وعوضاً عن علم كوردستان الذي استخدم لأوّل مرّة من قبل الرابطة الثقافية الاجتماعية الكوردية في استانبول في عام 1921، ثم صار راية جمهورية كوردستان في مهاباد، وراية ثورات كوردستان التي تلت، تم رفع علم أحمر شبيه بالعلمين التركي والسوفييتي، بفارق بسيط للغاية، وراح الآبوجيون يستخدمون لفظ (هفال: رفيق) بدلاً عن كل التسميات الشخصية المتداولة في العائلة والمجتمع الكوردي، فصار الأب هفالاً والعم هفالاً والعمة هفالاً وحتى الشخص الغريب جداً هفالاً، يلفظه الرجل والمرأة على حد سواء، إضافة إلى أن هذا (الهفال الحزبي) أصبح الرائد البديل في كل المجالات، حتى ولو أصغر الرجال والنساء عمراً، بحيث لم يعد هناك حاجة لمجالس الشيوخ والمخاتير وأئمة المساجد ورجال العلم والذكر، وكل من كان له الحق في ابداء نصيحة في المجتمع... فتعرّضت كوردستان إلى عملية مسح دماغ شيوعية مشوّهة لم يسبق لها مثيل... ولكن دون أن يتحرر منها حتى اليوم – مع الأسف- بعد (26) عاماً من القتال شبر واحد من الأرض الكوردية، رغم التضحيات الجسيمة للشعب الكوردي في الأنفس والمال، سوى أن السيد (آبو) حشر قواته دون سبب وجيه في صراعات جنوب كوردستان، وذلك بهدف "تحرير المحرر من كوردستان!"، وما تواجد قواته حتى الآن في جبل (قنديل) إلاّ نتيجة لقناعاته بتصفية الحزبين الكبيرين في الاقليم وبناء القاعدة الأساسية للتحرير الشامل بعد ذلك، وهذه القناعة أثبتت فشلها الذريع منذ زمن طويل.
وفي غمرة الصراع بين الإسلاميين الأتراك الذين يعملون من أجل تخفيف حدة العنجهية الآتاتوركية ولوقف استمرارها في الحكم على مختلف المستويات منذ قيام الجمهورية في عام 1923، وبين أنصار الآتاتوركية من العسكريين المتعنتين والمستعدين للقيام بانقلاب عسكري دموي يطيح بحكم الإسلاميين الذين يملكون أكثرية المقاعد البرلمانية ويجرون التعديلات التي يبغونها حطوة بخطوة، ومن بينهم مجموعة كبيرة من الكورد، الذين لايعقل أن يكونوا جميعاً من العملاء والخونة، يقف السيد (آبو) مع "الدولة" ضد "الحكومة"، ونحن جميعاً نعلم مدى عدوانية هذه الدولة للشعب الكوردي.
يقول السيد (آبو) في احدى رسائله المتتالية من السجن في أواخرعام 2007: ((...طورت مفهوم الحكم الذاتي الديمقراطي مقابل مفهوم الدولة القومية. هؤلاء يدَّعون معاداتهم لـ(ب ك ك)، وكل من أردوغان والولايات المتحدة يدعمان البارزاني، وهم الذين يمثلون الدولة القومية. أي، يقومان بدعم الكيان في الجنوب، ولكن ذلك الكيان يمثل الدولة القومية، وغداً سيشتبكون، لأن الدول القومية تشتبك...)) (أنظر أرشيف موقع حزب الحل الديموقراطي الكوردستاني أو موقع حزب الاتحاد الديموقراطي (بى يى دى)... فهل صحيح أن أردوغان والولايات المتحدة يدعمان الدولة القومية الكوردية؟ إن كان أردوغان مع بناء دولة قومية كوردية فلماذا نحاربه؟ لا أعتقد أن كوردياً حصيفاً واحداً يصدّق هذا الكلام. وبالنسبة للولايات المتحدة، ألم يكن السيد (آبو) الذي كان يقول لنا باستمرار ولايزال: ((أمريكا هي عدو الشعب الكوردي!)؟
ومن أجل منع رفاقه من التأثّر بسياسات النظام الأردوغاني الحاكم حالياً في تركيا، فإن السيد (آبو) يحذّر رفاقه وأنصاره، بل والشعب الكردي عامة، قائلاً: (( أقول لشعبنا: ابتعدوا عن كل البنى الدينية التنظيمية، عليهم عدم عقد أية علاقة مع المنظمات الإسلامية، عدم التصويت لصالحهم في الانتخابات، الإسلام هو دين السلام، عليهم أن يسألوا الخطيب كلما ذهبوا إلى صلاة الجمعة: "حضرة الإمام ماذا قلتم اليوم في خطبتكم المباركة عن الديمقراطية والسلام". يجب أن يتواجد اللذين يسألون هذه الأسئلة، لأن المساجد في عهد النبي محمد (ص) كانت مراكزاً لحل المشاكل الاجتماعية والسياسية للمجتمع...)) (لقاء القائد أوجلان مع محاميه بتاريخ 14 شباط 2008) ونلاحظ هنا بأنه لم يتطرّق إلى التنظيمات الكمالية ولم ينصح أحداً بالابتعاد عنها...أم أنها ليست ذات خطر على الشعب الكوردي، فأهملها السيد (آبو)؟

إن حربه على الكمالية توقفت بمجرّد اعتقاله واختطافه، ولكن حربه ضد الأردوغانية وحزبها الحاكم ازدادت حدّة سياسية وتشنجاً، في حين أن الأردوغانية حاولت ولا تزال تجاوز الكمالية العنصرية، والتراجع شيئاً فشيئاً عن تلك السياسات المعادية للشعبين الكوردي والتركي معاً... طبعاً، هذا لايعني أن يتوقّف الكورد عن الصراع المشروع في سبيل حقهم القومي المشروع، ومن حقهم الاستفادة من تناقضات الخصوم السياسيين والأعداء الذين يستخدمون الحيل والمؤامرات، في صور وأشكال مختلفة، إلاّ أن السيد (آبو) اختار طرف الدولة بدلاً عن الطرف العامل من أجل احداث شيء من التغيير فيها، ولو بشكل طفيف للغاية.

ومن خلال قراءة متمعّنة لما يكتبه السيد (آبو) من رسائل متتالية، يبدو وكأنه يتمتّع في هذا السجن الانفرادي بحرية قيادة حزبه الذي "يحارب الدولة التركية!" لدرجة أدهشت المفكرالاجتماعي اسماعيل بشكجي صاحب كتاب "كوردستان مستعمَرَة دولية" والعالم الذي حوكم لأكثر من 250 عاماً بسبب آرائه ومواقفه الصميمية تجاه الكورد وكوردستان (وهو تركي وليس كوردي) وشكّ في إحدى أقواله باستقامة السيد (آبو)، وهذا ما نرى انعكاساته في المذكرة التي بعث بها السيد (آبو) إلى محكمة لاهاي الأوربية لحقوق الإنسان. بل إنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدولة وعن الحزب والشعب في الوقت ذاته: ((لازلت أحمل أعباء الدولة وPKK والشعب بنسبة تسعين في المائة، وأنا أجعل من ذلك شرفاً لي.)) (أنظر: من الدولة السومرية إلى الحضارة الحديثة، ص 568) ...
أنا أفهم أن يتحمّل زعيم أعباء حزبه وشعبه في السجن، وهذه ليست منّة منه على الشعب، بل هو واجب من واجبات الزعامة، ولكن أن يتحمّل أعباء الدولة التي حرمته منذ سنوات من الحرية، ودمّرت بلاده واغتصبت حقوق شعبه، وأودت بحياة مئات الألوف من أبناء وبنات هذا الشعب، ودمرّت آلاف القرى وأحرقت المزارع وشرّدت المواطنين بشكل جماعي، فهذا لا أفهمه، وآمل أن يساعدني في ذلك بعض المتبحرين في علم السجون.

ولا تؤاخذوني إن كنت لا أستطيع فهم هذا القول الأوجلاني أيضاً: ((الدولة التركية تريد حل القضية الكوردية ولكن حزب أردوغان يعطّل ذلك!)) (أنظر رسائله من السجن في موقع قوات التحرير الكوردستاني) فأية دولة يقصد السيد (آبو)؟ الدولة السرية في تركيا (أرغنكون!) أم الدولة الواجهة التي يترأس أعلى مناصبها السيد عبد الله غول الإسلامي مثل أردوغان؟ كان يجدر بالسيد (آبو) التوضيح جيداً في هذه النقطة.

أو مثل هذا القول: ((زعماء الكورد وشيوخهم –ومنهم الشيخ الشهيد سعيد بيران- خانوه وخذلوه (يقصد آتاتورك) ، وكان يريد الديموقراطية ومنح الشعب الكردي حقه القومي في اطار الدولة التركية؟)) (المصدر نفسه)
فلا تؤاخذوني...
من أجل الاستمرار بجدية في هذه المداخلة ل"معالجة تاريخية" للفكر الأوجلاني، أكتفي في هذه الحلقة هنا، ولكن أبيّن للقارىء الكريم النقاط الأخرى التي سأتطرّق إليها في الحلقات الأخرى إن شاء الله:
-الأوجلانية والسياسة الدولية
-الأوجلانية والقضية الكوردية والثورة
-الأوجلانية والتعامل مع الرفاق
-الأوجلانية والحركة السياسية الكوردية
وقد تسبق نقطة الأخرى حسب الامكانات والظروف التي أكتب فيها....
وآمل أن يساهم الأنصار والمعارضون معاً في القاء مزيد من النورعلى "الأوجلانية" التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في صراع شعبنا ضد أعدائه من أجل الحرية والحياة الكريمة في سلام وأمن واستقرار على أرض وطنه كوردستان. وأن يصححوا أخطائي التي أقع فيها لدى الاستعانة بالنصوص والأقوال والمداخلات إن وجدت.
والله ولي التوفيق



#جان_كورد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يمكن نقد -منظومة الشعب الكردستاني وقائدها...ولكن-!
- من سيعيدنا إلى العصر الحجري؟
- كفى صمتاً...أم كفى كلاماً!
- لماذا الخوف من فيدرالية كوردية؟ (2)
- لماذا الخوف من فيدرالية كوردية؟ (1)
- المجتمع الدولي واللغز السوري
- التملّق السياسي لنظام -غير ديموقراطي- جريمة بحق الانسانية
- حتى لا تذبل الديموقراطية في القلوب
- نظام دمشق والانتخابات البرلمانية العراقية
- هل الكورد السوريون أيضاً بحاجة إلى (گوران – التغيير)؟
- حتى لاتنتكس التجربة الديموقراطية في كوردستان
- كي لا تُجرَحَ الديموقراطية !
- وقفة مع السياسة الألمانية
- إذا كان طباخنا الأستاذ حسن عبد العظيم نبقى بلا مرقة
- ماذا وراء التهديدات المتبادلة بين دمشق وتل أبيب؟
- البعثيون ولعبة توم وجيري
- سوريا والمبادرة التركية لحل المسألة الكردية
- هل يخرج البعث من النفق؟
- همسة عتاب للأستاذ غسان المفلح...توضيح حول اللغة الشعاراتية
- نهج التناقض في التعامل بين الحلف الايراني - السوري والمجتمع ...


المزيد.....




- السعودية الأولى عربيا والخامسة عالميا في الإنفاق العسكري لعا ...
- بنوك صينية -تدعم- روسيا بحرب أوكرانيا.. ماذا ستفعل واشنطن؟
- إردوغان يصف نتنياهو بـ-هتلر العصر- ويتوعد بمحاسبته
- هل قضت إسرائيل على حماس؟ بعد 200 يوم من الحرب أبو عبيدة يردّ ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن قتل عضوين في حزب الله واعتراض هجومين
- باتروشيف يبحث مع رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية الوضع ...
- قطر: مكتب حماس باق في الدوحة طالما كان -مفيدا وإيجابيا- للوس ...
- Lava تدخل عالم الساعات الذكية
- -ICAN-: الناتو سينتهك المعاهدات الدولية حال نشر أسلحة نووية ...
- قتلى وجرحى بغارة إسرائيلية استهدفت منزلا في بلدة حانين جنوب ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جان كورد - صوب معالجة تاريخية جادة للأوجلانية (3) : الأوجلانية والدين