أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب إبراهيم - زيارة خاصة















المزيد.....

زيارة خاصة


طالب إبراهيم
(Taleb Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 20:05
المحور: الادب والفن
    


مساءً.
أخرج بنطاله وقميصه النظيفين من كيس نايلون أسود كبير، وضع بينهما صابونة معطّرة، وطواهما بحذر لئلا تخرب " الكوية" .
بحث عن كيس صغير ، ليضع فيه "زوج حلق" أمضى في صناعته ثلاثة أيّام ، و " بروش" عظميّاً ، أمضى في صناعته أربعة.
انتصب مفكّراً،كيف سأحمله دون أن ينكسر..؟!
رفع منديلاً ، لفّ القطع فيه,ثم طواه، ودسّه في جيب بنطاله المكوي بحذر وهدوء ، ثم جلس في فراشه, يخمن من سيزوره غداً...؟!
المهاجع صامتة, لقد أقفل السجانون الأبواب باكراً هذا اليوم,لديهم موعد مع مسلسل لانعرف عنه شيئاً..علقت ذبابة في اللصاق وعلا صوت استهجانها, نظر إلى صديقه في الفراش الآخر وابتسم, ثم قتل الذبابة حتى لاتتعذب أكثر,وقال :
ـ لو كنت ذبابة وعلقت في اللصاق أرجوكم اقتلوني..
أعاد ترتيب ثيابه النظيفة,الذباب يطير حوله, وعيون أصدقائه أيضاً :
ـ" شو أخي ... باين عم تجهّز حالك من هلّق؟!!"
ـ" اتركوه يا شباب .. بكرى جاي المدام.. بكرى عندو زيارة خاصة!!"
خاصة: أي تستطيع رؤية زوارك في غرفة واحدة تستطيع لمسهم و معانقتهم ...وهي تحدث مرة كل ستة أشهر وتستمر لمدة نصف ساعة..في حين ان الزيارة العامة:ترى زوارك من خلف شبكين من الحديد,المسافة بينهما متراً على الأقل وتستمر أيضاً نصف ساعة..
نظر إليهم صامتاً. فكّر. إن بعض الأشياء لا تحتاج ردّاً, وكما لو أنه تذكر زيارته التي يتذكرها جيداً,
تحرك خطوات في المهجع البارد,وفرك كفيه, ثم جلس في فراشه الصغير وقال :
ـ" أي والله.. أي والله..بكرى خاصة..خاصة يا شباب.."
عاد ينظر إلى سقف المهجع سارحاً بين خطوط اصفراره، وخطوط الحديد. أسبل عينيه، شبك كفيه خلف رأسه، واتكأ على الجدار، ثم فتحهما. فكّر. إذا لبس البنطال بسرعة فقد ينكسر "الحلق".
أخرج ورقة صغيرة, وكتب عليها "البس عَ مهلك.." ووضعها على البنطال، ليراها غداً قبل أن يلبسه.
حاول أن ينام باكراً، في سجن لا يعرف النوم. قلق. تقلّب عشرات المرّات في فراشه, اقترب صديقه, ربّت على كتفه، وسأله هامساً:
ـ" بتشرب قهوة..؟!"
فتل رأسه ساخراً, فأكد صديقه: "يمكن تنام بعدها بسرعة!!"
نهض صديقه،أخرج الموقد الصغير من مخبئه,وانتظر هو بجانب الباب ,حتى إذا دخل احد السجانين صدفة,فيحذره ليعيد الممنوع الغازي إلى مخبئه.. أدخل صديقه الموقد إلى الحمام، حتى لا يوقظ أحداً من النائمين بسبب الصوت أو الرائحة أو .. فيشرب معهم، والكمية قليلة. شرب نصف فنجان،كما نصحه صديقه, ودخّن نصف " سيجاره" وانسلّ في فراشه لينام. قلب على الجهة الأخرى. رفرف الغطاء، وقلب فنجانه الفارغ، ولم يكسره. فكّر أن يقوم، لكن النعاس المفاجئ اجتاحه، فأجّل أعمال التنظيف إلى الغد.
صباحاً. أيقظه صديقه مربّتاً على قدمه، ففاق مرتعباً، وأرعب موقظه:
ـ "قوم.. قوم جهز حالك!!"
فرك عينيه، سأل كم الساعة، وهو يراقب فنجاناُ مقلوباً، وبضع قطرات قهوة بجواره. نهض. غسل وجهه. نظّف مكانه.
شرب قهوة، ودخن نصف "سيجارة" حلق ذقنه، دخل الحمام,لاكهرباء اليوم عقوبة من السجانين دون سبب,لذلك استحم بالماء البارد..حتى لو كان هناك كهرباء,فليس هناك سخان ماء..
خرج متفتّحاً كالتوليب...هكذا قال أصدقاؤه.. سّرح شعره أمام مرآة صغيرة وخرج يتمشى في الكّردور الطويل....الكردور نظيف دائماً..
بعد كل خطوة من خطواته كان يراجع ذكرى ما..
بعد عناء طويل من جلسات نقاش صعبة توصل المعتقلون إلى برنامج بسيط لتنظيف الجناح, كل مهجع ينظف أمام مهجعه في ساعة معينة من الصباح وبشكل جماعي.. ابتسم وقد توالت صور الأفكار الاخرى للنظافة..
على الرغم من مشاكل الإحساس بأنه لايمت إلى منازلنا بصلة, ولايمكن اعتباره بديلاً عنها, إلا أن العمر الطويل الذي صرفناه بها روّضنا,وخلق ركيزة أساسية تعتبره مهماً لكل الصفات التي يملكها ولايملكها مكان غيره...
إنه المكان الوحيد الذي يتشابه فيه كل ساكنيه من حيث كمية العذاب التي تلقوها أو الانكسارات التي اذا أصابت أحداً ما كأنها أصابت الجميع..المكان الذي جمع كل الرجال الذين ينتمون لنفس القناعات....
المكان الذي أعاد فيه الجميع ترتيب قناعاتهم, وذكرياتهم,إنه المكان الوحيد الذي جمع هذه الكتلة الهائلة من البشر والاحزان و.....الزمن المطفي..
سلم على أصدقائه جميعهم، ومشى منتظراً قدوم شرطي ما يحمل إليه بشرى وصول زائريه, ثم يحمله ممسكاً بيديه خلف ظهره ,ليسلمه إلى شبك الزيارة الحديدي..
لكن هذه المرة ..هاه..إلى غرفة الزيارة الخاصة....
اقترب شرطيّ،فاقترب منه,لكنه لم يكن المطلوب وإنما مسؤول المواقد,المواقد مسموحة في النهار وممنوعة حين يغلقون الأبواب مساءاً ..
شرطي آخر طلب مسؤول الجرائد... دخل إلى المهجع، وسّرّح شعره من جديد، وخرج يتمشّى، ثم دخل إلى "التواليت" وخرج. راقب وجهه في مرآة صغيرة. سمع قرقعة مفاتيح وصوت باب الجناح الحديدي العملاق ،فخرج مسرعاً..
صرخ شرطيّ : تفقّد.. تفقّد...
ودخل سيل من العناصر يحدوهم مساعد يرسم أرقامنا في دفتره الصغير..
دخل إلى المهجع، ولم ير الشرطيّ الذي اقترب راكضاً سائلاً عنه. رفع بنطاله، ولبسه بسرعة، فتهاوت قطعة ورق صغيرة, خطّ فوقها بقلمه ليلة الامس....
لبس قميصه، وسرّح شعره. أحضر له صديقه حذاءً، وتهافتت الأصوات:
ـ سلِّم... سلِّم....
اقترب من الشرطي وقال له:
ـ عندي زيارة خاصة!!؟
لم يكن مهتما ًلسماع ملاحظته, لأن الزيارة الخاصة تحتاج عناصر أكثر, وحذر وتوتر..
سار أمامه, مقيداً يديه للخلف بدون رباط..
أُغلق باب الجناح. انتظر في غرفة جانبية. اقترب شرطي, وسأله عن اسمه، فأجاب، وذكّره بالخاصة من جديد , طلب الشرطيّ أن يتبعه ..
تبعه, وعندما رآه ، يدخل إلى غرفة الزيارة العامة، عاد وذكّره ب "الخاصة" , لكن الشرطيّ أمره أن يدخل، فدخل...
خلف الشبكين الحديديين, كانت زوجته لوحدها. ابتسمت له, وأشارت بيديها... هجم جمالها على عينيه كالحلم...فقال:
ما أجملها....
اقترب. مدّت يديها من خلال القضبان، فعلق طرف كمَّها بسلك نابت ناشز، وتمزَّق. مدّ يديه. تعانقت الأيدي. شدَّ على يديها، ولامس طراوتها. اقترب أكثر, أوقفه صلب القضبان. ذكّرته زوجته, أن الزيارة خاصة. أفلت يديها، وسأل الشرطيّ الواقف الذي يراقبه عن زيارته الخاصَّة،
فقال له: طوِّل بالك...
استنفر الشرطي الذي يراقب زوجته, فوضح له الآخر المشكلة..
عاد وأمسك يديها، ولما اقترب شرطي آخر, ذكّره بـ "الخاصة" ذهب الشرطي حتى يبحث عن طلب الزيارة الخاصة.
رآه وهو ذاهب. تساءلت زوجته، ماذا قال، فقال لها:
ـ طولي بالك..!!
خافت ألا يزورا "خاصه"،لقد انتظراها ستة أشهر, وقد جاءت الآن دون أن تحضر الأولاد, أو تسمح لأحد من إخوته بالمجيء, وشرحت خوفها له...
فقال ثانية: طولي بالك..!!
أحاطها بعينيه، غافل الشرطيان، وأرسل لها قبلةً عبر الهواء، وردّت عليها، ابتسما، وكان الوقت يمضي..
عاد الشرطيّ، وأخبره أن طلبه، لم يوقّعه مدير السجن بعد,وعليه أن ينتظر إلى زيارة أخرى..
سمعت الشرطيّ، طوت رأسها، وغطى شعرها القصير وجهها، شدّ يديها، هزهما. ارتعشت. ارتجفت، ثم غرقت في البكاء.
هزّ يديها من جديد. مازحها. تماسكت، شدَّ يديها، رفعت وجهها المزهر بالدموع، ارتجف قلبه. ابتسمت وسط الدموع، ابتسم منقبضاً.
قال لها: بسيطة.. بسيطة..
ثم تذكّر الهديتين. سحب يده، وبحث في جيبه عنهما، فرحتْ، فرد المنديل، فوجد الحلق مكسوراً، وتذكّر أنه لبس البنطال بسرعة. أعطاها "البروش" وأجل "الحلق" حتى يصلحه.
ابتسمت. ابتسم. غصّتْ. غصّ. شدّ يديه. شدّت. قُرع جرس جافٌ معلناً انتهاء الزيارة.
اقترب الشرطيّ, وقال: خلصت الزيارة.
سحب يديه. سحبت يديها. لوّح لها. لوّحت له.
قال الشرطيّ بانزعاج: خلّصنا...
دار على عقبيه، ودخل عبر الباب الأسود الواسع.
لاحقته، حتى اختفى عن عينيها، دارت، ومضت.
اقترب من الأغراض التي أحضرتها له. تفحّصها. فكّر. هزّ رأسه.
أغمض عينيه، فعبرت دمعه زاوية عينه، وتبعتها واحدة أخرى من الأخرى
سقطتا، وهو يحمل أغراضه، ويقطع الخطوات الباقية بين غرفة الزيارة، وباب الجناح الشاحب..!!



#طالب_إبراهيم (هاشتاغ)       Taleb_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاربة بين قتل وطني ونجاة مهاجرة
- ليست طلقة وليست في الهدف
- طريق الوطن ..قد يبدأ بانتخابات..
- طرنيب وعشق
- مظلومة يا ناس
- الجريدة
- التغيّر الوردي -من الخيال السياسي-
- ذات العلامة
- نور العين
- أبو علي كاسر
- بقعة حارة
- قصاصة
- غش هديّة
- وجع
- محنية الظّهر
- ملاحقة
- أقفال الحرب ومفاتيح السّاسة
- قصص ميس لقصيرة
- طفولة
- مسرحية


المزيد.....




- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب إبراهيم - زيارة خاصة