أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حلم وردي مرعب!















المزيد.....

حلم وردي مرعب!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2994 - 2010 / 5 / 3 - 18:54
المحور: الادب والفن
    



منذ ثلاثة وعشرين عاماً وأنا أتطلع إلى هذه اللحظة، وربما ذلك الحلم, أن أستيقظ صباحاً لأجد نفسي في بغداد، ولكن دون دكتاتورية ودون وجوه وقسمات قاسية لغلاظ القلوب والقساة بلا رحمة.
هكذا كنت أحلم باستمرار، وكنت كلما يراودني ذلك الحلم ويحتل كل عقلي وكياني، أشد الرحال متسللاً إلى كردستان، وفي كل مرة كنت أختار طريقاً، لعل وصولي يكون أقرب إلى أرض الوطن... هناك حيث ذكرياتي وأيام صباي وفتوتي وأحلامي الملقاة على قارعة الطريق. كنت أتساءل: لماذا غادرت نجفك الأشرف، وبغدادك الحبيبة؟ ألكي تشيخ وتهرم في المنافي الباردة؟! وقد تعود أو لا تعود إلى الوطن، في جنازة «مرخّصة» أو «تابوت» غير مسموح له بالعبور؟!.
ألم تصرخ ذات يوم كفانا رحيلاً، فقد بتُّ أكره تمر بلادي المغلّف بـ «السيلفون» والمكتوب عليه للتصدير, أتراك تترك كل أطايب الدنيا حين تتذوق رطباً من عسق البرحي الذهبي؟ أنسيت حين كنتَ تمدّد قدميك في ساقية متفرعة من نهر دجلة أو في التاجي, أو عند شط الكوفة التابع للفرات، وتحلم، بل تستغرق في الحلم، وتسبح حتى ينقضي النهار، وتأكل من تلك التكيّة اللذيذة التي تحتمي تحتها من القيظ، قرب قصر الملك, وكأن الحلم كان مرتبطاً دائماً بعلاقتك بالماء، سواء كان نهرا أم بحراً. هكذا تحلم وأنت بعيد عن بغداد!.
نعم يا صديقي
لكن الضرورة، الحرية، هناك وراء ذلك الإصرار، وهذا العناد وربما المكابرة, وليس هناك أي شيء أغلى ثمناً من الحرية والكرامة.
تراك تردد مع نفسك بمناسبة وبدونها: عندما أكون في بغداد أفكر في المنفى، لعلّي أنفذ بجلدي, وأفلت من يد ذلك الذئب المفترس, الذي ظل يترصدني، وعندما تكون في المنفى تظل بغداد هي هاجسك الأول وربما الأخير، وبين الأول والأخير هواجس إنسانية وحساسيات فكرية وثقافية، وهموم ومشاغل سياسية وأخلاقية كثيرة.
كم مرة فعلتها؟ كم مرة افترشت الجبال غطاءً ووسادة؟ وكم مرة اخترقت المسافات والصحاري؟ ودخلت وخرجت من الوطن، متوجساً، مرتاباً، خائفاً، على ظهر دابة، أو سيارات قديمة أو «تراكتور» أو مشياً على الأقدام... بوثائق يتم تصنيعها عند الحاجة أو حتى من دونها.
اللعنة. هذه المرة تدخل بغداد وأنت حر طليق، ولكنك حزين وكئيب وكأنك تحضر مأتماً، حتى صور التلفاز المرعبة كانت ملوَّنة ومتحركة، قياساً بالكابوس. ألست تقول إنك تريد بغداد بلا طغاة, إنهم رحلوا، ولم يتركوا في قلب ملايين الناس أية حسرة أو لوعة لهذا السقوط المدوي، فلماذا لا يفارقك الحزن والكآبة والشعور بالذل أيها العراقي المتوّجس؟.
عند مشارف بغداد، بدأت أستعيد ملامحها، وصورها، وحاراتها، وأزقتها، ونساءها، وقبابها، وجوامعها، وجامعاتها، وحاناتها، وكنت أبكي دماً, أبكي بصمت... اللعنة مرة أخرى، أهذه هي بغداد التي تركناها؟ كيف دهمتها البادية واحتلها الريف وتصحرت إلى هذا الحد؟ لماذا كل هذا الخراب؟ فكلُّ شيء كان يشي بأن هناك انحطاطا وتخلفا ووحشية، وانعدام ذوق، لا علاقة له بالحروب والحصار، إنما الخراب كان أعمّ وأشمل... فهو خراب للعقول والنفوس والعمران والحضارة والثقافة والقيّم... زاده الاحتلال تشوهاً، يوم فقس بيض الهمجية والتخلف والقمع والجوع والمهانة، والفوضى لتغيّر وجه المدينة الفارهة الجميلة الأليفة.
عند المشارف مرة أخرى, ضعت بين الحلم والذاكرة، فداهمني انبلاج الفجر الجميل وكأنه لا يريد لعينيّ أن تكتحل برؤية بغداد -وأنا في هذا الجو الكابوسي المتوتر- إلا وهو يعيد إليَّ هواجسي القديمة-الجديدة... إنه الجندي الأميركي من على سطح الدبابة, موجهاً سلاحه وكأنه في ساحة معركة، يبدو أنها حامية الوطيس، إذن كيف يقولون إن المعركة قد انتهت وإنهم انتصروا؟.
قلت: هذه هي بغداد, نكون فيها ونحن نتطلع إلى الخلاص يوماً بعد آخر، ما إن يرحل طاغية أو غاز إلا ويحل آخر, وعندما نكون خارجها نعيش معها بكل جوارحنا, نحلم بالعودة إليها, هذه الحبيبة الملتاعة، المستنجدة، الضاحكة, الباكية, المكسورة. وكأنني أستذكر الجواهري الكبير وما قاله في بغداد:
لا درّ درّك في ربوع دياري قرب المزار لها كبعد مزاري
والنجف والسلام ماذا تبقى منهما؟ لقد مسحوا ذاكرتنا، حوّلوا صروحاً حضارية وتاريخية وذات دلالة دينية وعمرانية إلى شوارع. كذلك اختفت مدرسة الخليلي وحسينية الشترلية وبيوت آل شعبان وعكَد السلام العتيد، مسقط رأسي. شعرت أن جزءا من ذاكرتي الطفولية تحول إلى حجر و «كونكريت» وإسفلت، وكذلك الدرّعية منبع ثورة العشرين ورجالاتها من شيوخ آل كلل: الحاج عطية وصحبه، وكذلك منطقة الطارات الجميلة، ذات الكهوف والوديان، وكوخ المناضل حسين سلطان والزواريب والنهيرات، وبحر النجف، كل ذلك تحوّل إلى يَباب قاحل.
ومقبرة الغري الشهيرة، ماذا حل بها؟ لقد فتحوا شوارع داخلها ومسحوا قبور الآباء والأجداد، لكي لا تتحول إلى مركز يختفي فيه من يعارض السلطة، كما حصل في عام 1991, هكذا مسحوا الذاكرة بتغيير الخرائط، ومسحوا القبور لكي يقلعوا الجذور، وما بين القبور والجذور الشيء الكثير، حضارة وعمران وجمال وتاريخ وتحديات، ندخرها ليوم نريد فيه العراق حرا، مستقلاً، سعيداً وسيداً!.
قضيت نهاراً كاملاً أفتش عن قبر والدي، الذي ابتلعه الإسفلت, عندما رفضوا دفنه في المقبرة الخاصة بالعائلة وفي الصحن الشريف بجوار الإمام علي، مثلما هي طقوس ومقامات أفراد العائلة الأوائل وعائلات أخرى، خصوصاً من سدنة الروضة الحيدرية، وكنت أتمنى أن يدفن
والدي بجوار جدي, الشيخ جابر شعبان, عند مدخل الحضرة وبالقرب من باب الذهب، أو في مقبرة العائلة في الصحن بجوار جدي الحاج حمود شعبان, وأعمامي الدكتور عبد الأمير, وضياء شعبان, والعشرات من وجهاء العائلة.
لقد اضطرت العائلة إلى دفنه في مقبرة السلام, ولكن أحداث عام 1991, واختفاء بضعة مئات من المنتفضين في المقابر وقتالهم لعدة أيام، دفع الحكام إلى إصدار قرار بشق شوارع داخل مقبرة الغري، لكي تتحرك السيارات بسهولة، وبالتالي لم يعد بإمكان أحد الاختفاء فيها.
هكذا يتحول الموتى إلى وسيلة للقضاء على الأحياء، فحتى الموتى يمكن استغلالهم، وللسياسة قوانينها اللاقانونية، ولعلي بعد إلقاء محاضرتي في فندق النجف السياحي الكبير أستعيد ما تبقى في مخزون ذاكرتي، لكن ما داهمني كان أقرب إلى الكابوس، عندما رأيت جنوداً أميركيين يأكلون الكباب، فشعرت بألم قرحتي المزمنة يصعد إلى أنفي، فعدت من حيث أتيت.
لعل ذلك كان شهادة حضور, هي أقرب إلى شهادة غياب عن أول زيارة إلى بغداد بعد الاحتلال.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة والشرعية: الوعي الموروث
- ثقافة التغيير وتغيير الثقافة
- الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!
- العراق بعد لبنان: تجربة الحكم التوافقي-
- الوصل والفصل بين العالمية والخصوصية
- أرمينيا وسيمفونية المبارز!
- كاظم حبيب: النقد الشجاع والاختلاف الجميل*
- العالم الثالث وسلة المهملات
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (24) ملكوت السماء وملكوت الأرض
- فضاء الثقافة القانونية وحكم القانون
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (23) الاشتراكية والإيمان الديني
- الشراكة والتنمية
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (22) كاسترو والدين
- موسم القمة العربية والخيار العسير
- كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (21) «الشبح» والأسطورة: هل اختلط ...
- ليس لأي تيار شمولي مستقبل في العراق؟
- الموساد والجريمة والعقاب
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (20) القبعات الخضر والصيد الثمين!
- الصوت والصدى
- المعرفة من أجل الحق


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حلم وردي مرعب!