أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 3















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3000 - 2010 / 5 / 10 - 01:42
المحور: الادب والفن
    


الشامُ الشريف : مدينة الله ومَهْدُ الخليقة ؛ مَسقط رأس آدم وحواء ؛ موضعُ حَجَر هابيل ، المَدْميّ ؛ منفى إبراهيم ومأثرة هزيمته للملوك الخمسة ، الذين سبوا لوطاً وأهله ؛ مُلتجأ إلياس ، الهارب من جزام القوم ؛ مغارة يونس ؛ رَبْوَة مريم وأبنها ؛ نطعُ يحيى ؛ قدَمُ خاتم الأنبياء ؛ رأسُ الحفيد ، الأعظم . مثوى الأبنة ، المُزهرة : هذا الاعتقادُ ، الراسخ ، أجازَ لنفسه شيخُ الشام ، أبن تيمية ، أن يُبدده في مهبّ مُعتقده ، الخاص ، القائم على نفي مبدأ الشفاعة ، مُطلقاً . إنّ التضرّع لآثار النبوّة ومقامات الولاية ، بحَسَب مذهَب الشيخ ، إن هوَ إلا عودة للجاهلية . فكلّ حَجَر وثنُ وكلّ وثن ضلالٌ وكلّ ضلال في السّعير .

" ما كانَ للحجّ أن يكونَ مَبروراً ، بنظر أهل الإسلام ، إلا بالتعريج على مدينة الله "
يقولُ الشاملي بيقين . كنا في حجرته النظيفة ، الواسعة نوعاً ، والمُتأنقة أكثر من حجرات جماعته ، بأثاثها كما وبزخارفها . إذ وجدَ فيها سريرٌ ، على الأقل ، بدلاً عن حشية الفراش فوق المصطبَة . كما وأركنَ ديوانٌ ، خشبيّ ، عند الجهة التي تقوم فوقها الكوة ، وقد بُسط فوقه نمرقة وطنفسة . وكانَ ثمة بابٌ داخليّ ، مُواربٌ ، يُفضي لحجرة الوصيفة . قبلاً ، لحظتُ أنّ الزعيمَ كانَ يفضل اصطحابي عبرَ مماشي الحديقة ، ما لو جدّ أمرٌ في ذهنه ، جلل ، ويرغب الإفضاء به . ولكنّ نرجس الآنَ ، في هذا الصباح الربيعيّ ، الألق ، كانت تقضي وقتها في الدور العلويّ ، صًحْبَة أحدى المُدرّسات .
وقلتُ للرجل ، حينما وَمَضَ خاطرٌ ، خاطفٌ ، في تعاريج رأسي : " إنّ الشامُ ، إذاً ، هيَ مرآة صغيرة لصورة عالم الإسلام ، الشاسع "
" أجل . فلو أنّ عارضاً ما ، مُستطيراً ، منعَ الخلقَ من حجّ الحجاز ، فإنّ الشامَ بديلٌ قائمٌ ، بدلالة قرانها لأرض النبوّة "
" وهذا ما حصلَ فعلاً ، حينما استولت جماعة أبن وهّاب ، النجسة ، على الأرض الطاهرة ، وجعلتْ مكة والمدينة حراماً على غيرها من فرق المسلمين ومذاهبهم " ، قلتها وأنا أنظرُ في عينيّ مُحادثي . وكانَ هذا ، على طبع مُتحفظ لا يَحيدُ عنه . فلم يكن ليقبلَ وَصْم أتباع أبن تيمية بالشطط والمُغالاة . إنّ الزعيمَ بنفسه ، على كلّ حال ، من مذهب الحنفيّة ؛ من المذهب المُحتفى ببركته في سلطنة آل عثمان ، منذ أن خلعتْ سلطنة المماليك الشراكسة ؛ الذين كانوا على مذهب أسلافهم الأيوبيين ، الشافعي . وإذاً ، كنتُ أنتظرُ من مُحادثي أن يَعترض على كلامي ، إلا أنه كانَ ما يفتأ صامتاً . إنّ شاغلاً ما ، مُهماً ، كانَ يستأثرُ ولا ريب على فكره .

عندئذ ، عمدتُ لمحاولة النبش في خبيئة الرجل ، عن طريق حثه على المُجادلة . فتوجّهتُ إليه بنبرَة مُتسائلة : " لو كانت مدينتنا ، المُقدّسة ، مرآة لصورة عالم عقيدة محمّد ، أفلا ينبغي أن يكونَ حالها ، راهناً ، هوَ بدوره عكساً لحال هذا العالم الكبير ؟ " . تفكر الزعيمُ برهة ، ثمّ ما عتمَ أن هزّ رأسه موافقاً : " أعتقدُ ذلك . أنظر مثلاً إلى مسألة السلطة : إنّ الشامَ مقسومة ، حالياً على الأقل ، على ثلاثة مراكز آمرة ؛ الوزير والمجلس والقابيقول . وهذا شبيهٌ بحال عالم الإسلام ، اليوم ، المُتنازعة فيه ثلاث سلطنات ؛ العثمانية والفارسية والمراكشية "
" هكذا انقسام ، كانَ فيما مضى وبالاً على المسلمين ، لما تصارع على إمارتهم ثلاثة خلفاء ؛ في بغداد والقاهرة وقرطبة . فما لبث أهلُ الصلبوت أن استولوا على القدس الشريف ، وعلى الأندلس من ثمّ "
" ولكنّ آل عثمان ، أعزهم الله بنصره ، تمكنوا فيما بعد من استرداد زمام المُبادرة لصالح المسلمين ، فأعلوا بيرقَ عقيدتنا على قلاع الروم وفي قلب مملكتهم " . قالَ الشاملي بفخر . هَمَمْتُ بالتفوّه ، مُجادلاً ، بما كنتُ قد فكرتُ فيه ملياً ، فأسكتني طرقٌ على باب الحجرة ، الخارجيّ . فما عتمَ رأسُ كبيرة الحافظات ، المُجلل بخمار قاتم ، أن أطلّ علينا .
" سيّدي ، اُبلغنا قبل قليل بنبأ سيء " ، قالت الكبيرة للزعيم والقلق بَاد على سحنتها الناصعة ، المُكتنزة . تطلع إليها كلانا باهتمام ، فأضافت : " يبدو أنّ فضيلة شيخ الشام ، كما تناهى لعلمنا ، يُجري تفتيشاً في العمائر المستفيدة من الوقف "
" وهل سيبعثُ أحدَهم إلى المدرسة ، أم أنه ينوي تشريفها بحضوره ؟ " ، سألها الزعيم . فرجّحتْ المرأة الاحتمال الثاني ، ثمّ دعت ضيفها إلى حجرة أعمالها ، لكي يبحثا الأمر . عندما انصرفت هذه ، التفتَ الزعيمُ نحوي وقال : " إنه مأزق ، ولا ريب " . وأعقبَ بعيد هنيهة صمت : " عليّ أن أختفي ، بأي شكل ، لدى حضور الشيخ " . أردتُ أن أقولَ شيئاً ، وإذا بصوت الآذان ينبعثُ شجياً من منارة المسجد ، المُلحق بالمدرسة . بلا نأمة ، نهضتُ معه في الطريق للمَصلى ، الصغير ، المُخصّص للرجال العاملين هنا . إنّ المسجدَ ، كما الدار برمّتها ، كان وقتئذ بخدمة النساء حسب ؛ من الدارسات والمُدرسات والحافظات .

على أثر قضائنا صلاة الظهر وخروجنا من المَصلى ، توجّه الشاملي لوحده إلى حجرة أعمال كبيرة الحافظات . " إنه سيتناولُ الغداءَ ، على الأرجح ، على مائدتها العامرة " ، قلتُ بسرّي . كانت فرصة جيدة ، بحَسَب ما قدّرتُ ، للذهاب إلى حجرة الصقليّ . فما زال ثمة مُتسَع من الوقت ، من الآن وحتى نهاية فترة القيلولة . عدتُ أمشي تحت سقف الفناء الضيّق ، المُزخرف الخشب والعقود بفنّ عصر آل أيوب ، المُزدهر . هناك ، تكمنُ في جهة الفناء ، القصيّة ، الحجرة الكبيرة ، التي يَشغلها المَملوكان السعيدان . من المهمّ الإشارة هنا ، إلى أنّ كلا من بابيْ حجرتيْ الزعيم والوصيفة ، من تفرّد بقفل ومفتاح . وبالرغم من ذلك ، قرَعتُ على الباب طرقتيْن ، هيّنتيْن ، قبلَ أن أسمَحَ لنفسي بولوج حجرة مماليك آل عثمان . وعليّ كانَ ، في اللحظة التالية ، أن أتسمّرُ على العتبَة مثل جماد حَجَر الحُجْرَة سواءً بسواء . ثمة على المصطبة المُفترشة بالبسط ، والمُعتلية أرضَ الحجرة بنحو نصف ذراع ، كانت تتمدّدُ باسترخاء حوريّة من حوريّات الجنان .
" يا إلهي ، إنها نرجس " ، ندّتْ عن داخلي بعظيم الدهشة. نعم . كانت هيَ من جثمَت هناك بشعرها المَحلول ، المَشغول من عقيق ، والمُتداعي بدعَة حتى ركبتيْها ؛ بسحر قسماتها الدقيقة ، المَرسومة بريشة الحُسْن ، الربّانية ؛ بأسْر لحاظ عينيْها الواسعتيْن ، الفيروزيّتيْن . وحينما هتفَ سرّي ، متعجّباً ، باسم الإله ، فكأنني أبصرُ الوصيفة لأول مرّة . ولكن ، أيّ اتفاق قدَريّ ، سعيد ، أن ألتقي الفتاة هنا ؛ أنا من كانَ يُخطط بصبر ورويّة لهذا الأمر ؛ لخلوة معها ، ضرورية ولا شك .
" تفضلوا ، يا سيّدي " ، خاطبتني الحسناءُ بلطف وكانت قد أنهتْ توّاً تسْويَة الخمار على رأسها . حركة الستر هذه ، جازَ لها أن تكونَ على غير ذي عجلة . إنها وصيفة ، ولا غرو. سألتها عن صحتها ، أولاً . فأجابتني برقة : " بفضلكم ، يا آغا ، استعدتُ عافيتي تماماً " . إنّ الفتاة تذكرُ يَدَ الحكيم ، الشافية ، فلأذكرها بدوري بحاجتي إليها . فقلتُ لها بغير مواربَة : " كنتُ أبحثُ عن وسيلة ، مناسبَة ، للاختلاء بك " . فرفعَتْ قوسَ حاجبها الأيسَر ، الرقيق ، بعلامة استفهام أكثر منها اندهاش . سكتّ هنيهة ، مُنتظراً ردّها ، إلا أنّ الصمتَ هوَ من يُجيب أحياناً . وعدتُ أقول بنبرَة اهتمام : " لقد حصلتْ أمورٌ على غايَة من الغرابَة ، قبلَ وصولنا لهذا المكان . أعتقد أنك تدركين ما أعنيه ، أليسَ كذلك ؟ " . فمُ الفتاة ، الوَرْديّ البتلتيْن ، بقيَ مُنغلقا على حاله . ولكنّ نظرة عينيْها ، الآسرَة ، كانت إذاك ما تفتأ تفتكُ بما تمسّه من كائن وموجود . " إنني أحاولُ اقتفاءَ أثر سيّدتك ، المفقود . أعتمدُ في ذلكَ على دلالات ، معيّنة ، كانَ من المُفترض بدورها أن تعينني قبلاً على رصد آثار مفقودات أخرى " ، قلتُ لها مُتعمداً التشديد على معميّات الجملة الأخيرة . عندئذ ، حرّك تمثالُ الحسن شفتيه : " ولم تعتقد أنتَ ، أنّ ياسمينة مفقودة الأثر ؟ " ، استهلت الوصيفة القولَ بمساءلة كانت بنفسها جديرة بالتساؤل .

إنها أدهشتني ، ولا ريب ، بتعمّدها أيضاً غريبَ القول ؛ حينما أجيزَ له طرحَ التكلف جانباً ؛ سواءً تعلقَ الأمرُ بمقامي أو بمقام سيّدتها . كانَ بصري مُتعلقاً بعدُ بهذه الوردة ، المُنتمي حُسنها ، كما خلقها ، لحديقة أخرى ، قصيّة ، أبعدَ منالاً على الأغلب من الحديقة الشامية . وكانت شفتاها المُضرّجتان ، الشفافتان ، قد انفرجتا ثانية عن لحن الصوت المُنتمي للسحر نفسه : " لا تعزيم بقادر ، أبداً ، على إعادة الميّت إلى الحياة " . اتسعَ مبلغُ دهشتي ، فطفقتُ أتفكرُ قلقا بحقيقة ما يدور ثمة ، في رأس الحسناء : " ما أمر هذه الوصيفة ، الخرقاء ؟ ولمَ تبغي دفنَ سيّدتها حيّة ً ؟ " ، ساءلتُ سرّي . ولكنني كنتُ أكثرَ تروّ ، لما أجبتها بدون انفعال : " حسنٌ . أنت على ذلك تعتقدينَ بأنّ ياسمينة ، ميّتة . فما قولك بعطرها المَعروف المَشام ، المصنوع من طيوب سبعة ، والذي بقيَ عالقاُ بملبسي ، كما أكدَ لي المَملوكيْن ؟ " . وقالت من فورها بنبرَة أخرى ، ساخرة : " آه ، إنه العطرُ إذاً " . ثمّ استطردَت وهيَ تهزّ رأسها ، علامة على المَعرفة بجليّة الأمر : " فاعلم إذاً ، يا آغا ، أنه سبقَ لي أن لمَستها ، حينما ناولتني ذلك الكناش . فهل عرفتَ ، والحالة تلك ، مصدرَ العطر ؟ " . نعم . إنها تذكرني بحقيقة ، كانت قد غابتْ عن ذاكرتي في خضمّ ما أعتكبَ من غبار الوقائع ، المَهولة ؛ حقيقة ، أنّ نرجس ، ملولة ومروّعة ، كان قد سبقَ لها أن ترامَتْ عليّ ثمة في القبو ، وقبيل مغادرتنا دار سيّدها . بالرغم من ذلك ، فإنني أجبتها قائلاً بتوكيد : " ولكنّ جثتيْن حسب ، من بانَ عنه هيكل الحَرَمْلك ، المُحترق ؛ إنهما جثتا مربّية ياسمينة وخادمتها "
" بل إنّ الجثة الأخرى لياسمينة ، المسكينة . لأنّ الخادمة ، كانت قد هربت عندئذ . لقد سبقَ لها أن فعلت ذلك ، مع آخرين من زملائها ، حينما هاجمَ الدالاتية الدارَ " ، قالتها بثقة وأضافت : " ولا تنسَ أننا جدناكَ مَرمياً هناك ، عند باب القبو ، المؤدي للبيت الفوقاني ، وكنتَ تهذي من شدّة الحمّى " . وكنتُ على يقين ، أيضاً ، لما أجبتها : ". إنّ خاتمي ، بدوره ، قد فقدَ هناك "
" كانَ الأمرُ رؤيا ، ولا غرو . وحينما تهيّأ إليكَ ، أو لوَهْمكَ بالأصح ، أنّ الخاتمَ سيُنقذ حبيبتكَ فإنكَ خلعته من أصبعكَ وقذفته نحوَ المُستحيل " . يا ربّ السموات العلى . إنها تدعو ياسمينة ، ببساطة ، بكونها " حبيبتي " . ولكن ، أيّ وصيفة هذه ، التي تملك زمامَ الجدل بكلّ لوامع الذكاء والمَعرفة والتبصّر ، تلك ؟ حلّ الصمتُ بيننا ، وعادَ كلّ من المُتجادليْن إلى ربقة أفكاره . من جهتي ، انتبهتُ على شيء من التململ إلى ضيق الوقت ، المُتبقي لخلوتنا . فليسَ ثمة ما يُجزم ، قطعاً ، بأنّ الزعيمَ سيكون على مائدة الغداء مع كبيرة الحافظات . على ذلك ، وجدتُ أنني أضيّع أجلُ هذه الساعة ، الثمينة ، بجدل لا طائل من ورائه . فبادرتُ الوصيفة بالسؤال المَطلوب ، الذي كنتُ قد نقشته في ذهني ، بصبر ، طيلة اليومين الماضيين : " وما قولك ، أيتها العزيزة ، بحقيقة فقداني الكناش ، خلال فترة البحران تلك ؟ ". لقد تعمّدتُ مخاطبة الوصيفة بلهجة صداقة ، لكي تثق فيّ . بَيْدَ أنّ علامة ما ، من تأثرَ ، لم تبن على ملامحها ، عندما أخذتْ تتأملني بهدوء . وأجابتني أخيراً بلهجة غير مُكترثة : " لا أستطيعُ مساعدتكَ بهذا الشأن . ربما أنّ الزعيمَ من هوَ قادر على ذلك ".

إنّ هذه الوصيفة ، الغريبة الأطوار ، تعرف أشياء كثيرة ؛ ولكنها على جانب من الدهاء ، أكثر مضاءً . فلا يجوز إذاً للمرء ، اللبيب ، أن يُقللَ من شأنها لكونها امرأة حسب ؛ امرأة ، ناقصة دين وعقل. على أنّ ما اعتقدتُ أنه زلة لسان من لدنها ، تذرَعتُ به للمضيّ قدُمَاً في جولة من المُجادلة ، جديدة . " قبل رؤيا ممرّ النجاة ، لم أعرف قط أنّ ياسمينة كانت تحبّني . فكيفَ جازَ لك معرفة الأمر ، ما دمت مؤمنة بأنّ لقائي معها ، في الممرّ ذاك ، كانَ أضغاثَ حلم أو بحرانَ حمّى ؟ " ، سألتُ الفتاة مُثبتاً عينيّ بعينيها . فما كانَ منها ، على دهشتي ، إلا إطلاق ضحكة قصيرة ، مُقتضبَة . ثمّ رمّشتْ أهدابَ عينيها بحركة معروفة ، عابثة ، وقالت لي : " أتمْكرُ أنتَ ، يا سيّدي ، على من كانت وصيفة ياسمينة ؟ " . ثمّ أمّحَتْ الابتسامة من شفتيّ الفتاة ، قبل أن تضيفَ بعبوس : " يكفي أنها عهدَتْ إليّ بالكناش ، حينما أحسّتْ بلحظة الخطر ، أو حتى بدنوّ الأجل ، فطلبَتْ مني إيصاله إليك . كانَ ذلك ، أثناء سقوط القنابر على الحيّ ، وقبل وقوع أحداها في نافذة حجرة ياسمينة " .
" أنا أثق بك وأعتقدُ أنك تنطقين الحقّ معي . فليس ثمة داع يجعلك تخالفي ضميرك . فأصدقيني القولَ ، أيتها الفتاة العاقلة ، فيما لو كنت تعلمينَ شيئاً عن أمر ممرّ النجاة ، السرّي ، الموصول بالحرملك ؛ وما إذا كانت النسخة الأولى ، الأصل ، من مفاتيحه ، قد وصلتْ بشكل ما ، ليد سيّدتك " . إذاك ، لزمَتْ الوصيفة صمتها بدأب ولم تحر جواباً . كانت قد أخفضت قبلاً من بصرها ، فما لبثت أن رفعته ثانية نحوي . قالت أخيراً بهدوء : " أنتَ أيضاً ، يا آغا ، رجلٌ عاقل . ولقد تساءلتُ دوماً في الأيام الماضية ، وبحيرة ، عما يجعلكَ تصرّ على أسطورة " العذراء " تلك ؛ التي لن تلبث أن تشيع في رؤوس الخلق . أجل ، في رؤوس ينقصها العقلُ ولا ريب " . يا ربّي الرحيم . أتقرأ هذه البنتُ الأفكارَ ، أيضاً ؟
" لندَعَ ياسمينة بسلام ، أحيّة هيَ أم ميّتة . إنّ الوقتَ يضيق بنا ، وعلينا أن نوجز القولَ " ، قلتُ لها . رأيتُ أنها تراوغ في الكلام وتزوغ عن الجواب القاطع ، المَطلوب . فتوجّهتُ إليها ، هذه المرة ، بنبرَة رجاء وأمل : " ما يَشغلني ، وله عندي أهمية عظيمة ، أن أعرفَ مع من اختلتْ سيّدتك في ليلة الأورطات ، ومباشرة ً قبيل لقائي معها . إنّ هذا من شأنه أن يكشفَ حُجُبَ مَعميّات ، مُلغزة ، وأن يُحدّد ربما مصائر من حولك ؟ " . بدا أنّ نرجسَ لم تتوّقعَ سؤالي ، أو أنها استغربَتْ متنه . فما لبثتْ أن سألتني بدورها وبلهجة فاترة : " أأنتَ على ريبة بكون ياسمينة ، فيما مضى ، متعلقة القلب بشخص آخر ؟ "
" أجل ، إنها حقيقة لا مراء فيها " ، قلتُ لها وأضفتُ بلا تروّ " وإلا فكيفَ ستكونُ ياسمينة ، حبلى ؟ أجيبيني أنت ، يا من تهزئين بأساطير الأولين ؟ " . ما ارتسَمَ على شفتيّ الوصيفة عندئذ ، كانَ يُشبه ابتسامة مُنتصرَة . فما كانَ منها ، على الأثر ، إلا أن هبّتْ مُنتصبّة على قدميْها وراحتْ تخطو جيئة وذهاباً في أرجاء الحجرة ، المستطيلة الشكل . إنها حركة ، ولا ريب ، تنتمي للرجولة . فلنرَ ، بعد كلّ شيء ، كيف تشحذ قرينُ الرجال هذه نصلَ دماغها . توقفتْ نرجس في منتصف الغرفة ، وتوجّهت إليّ بلهجة غامضة : " إنّ خبَرَ ياسمينة ، لو علمتَ ، كانَ محفوظاً في ذلك الكناش . كانَ عليكَ ، يا آغا ، ألا تفرّط فيه ، أبداً " . باغتتني كلمتها ، المَنطوقة كما لو أنها وَعيدٌ أو نذير . فسألتها من فوري بجَزع : " فأنت قرأته ، في هذه الحالة ؟ "
" لا ، لم أفعل ذلك . كانَ الكناشُ بمثابَة وصيّة ، أو على الأقل ، أمانة أحملها لشخص كنتُ أعرفُ أنّ أختي ... " . قالتها الفتاة ثمّ سكتت ، فجأة ، وقد أحمرّتْ كليّة ً . آه ، إنها زلة لسان أخرى . ولكن ، ماذا كانت تريدُ نرجس أن تقولَ ، وأيّ أخت هذه في آخر المطاف ؟
عند ذلك ، رأيتُ أنّ وصيفتنا فارقتْ موقفها ، المَعلوم ، لكي تخطو من جديد نحوَ مكانها الأول ؛ نحو المصطبَة الحجرية ، المكسوّة بالبسط ، البسيطة . فما عتمَتْ أن استرختْ بجسَدها إلى جانب ، بإعياء وإرهاق . من هناك ، إذاً ، من عل ، كانت ما تفتأ ترشقني بنظراتها ـ كما لو كنتُ مُذنباً ، بشكل ما ، تجاهها . نعم . كانت نظرات صارمَة ، جَهمَة ، لا تتأتى سوى للسادة . آنئذ حسب ، نطقتْ نرجس كلماتها ببطء وتؤدة : " أنا لم أكن وصيفة ياسمينة ، سوى مَظهراً فقط . فقد كانت هيَ ، في واقع الحال ، أختي من أبي " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 3