أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 3]















المزيد.....

ضحايا [ الجزء 3]


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 01:51
المحور: الادب والفن
    


فكر أنه متعب جدا و أنه يجب أن ينام لذلك عليه أن يفكر بشيء أطهر و أنقى من ماضيه الذي يجلده كما الزنزانة التي تخنق روحه الحبيسة الباحثة عن الانعتاق. أخافته رغبة روحه في الانفلات. سئل نفسه لما يستعجل التحليق و لم تبقى أمامه إلا سويعات و يرحل. الزمن يفلت من بين انامله بسرعة و في أعماقِهِ يتردد صدى صوت الحارس الذي زاره في الصباح ليقدم له طعام الإفطار. لم يُثرثر كالعادة بل إكتفى بسؤاله إن كان يُريد أي خدمة خاصة في آخر يوم و نصحه أن يحاول النوم. بدا بشعاً حين ذكرهُ أنّه سيعدَم في الغـد و لم تبقى أمامه إلا بضع ساعات. قبل أن يغادره نظر إليه بإشفاق و قال:
- لا أحد يعلم ما الذي يحمله الغد. ربما نصيبك من الرحمة. حاول يا بني أن تنام قليلاً.
كلمات طيبة لم يتقبلها عقله المرهق. توقف إدراكه عند إعلان العجوز عن موعد الاعدام. صَوّر له خياله أن صوت الحارس كان جافاً و ساخراً و أنه تقيأ تلك الكلمات بنبرة تشفٍ و أن إبتسامة مكتومة برقت في عينيه قبل أن ينصرف. أسنانه القليلة الباقية بدت أكثر سواداً و فمه بدا كفم أفعى تنثرُ السمَّ في الجو . تذكّر فجأة أنه قال له يوم قاده إلى هذه الزنزانة أن إسمه صابراَ و أنه في خدمته في كل وقت. تسائل حينها : أي خدمة سيقدمها سجان لسجين سيُعدَم ! ؟
فهم أخيراً أن خدمته هي تذكيره بالزمن الذي يهرب منه و لا يعرِف لإيقافه سبيلا. إنقبض قلبه و شعر بالضعف و الكراهية. صاح:
- "بريء".
إبتسم عندما سمع صوته. منذ يومين لم يتكلم و لم ينم. قرر أن يصمت و أن لا ينام.... مع إقتراب الموعد تشوشت أفكاره فخوفه صار أكبر و تمسكه بالحياة أقوى. تسائل :
- أيعقل أن أكون القاتل الحقيقي ؟ هل أنا مصاب بالفصام ؟
عاد طيف "الحارس" ليزوره. جلدتْهُ الأبتسامة من جديد و ذكرته بصورةً رآها في إحدى المجلات لرجل أحدب قصير القامة بشكل ملفت ، كُتِبَ تحتها "الجزاء". ابتسم للشبه الذي اكتشفه بينهما. ردد مراراً "الجزاء".
لمعت بعقله فجأة فكرة مجنونة، ماذا سيحدث أكثر لو قتل هذا الرجل ذو الصوت المتهدّج الأجش ؟. حتماً سيريحه و سيرتاح هو من الإبتسامة التي تخنقه... هم بمناداته لكنه تراجع لأنه شعر بالوهن وعليه ان يرتاح.
قرر أن ينام لفترة قصيرة. ساعة واحدة تكفيه ليرتاح و ينتظر الموت بكامل وعيه. رأسه يؤلمه أكثر فأكثر. لم يعد قادراً على حمله، إنه ينبض بعنف كقلبه تماماً و يكادُ ينفجر... أمسكه بيديه الاثنتين و ضغط عليه بقوّه .
أحس أنه قد تشقق و أن الدم يسيل دافئا بين أصابعه ، جلس على حافة السرير الحديدي و إستند إلى الحائط و حاول أن ينام ، أغمض عينيه و فكر "بمرج عامر" مهد صباه " الذكرى ستحمل له النوم وسيرتاح قليلاً ليعود لانتظار الزائر الثقيل. لكنه لم يستطع أن يمسك الذكريات. مرَّت كشريط سريع تتلاحق أحداثه متداخلة مشوشة. أحس أن تلك القرية الجبلية البائسة تخنقه هازئة، لم يرى وجهاً ودوداً في كل المشاهد التي تصفحها عقله المرهَق.
قريته جميلة ولكنها مُعدَمَة، تتناثر بعض الدور البائسة في أرجائها هنا و هناك على سفح الجبل. سكانها بسطاء مستسلمون لقدرهم الأحمق. يعتاش أغلبهم من قطع الأشجار في الغابة المخيفة المجاورة التي طالما رأى فيها أشباحاً و سمع أصواتاً مرعبة و صياحاً فلم يتجرأ يوماً على دخولها. منعته أمه. كان وحيدها. إعتادت أن تحرسه عن قرب و تسرف في حمايته. حرصت على تعليمه و عزلته عن باقي الأطفال.
باقي الأطفال ؟
كانوا أطفالاً صغاراً حرمتهم الدنيا كل شيء. في كنف ذالك الحرمان، صنعوا لعبهم بأنفسهم لعب عنيفة كطبيعتهم الجبلية القاسية، كفقرهم وحرمانهم. وجد هؤلاء المتوحشون لذة في قتل الحيوانات الصغيرة التي تقع عليها أيديهم.
أمه، تلك المرأة الرقيقة التي قضت شبابها بإحدى المدن و ارتادت المدرسة عندما كانت طفلة كانت حساسة جداً فمنعته مشاركتهم جرائمهم الصغيرة. لذلك كان يراقبهم من بعيد و بقلبه غيرةً و رعب. يشاهدهم يقذفون الهررة أو الجراء الوليدة على الصخور أو يسكبون الكحول على الطيور المسكينة و يشعلون خيوطا مربوطة بسيقانها الرفيعة فترتفع كرة اللهب في الفضاء و تتراقص بجنون ثم تهوي رماداً ينثره الريح كالذكرى .
عندما إكشفوا مخبأهُ و رأوا دموعه سخروا منه و قالوا له أن البنات أكثر شجاعةً منه و أنه أكثر منهنَّ أنوثة. كان المعلم " سعيد" الوحيد الذي دافع عنه و إنتصرَ له، حين علم السبب غضب منهم و وبخهم و حدثهم عن الأخلاق و الطبيعة و الجمال...
حياته في مرج عامر، رغم حب أمه، لم تكن سعيدة. أبوه كان دائم التجهّم و هي كانت صامتة دوماً... إنه لا يتذكر بوضوح نبرات صوتها. لم تكن تتكلم كثيراً و لم يسمعها تغني إلا مرة واحدة، في آخر يوم بحياتهما معاً. كانت تحتضنه و تنظر في عينيه و تسيل دموعها بغزارةٍ وصمت. لم يسمعها يوماً تتكلم مع أبيه كما لم يرها أبداً تضحك، كان كل منهما يعيش بعالم خاص به مغلق على ذكرياته و أحلامه (إن كان لمثلهما أحلام). كان أبوه يعمل باستمرار و في أغلب الأحيان عندما يعود يتناول طعامه على عَجَل و ينام مباشرةً في حين كانت هي كثيرة الشرود تحلم بالخلاص و تتراءى لها في الفضاء الممتد خلف الجبل الذي يسجنها خيالات من الماضي فتبتسم لكن سرعان ما تُخفي إبتسامتها خشيةَ أن تُدينها إن رآها زوجها. و حدث ما خشيته في ذاك اليوم الخريفي التعس. لازال يذكر جيداً يوم رحيلها. غادر أبوه البيت لكنه سرعان ما عاد. وجده يلعب في حديقة البيت الخلفية. لأول مرة بحياته ناداه بلين، قبَّلهُ و أهداه قطعة حلوى ثم امسك يده و دفع الباب و دخل إلى البيت. كانت أمه جالسة هناك على حافة السرير و بيدها قطعة صغيرة لمرآة مهشمة و كانت تغني:
- يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا
بتموج متل العيد و همَّك متَـعّـبنا
إشتقنا عالمواعيد بكينا تعذّبنا
يا جبل اللي بعيد قول لحبايبنا
بِعدو الحبايب بيعَدو بعدو الحبايب
عا جَبَل عالي بيعدو و القلب دايب
صوتها الملائكي الذي يسمعه لأول مرة يردد كلمات عذبة أطربَهُ. تمنّى أن يسمعها أطول فترة ممكنة. لكن ما حدث قطع عليه كل متعة ، امتقع وجه والده. و بكل الغضب الذي كبته لسنوات طويلة ضرب الباب بقوه وكسره فأجفلت المسكينة و كمن صعقته الكهرباء قفزت واقفة ثم أسرعت راكضة نحو الغابة.
وقف هو مدهوشا يتأمل والده الذي أجهش بالبكاء و أمه التي تبتعد و تتوارى بين الأشجار. عندما عاد له بعض رشده أسرع خلفها منتحباً منادياً لكنها لم تسمعه. كانت قد إبتعدت كثيراً. لحق به أبوه و سمع بعض رجال القرية الخبر فهبوا مسرعين، حملوا بنادقهم و أسرعوا للبحث عنها. إستمر البحث طويلاً، عادوا في الغد و لم تكن معهم.....



#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضحايا [الجزء 2 ]
- ضحايا [الجزء 1 ]
- الذكورة البدائية و السوط المقدس
- عندما تؤمن النساء بأمجاد -ذكورة- مقدسة


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 3]