أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثامر مهدي - لا وجود للشيطان على متن الطائرات














المزيد.....

لا وجود للشيطان على متن الطائرات


ثامر مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 2995 - 2010 / 5 / 4 - 00:27
المحور: الادب والفن
    



تبوأت الفتاة مقعدها F21 ودست جهاز الموبايل المقفل في حقيبتها الجلدية البيضاء بعد مهاتفة قصيرة أعقبتها برسالة نصية. أخذت بكلتا يديها السمراوين وشاحها الأسود ورفعته قليلاً عن شعرها الأشقر المصفوف بإتقانٍ ثم جعلته يحطّ بخفةٍ على رأسها الصغير نسبياً وبرقةٍ أرقّ من النسيم هكذا …

ولقد لمحتُها قبل صعودنا للطائرة ونظرتُ إلى جمالها مليّاً متأملاً وسعيداً، لقد كانت فتاة سمراء وقامتها قصيرة، ولها نظرات بسيطة غير آبهة، تميل برأسها على جهاز الموبايل حين تتحدث وهي تمشي، ولحظة تتوقف قليلاً تنظر للأسفل. وعلى خلاف عادة الفتيات القصيرات، حيث يزعجهن قصرهن وينتعلن ما يرفعهن عشرة أو خمسة عشر سنتيمترات، كانت تنتعل حذاء أبيض، وقد بدت قدماها الصغيرتان، وقد راقتني كثيراً أظافرها المطلية باللون الفضي، فالأناقة هي بالأساس ثقافة والبهرجة مهما بلغت دلالة على الشعور بالنقص وعدم الثقة بالذات. إنها لفتاة مقتصدة في زينتها ونظراتها بدقة بالغة وتسكنها البهجة بمسحة حزن شفافة، وتضفي عليها صفة الملائكة.

لقد فرغتُ من تأملاتي، لحظة الإقلاع حيث كان الجو صافياً، وما لبثنا أن ارتفعنا حتى رحتُ أنظر للبقاع القاحلة وأحاول تبيان بعض الأخاديد الموزعة هنا وهناك بين الكثبان والأودية والنجود. لقد حلقنا على ارتفاع يكفي لخداع البصر، حيث يمكننا افتراض أشياء كثيرة عما تعنيه واحة هنا أو دغل هناك. وفي مستوى الطيران لحظة الضحى يمكن للسراب أن يبدو عند نهاية الأفق، وكأنما السماء بزرقتها المصقولة الناصعة، سطح بحرٍ رخيّ، وساكن.

ما برحت تلك اللحظات تتناوب بدهشتها حتى منحتني جوًّ هانئاً، ودفعتني للتماس مع بعض الأفكار التي نظرتُ إليها في الماضي متأثراً أكثر مني ممحصاً. هذا الاستقرار العجيب للفضاء الشاسع، ماذا لو امتلك الإنسان شيئاً ضئيلاً من هذه الثقة العظيمة ومن هذا السحر الكوني الأثير. لقد أصبحتُ على قناعة أشدّ من قبل، بأن الإلحاد ومقارعته بالدين لهو أمرٌ كفيل بأن ننعت إليه كل أصناف الغباء والحماقة. خصوصاً وأن ملاكاً على متن ذات الرحلة يطمئنني لكي أقول ما أقوله، دون ذرة شكّ بأنه لا وجود للشيطان على متن الطائرات.

لو افترضنا جدلاً أن للكون فعلاً بدايات هزيلة كانت أو مدوية، فأنه من المؤكد قد شهد الكثير من التذبذب والمحاولات الخاطئة حتى اتخذ مساراً صحيحاً، مما يدلل على وجود إرادة واعية وليست اعتباطية أو جزئية أبداً. حيث لا يمكننا النظر إلى الوجود كأجزاء في هذه المسألة، لأن الوجود واعياً بوصفه كاملاً فقط. وإن مثابرة هذه الإرادة لإيجاد مسارها الصحيح، والعثور على بداية صحيحة للحياة الحية يجعل منها إرادة حرة في جوهرها، وليست كذلك في صراعاتها مع مكوناتها الجزئية. فمثلاً، حين يثور بركان في أعماق المحيط، فهذا يعتبر نتيجة لأسباب هي من ضمن الطبيعة، وهذه الأسباب بمصادرها وصولاً إلى البركان ونشوء جزيرة خصبة على سطح المحيط في صورها المجتزأة ليست واعية، ولكنها قطعاً تعبر عن إرادة حرة وواعية للطبيعة والوجود كمحصلة نهائية للعملية. هذا الوعي ليس اعتباطياً منذ نشأته ولكنه احتاج إلى صراعات معينة ضمن تكوينه الأول، وبما يشبه التجريب في الفن الحديث، لكي يتمخض عن وجود صحيح ومستمر.

هذا الوجود الحرّ متلازم مع إرادته النوعية، يتمثل في الوعي الذي لا يمكن تصوره وتحديده بشكل مطلق بأفكار وأنماطٍ استدلالية، إلا في المرحلة المادية فقط، بوصفها تمظهراً معيناً لهذا الوعي، والتي يمكننا فقط معالجتها بالمنطقية العقلانية. أما ذلك الوعي المطلق فما العقل البشري إلا جزء منه قد تشكل في إطار الظاهرة المادية التي حددت أنساق التفكير والمعالجات الفلسفية. لذلك تبقى محاولة رصد السبب الأول والبحث عن المسبب الأول عملية يائسة أمام الأشكال التي انطوى عليها الوعي قبل المرحلة المادية.

لقد سُمح للمسافرين على متن الطائرة بفك أحزمة المقاعد، وعدت أنظر إلى الفتاة التي جلستْ بجانبها أمّ شابة بمعية طفلها اللعوب. لا أستطيع الجزم بأنها ترتاح لوجود الأطفال لأنها لم تلاطفه كما يفعل الكثيرون، ولقد خمنتُ بأن رحلتها ليست اعتيادية لطول ما لاحظتها قبل إقلاعنا وهي مشغولة بالمكالمات وتمرير الرسائل دون انقطاع.

أخذتُ أنظر إلى تجمعات لا أستطيع تمييز نوعيتها، تربط في ما بينها طرق صحراوية بشكل عشوائي، وفي تلك اللحظة خمنت إذا ما كانت الحياة الحية موجودة فقط في هذه المجرة وعلى كوكبنا حصراً لتوافره على الظروف التي تحتاجها هذه الحياة. فنحن الآن نعلم بوجود مجرات أخرى ذات منظومات متشابهة ولها ظروفها أيضاً، ولربما بدأت فيها حياة حية منذ زمنٍ أبعد. ولربما كانت هنالك أنماط أخرى من الحياة الحية لا تحتاج لذات المقومات والظروف التي للحياة كما ألفناها على كوكبنا الحبيب.

وفي هذه الشساعة الممتدة أمام ناظري من يستطيع الجزم بأن الفراغ أو الحيز هو مجرد تصور لما نعيه ونشعر به فقط أو هو فعلاً كما نراه. وحيث أننا لا نستطيع تصور حدوده فلا بد لنا من تصويب الرأي الأول، وهذا يحيلنا إلى فكرة أننا نعي جزء يسير من وجود شاسع. بالتالي قد يكون الفراغ شيئاً مختلفاً تماماً عما نتصور وقد يكون أيضاً شيئاً ممتزجاً مع الأشياء الذي يحتويها مثلما تحتويه بالمقابل، لأننا غالباً ما نستطيع قياسه بوجود الأشياء التي نراها، فمسألة الفراغ أو الحيز هي مسألة شبيه بمعنى تلازمية الزمن والحركة.



لقد قمت بتدوين تلك الملاحظات وأنا أراقب جناح الطائرة الذي يجرح الجو كمدية مسننة. ها هم يطلبون منا ربط أحزمة المقاعد مجدداً واستعداداً للهبوط …

وما أن حطت الطائرة، حتى بدأ الركاب بتفقد أمتعتهم، واصطفوا في الممر في عجلٍ للخروج من الطائرة. بينما لبثت الفتاة تعاود اتصالاتها .. مررت ونظرتُ إلى عينيها معرباً لهما عن امتناني وسلامتنا جميعاً ..

ومن ثمّ قذفتُ بنفسي خارج المطار ملّوحاً للسائق الذي انتشلني، ورحتُ أستشيره الرأي حول ما سبق ذكره …



#ثامر_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرجال المحبّون المتغوّطون
- المسافر الذي لا وزن له
- الأشجار .. الأشجار
- الشعر في ميزان مظفر النواب
- فارس الظل/إلى بشر يموتون
- مقطوعة للشاعر الخالد/ رعد عبد القادر
- نشوانا بما تبقى لديك من وجع المآذن
- للروح مطر ... لايكفي


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثامر مهدي - لا وجود للشيطان على متن الطائرات