أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مسلم الحسيني - دموع تحت أغصان الصفصاف















المزيد.....

دموع تحت أغصان الصفصاف


محمد مسلم الحسيني

الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 23:22
المحور: الادب والفن
    





في خلوة مع نفسي الثائرة على نفسها وذاتي المنتفضة على ذاتها... أقلب أفكارا تائهة بين وفرة الشك وشحة اليقين وبين ظلمات الوهم وبصيص الحقيقة . أتمعن في دواعي التمرد ومتطلبات القناعة، في جحيم الواقع ونعيم الطموح. أتنقل بين صحراء الكآبة وواحة الفرح، وبين جنون العظمة وحكمة التواضع..... سمعت دويّا قويّا قادما من صوب صالة الجلوس. لابد من شيء ثقيل قد إرتطم بزجاجة النافذة الكبيرة الممتدة على طول جانب تلك الصالة. هرعت وجلا أبحث عن سر ما حصل....! لم يكن سبب ذلك طائرة تائهة ظلت طريقها وأصطدمت بداري، ولا خاطفها المنتحر وجهها على داري المصبوغ باللون الأبيض متوهما أنه البيت الأبيض!

أنه عصفور...! نعم عصفور توهم بأن الطريق أمامه سالك مفتوح، كان يطمح أن يزور داري ربما بحثا عن طعام متروك أو شراب فائض أو قد غازله حب الإستطلاع والفضول فأراد أن يستطلع ويكتشف! فصدّه بعنف كافر زجاج تلك النافذة المريبة عن تحقيق ما يصبو اليه... بل دفع به على الأرض دون شفقة أو رحمة وقذف به الى غياهب المصير... فكم من مرة سحقت كوارث الزمن أفعالا بريئة !

الزجاج الشفاف في تلك النافذة اللعينة قد خدعني مرات ومرات... كم من مرة أصطدم رأسي فيه ظنا منيّ بأن النافذة مفتوحة، ما أسرع أن نتوهم وننخدع.... ! فالعيون المشدوهة لا ترى ...والقلوب المنشغلة لا تشعر....
في عتمة الأفكار تكثر العيون التي ترانا ولا نراها والمشاعر التي تحس بنا ولا نحس بها والمفاهيم التي تعرف عنّا ولا نعرف عنها والأحداث التي هي بيننا ولا ندري فيها....قد يسكن الظلام فينا ونحن نرتع تحت وهج الشمس....وتتداولنا الضلالة ونحن في بطن الإيمان ....

سقط العصفور على أثر تلك الصدمة الشديدة على الأرض ونثر أجنحته الملونة الجميلة على أديمها . ترك بقعة حمراء، تشبه خارطة العراق، على صفحات زجاج تلك النافذة.... لعنت الصدفة وعتبت على القدر...كيف يتحول طير زاه بألوانه، متباه بحركاته، الى جثة هامدة لا تقوي على الحراك في غمضة عين!؟
هرعت صوب العصفور ...يا له من مسكين... تفحّصته...قلبت فيه.... كان منقاره المدبب ملطخ بالدماء . يلهث بشدة، عيونه البريئة شاخصة نحو المجهول... ربما كان يدرك بأنه يقضي ويموت...أو ربما عيون الموت تنظر من خلال ضباب الحياة فتكشف الأسرار وتتعرف على الخبايا....
كيف أنقذ هذا العصفور ...؟ إنه يموت بين يدي ...إقتربت منه الهوينا أمسح جسده الناعم النحيف...لم يجفل مني ولم يخف ...ربما لا يدري بأنني سبب محنته أو ربما شفقتي عليه وإهتمامي به أنسته جذور المصيبة.... أو ربما العصافير لا تكره ولا تعرف الأحقاد....
حملته بيدي الى داخل الدار ، كنت أخاف أن تهاجمه القطط التي تسرح وتمرح بين حدائق البيوت. أنه فريسة سهلة أمام المتصيدين ، فمن يسقط على الأرض هذا اليوم لا يرحمه الآخرون.... كنت أمسح رأسه، أنظف منقاره من الدم. وا عجباه ...كيف يسلب القدر الساخط بهجة الحيوان كما يسلب جبروت الإنسان على حين غرّة!

وضعته على طاولة الطعام، فهجع بجسده المرتجف وبسط جناحيه وسلّم أمره للأقدار.... كانت عيونه الثاقبة تنظر.. لكن لا أدري الى أين ...؟ ربما كان ينظر الى وجهي ...الى عيوني... الى قلبي.... يتحسس مشاعري ... ربما كان يريد أن يقول شيئا ...أن يخفف عني ...أو أن يترك وصية لأبنائه الصغار وهم ينتظرونه في عشهم البعيد قبل أن تأخذه مراكب المجهول.....

كنت قريبا جدا منه...أناديه ...أناجيه وهو شامخ لا يستجير....قلت له... أيها العصفور الجميل .. أيها الطائر البريء....أيها الجريح الصامت...أيها الصابر على الألم....أيها الصامد أمام المحن... أعذرني ...أفصح عنيّ... فاني قاتلك وانت لا تستحق الموت....أرجع لسمائك فهي تزهو فيك ...إرجع لعشك فعيون أبنائك شاخصة اليك...إرجع لألحانك الوديعة فهي اكسير الحياة وسر من أسرار الوجود....ارجع لحرية الفضاء ولجمال الطبيعة... فالفضاء يموت بدون حراكك والطبيعة تحزن بدون أناشيدك.... أغصان الأشجار تفرح فيك ... ورياض الربيع تسأل عنك....

جلبت له الماء في إناء ونثرت حبيبات من الرز الناعم قرب منقاره، عسى أن يأكل ويقوى على مضاعفات النزيف... لم يأكل ولم يشرب بل كان يلهث... يكافح من أجل أن يبقى في نور الحياة .... تذكرت وانا أنظر اليه ذلك اليوم الذي كنت أحسد فيه العصافير.... حيث قلت لأمي حين كنت يافعا ...أماه، ياليتني خلقت عصفورا. أجابتني والدهشة تسرح في عينيها : عصفور!!!؟

نعم عصفور... العصفور قوي بجناحه ، غني بصوته، كفوء بحركته، وجميل بألوانه. لا تقيده أرض ولا تخيفه سماء ....يسبح في فضاء الحرية المطلق، عال بروحه...شامخ بذاته...لا يشعر بالنقص ولا يستقوي بالمناصب أو الألقاب. العصفور مؤمن بكيانه .... مهتد بذاته....لا يأبه لتناقض السياسات ولا يتأثر بصراع العقائد ولا يضيع في متاهات الأفكار.....

في عالم العصافير عيون الحقيقة لا تتخفى وراء حجاب الوهم... وموازين المبادىء لا تنحرف في مطبات الرذيلة.... العصفور لا يتاجر في سوق المعايير ....فيبادل اليقين بالشك....والمشاعر بالألفاظ.... لا يبيع الجوهر ولا يشتري المظهر ......ربحه الإخلاص وكنزه المحبة.

العصفور لا يؤذي بل يعشق... لا يغتاب بل يغنيّ... فهو غير أناني لأنه يعطي كما يأخذ... لا يطالب بحقوق العصافير ولا يبحث عن واجباتهم... لا يحتاج الى محاكم ولا الى قوانين .... لا يعترف إلاّ بفضاء الحرية ولا يؤمن إلاّ بأنسام الربيع.... لا يهاب عاذلا ولا يخشى رقيبا...أنه سعيد، لا يحس بالملل ولا يشكو من الكآبة..... فما أسعدك من كائن وما أجملك يا عصفور!

قضيت ليلتي الطويلة معه أراقبه وأمسح في جسده الجميل ... ثم رفعت يديّ الى السماء أدعو اليه....أسأل الله أن يشفيه... أن ينقذه من موت أكيد....
وبعد منتصف الليل قبلت رأسه الناعم وودعته كي يهدأ وينام ولكي أصيب أنا الآخر شيئا من النوم، فعسى أمواج النوم تغرق شيئا من أشجاني...
عند صلاة الفجر، هرعت نحو العصفور... أتفحصه... أطمئن عليه... ربما تحسنت أوضاعه وعادت له صحته وتوقف عنه النزيف....
كان قد وضع رأسه الصغير على الطاولة وأغمض عينيه الخائرتين.....وخرج من فمه نهران من الدم كدجلة والفرات ...صرخت فيه ...أيها العصفور.... أيها التائه في بحر الأقدار....أيها العاشق في أرض الأضغان....أيها الذكرى في عالم النسيان...أيها المستبشر في دنيا الأحزان....يا حبيب الطبيعة وربيب الأنسام...إفتح عينيك لي ...أخبرني ...أجبني ...
لم يجبني العصفور!

بحثت عن أعلى شجرة أواري تحتها جسد العصفور ...كي تبقى روحه الشامخة تناجي جسده من أعلى غصن في شجرة الصفصاف....إمتزجت الدموع مع التراب حينما سمعت أصوات الفراخ الناحبة في عشها ...رفعت رأسي الى الأعلى ...الى الأغصان ....أنهم صغار العصفور يلقون النظرة الأخيرة على جسد أبيهم المسكين، يودّعون.... ينحبون.... يندبون حظهم العاثر...
ترجمت نفسي صرخات أحد الفراخ الذي زحف بنصف جسده خارج العش وكان يمد بعنقه ويخفق بجناحيه وكأنه يهم بالوثوب على قبر ابيه ليتمرغ فيه ويشم رائحته وهو يقول....

مهلا أبي.... ما سرّ هذا الرحيل!؟
هل ذقت ذرعا ، أم توفاك الجليل!؟
من بعد عينيك تهون الحياة
حتى وان عشت فأني قتيل...
ضاعت مقاييس الأمور كأنما
ضحكات هذا الدهر نسمعها عويل
هذي الحياة غريبة في طبعها
والعمر مهما ازداد نحسبه قليل
أرحم بنا ....
أشفق بنا....
إرجع لنا....
لا تعتذر وتقول: هذا مستحيل....

رجعت الهوينا الى عقر داري مطأطىء الرأس حزين الكيان.... جمعت أوراقي المبعثرة هنا وهناك وحشرتها في حقيبتي الحبلى بالأوراق وبدأت أسحل أذيالي صوب العمل.... يا ليتني أقبع هذا اليوم في داري لأن قيود الحزن قد كبلتني ومشهد العصفور لن يبرح خيالي.... إلاّ أن إجتماع هذا اليوم لا مناص منه ويجب ان أحضره ، فمن سيصدّق أعذاري !؟.
وخلال ذلك الإجتماع المغلق الثقيل فتحت سكرتيرة القسم الباب على حين غرّة..... طلبتني ودعتني الى الهاتف لأن الإتصال قادم من العراق!
أنه أخي الكبير الذي شرع يخاطبني ببرود محسوس وبصوت خافت مرتجف، تردداته تتكسر في عبرات صدره... تحس وكأن كلّ كلمة تصدر منه تخرج من قلب فيه نزيف....وبإيجاز مطلق أنهى حديثه المختصر بعبارة صكت مسامعي وشلت فرائصي وشدهت فكري....

-" البقاء في حياتك أخي...أبوك قد وهب الحياة...."
- قتلوه.....!؟
همت على وجهي بلا حس ولا شعور.... أنظر ولا أرى....أسمع ولا أفهم .... أمشي ولا أدري .... فوجدت نفسي قرب قبر العصفور أنحب مع صغاره.....




#محمد_مسلم_الحسيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بواعث الإحساس عند الإنسان
- سيناريوهات تشكيل حكومة عراقية جديدة
- مذكرات رحلتي الى العراق
- أنصفونا قبل أن - تدمقرطونا-
- أوربا صار لها رئيسا ،فمن هو...؟
- تركيا والسلوك السياسي المزدوج.
- الإنتخابات العراقية وصراع الأقطاب
- عطش في وادي الرافدين!
- دكتوراه في سن السادسة والسبعين! : معاني ودلالات....
- أزمات العالم جذورها تكمن في فلسطين...
- جنون العظمة: مرض عقلي أم داء إجتماعي؟
- ماذا سيحصل لو هوجمت إيران؟
- السلم في الشرق الأوسط هدف من اهداف العالم المتحضر
- إنفلونزا الخنازير وباء جديد يدق ناقوس الخطر
- الأوربيون والملف النووي الإيراني
- لماذا يقتل الحاكم شعبه...!؟
- تركيا من غرب يرفضها الى شرق يصبو اليها..
- ابحث عن امرأة تكرهني اسمها دنيا....
- مصاعب في الديمقراطية...
- أوباما والدرب الطويل....


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مسلم الحسيني - دموع تحت أغصان الصفصاف