أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - عُُصاب التفاوض السياسي















المزيد.....

عُُصاب التفاوض السياسي


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 19:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"التفاوض" Negotiation سلوك تحاوري عقلاني بين طرفين، غايته التوصل إلى اتفاق يحقق جزءاً معقولاً من مطالبهما الأساسية التي دخلا بها التفاوض في بدايته. وقد أصبح شائعاً اليوم لدى محترفي السياسة والاقتصاد، أن يقدم كل طرف في بداية التفاوض حزمةً من الشروط التي تتجاوز الحدود المسموحة لدى الطرف الآخر، ثم ينتهي الأمر بتنازل كل طرف عن جزء من مطالبه الأولى وصولاً إلى صفقة ترضي الطرفين بنسبة معينة تحقق لهما جزءاً مهماً من مصالحهما.
ويُصطلح على هذا التكنيك الإقناعي تسمية "الباب في الوجه" Door in the Face، أي يغلق كل طرف البابَ بوجه الطرف الآخر في البداية بتقديمه مطالب تعجيزية لا تمثل هدفه الحقيقي من التفاوض، ثم سرعان ما يبدأ كل طرف بتخفيف بعض مطالبه أو تحويرها، الأمر الذي يدفع الطرف الآخر لقبولها "سيكولوجياً" ما دامت تمثل سقفاً أوطأ من سقف البداية المتطرف (اللي شاف الموت يرضى بالسخونه).
غير إن نسق التفاوض السياسي الجاري حالياً بين الكتل السياسية العراقية الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 7 آذار 2010م سعياً لإقامة تحالفات تحقق لها مصالحها السياسية السلطوية، يبدو إنه يتخذ وجهة "مقامراتية"، لا تفاوضية بالمعنى الذي أوضحتُه قبل قليل. ويستطيع المراقب النفسي لهذه المفاوضات أن يشخص ثلاثة اضطرابات سلوكية متلازمة تشكل باجتماعها ما أصطلحُ عليه بـ"عُصاب التفاوض السياسي"، وكما يأتي:
1- يعاني جميع أطراف التفاوض (المقامرون) مما يسمى بـ"التفكير الاجتراري" Autistic Thinking (أي الانشغال التام بالذات نتيجة سيطرة رغبات الفرد وحاجاته على نشاطه العقلي)، إذ تراهم يجترون المصطلحات النمطية نفسها دون ملل، والتي تعكس مخاوفهم الذاتية: (الكتلة الفائزة/ الكتلة الكبرى/ الخروقات/ الاجتثاث/ حكومة المشاركة/ المادة 140/ الاستحقاق الانتخابي/ إعادة الفرز/ الضمانات/....) على نحو وسواسي قهري لا ينقطع على مدار الساعة طوال الشهرين الماضيين، ولا يمكنهم التحكم بإيقافه لا لفظياً ولا سلوكياً، عبر جولاتهم المكوكية بين المقرات الحزبية، وبيوت الزعماء، والمدن المحلية، ودول الجوار، إذ تُنفق ملايين الدولارات وقوداً للطائرات ومواكب السيارات المصفحة والحمايات والولائم. وكل ذلك يذهب هباءً دون تحقيق خطوة تقاربية واحدة، بل يبدو أن المسافات تنأى بينهم بعد كل اجترار! فالمقامرون في العادة يجلسون إلى طاولة واحدة، لكنهم منعزلون نفسياً عن بعضهم إلى حد الشك الوسواسي المَرَضي ببعضهم، يمارسون الحركات القهرية نفسها مع كل جولة. فالرابح يعايش فوبيا الخسارة المحتملة في أي لحظة، والخاسر يتوهم أن الربح آت لا محالة في النهاية. وكلما امتد زمن الجلسة بهم، صاروا أكثر عزلة عن بعضهم، فيما يصبح الربح (السلطة) القيمة الوحيدة الماثلة في ضمائرهم، أما الوطن فهو الطاولة التي تجري عليها المقامرة!
2-هذه الكتل السياسية المقامِرة، تمارس تكنيك "الخداع" Bluff بديلاً عن تكنيك "الباب في الوجه"، عبر إيحاء كل طرف للطرف الآخر بأنه يمتلك الورقة الرابحة المؤكدة: (دعم دول الجوار، أو الحليف الأمريكي، أو الرصيد الشعبي، أو عدد المقاعد الفائزة، أو تدويل الأزمة العراقية....)، سواء كان يعتقد بامتلاكها فعلاً أم لا. ولأن الطرف الآخر يمارس الستراتيجية الإيحائية ذاتها، فلا أحد يتنازل أو يريد حلاً وسطاً حتى إذا كانت النتيجة خسارةَ كل شيء. فالرابح يمكن أن يربح ليس لأنه يمتلك الورقة الرابحة فعلاً، ولكن لأنه أفلح في تخويف الآخر والإيحاء له بالانسحاب. إلا أن هذا الآخر مصابٌ أيضاً بالتفكير الاضطهادي (البارانويدي) ذاته، فالنتيجة إذن أن لا أحد يهادن أو ينسحب لأن الجميع لا يثق بالجميع، وشعارهم: (عليّ وعلى أعدائي). أما أصوات الناس فليست أكثر من أرقام جرى خزنها في حاسوب مفوضية الانتخابات.
3-إلى جانب "التفكير الاجتراري" وتكنيك "الخداع" السابقي الذكر، واللذين يرافقان عملية التفاوض داخل الغرف المغلقة، يتخذ ممثلو الكتل السياسية والناطقون بلسانها أمام كاميرات الإعلام، ستراتيجةً قهرية أخرى ليست جديدة إذ رافقت الخطاب السياسي السائد منذ تشكيل مجلس الحكم في 13 تموز 2003م، هي ستراتيجية "التفكير الرغبي" Wishfull Thinking (أي التفكير الذي يرى أن كل شيء يجري وفق ما يشتهي المرء إذ توجهه الرغبات والأهواء الذاتية بدلاً من العوامل الموضوعية والعقلانية). فالتحالفات النهائية (أو حتى الاندماجات) "وشيكة الوقوع" أو قاب قوسين أو أدنى من التوقيع النهائي. فممثل هذه الكتلة يعلن بلسان الكتلة الأخرى أن التحالف بينهما أمر مفروغ منه وينتظر اللمسات الأخيرة فحسب؛ فيما يصرح في اليوم نفسه ممثل الكتلة الأخرى أن كتلة ثالثة هي أقرب للتحالف مع كتلته، ليخرج ممثل عن تلك الكتلة الثالثة إلى الإعلام ويعلن أن كتلته تنتظر التحالف الوشيك بين الكتلتين الأخريين لتنضم إليهما فوراً؛ ثم يعلن الجميع على نحو متزامن بأنهم سيتحالفون مع الجميع في شراكة "وطنية" حتمية، لتتسرب بعد ساعات قلائل تصريحات أقل رغبية بأن التفاوض أصبح عقيماً، وأن فوبيا العودة إلى المربع الأول قد سلبت المتفاوضين أحلام يقظتهم. لكن ممثلي الكتل سرعان ما يعاودون بعد قليل اجترار تصريحاتهم الرغبية السابقة حول "حتمية" التحالفات الوشيكة، ذلك إن "المشتركات" أكثر بكثير من الخلافات، وإن لجان التفاوض "اتفقت" على كل المباديء ولم تتبقَ إلا بعض الآليات الجزئية التي "ستُحسم" حالما تُعلن النتائج النهائية للانتخابات. الجميع يطمع "رغبياً" بالتحالف مع الجميع لتشكيل الكتلة الكبرى القابضة على السلطة، لكن الجميع يكره الجميع، والجميع لا يثق بالجميع، ويسعى الجميع لخداع الجميع لأن الجميع يريد أن يتسيدَ الجميعَ بل أن يغيّبَ الجميعَ حتى إن كان بعضهم يماثله في الطائفة أو العِرق. فكيف سيتحقق التحالف عملياً؟ ولو تحقق، فعلى أي أرضية نفسية-أخلاقية سيجري تشريع مبادئه وترجمتها إلى وقائع؟
إن الافتقار للوعي بجدوى الديمقراطية بوصفها حلاً عقلانياً لمسـألة الاختلافات البشرية، قد يكون المولّدَ السيكولوجي لكل اضطرابات التفكير هذه. ولعل العكس صحيح أيضاً، بمعنى أن تمركز عُصاب التفاوض السياسي (أي امتزاج التفكير الاجتراري بالتفكير الرغبي بتكنيك الخداع) لدى مفاوضي هذه الكتل، هو الذي يجعلهم عاجزين عن اكتساب الوعي الصادق بأحقية الآخر في أن يكون موجوداً ومختلفاً. وبالتالي فإن هذا العُصاب قد يكون سبباً لا نتيجةً لبروز الوعي الزائف بالديمقراطية لديهم.
أما محرك هذا العُصاب وجذره النفسي العميق، فهو الحاجة المَرَضية للقوة والسلطة التي تخفي في أعماقها فزعاً مريراً قديماً بافتقاد الأمان والطمأنينة، يقود إلى اضطرابات التفكير والتحيز اللاعقلاني ضد الآخر. فالآخر هو العدو "الحتمي" ومهما جرى قبوله أو التحالف مع شكلياً، فإن العقل الباطن الممتليء بقيح عقد الطفولة السياسية يظل يرفضه بوصفه "المنافس" و"الخصم" و"المهدِد"، ولا بد من التنكيل به اليوم أو غداً !
إن الانتقال من عصاب المقامرة السياسية إلى سلوك التفاوض السياسي السوي، يشبه الانتقال من البدائية إلى التحضر، من الحرب إلى السلام، من الفوضى إلى الأعراف، من العدمية إلى الالتزام. فكم على العراقيين المدنيين أن يصبروا حتى يتحقق هذا الانتقال؟ وكم عليهم أن ينتظروا حتى تلملم المنطقة الخضراء سيكولوجيتها العُصابية وترحل، تاركةً للحياة العراقية عفويتها الاجتماعية الكفيلة بإنتاج صحة نفسية سياسية متعافية، تقبل بالآخر، ما دام الآخر هو الأنا في المرآة!



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيكولوجية العمامة واليشماغ !
- تحليل الشخصية الشيوعية العراقية
- مقالات ودراسات في الشخصية العراقية: (صدور كتاب لفارس كمال نظ ...
- سيكولوجية المنطقة الخضراء (تحليل لشخصية السياسي العراقي المُ ...
- الحوار المتمدن ... وجدلية ((الإرادة - الحلم ))
- الحب الرومانسي بين الفلسفة وعلم النفس: (صدور كتاب لفارس كمال ...
- الطفل العراقي .. ورأسمالية الحروب .. وسيكولوجية الثورة
- أنماط الشخصية العراقية الحالية وآفاق الوحدة المجتمعية
- شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الجمعية
- كيف ينظر المثقف العراقي للولايات المتحدة الأمريكية؟ - تقصي م ...
- وداعاً -عبدالله مهدي الخطيب- آخر فلاسفة الشيوعية في العراق
- قلق الموت لدى الأستاذ الجامعي العراقي – دراسة ميدانية
- مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 3 - ...
- مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 2 - ...
- (مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس)(1 – ...
- عقدة (الطابور) في الشخصية العراقية
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية(دراسة ميداني ...
- هل كان (مؤيد نعمة) معالجاً نفسياً؟
- الهوية الاجتماعية العراقية...إلى أين؟
- يحملون الجنسية العراقية ويسكنون في العراء وتحت الجسور


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - عُُصاب التفاوض السياسي