أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد سالم - رواية المقلب















المزيد.....



رواية المقلب


سعيد سالم

الحوار المتمدن-العدد: 2989 - 2010 / 4 / 29 - 00:39
المحور: الادب والفن
    


سعيــد ســالم



المقلــــب





روايـــــه








بكر السرياقوسى
فى ثمالة لحظات الغسق المترعة بالشجن،تأتى موجة عالية عاتية.تهجم فى غرور وثقة على الفضاءوكأنها ستطيح بالكون فى غمضة عين،ثم ترتطم بالصخر فتتلاشى وكأنها لم توجد..هذا ماشهدته طيور النورس التى تصدر صيحات غاضبة من أجنحتها وحناجرها وهى تحوم حول الصخور وتنقض عليها فى مجموعات كبيرة لتعاود التحليق فى الفضاء..يا الهى.ماهذا الجنون؟!..ان السعادة أكذوبة كبرى كجلوسى الآن فى قلب هذا التجويف الصخرى المخيف.الكارثة أن كل شىء فى هذه الحياة الى زوال.هكذا يردد

أبى دائما،ولكنى لم أكن لأستطيع أن أصدقه.ربما كانت العبارة مستعصية على فهمى،وربما كنت أنا الذى لايريد أن يفهم أو يصدق،فأنا أحب الألفة مع الناس والأشياء،وأعشق التوحد معهم،ولا أكره شيئا فى الدنيا قدر كراهيتى للفراق.
-أنا لا أزوج بنتى لإبن زبال
لم يقلها..لكنه قالها.قرأتها فى عينيه المنطفئتين الذابلتين،ونبراته النهمة الزائفة.شعرت بشىء لزج يكسو كيانى ويشل حركتى،وانتابتنى رغبة شديدة فى التقيؤ،لكنى لم أفكر فى قتله فأنا أخاف الدم.
لابد أن يمتهن الانسان عملا يعيش منه وعليه.حتى الحيوانات والحشرات تعمل منذ بدء الخليقة،وأنا بعد أن مررت بأطوار الخلق السبعة ثم تجاوزتها بما يزيد عن عشرين عاما الى طور الشباب،أجد نفسى طريدا ملفوظا فى أول مواجهة لى مع الحياة،فيالها من فاتحة!
عروق رقبته كانت نافرة بارزة تحت وطأة ربطة العنق المشدودة عن آخرها الى ياقة قميصه.لو مرت عليها شفرة حادة قبل أن يطردنى من جنتى لتغيرت الفاتحة.
ياهذا..لاتنتفخ فابنتك تحبنى ولاشأن للحب بكون أبى زبالا أم أستاذا فى الجامعة.من أنت حتى تعترض بغباء أولى خطواتى لاحتضان الحياة؟..
*****
غطست الفلينة الكروية الحمراء تحت سطح البحر،ثم راحت تطفو وتغطس فى رعشات سريعة متعاقبة،وأناملى تشعر بمراوغة السمكة للصنارة وقد جذبها الطعم.تعالى الى يامعشوقتى الفضية المتلألأة فى غيام المغرب الشفيف.ارقصى واغنجى كما شئت فأنت لى. سحبت البوصة بقوة الى الخلف جاذبا الخيط تجاهى.مرمارة مفضضة تتلوى وهى تودع آخر لحظاتها فى الحياة.لولا أن الله قال ان لحمك حلال والله ماذقته،ولألقيت بك الى البحر مرة ثانية فجمالك خسارة فى الموت.
شعبان الشريف يرفض أن تتزوج ابنته فردوس من ابن زبال.سمعتها من غير أن تنطق.نعم،فأبى خليل السرياقوسى صاحب"خط"*زبالة،وله مقلب فى الملاحة،يجمع زبالوه قمامة الأهالى ويلقون بها فى المقلب لتصنفها من بعد ذلك فئة أخرى من الزبالين،فتفصل الورق عن الزجاج عن البلاستيك وغيرها،ولكل مصنف باب رزق من أبواب الله المفتوحة عن آخرها لأمة خلقه.
تأنقت وتعطرت وحملت معى بعضا وعشرين سنة من زهرة الحياة وبكالوريوس الزراعة بتقدير ممتاز،وكان بصحبتى كون أخضر وأمل وردى وفضاء فيه متسع لرحمة الله،وكانت أنغام شجية تنبعث من حولى،لاأعرف مصدرها ولا أريد أن أعرفه،وطيور ترفرف وأزهار يعبق المدى بأريجها العطر..وذهبت لمقابلته.ما افظع أن يخبرك كائن شمعى متجمد-وأنت فى مقتبل حياتك-أنك لاتملك الحق فى الأمل،وأن هناك مخلوقات وأفكار خسيسة قد تحول بينك وبين مسعاك،بل وربما تقاتل لتمنعك من الوصول اليه. قلها يا أخى وأرحنى.انك تزدرى مهنة أبى.أنت حر فيما تفكر وتعتقد.لكنك لاتملك الحق فى أن تزدرى أبى نفسه وتلحق بى الاهانة والألم بلا ذنب سوى اننى أحببت ابنتك.أنت لاتملك الحرية فى قتل حلمى،ولو بدأت الحياة حوارها معى بهذه القسوة السادية فلن أرهبها ولن أستسلم لسطوتها وظلمها.
أدمنت قرع كل باب رأيته للحصول على عمل دون جدوى.توحشت البطالة حتى أكلت الكثير من زملائى وأصدقائى على موائد الانحراف والتطرف والاكتئاب والغربة.أنا أعرف نفسى جيدا.لن أتطرف يوما أو أنحرف،ولن أكتئب يوما أو أغترب فى داخلى على أرض هذا الوطن، فأنا متشبث بجذورى الضاربة فى أزقة رأس التين والأنفوشى والسيالة والحجارى،ومقلب الزبالة حيث يرتع ناموسه وأورمه والجرنش وديشه وأم الكنى وشمس الضرير وسط أكوام القمامة التى جعلت منى رجلا نظيفا يعرف كيف يحترم نفسه وقدراته.
---
*لكل صاحب مقلب منطقة معينة تتبعه وحده وهو المختص بجمع قمامتها وتسمى الخط بضم الخاء

الأمر الذى يكاد يقتلنى كمدا هو تصريحات الوزراء وكبار المسئولين التى لاتنقطع عن توفير ملايين فرص العمل للشباب.أنا أدمنت قرع الأبواب وهم أدمنوا الكذب.ادمانى مبرر،فأنا أريد أن أعيش،أما ادمانهم فلا تبرره غير الخيانة والرغبة المجردة فى البقاء بالسلطة للنهب والتربح،وكأن مصر تكية كتبت لهم يستحلبون لبنها ودمها بشراهة لم تعرفها من عصور طويلة مضت.والمصيبة أن أحدا لايستطيع أن يمنعهم أو يحاسبهم أو يزحزحهم عن مقاعدهم التى أصابها العفن والجرب.سألت مهندسا من دفعتى يعمل كحارس أمن على احدى عمارات التمليك براتب شهـرى قدره مائة وعشرون جنيها:
-كيف سنتخلص من هذا الظلم ؟
-الظاهر انه يلزمنا شعب آخر
وسألنى شعبان وهو يعرف الاجابة:
- ماذا تعمل يابكر؟
-حاليا أشتغل كشاف نور بصفة مؤقتة بدلا من الفراغ
رمانى بابتسامة صفراء وهو يهز رأسه فى امتعاض.
لم يكن فى مخططى أن أرتبط رسميا بمجرد تخرجى،ولما اضطررت لذلك دهمتنى خيبة الأمل من حيث لا أنتظر.رغم ذلك فقد كان شىء فى داخلى يشى بالرضا رغم الإهانة،وبالراحة رغم الألم.شىء يقول بوضوح ان ماحدث كان فى صالح مستقبلى وطموحاتى فأنا من عشاق الزبالة.هى التى ستلهمنى القدرة على جمع شمل الزبالين فى نقابة ترعى مصالحهم،مثلما تلهمنى العزيمة على الاقتداء بأبى وتمثل سبله وأساليبه العبقرية فى مواجهة أفراح الحياة وأتراحها،وانتصاراتها وهزائمها.هى التى ستفتح لى بيتا به زوجة مثقفة وأبناء يفتخرون بأبيهم،عندما يحين الوقت لأفكر فى بيت وزوجة وأولاد.
عالم القمامة عالم ثرى.أتمنى أن أمضى عمرى باحثا فى كنوزه.الدكتور طارق الألفى الأستاذ بكلية الزراعة مهتم ببحوث الملوثات السائلة والصلبة.لاحظ حماسى فعرض على فكرة أن أعد بحثا للحصول على الماجستير فى الملوثات الصناعية السائلة التى تدفع بها معظم المصانع الى الترعة أو البحر،فتدمر البيئة الطبيعية للناس والأسماك والحياة.عرضت عليه حلمى بأن يكون البحث عن استخراج السماد العضوى من مخلفات القمامة .قال انه سيترك لى فرصة من الوقت لأفاضل بين البحثين وأختار أحدهما.
*****
شاء حظ هذه السمكة أن تسقط رغما عنى من الصنارة الى البحر، بعد أن كانت قاب قوسين من أصابعى.لابد أن هناك حكمة غامضة تقبع وراء ذلك،فلقد كنت واثقا أنها ستكون داخل "مشنة"*الصيد خلال ثوان.كل الشواهد أكدت على ذلك،لكن ماحدث كان شيئا مختلفا تماما.هل تباطأت فى الامساك بها؟.هل كانت مقاومتها الشديدة هى التى ساعدتها على النجاة؟..أم أن الأمر أكثر من ذلك غموضا؟..وضعت طعما جديدا فى الصنارة وألقيت بها الى الماء.
*****
كان موقف فردوس سلبيا للغاية.أحب البيئة النظيفة والشـوارع النظيفة والمياه النظيفةوالقلوب النظيفة.القمامة الملقاة بكل مكان فى الأزقة والحوارى والشوارع،ساهمت بقوة فى لامبالاة فردوس وإظلام قلب شعبان وعماء شمس وفساد الحكام وعتامة المستقبل الذى صنعوه لنا.كم هو رائع ونبيل وجميل ذلك الشعور المسمى بالحب.انه يغمرنى أينما حللت بعقلى وروحى وجسدى.أحب فردوس.أحب أبى وأمى وإخوتى.أحب الزبالين.أحب منطقتى السكنية الشعبية.أحب أصدقائى وزملائى.أحب مدينتى.أحب وطنى.أحب العالم.أحب الكون.أحب الله.
وامتثالا لمراد الحب قبلت أن أعطل اندفاعى الى طريقى الذى أنشده وأعرفه كما أعرف نفسى.لكن فردوس التزمت الصمت.لم تضرب عن الطعام.لم تهدد بالانتحار.كان بمقدورها أن تطلب منى مشاركتها التمرد على تسلط أبيها بأن نتزوج ونضعه أمام الأمر الواقع-رغم اننى لم أكن لأقبل بهذا الحل-لكن.."وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"..لقد اكتشفت أن أحلامى أكبر بكثير من حب امرأة.عرفت ذلك حين كنت أضع قدمى على مدخل المقلب وأقبل يد أبى وأشم تلك الرائحة العطنة الحبيبة التى راهنت بعمرى عليها.
*****
زمالتى للزبالين تشكل عندى علاقة يومية مستديمة،فيها حميمية شديدة الخصوصية،فأنا والزبال نصعد ادوار العمارات حتى نهاياتها،ونطرق كل الأبواب ونرى الناس من كل صنف ولون وجبلة.أنا أقرأ عدادات النور وأسجل بياناتها،وهو يرفع القمامة.يلح على أبى أن أترك هذه المهنة التى بدأت فى ممارستها منذ التحقت بالجامعة حتى أنفق على
----
*غلق من الخوص يضع فيه الصياد سمكه
نفسى ولا أطلب مصروفا منه.أقول له اننى لن أتركها حتى أعثر على فرصة العمل المناسبة فى مكان يتفق مع دراستى وميولى وتخطيطى للمستقبل.."ناموسه"يغنى على السلم وهو يحمل أثقالا من القمامة على كتفه الضئيل.أرقبه بفضول جهنمى، فسعادته تحيرنى.اننى أرى فى رحلة الصعود والهبوط التى لاتنتهى بين أدوار العمارات رحلة عبثية تدعو الى الاكتئاب لا الى الشعور بالسعادة لدرجة الغناء،اللهم الا اذا كانت هناك لذة ماسوشيستية غامضة يولدها الشعور بالقهر والاستعباد والاذلال، ويبدو أن التصالح مع القدر يجلب للنفس طمأنينة تهون من اجلها الدنيا ويعجز الملوك عن امتلاكها..هذا الكون العظيم أجل بكثير من أن أتخاصم معه مهما كانت الأسباب، واشرب من ماء البحر ياشعبان فلقد اتخذت قرارى وانتهى الأمر.قال لى أبى مواسيا:
-اللى خلق فردوس خلق الأحسن منها
-جرحنى ياأبى.كلامه كان كالسم يسرى فى جسمى
-ماتاخدش على كلامه. شعبان افندى رجل قفل. نظيف من خارجه لكن قلبه صندوق زبالة معفن
-أحزننى احتقاره الشديد لنا
ضحك فى عفوية وقال بثقة وهو يضرب صدره بيده:
-يابنى أنا زبال صحيح،لكن هنا ملك عايش جوايا.شعبان مايفهمش الكلام ده لكن انت تفهمه كويس
-اطمن ياحاج خليل.لا أحد فى الدنيا يمكن أن يفهمك مثلى
-يعنى خلاص؟
…فردوس دفنها الزمن فى جبانته وأهال عليها تراب النسيــــان.
-أنا صرفت النظر نهائيا عن موضوع فردوس
-رجل ابن رجل ياولد.باقى شغلانة الكشاف لازم تصرف نظر عنها
-عندك بديل؟
-تيسر بحمد الله
صحت بلا وعى:
-الحقنى أنا فى عرض النبى
*****
تسلل الظلام واكتست صفحة البحر بجلال من تجلى الجليل،وكان حفيف موجه الهادىء ينزل على النفس بردا وسلاما..ما أروع اللجوء الى فاطر السماوات والأرض..جمعت إيمانى وسمكى ولملمت أشيائى وأغلقت صفحة الحب الى أجل غير مسمى.
*****























خليل السرياقوسى
المقلب-عالمى الحقيقى-أرى الدنيا فى تلك المساحة الممتلئة بنفايات البشر وفضلاتهم.أتأمل فى مكوناتها.أضلع عظمية صغيرة."أسرة ربها مقتدر تلتف حول مائدة عليها أطباق حافلة باللحم المشوى".قشر مانجو."حبيبان يرتشفان متعة الطعام والجنس".ورق."أناس أمضوا حياتهم فى القراءة والكتابة دون جدوى وماتوا ولم يعد أحد يذكرهم".أنا لم أقرأ كتابا منذ أنهيت دراستى الأولية وتوقفت عندها.رغم ذلك فقد تبين لى من مجالسة كثير من كبار القوم ووجهائهم فى مناسبات مختلفة أننى أعرف مايعرفون،وربما أكثر،ولكن على طريقتى التى فطرنى بها الله،وبفعل الدنيا بنت القحبة التى مرمطت بى الأرض والأيام.هلاهيل ممزقة".فقراء لايجدون حتى الكساء الرخيص".قطعتان كاملتان بلحمهما من ضلع البقر فاضت عن الحاجة."عصابة من السفهاء يتحكمون فى مقدراتنا وينهبوننا فى غير رحمة".لو عثر ناموسه على هاتين القطعتين لالتهمهما دون حتى أن ينفض عنهما ما علق بهما من أتربة وقاذورات.الدنيا كلها ما هى الا كوم زبالة تتهافت وتتصارع عليها القطط والكلاب.عندما تسقينى من كأس عذابها الذى لاينفد شرابه ولايكسر زجاجه،تأتى عزيزة(الأولى)الى خاطرى،وأكاد أشعر بأناملها وهى تلمسنى وتهدهدنى برفق وتواسينى بصوتها العذب الحنون..لاتستحق هذه الدنيا اللعوب أكثر من أن أرقص لها وعليها بالنبوت على ايقاع مزمار صعيدى سواء أنعمت على بالفرح أو أصابتنى بالغمة.
الجرعة اليوم كبيرة ومؤذية لأنها تعذبنى فى أحب أبنائى الى قلبى.حرمته مهنتى من البنت التى أحبها وتمناها لنفسه.أنا أكثر من يشعر ويتألم ويتعذب لمن يعانى من مثل هذا الحرمان.حرمت من عزيزة(الأولى) لنفس السبب.رفضنى أبوها رفضا صريحا قاطعا وسارع بتزويجها من ليبى سافر بها الى بلاده ولم أسمع عنها منذ ذلك التاريخ.تبعثرت ذكرياتى بين أكوام الزبالة وتعلمت من الأيام أن تحدى القدر هو الأمر المحال،وأن الاستسلام له يجلب للنفس الراحة والسكينة.عجزت عن تغيير قدرى يوما،فلماذا لا أتحداه اليوم لأجل بكر؟.
-لاياحاج. لاتكلمه فى الموضوع
-لو لك غرض على الطلاق أجوزهالك غصبا عن أبوه.
-خلاص.الحكايه خلصت
-ياسلام عليكى يادنيا.كأنى أسمع نفس الموال اللى سمعته من اربعين سنه
-انس يابا وكلمنى عن الشغلانه الجديدة
-ايه رأيك فى شركة الورق الوطنيه ؟تعرف أنى أورد لها الدشت من زمن طويل
-وأعرف انك تكره رئيسها طول عمرك
-ياسيدى وماله.. اعتبر الحكايه بيعه وشروه
-يعنى انت تدفع الاتاوة وهو يشغلنى فى الشركة
-تمام
-وياترى كل رؤساء الشركات من عينة أمين السناوى؟
-كل واحد بلون ياصاحبى وفى النهاية هى بلدنا رحنا والا جينا
*****
شباب اليوم المساكين زمنهم أغبر ومستقبلهم مظلم.أيام عبد الناصر كانوا يتسلمون العمل بعد التخرج مباشرة.اليوم لايجد العمل الا أبناء الواصلين، أما بقية الناس فليقهرهم الشعور بالعجز ولتأخذ بهم الحسرة،ولابأس فى ذلك فهم أولاد الجارية وان كانوا يعيشون مثلهم على أرض نفس الوطن.ابن المستشار يعين وكيل نيابة.ابن استاذ كلية الطب يعين معيدا،وابنة مذيعة التلفزيون تعين مذيعة،فماذا يفعل الزبال بإبنه يابلد؟..بكر طموحاته زائدة،ومالم يعمل عند"أمين"الكلب فلن أعرف كيف أجد له عملا-يحقق له شيئا من طموحاته- فى مكان آخر.أدفع إتاوة شهرية كبيرة لأمين السناوى نظير تخليص مستحقاتى عما أورده للشركة الوطنية من الدشت.كل عام يرفع قيمة الإتاوة كيفما يشاء فأقبل صاغرا وإلا رفضت بضاعتى أو خسف بتقييمها وتصنيفها الأرض وعوملت على أنها درجة ثانية أو ثالثة ،رغم حرصى الشديد على جودتها وخلوها من المواد الغريبة والرطوبة.غيرى من التجار يتعمدون خلط دشت الورق بهلاهيل ونفايات غريبة وقاذورات أخرى تزن كثيرا وتضر بصناعة الورق وآلاتها.بعضهم يرشون على بضاعتهم الماء عن عمد ليزيد وزنها،ورغم ذلك تقبل بضاعتهم ماداموا يدفعون.
السناوى يأخذ من الموردين،ويأخذ أيضا من العملاءالذين يشترون منتجات الشركة من الورق.لايترك عينا ينبع منها المال دون أن يغترف منها بفجر ووقاحة.
قال لى بنظرات فهمت معناها:
-أنت تأمر ياحاج خليل
-عشمى فى سعادتك كبير ياباشا
-بكر ابننا .يحضر بكره ليتسلم عمله
-تعيش ياباشا وأنا رهن اشارتك
-الحساب يجمع ياحاج
أتعجب كيف لايخجل هذا الرجل الملوث من نفسه.أرى تشابها شديدا بينه وبين النفايات التى أعدمها فى المقلب بعد الفرز حتى لاتؤذى صحة الناس.لو كنت حاكما لهذا البلد لأعدمت امين السناوى وأمثاله دون تردد.
ستون عاما عشتهم .رأيت فيهم الأعاجيب.لم أدر كيف انسرقت منى كل تلك السنين.لم اشعر بزحفها وتسللها ،حتى اننى لاأصدق اننى أصبحت فى الستين إلا حين أقرأ تاريخ ميلادى فى بطاقتى العائلية.أنظر الى الشيب فى رأسى ولا أصدق ولا أقتنع أن هذا هو شعرى وقد لونته الأيام.لاأستطيع أن أتصور ملذات الشباب وقد آن أوان انتهائها الى الأبد.أتذكر أصدقائى فى مراحل العمر المختلفة وأتساءل أين ذهبوا ومن مات منهم ومن عاش وماذا فعلت بهم الأيام.آه ياعزيزة أين أيام العشق الطاهر والسكر بغير خمر والنوايا الطيبة تجاه الزمن والانسان،وكيف تضيع فرحة العمر بلا سبب عادل ثم تتسرب الأيام فى خبث شديد فأصبح شيخا فى الستين يعيش بقلب شاب فى العشرين!. لم يبق لى الا الخواجه"أليكو" الذى تربى معى فى زقاق واحد ولعبنا وأكلنا وشربنا وكبرنا معا. مصرى هو بالدم والروح رغم أن أبويه يونانيان.لايمكن أن يمر أسبوع دون أن نلتقى لنتسامر ونشكو ونفرح ونتأمل ونتكلم معا.وكثيرا ما كنا نتعشى فى محله الصغير بالابراهيمية أيام الزمن الجميل الذى راح،فنأكل الكلامارى ونشرب النبيذ على أنغام البوزوكى التى لاتنقطع من المحل ليلا أو نهارا.عندما كانت زوجته تسافر الى اليونان لتزور أهلها مصطحبة معها ابنتها الوحيدة كنا نحول شقته الى ماخور تلعلع فيه الموسيقا وصهاليل النساء ولا ينقطع الرقص والشراب والضحك والصياح.فى غمرة سكره كان يقف أمام صورة زوجته المعلقة على الحائط يتوسل اليها ألا تعود الى الأبد.يكبرنى أليكو بأعوام قلائل ، ولم أكن وقتها قد تزوجت،وحين أضحك من حواره مع الصورة يسخر منى قائلا:
-سوف يحدث لك هذا يوما مهما أحببت زوجتك،فهذا قدر كل الرجال الحقيقيين.
لك الحمد يامالك الملك رزقتنى بالصحة مثلما رزقتنى بالبنات والبنين،فلم يعرف جسمى المرض طيلة هذا العمر الا قليلا.أستطيع أن أناطح شبانا ثلاثة لو اقتضى الأمر فأوقع بهم وأهزمهم.مازلت آكل الفلفل الحراق واللحم السمين والخضار المسبك والأرز والمكرونة والحمد لله.حين أضع رأسى على مخدتى أنام بعد دقائق..هل هناك نعم أعظم من هذه؟..لكن الزمن لم يقهرنى فى صحتى وانما اختار أن يقهرنى فى عيشى ورزقى.اليوم لا قفف ولا عربات كارو يجرها الحمير ،وإنما أكياس بلاستيك وعربات نقل تملكها المحافظة لنقل القمامة.زبالو الأهالى بدأوا ينقرضون ولاحيلة لهم.البعض اتجه الى سرقة البيوت والمحلات،والبعض ذاب فى نفايات الحياة.اليوم يتحدثون عن مشروع الشباب لجمع الزبالة بالتعاون مع الحكومة.وغدا لن يكون لى عمل أنفق منه على أولادى الخمسة بكر وعفيفى وفتحى والهام وعزيزة.أسميت الأخيرة على اسم الحبيبة الضائعة.المجتمع يحتقرنى لأننى زبال لكنه يحترمنى لأننى مقتدر.سوف يختل الميزان لو ضاعت منى مهنتى ولن يبقى لى سوى الاحتقار.
*****
حين يأتى بكر الى المقلب أشعر أنه يبادلنى محبة هذا المكان..أنا وهو والمقلب نصبح شيئا واحدا.أيام عبد الناصر كنت آخذ من الشقة الواحدة خمسة وعشرين قرشا فى الشهر.اليوم آخذ خمسة جنيهات لاتساوى قيمتها نصف قيمة ربع الجنيه القديم الذى كان يشترى كيلوجراما من اللحم.ازداد عدد الناس كثيرا وازدادت الزبالة وامتلأت بها الشوارع،خاصة منذ بدأت المحافظة فى إبعادنا وادعت أنها ستتولى القيام بمهمتنا نحن زبالى الأهالى.عامل المحافظة يتقاضى راتبا شهريا مضمونا سواء جمع الزبالة أو تركها.أما ناموسه وديشه وزملائهما فلن يجدوا ثمن طعامهم لو لم يصعدوا ويهبطوا عشرات البيوت يوميا بلا تكاسل.لايجرؤ أحدهم على طلب إتاوة من صاحب محل أو مقهى نظير عملهم،أما ملاحظ البلدية أوكناسها فيطلبها بصفاقة ويحصل عليها دون جهد يبذله.
أسرة من سبعة أفراد.بنتان لابد من سترتهما فى بيتين،وثلاثة أولاد بحاجة الى معونتى.هذا يريد شقة وذاك يريد مكتبا للمحاماه.رغم خوفى من الفقر القادم فطمأنينتى بالله كبيرة وراسخة.وفى السماء رزقكم وما توعدون.أليكو ينفجر فى الضحك حينما يجدنى ألوذ بعالم الغيب طلبا للطمأنينة والسكينة،فهو لايعرف الله الا على طريقته الخاصة.لاإنجيل ولا قرآن وإنما-كما يقول-نية وعمل وسلوك.والحق أنه لم يؤذ انسانا فى حياته،وهو سخى كريم عطوف محسن،وإن كان لايذهب الى الكنيسة اكثر من مرة أو مرتين كل عام..يوم أن قررت الامتناع عن الخمر لم يعد يشرب أمامى احتراما لقرارى رغم سخريته المعلنة مما فعلت،إذ كان يرى أننى فقدت بهذا القرار "الأهوج" سندا هائلا فى الحياة. وأنا فى حيرتى سألته:
-وما العمل يا اليكو؟
داعبنى متصنعا الجدية والوقار:
-تشتغل عندى ياحاج؟
-هزلت ياخواجه
-يعنى ايه؟
-يعنى دى تبقى من علامات الساعة
-خلاص..اسأل الله
-يعنى أشحت يا اليكو؟!
-اعمل أى شىء لكن لا تحزن على شىء
-0000
ببرود وهدوء ،وبعد أن وضع يده على أحزانى قال لى:
-بالنسبة لبكر..لو كنت مكانك لفرحت فالمرأة تمتع لكنها تعطل،أما بالنسبة لكار الزبالة فلا تخف،لأن زبالين الحكومة والأهالى والمشروع الجديد،لو اجتمعوا كلهم البلد حتفضل وسخة.خلاص.الناس والحكومة تعودوا على ذلك.
*****











فردوس شعبـــان
حين صارحته بنية أبى وتسلطه،لم يكن هناك بديل أمام بكر عن التقدم ليطلب يدى منه.يريد أن يزوجنى من رجل يعرفه ولا أعرف عنه شيئا.منذ طفولتى وأنا أسمع عن حقوق المرأة وأحفظ عن ظهر قلب أن الاسلام كرمها ووضعها فى مرتبة عالية.الآن وقد كبرت وتخرجت فى كلية التجارة،مازلت أرى المرأة فى محط دونى يتنافس الرجال على النزول به الى دونية أكثر..منذ عدة أيام تجمعت دفعتنا فى حفل غداء بأحد النوادى الواقعة علىكورنيش البحر.لفت نظرى مايحدث على مائدة قريبة منى.رجل ملتح يبتلع الطعام بلعا فى حيوانية مقززة ونهم مخيف.الطعام يسيل على لحيته مع سيل شهوته الجارفة للأكل.بجواره تجلس زوجته المنقبة.ترفع النقاب لتضع لقمة من الطعام فى فمها ثم تنزل النقاب،وتعود لترفعه فتضع فى فمها الطعام ثم تنزله من جديد.لم أستطع أن أجزم ان كانت هذه المرأة راضية بعذابها قانعة به،أم أنها تلوث نقابها بالطعام بين الرفع والانزال فى غبطة وسرور لأن ذكرها يريد ذلك.لم أستطع أن أجزم أيضا بأن ذلك الذكر على يقين من أن هذا الذى يحدث أمر طبيعى تفرضه اللحية والجلباب السعودى الوافد والعقل الأجوف المتحجر،أم أنه كاذب يعرف انه كاذب،ولكن هذا ما تقتضيه-لديه-دواعى الذكورة وأمور أخرى لايستهوينى الخوض فيها.
كأنما خلق أبى ليكون موظفا تحكم عقليته ثوابت لاتتغير.تعليمه متوسط ورغم ذلك فقد اعتلى بهذه العقلية وهذا القسط اليسير من التعليم مقعد مدير ادارة المشتريات بإحدى شركات القطاع العام0يتحدث كثيرا عن الشرف والأمانة مرددا الأحاديث والحكم والآيات التى تحث على الفضيلة0إن نسيت فلن أنسى منظره فى العام الماضى حين تلقى قرارا بإيقافه عن العمل لحين الانتهاء من التحقيقات المتهم فيها بتقاضى رشوة من أحد العملاء0تحيرنى ازدواجيته الغريبة،فأنا أحترم اللص أو المرتشى حين لايتشدق بالفضيلة ويتماحك بها،حتى لو برر فعله بأسباب واهية0 لم يتمكن أبى من النوم لأسابيع عديدة خف فيها وزنه وشحب وجهه وزاغت عيناه،حتى انتهت التحقيقات بتوقيع جزاء ادارى عليه بتهمة الإهمال فى العمل مع تبرئته من تهمة الرشوة.كانت فرحته بالجزاء جنونية طاغية.ساعتها تأكدت من انتفاء براءته.
-تحبين ابن الزبال؟
-نعم
-لن أزوجك منه
-لم؟
-شاب لامستقبل له.لاأضمن لك معيشة كريمة معه
-لكنى راضية به
-الرجل بلا سلطة أو ثروة فى هذا الزمن لايعد رجلا
-بكر لم يطلب الا قراءة الفاتحة
-يقرأها مع نفسه.أنا لااوسخ يدى بمصافحة أبيه.يجب أن نطلع لا أن ننزل
أكاد أعرف سر عداء أبى للحاج خليل السرياقوسى،فأبى رئيس جمعية تنمية المجتمع المحلى فى حينا السكنى،وهذا المنصب ظل مثارا للشبهة والإرتياب لكل من تولاه قبل أبى.المساعدات المالية تنهال على الجمعية من كل مكان:أفراد ومؤسسات قومية وأجنبية،للإنفاق على فقراء المنطقة فى مجالات التعليم والعلاج والرياضة والغذاء والكساء والحرف البسيطة.رئيس الجمعية هو المسئول أمام المحافظة ووزارة الشئون الاجتماعية عن إنفاق هذه المبالغ الطائلة بطريقة يفترض أن تكون مشروعة وموثقة.
خليل السرياقوسى يتعمد احراجه خلال انعقاد الجمعيات العمومية بأسئلة صعبة حول انفاق هذه الأموال.يتمنى أبى لو لم يوجد خليل على قيد الحياة.هذا مايضمره فى قلبه،أما حين يخاطبه فإنه يبالغ فى احترامه وتوقيره بأسلوب بالغ النعومة والدهاء.
رغم كل الأحاديث المسموعة والمقروءة والمرئية عن حقوق المرأة وحرياتها فى المجتمع،فأنا-صاحبة الشأن-لاكلمة لى فى مصيرى وصميم حياتى وقدس أقداسى.مطالبة أنا بالتخلى عن عقلى ومشاعرى،وبأن أمنح جسدى لغريب لا أحبه بل لا أعرفه.
أكثر ما أحبه فى بكر طموحه الشديد.أنا على ثقة من أنه سيكون فى يوم من الأيام من أهم رجال المدينة.انه يسير فى ثقة وراء أحلامه.يخطط لمشروعات أكبر من سنه وخبرته ويتكلم عنها فى حدود قدراته بحب شديد.لايحركه الدافع الشخصى وحده،وإنما تحركه معه أهداف يقول انها وطنية تحقق النفع العام.بكر مختلف تماما عن شباب هذه الأيام.انى أتعجب لنضجه المبكر وقد نمت بذرته واستوى زرعها فى أرض المقلب الذى يعشقه.هذا هو نموذج الرجل الذى أستطيع وأحب أن أتعرى له.ان ملامسة يده ليدى تفعل بى الكثير،وتأملى لتعبيرات وجهه وخلجاتها حين يتحدث عن المستقبل يجلب الى قلبى طمأنينة لاحدود لها.هاهو يضيع من يدى ولا أستطيع أن أفعل شيئا، فماذا استفدت بالمحاضرات والكتب والأبحاث والشهادة الجامعية؟..يفتح لى أبى الجريدة صائحا فى عصبية:
-اقرئى..
وأقرأ مايشير الى تصاعد نسبة العنوسة بين فتيات مصر لعجز الشباب عن الحصول على عمل أو سكن.أتصور نفسى وقد سرقنى الزمن حتى اقتربت من الأربعين دون أن أنعم بالذوبان بين أحضان رجل أحبه ويحبنى.أعيش عذاب انتظار النصيب وأتقدم فى السن دون أن أدرى..أكذب على نفسى وعلى الآخرين مدعية أن أمر الزواج لم يعد يهمنى،وفى الليل أحلم برجل،وفى النهار أحلم برجل.أتعرض لتجارب فاشلة تختصم من كرامتى وأنوثتى بلا عائد غير اللذة الموقوتة المسروقة.أعيش فريسة لعيون ذئاب الرجال وأطماعهم،فهم يرون فى العانس انسانة محرومة متعطشة الى الحب والجنس ،فليمنحونه لها ارضاء لشهواتهم البهيمية ثم يمضون لحال سبيلهم..ويجمح بى خيالى فيصيبنى رعب شديد..بينما يواصل أبى بث سمومه :
- فرصة لن تتكرر.الرجل غنى ومتعلم وعلى خلق ومنصبه كبير
لكن بكر متعلم وعلى خلق هو الآخر.الثراء والمنصب سوف يأتيانه فيما بعد.أنا على ثقة من ذلك..وأنا أحبه بلا سلطة أو ثروة فعلام التسرع؟
*****
شعورى بالذنب عظيم،فأنا التى طلبت من بكر أن يخطو هذه الخطوة ليقطع الطريق على الغريب الدخيل.لم أضع فى اعتبارى انتفاخ أبى وتضخم ذاته واعتقاده فى أنه العالم الأوحد بكل ماظهر من أمور الحياة وما بطن.ينتابنى نحوه شعور مقيت لاأجرؤ على مواجهة نفسى به.أغلب ظنى انى أكرهه،وذلك شىء يعذبنى ويكوينى لكونه مضاد للطبيعة البشرية السوية.ربما كانت كراهيتى منصبة من قبل على أقواله وأفكاره وأفعاله،ثم فجرها موقفه من بكر لتشمله بعد ذلك جسدا وعقلا وروحا..وكيف لاتدب الكراهية فى قلبى تجاه من يغتال سعادتى وهو الذى لايعرف الطريق الى الرضا والقناعة.ساخط على مسكنه،يشبهه بعلبة السردين.ناقم على سكان الأدوار العلوية لأننا نسكن الطابق الأرضى.دخله من وظيفته لابأس به،كما أنه يتحصل على دخل اضافى من عمله بالجمعية،فضلا عما تدره عليه مصادره الغامضة الخفية من دخل كبير.رغم ذلك يؤرقه لحد الغضب المجنون المعلن أنه لايمتلك عربة أو رصيدا فى البنك أو شقة واسعة تطل على البحر.لو أنه أراد ذلك كله لفعل،لكنه يكره الانفاق ولايطيقه.لم أشعر يوما بدفء حضنه ولا أذكر أنه قبلنى فى حياته الا قليلا فى طفولتى.حين أفكر فى الملجأ والملاذ من متاهة الحياة ومجاهيلها لايرد أبدا على خاطرى.الأبوة نعمة غالية لم أتذوق عذوبتها معه،فما فائدة أنه أبى؟
حين نجحت ودخلت البيت متهللة بالفرحة،رأيت وجهه خاليا من الانفعال وسألنى ببرود:
-كلمينى عن التقدير
-جيد
-اذن فلن تكونى معيدة بالكلية رغم ماصرفته عليك من آلاف
أنا فى الأصل لا أحب التدريس ولا أجيده.لكنه يتفنن فى الغاء كيانى وتجاهل رغباتى غير عابىء بشىء الا مايدور فى عقله الأجوف.
فى الليالى ذات الطبيعة الخاصة ألمح القرف والتقزز فى عينى أمى وهى خارجة من غرفة النوم على استحياء متوجهة الى الحمام.من المؤكد-حتى فى هذا الأمر-أنه لايستطيع ولايريد أن يعرف كيف يسعدها ويدخل البهجة الى قلبها..لو ضاع منى بكر فلن أغفر لأبى هذا الذنب ما حييت!..
*****














المقــــــــلب
هنا عالم نفايات الانسان.مازاد عن احتياجه وما تخلف عنه من أشياء قد انتهى دورها فى حياته.بعض نفاياته اليومية تنتهى الى المجارى العمومية،أما القسط الأكبر منها فيأتى به الىّ مجموعة غريبة من البشر يسمونهم الزبالين.كثيرا ما أجد ضمن عبوات القمامة التى يفرغونها فى بطنى أجنة صغيرة ألقيت بليل.أكثر من مرة عثر البوليس على جثة ملقاة بين أحضانى.مرة تكون متفحمة بفعل الحرق،ومرة مقطعة بوحشية الى أجزاء صغيرة..وهناك رجل أعرفه تمام المعرفة،اختار منى ركنا قصيا بعيدا عن متناول الفّريزة وأحاطه بعلامات لايميزها سواه،يستغله فى إخفاء المخدرات فى غفلة من صاحبى.لو علم الحاج خليل بأمره لأعطاه علقة لاينساها ولقطع دابره من المنطقة بأكملها،لكنى أثق أنه لن يغدر به ويبلغ عنه البوليس،فالحاج لايحب الأذى لأحد ويعرف كيف يأخذ حقه بذراعه فضلا عن أنه يكره البوليس كراهية عمياء دون سبب مفهوم.
فى الليل أيضا أرى أشباحا آدمية تبحث عن بقايا طعام بين النفايات ،فأتغافل عن رقابتهم تأسيا لحالهم،وحتى لو حضروا بالنهار فإن الحاج خليل لايمنعهم،وإنما يأمر صبيانه بأن يتركوهم لحالهم ولايتعرضوا لهم.
من هذه النفايات أستطيع أن أعرف عن الانسان أكثر مما يعرف عن نفسه.هذا الكائن الذى فضله الله علىّ وعلى غيرى من الجماد والحيوان بأن منحه عقلا،يمكن أن يتسامى بنفسه الى عالم الروح ليسفر عن قلب سليم خواطره ربانية،مثلما يمكن أن يهبط بنفسه الى عالم الشهوات والغضب والمنافسة ليسفر عن قلب عليل وساوسه شيطانية. أنا بقيت جمادا فى طينتى أما هو فتجاوز الطين الى أطوار أخرى انتهت بكائن مغرور يتيه بذاتيته التى لم يملك من أمرها شيئا.هاهو الانسان يقف على أرضى مرتديا"الجونية"*يمارس فرز القمامة.يجلسون فى دوائر متفرقة ليستخرجوا منها دشت الورق والبلاستيك والزجاج وما سقط سهوا من ملاعق وشوك وسكاكين وبقايا أغذية وأحيانا بعض الأوراق المالية أو الأقراط والخواتم الذهبية.
أنا أحب "ناموسه"..ذلك الصبى دون العشرين لأنه يؤدى عمله فى الفرز بإخلاص وهمة قوية متناسيا مأساته.لست أدرى من الذى اقترح له هذا الاسم،فوجهه قريب
----
*شوال من الخيش مفتوح من أعلاه وأسفله يرتديه جامعوا القمامة ويلفونه بحبل حول وسطهم
الشبه بالفعل من الناموسة،وحجم جسده ضئيل للغاية رغم أنه شعلة متوهجة من النشاط والذكاء وخفة الحركة وسرعة الاستجابة للمواقف.وجهه دائم الابتسام رغم جديته المتناهية فى العمل .طاعته المفرطة للحاج خليل تنبع من مزيج من الاحترام والمحبة،وكأنه يرى فيه بديلا حقيقيا لأبيه.
.
وهذا هو الكهل الأحمق الضرير المدعو" شمس".رغم عماه فإنه ينافس ناموسة فى سرعة الفرز وإتقانه.كثيرا مايترك دائرة الفرز وينفخ الموسيقا فى قربة متهالكة حتى يزجره الحاج الذى يهيمن على أمورى باقتدار شديد.يقول شمس انه اشتراها نصف عمر من سوق الجمعة لكى يبكى بها على ابنته وداد التى قتلها بيديه لأنها مشت مشيا بطالا.رماها تحت القطار فى جنح الظلام وبعد عدة أيام فقد بصره فى حادث،وهو يرى فى ذلك انتقاما عادلا من السماء يستحقه ولايعترض عليه.كانت تصرخ وتشد رقبته وهو يخنقها وموسيقا القرب تنبعث من مكان بعيد.يقول عنه زملاؤه انه يصدر أصواتا شبيهة بصوت القطار أثناء نومه.
شمس مختص بفرز قمامة الفنادق.لديه حساسية غريبة فى أصابعه.يستطيع أن يميز الفرخة من القطة،وإن صعب عليه الأمر فإنه يشق بطن الطير أو الحيوان بسكين ليتوصل الى نوعه من خلال فحص محتويات مصارينه.
لديه دستة عيال لم يسجل أحدهم فى "الكراكون"-كما يقول-أى فى السجل المدنى،فهو لايرى أى داع لذلك.سأله بكر يوما عن السبب فقال له:
-أصله ما تآخذنيش شىء مالوش لزوم.كل عيل برزقه وربنا يخلى أمهم
-وهل تعمل معكم فى المقلب؟
-لا..أمهم قاعدة فى البيت. كانت ولا مؤاخذه نشالة وأنا توبتها من 13 سنة.
الحاج خليل لايمتلكنى ،فأنا –كمقلب-ملك للمحافظة والتى أسموها بعد ذلك بالحكم المحلى وكانت تسمى من قبل بالبلدية.لكنهم يتركونه وأمثاله يتمتعون بملكيتهم الجزئية لنا مقابل مايقومون به من دور خطير فى تنظيف المدينة.
"أم الكنى" عجوز تجاوزت الستين تمارس عملها عن هواية لا عن احتراف.لو أعطاها أحد عشرة جنيهات وطلب منها أن تتوقف عن النبش فى الزبالة لما وافقت.حين تجرحها قطعة من الزجاج فإنها تكتم النزيف بالقمامة حتى يتوقف!.يعود شمس من دورة جمع قمامة المنازل ويبدأ عمله بنفخ أحزانه فى القربة حتى ينتهى منها ويستغرقه وهم السعادة الموقوتة فينهمك فى الفرز.أما بالليل فيتجول بها على المقاهى ليجمع بضعة قروش.لايعنيه أنه أعمى إذ يجد الكثيرين ممن يصحبونه ويرزقون معه.
"ديشه"يقترب من الثلاثين ، ينتهى من تستيف بالات ورق الدشت المضغوط بعد كبسه بمكبس يدوى قديم،ثم يتجه الى العشة القديمة الكائنة فى أقصى أطرافى عند المدخل.بابها مفتوح.بداخلها مكتب قديم جاء مع القمامة منذ ربع قرن أو يزيد،تعلوه صورة قديمة باهتة لجمال عبد الناصر.أمامه دكة متواضعة يجلس عليها الحاج خليل.يعتذر له ديشه عن ضرورة انصرافه لأن امرأته تلد.
-بالسلامه ياديشه.طريقك زراعى
ويخرج من حافظته الجلدية الكبيرة بضع أوراق مالية يدسها فى يده.
-خد.اشتر بهم لحم ضانى وجوز كوارع عشان ترم ركبك
يتدخل ناموسه قائلا فى شهامة:
-تاخد لك كعمتين معك يا ديشه؟
-لاياخويا خلهم لك
*****
أنتم بالطبع لاتعرفون ماهى الكعم ومفردها كعمة..هى الفراخ الميتة التى يجمعونها من الزبالة ثم يغسلونها فى الترعة ويدعكونها بقليل من السبرتو الأحمر ثم توضع فى صينية بطاطس بالطماطم والبصل وكثير من البهارات والشطة السودانى،وعند هذه المرحلة تسمى الوجبة"تماخين"،أما بعد تسويتها فى الفرن فتنضج وتصبح جاهزة للالتهام بشهية يتوق اليها أبناء العز، فإن اسمها النهائى يتحول الى"تماخين شدادة"..وعمار يامصر.
ذهل بكر عندما علم بأمر التماخين الشدادة.صاح غاضبا:
-كارثة.كيف تسمح لهم ياحاج؟
-يابنى أنا غلبت معهم.الناس دول مش عايشين مع الزبالة..دول عايشين منها
-غير معقول
-وتستعجب على كده انهم راضيين ومبسوطين وقليل لما يشتكوا من ظلم الدنيا
*****
الحاج يريح ضميره فى نهاية كل يوم حين يسلمهم اليومية وزيادة.لم يمتثلوا لنصحه وتحذيراته وكأنهم على يقين من أن الأمراض التى تهاجم بقية البشر تخاف أن تقترب منهم.معظم أصحاب المقالب الأخرى لايعطون يومية لعمالهم وانما يقدمون لهم الطعام فقط،وآخر النهار يلف الواحد منهم جونيته حول جسده وينام مع حمير المقلب الذين يجرون عرباتهم الكارو بالنهار.
لأنى أحب بكر فقد أنعمت عليه قمامتى مرة برفض شعبان له، فأصبح حرا من أوجاع القلب وألاعيبه ونذر نفسه لأبحاثه.وأنعمت عليه مرة ثانية بإتاحة فرصة عمل مثالية له بشركة تعمل فى نفس مجال تخصصه.ملايين الشباب عاطلون.لولا القمامة التى احتقره لأجلها شعبان ولولا فرصة العمل النادرة لوقع بكر تحت طائلة امرأة ولاتخذت حياته مسارا عاديا.
كثيرا ما أجد خليل شاردا يفكر بعمق ويدخن سيجارة من سيجارة أو يلتهم تعميرات عديدة من المعسل وهو يستمع الى صوت الشيخ مصطفى اسماعيل من كاسيت قديم يضعه فى العشة.من يراه على هذه الحال يكاد يجزم أنه يفكر فى مستقبل مهنته الغامض المهدد،أو فى مسئوليته تجاه أبنائه أو فى أى مشكلة طارئة أخرى.أنا وحدى الذى يعرف فيم يفكر خليل فى مثل هذه اللحظات وهو غارق فى التأمل فى آيات الله.سأذيع عليكم سرا لايعرفه الا القليلون.ان خليل لم يحج الى بيت الله -رغم شعوره بالسعادة لمناداته من العامة والخاصة بلقب الحاج - لا لأنه يتمنى أن يحج و لايستطيع ، ولكن لأن الرغبة القلبية فى الحج لم تأته بعد ولم يشعر بها.انه رجل صادق مع نفسه.لايستطيع أن يتعلل بأنه غير قادر،أو بأن سترة ابنتيه تأتى فى المقام الأول، فهو حتى هذه اللحظة يعد من القادرين.لكن الذى يؤلمه أنه منذ أن امتنع عن كل مايغضب الله كان ينتظر منه أن يناديه لزيارة بيته ولكنه لم يستمع حتى الآن الى هذا النداء.كل عام يقرر بلا حماس ثم يؤجل.قلبه يطفح بحب الدنيا رغم تقدمه فى السن،.لم يدع به فراغا للآخرة رغم تقواه وأمانته وشرفه ، وكأن نيته مبيتة على ارتكاب المعاصى والآثام وهذا غير صحيح ،وهو يعلم أنه متى أدى هذه الفريضة فينبغى عليه أن يفرغ قلبه من الدنيا تماما،وهذا مالا يريده..انه لايتمنى لنفسه أن يتساوى مع الحاج ياقوت صاحب مقلب أبيس الذى حج بالفعل ولكنه يسلم خرطوم الماء لصبيه"أورمه"حتى يغرق بالات الدشت ليزيد من وزنها،ويقسم بعد ذلك بالإيمانات المغلظة وبالطلاق وعلىّ الحرام من دينى وما شابه ذلك قسما كاذبا.ان خليل يريد أن يعود من بيت الله انسانا ربانيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من زهد فى الدنيا وشبع منها وعزوف عن يقين واقتناع، ورغبة فى تذوق طعم السعادة الحقيقية الخالصة من شوائب العيش وكدوراته.
*****
يتعامل خليل مع الفساد كما يتعامل مع سجائره وشيشته.بكر لايطيق الفساد فمثالياته ترهقه.يسرد على أبيه تفاصيل فضائح "أمين السناوى"فى دهشة صبيانية وعم خليل يستمع اليه صامتا وكأنه لايعبأ بالاستماع.هو يبدو كذلك ولكنى أعرف أنه يتألم من داخله لما يحدث.يقول له:
-ان كنت ترفضه اوعدنى على الأقل ألا تكون مثله فى يوم من الايام
-أنت تعلم ياحاج ان هذا مستحيل
-لازم تعرف ان الانسان لايفصل الناس على مقاسه،وعليك التعامل معهم بأى طريقة ترضيك من غير ماتخالف ضميرك..لقمة العيش يلزمها الفطنة والنباهة والصبر يابنى
*****
أحيانا تتفاعل عوامل الطبيعة من حرارة ورطوبة مع تخمر القمامة فينتج عن ذلك حريق تحتى خبيث لايرى الا فى شكل دخان متصاعد،ولايسفر عن نفسه الا حين تصل النار الى السطح.يسارع الزبالون فى ولاء جنونى لى –أنا والحاج- بالجرى نحو الترعة.يملأون الجرادل بالماء ويصبونها على الحريق.منهم من يصاب ومنهم من يختنق،لكن أحدا لايتركنى قبل أن ينطفىء حريقى تماما.
باقتدار أكبر من سنه أطفأ بكر لهيب قلبه ولم يتراجع.أشعر بحواف أجهزته المدببة التى يقيس بها الحرارة والرطوبة والانبعاث الغازى ،وهى تدب فى قلبى يغرزها بشدة ويتركها لفترة من الوقت ثم يسجل قراءاتها وينقلها الى مكان آخر ليعيد الدورة من جديد.لقد بدأ العمل فى بحثه على الفور ودون إبطاء.يتفحص بفضول علمى شديد أرجائى الواسعة ويمد يده بين بالات الدشت المفروز وكأنه يبحث فيها عن شىء ما.ناموسه فى غاية من السعادة وهو يتفرج على الأجهزة ويتلمسها فى فرحة.يناوشه قائلا:
-لاتخف يابشمهندس.دشتنا نظيف وناشف وخال من الميه والوساخة والحمد لله
-برافو ياناموسه .سمعة الحاج لازم تكون فى السما
-آه.حاكم غيرنا ولا مؤاخذه بيحشر فى الدشت طوب ورمل وزلط وقطط وكلاب ميتة ويرشوه بالميه..ناس معندهمش ضمير
أما خليل فتأخذه الدهشة مما يرى ويقول:
-والله عشنا وشفنا..الزبالة بتتقاس بأجهزة ويتاخد فيها ماجستير..هع!!
*****
الدخان سر آخر من أسرار عالم القمامة والدشت المستخرج منها.تشترى شركات انتاج الورق دشت مخلفات شركة الدخان مباشرة دون المرور على المقالب.يدخل هذا الدشت فى صميم تكوين عجينة الورق للتقليل من نسبة العجينة المصنوعة من لب الخشب المستورد وبالتالى تنخفض تكلفة الانتاج.يأتى هذا الدشت حاويا كميات هائلة من عوادم الدخان السائب والسجائر المعيوبة،وأحيانا يحتوى على بعض علب السجائر السليمة الساقطة بالسهو مع الدشت بفعل إهمال عمال شركة الدخان،بل انه يتصادف أحيانا وجود كراتين سجائر كاملة بين طيات الدشت،فضلا عن شرائط وعلب تغليف السجائر..وعلى ذلك فقد نشأ نوعان من تجارة الدخان بين عمال الشركة الوطنية لانتاج الورق وأحيانا بين الزبالين.الأول هو الدخان السائب الذى يباع بالشروة،والثانى هو علب السجائر المصنعة يدويا من فاقد الدخان والعلب الفارغة وأشرطة اللصق المميزة..عندما لاحظ خليل تعجب بكر واندهاشه لهذه الرواية قال له:
-أرزاق يابشمهندس.كله بأمره.لولا الدخان ده ماكانش المعلم سعيد فتح قهوته
*****















أكرم الدقــاق
هذه البلد لاترغب فى انتمائى اليها،وبالتالى فعقد مواطنتى بها يعتبر لاغيا، لا لأننى مسيحى ولكن لأن الفساد والظلم والقهر وكبت الحريات وتزوير الانتخابات وارتفاع الأسعار والبطالة وتطرف الشباب وانهيار التعليم وأزمات الغذاء والإسكان والعلاج،واضطهاد وتعذيب المواطنين فى أقسام الشرطة وانهيار قيمة الجنيه وانحرافات كبار المسئولين الذين ينهبون البلد بلا خشية أو وازع من ضمير أو دين..كلها شواهد تؤكد على استحالة أن يكون عقد الانتماء بينى كمواطن وبين مصر كوطن،عقدا قانونيا صحيحا ملزما للطرفين،وفوق هذا كله فقد راح أبى ضحية للإهمال فى هذا البلد ،ولم يحاسب المجرمون على جرمهم وكأنه كلب وراح.
هذا هو الواقع فماذا أفعل؟.أنا لاأحب الشكوى والتذمر، ولايمكن لليأس أن يعرف الطريق الى نفسى.البديل الوحيد كى أتعايش مع هذا المناخ الملوث هو أن أجد معادلة معينة-مهما بلغ تعقيدها-أحاول من خلالها تحقيق أهدافى دون أن أتنازل عن ثوابتى القيمية التى تعلمتها فى البيت والكنيسة وفتشت عن أصولها فى مئات الكتب التى قرأتها ومازلت أقرأها فى مختلف مجالات الفكر والفن والدين والسياسة.
هؤلاء اللصوص ليسوا أكثر ذكاء منى.لن أدعهم يهزموننى أو يصيبوننى بالإحباط،ويوم أشعر أنهم على وشك الانتصار على فلن أبقى فى هذا البلد يوما واحدا،فأرض الله كلها وطن للإنسان.
هم يبكى وهم يضحك.لقد راقبت حياتى يوما كاملا فلاحظت أننى أسرق فى كل لحظة منذ صحوى وحتى منامى.الدولة تسرقنى باستقطاع الضرائب كاملة من راتبى دون أن تقدم لى خدمات فى مقابلها.البائع يسرقنى بمضاعفة أسعاره دون ضابط أو رقيب.موظف الحكومة لايقضى لى طلبى بغير رشوة.عسكرى المرور يتعمد مخالفتى دونما خطأ أرتكبه حتى أدفع له.المستشفى الحكومى كاد أن يقتل أبى بفعل الفوضى والإهمال وتلوث معداته وأطبائه وممرضاته،ولما لجأنا الى المستشفى الخاص نهب منا آلافا مؤلفة انتهت بوفاة أبى بسبب تلوث جرحه.لم أترك جهة أشكو اليها جريمة المستشفى.بدأت ببلاغ الى قسم الشرطة وانتهيت ببرقية الى رئيس الدولة.أما النتيجة فكانت صفرا كبيرا.تعلمت فى كلية العلوم قوانين الطاقة والحركة وأحببتها حبا شديدا ، فالسكون يعنى الموت ، وهذا الشىء لم أفكر فيه حتى الآن كما لو كان بعيدا عنى بعد السماء عن الأرض..اننى مسكون بهاجس الحركة وكأن شحنة من تيار كهربائى تعصف دائما برأسى فتدفع بى الى النشاط والرغبة فى الإنجاز.لايكفينى أن تخصنى الانجازات وحدى وإنما أسعد كثيرا حين تتجاوز أنانيتى الى رغبات الآخرين وآمالهم.فى المدرسة كنت أتزعم النشاط الثقافى وفى الكلية تزعمت النشاط الاجتماعى.كانوا يتندرون فى مرح على سلوكى الجمعى بأن أسمونى:"أكرم أى خدمة"..ومن الطبيعى أن تندرج تحت بنود هذه الخدمات أن أقرض بعض الجنيهات من حين الى آخر لمن ألمت به ضائقة،وفى كثير من الأحيان لم ترد الى قروضى،لكنى كنت أحصل بطريقة أو بأخرى على مقابل لها.
حين التحقت بالعمل فى الشركة الوطنية للورق خيل الى أننى وجدت ضالتى المنشودة،وهى الانصهار فى مجتمع العمال والموظفين..وخلال عامين أصبحت رئيسا للنقابة وقلت أمارس هوايتى فى ايجاد المعادلة الصعبة التى ينبغى أن أتعامل من خلالها مع نقيضين متنافرين هما عمال وموظفى الشركة البؤساء من جهة،ورئيسها الحرامى من جهة أخرى.
لكنى أقر –بكل صراحة- أن هذه المعادلة لم تنجح حتى الآن!.
*****
كانت سعادتى بالغة حين وصل بكر السرياقوسى ليعمل معنا فهو صديق حميم وزميل دراسة قديم.استقبلته بفرحة وذهبت به فى جولة بين أرجاء المصنع قبل أن يتوجه لمقابلة أمين السناوى.
تدخل عجينة الورق الى ماكينات ضخمة لتخرج منها على شكل بوبينات اسطوانية كبيرة القطر من الورق الجاف.معظم العجينة مكونة من دشت المقالب والشوارع والمطابع،ولكنها تخلط أحيانا بنسب مختلفة مع لب الورق المصنع من الخشب والمستورد من الخارج لإنتاج أصناف أعلى جودة وأعلى سعرا من الورق العادى.
أحيانا تخلط العجينة باللب المصنوع من قش الأرز المحلى لتخفيض سعر التكلفة،كما يضاف الى هذه العجينة كميات كبيرة من المواد الكيمائية اللازمة لتماسك الألياف السليولوزية التى يتكون منها الورق،وكذلك بعض الأصباغ العضوية لإنتاج الورق الملون.
اتجهنا معا الى المصرف العمومى للشركة والذى يلقى بمخلفاتها السائلة فى خليج أبى قير.تحتوى مياه الصرف على نسبة عالية من الألياف والأصباغ والكيماويات العضوية الهاربة من الماكينات.مال يهدر فى البحر بلا حساب.قلت لبكر:
-لوحسبنا كمية الألياف التى تلقى فى البحر لوجدنا أن الشركة تخسر مع طلعة شمس كل يوم مايقرب من ثلاثين ألف جنيه!
قال بكر فى فزع:
-لاتنس أن تضيف اليها الخسارة الناتجة من قتل الأسماك وتلويث البيئة البحرية
-كل عدة أشهر تأتينا إنذارات بغلق المصنع من أجهزة شئون البيئة،لكن أحدا لايجرؤ على إصدار مثل هذا القرار بالطبع،فيظل الوضع على ماهو عليه
-ألا توجد بالمصنع أجهزة لاسترجاع الألياف والمياه والكيماويات ؟
-الأجهزة موجودة لكن نوعيتها رديئة وانتاجها ضعيف
-ولماذا لاتجدد؟
-لأنها جديدة!
سألنى فى حيرة:
-ماهذا التناقض؟
-أمين بك هو الذى أصر على ترسية المناقصة على شركة بعينها هى التى وردت لنا هذه الآلات
-ألا توجد ضوابط لإجراءات المناقصات؟
-بالطبع توجد شروط فنية،وتوجد لجنة اسمها لجنة المشتريات هى التى تتخذ القرار بالترسية القانونية
-وماذا كان موقف اللجنة من ذلك؟
-سألت نفسى ذلك السؤال من قبل ولم أسمع إجابة
-وماذا فعلت وأنت رئيس نقابة العمال؟
-كبر دماغك يابكر وتعلم كيف تعيش فى هذا العصر الفوضوى
*****
بكر يقدس النظام والانضباط والجدية الشديدة فى كل شىء.أشعر أحيانا أننى نقيضه ولكننا نتكامل معا منذ صبانا فى كثير من الأفكار.يمكننا أن نصنع معا شيئا ذا قيمة.هو بما يتصف به من قدرة غير عادية على العمل المتواصل سعيا وراء هدف محدد،وأنا بدبلوماسيتى ونعومتى ومراوغتى وقدرتى على النفاد من خرم إبرة كما يقولون عنى.
فوجىء بكر بمخازن الشركة مكدسة بالإنتاج الراكد..لماذا لايباع؟..قلت له ان شركات القطاع الخاص أصبحت تنافسنا بضراوة.جودة أعلى وسعر أرخص،ولامجال لتحكم البيروقراطية فى البيع أو الشراء،ولاعمالة زائدة ترفع تكلفة المنتج.
-ألا يمكن أن يساهم البيع بالأجل فى حل مشكلة التكدس؟
-هناك لجنة ائتمانية يرأسها أمين بك تقوم بهذا العمل
-يبدو أنها لاتجتمع على الاطلاق
-بالعكس.اللجنة تجتمع وتسلم بضاعة بالملايين لبعض التجار الذين يختارهم أمين
-ألا من رجل يوقف هذا الطاغية عند حده؟
-قلت لك كبر دماغك.هذا هو عصر الفساد الأعظم وعليك أن تتعلم كيف تتعايش معه دون أن تخسر نفسك.
*****
بعد لقائه بأمين السناوى كنت فى انتظاره وبى فضول شديد للوقوف على نتيجة لقاء جمع بين نقيضين.قال بكر:
"التقيت به.كائن أصفر هزيل ملوث للحياة كما تلوثها جرثومة مجهرية فتاكة. عيناه منطفئتان ونظراته ميتة.يدخن سيجارة رخيصة.ابتسامته باهتة لاتعبر عن الابتسام فى شىء،فهى تبطن الخبث والشعور الوهمى بالفوقية التى تخفى قدرا هائلا من الشعور بالدونية."
صدق حدسى فقد فهمه بكر وكرهه منذ الدقائق الأولى.واصل حكايته فى قرف:
"رحب بى وامتدح أبى كثيرا.توقعت أن يسألنى عن انطباعى العام عن الشركة بعد انتهاء جولتى بها.فوجئت به يقول لى:
-أهم شىء عندى قبل الإخلاص للعمل هو الطاعة التامة
اللعنة على هذا اليوم الذى رأيت فيه وجهه الكالح.ملامحه قريبة الشبه من ملامح شعبان الشريف.بل ان رائحتهما أيضا متشابهة ،فهى لاتختلف كثيرا عن رائحة المقلب ساعة الظهر والشمس ساطعة . لولا خجلى من أبى لغادرت هذه الشركة وعدت الى البيت".
قاطعته قائلا:
-هذه الشركة ملك للدولة ومن حقك أن تعمل بها وتتقاضى راتبا رغم أنف هذا المخلوق الوسخ.
نظر الى متعجبا وواصل الحكى:
"واصل أمين كلماته المنتفخة المستفزة قائلا:
-من حسن حظك أنك ستعمل معى مباشرة مع أنك حديث التخرج.سوف يحسدك زملاؤك القدامى على ذلك
-لى الشرف يفندم "
*****























بكر السرياقوسى
وجدت نفسى أقول للسناوى:
-لى الشرف يفندم
هأنت تكذب فى أول يوم عمل لك.تنافق.تناقض نفسك.لكن ماذا كان يمكننى أن أقول غير ذلك حسبما تقتضى اللياقة ويتطلب الأدب وحسن التربية.لك الشرف أن تعمل مع لص يابكر؟!..قد يقولها أكرم بسهولة وهو يضمر فى نفسه مايضمر،أما أنت فكيف نطقت بها؟..لتكن هذه خطيئتك الأولى والأخيرة،ولتكن ذريعتك المقبولة هى حداثة عهدك بالتعامل مع الرؤساء.
أعطانى عينات من الورق المنتج بالشركة وكلفنى بمقابلة عميل جديد للتفاوض معه على السعر فى حدود معينة.ترددت كثيرا قبل أن أعبر له عن نفورى من عملية البيع وحبى للعمل فى قلب المصنع لأتعامل مع ألياف الورق السليولوزية الناتجة من قمامة مقلب أبى.اننى أتنفس بارتياح فى هذه الليفة المجهرية كما تتنفس أم الكنى فى قمامة المقلب وتداوى بها جروحها مثلما يداوى شمس أحزانه بقربته المهترئة.المشكلة أن أبى يقف بينى وبينه وأنا لاأريد أن أغضبه.
استجمعت شجاعتى معبرا له عن اهتمامى بمسألة التلوث وعن عزمى القيام بدراسات عليا حوله.أطلق ضحكة صفراء وهو يقول:
-ترفض العمل مع رئيس الشركة وتفضل العمل فى الملوثات!
والله يا أخى أنت التلوث نفسه.ألهمه الهدى يارب حتى لايعوقنى شىء عن السير فى طريقى الذى رسمته لحياتى.
-نفذ ما أمرتك به
*****
أديت مهمتى متضررا وعدت اليه.استقبلنى بغضب أسود:
-يابنى أنت هنا مهندس مبيعات ولست مخبرا فى مباحث الأموال العامة.
ويل للفقراء فى بلد هؤلاء قادته.
-نحن فى عرض عميل جديد يسحب من رواكدنا المتلتلة فى المخازن وأنت تطفشهم؟!
قلت له فى هدوء مغتصب:
-العنوان الذى تركه لنا غير صحيح.لاشركة ولامكتب ولامخزن ولا أى حاجه
-يعنى ايه؟
-يعنى أنه عميل نصاب وقد يكرر معنا ما فعله أمثاله كما علمت
-أنت لاتصلح لهذا العمل،ولو لم تكن ابن الحاج خليل لأنهيت عقدك على الفور
نقلنى الى ادارة شئون البيئة والتى يسمونها فى الشركة:"ادارة المنفيين"..وكأن الله قد استجاب لدعائى فسخره لخدمة أهدافى دون أن يدرى.أنا أعلم أنه ما فعل ذلك الا اضطرارا منه الى مجاملة أبى من جهة ورغبة منه فى التخلص منى من جهة أخرى.
الأستاذ حنفى الرفاعى كبير المنفيين بالإدارة يحفظ كثيرا من أوراقها فى ملف أسماه:"إركن رقم واحد"،ويحفظ بعضها فى ملف آخر بعنوان:"إركن رقم اثنين"..وهكذا.
الى المكتب المواجه لمكتبه تجلس المهندسة "إيمان" وعلى عينيها نظارة سميكة العدسات.كيميائية تجاوزت الخامسة والثلاثين دون أن يطرق بابها ابن الحلال أو حتى ابن الحرام.أطلعتنى على تقارير تحليل مياه الصرف اليومية فوجدتها ممتازة وتؤكد أن مياه الصرف نظيفة ، بل تكاد تكون صالحة للشرب.سألت متعجبا:
-هذه تقارير زائفة.ان التلوث واضح بالعين المجردة
-هذه تعليمات أمين بك
-ولكن ألا يقوم مراقبو الوحدة الصحية بإجراء التحاليل بأنفسهم؟
-أمين بك يخصص لهم مبلغا كبيرا فى كل زيارة فيعتمدوا التقارير وينصرفوا سعداء
-وماذا عن الانذارات بالغلق التى سمعت عنها؟
-مجرد أوراق تروح وتجىء لامعنى لها
وقال لى أكرم بالنص الحرفى:
-أمنية حياتى أن تخلو بلدنا من التلوث
أدركت فى هذه اللحظة أننى عثرت على توأمى الفكرى،لكنى سألته مداعبا:
-أيهما تقصد..البيئى أم الأخلاقى؟
-الاثنان.والثانى أهم..والبيعة تؤخذ على بعضها
وأصبحنا منذ هذه الساعة رجلا واحدا كما لوكان كل منا يبحث عن الآخر من قبل.
بدأنا نخطط معا لمشروع شبابى لرفع المخلفات ونقلها وتدويرها،تعويضا عن محاولة الحكم المحلى الفاشلة التى قامت على همة الموظفين الهابطة وبلادة عمال البلدية،وأسفرت عن تصاعد شكوى السكان من تراكم القمامة وامتلاء الحوارى والأزقة بها. لم ولن يفلح عمال البلدية أن يكونوا بدلاء فعالين عن زبالى الأهالى البؤساء.
يؤمن أكرم ايمانا شديدا بأنه ليس من الضرورى أن نهدر طاقتنا فى محاربة الملوثين من أمثال السناوى،بل وربما نخسر الحرب لو أعلناها عليهم،وإنما الأفضل أن نصنع شيئا جديدا نظيفا ناجحا يكتسح الوساخة فى طريقه ولا يبقى لها على أثر.أنا أرى أنه لابد أن نجتث القديم الفاسد من جذوره قبل أن نزرع شيئا جديدا.
رغم اختلافنا فقد اتفقنا على تأسيس جمعية أسميناها"جمعية رعاية العاملين برفع ونقل ومعالجة المخلفات"،وحددنا أهدافها بالمساهمة فى القضاء على بطالة الشباب من الجامعيين وحملة المؤهلات المتوسطة وغير المتعلمين،وبتطوير المهنة باستخدام عربات نصف نقل بدلا من العربات الكارو،وما يتبع ذلك من إنعاش لسوق السيارات المصنوعة فى مصر،وبخفض تكلفة انتاج مصانع الورق والزجاج والبلاستيك وغيرها وذلك بإعادة تدوير هذه المخلفات لإعادة استخدامها من جديد.مشروع مصرى صميم مائة بالمائة.
*****
يبلغ الدكتور طارق الألفى من العمر أربعة وسبعون عاما ويمشى بسرعة ابن الثلاثين.طويل رشيق أنيق جميل.أرى فيه معادلة انسانية صعبة الحل،فهو يتحدث عن الله والآخرة كثيرا فى خشوع ورهبة،لكنه يجرى الى الأولى بأسرع من لمح البصر فى ذعر شديد.أما حين يصلى فإنه ينقر ركعاته كنقر الغراب فى عجالة مضحكة،ولامانع من النظر يمينا أو يسارا خلال الصلاة ليستطلع من دخل معمله ومن خرج منه.يردد عبارات مؤثرة عن فناء الدنيا وبقاء الآخرة،وعندما ينهمك فى العمل فإنه يتفانى فيه لحد مخيف ، كما لو كانت القيامة ستقوم بعد ربع ساعة.يقول ان المال لم يعد يلزمه فى شىء بعد أن أصبح جدا لأحفاد كثيرين ينعمون بحياة هانئة..لكنى تفحصت معالم وجهه فى أكثر من مناسبة وهو يحصى أوراقه المالية بعينين زائغتين فى اتجاهات شتى كمذعور ،يتعاقب شهيقه وزفيره فى لهاث محموم.لم أجد تبريرا مفهوما لهذه الظاهرة.
يتوالى حضوره الى الشركة من حين لآخر.لاحظت أن هناك عاملا مشتركا يربط بينه وبين أمين،فهو المستشار الصناعى للشركة.طلب منى أمين أن أكون تحت إمرته كلما استدعانى الى الكلية لإجراء بحوثه بها على ملوثات الشركة السائلة التى تلقى فى البحر،وليذهب بحثى الى الجحيم.
لا أستطيع ملاحقة سرعته الجنونية فى الأداء والانجاز العملى والنظرى لنقاط المشروع الذى يدرسه لقاء مكافآت باهظة..وأصرخ به مستنجدا:
-انى بحاجة الى قسط من الراحة حتى أستطيع المواصلة
-ألا تخجل من نفسك وعمرى يزيد كثيرا عن ضعف عمرك؟
-تعبت
-لونظرت الى العمل على أنه غاية لاوسيلة لما شعرت بالتعب على الاطلاق
ولولا أننى على يقين من أنه يتخذ من العمل وسيلة أساسية لكسب المال لما جرؤت أن أقول له:
-وما ذنبى أن أعطاك الله هذه القدرة الخارقة وحرمنى منها؟
وأكتشف يوما أن الليل قد انتصف بنا بين جدران المعمل،وأننى لم أضع فى فمى لقمة واحدة منذ تناولت افطارى.
بين الحين والآخر كان يخرج من حقيبته علبة صغييرة من البسكويت الجاف.يمد يده أمامى بقطعة متسائلا فى تردد:
-تأكل؟
وقبل أن أجيب بنعم أو بلا ،تكون يده الممدودة قد انسحبت متراجعة فى سرعة خاطفة الى فمه.يقرقض قطعة البسكويت كفأر جوعان،ثم لايلبث أن يحقن نفسه بالأنسولين معبرا عن عزوفه الأبدى عن اشتهاء أى صنف من أصناف المأكولات المحببة الى الخلق كافة.
كنت أشفق عليه فهو أستاذى بالجامعة،وللأستاذية عندى قدسية خاصة حين تقترن بالشيخوخة القاسية.فى الوقت ذاته كنت أحسده على قدرته الفائقة على مواصلة العمل ليل نهار بلا كلل، برغبة عنيفة فى التشبث بالدنيا-كموهوم بالخلد-تفوق شهوة الشباب للجنس كرغبة غريزية فى البقاء.
دائما يشتكى من ضيق الوقت وطول صراعه مع الزمن،فهو مطالب بإعداد المحاضرات لإلقائها على الطلبة بالكلية كأستاذ غير متفرغ،ومطالب بحضور اجتماعات مجالس ادارات مؤسسات كثيرة فى أكثر من مدينة خلال الأسبوع الواحد،كما أنه مطالب بالتواجد فى أكثر من شركة أخرى لتقديم استشاراته الفنية،بحيث يبلغ أقصى مناه أن ينام لساعات أربع على أكثر تقدير من كل يوم.
سألنى عن ملاحظاتى على مخلفات المقالب التى أبحث فيها فحدثته عن نفايات المستشفيات المليئة بالدم الفاسد والجراثيم والميكروبات القاتلة التى تلقى هناك فى الخفاء فتختلط بالدشت الذى يصنع منه الورق والأكياس التى تعبأفيها الفاكهة والخضروات.كما حدثته عن فكرة نقابة الزبالين ومشروع الشباب ،فما كان منه الا أن تجاهل خطورة الأمر الأول وصب انفعالاته الساخطة على أفكارى قائلا:
- لاتنس أنك باحث ولست أخصائيا اجتماعيا
وقام ليصلى الظهر.بعد الصلاة استبدت بى رغبة فى استفزازه فأثرت معه مشكلة رداءة أجهزة استرجاع الألياف بالشركة-وهو مستشارها الفنى- فنهرنى بشدة قائلا:
-العيب ليس فى الأجهزة وانما فى العمال المهملين وانعدام الصيانة والرقابة
أصبحت بعد ذلك على يقين من أن رباط المصالح بين الدكتور طارق وأمين يشكل حقل ألغام ملىء بالمتفجرات من العبث أن أجوس فى أرضه..وكان من الطبيعى أن اعاود النظر والتأمل فى مسيرتى حتى الآن.
*****
حملت عدة الصيد وتوجهت الى التجويف الصخرى الذى اعتدت الصيد منه.بقدر ما كان البحر ساكنا كانت نفسى مضطربة.كل الأمور تسير فى الاتجاه المعاكس..حتى مشروع الجمعية الذى قاسمنى فيه الحماس أكرم لنصنع شيئا نسعد به أبناء حينا ، وقف لنا فيه شعبان بالمرصاد.
شرودى الطويل أضاع منى أسماك كثيرة،فيبدو أننى حضرت للتأمل لا للصيد.أخشى أن يسرقنى العمر لو تركت مقاليد حياتى بيد أمين السناوى وطارق الألفى وشعبان الشريف.مثل هؤلاء الناس لايرجى من التعامل معهم أدنى خير، وأغلب ظنى أننى لن أجنى من الارتباط بهم مكسبا شخصيا أو عاما . لص وانتهازى وأفاق..مثل هذه النماذج لن تكتفى بتعطيلى. من المؤكد أنها ستسعى للإضرار بشخصى بشكل أو بآخر عندما تصطدم النوايا والأهداف.ولم المغامرة إذن؟..أليست أرض الله واسعة؟!..
*****
-بصراحة يادكتور أنا لن استطيع الاستمرار معك بهذه الطريقة
-ماذا تعنى؟
-منذ عدة أشهر وأنا أعمل فى خدمة أبحاثك ومشروعاتك على حساب بحثى.لو استمر الحال على ذلك فلن أحصل على الماجستير قبل عشرة سنوات
-فلتبحث لك عن أستاذ غيرى ان لم يكن الحال يعجبك
-لا أنت ولا غيرك..سأحصل عليها من مكان آخر
*****
أسرار الكون الموغلة فى الغموض أكاد أراها قابعة تحت سطح هذا البحر الواسع العريض الطويل العميق،ولكن أين لى بها وأنا الغر الصغير قليل التجربة أخضر العود حسن النوايا تجاه الناس والأشياء..هل تجود بى هذه الأسرار بإجابة عن تساؤلى المحير:لماذا يسود الخبيث الطيب فى كثير من الأحيان؟..لماذا أجد نفسى راغبا فى التخلى عن عهدى مع أكرم ، والذى هو من قبل ومن بعد عهد مع نفسى؟..
*****
-يبدو أنك تحلم يا أكرم
-ويبدو أنك تيأس بسرعة وهذا هو الفرق بينى وبينك
-ترى من فينا الصح ومن الغلط؟
-المسألة ليست "أبيض واسود".ويقولون ان درء الضرر أولى من جلب المنفعة
-قلت لك اننى لاأستطيع التعامل مع الأوساخ
-وأنا قلت لك أن كل من يطلب رشوة سنعطيها له حتى تقوم للمشروع قائمة،وبعد أن ننجح لن نعدم وسيلة للتخلص منهم وفضحهم ان كان لابد من ذلك
-ربنا يعينك
-ربنا يعيننى وحضرتك تهرب بعد أن تعاهدنا أن نعمل معا
-شرط العمل هو هدم القديم قبل بناء الجديد
-الى أين ستسافر؟
-ألمانيا
-ولماذا ألمانيا؟
- أشعر أن حلمى هناك ثم انها البلد الوحيدة بالخارج التى لى فيها صاحب
-من هو؟
-جارنا القديم مصطفى العجمى ومعه شقيقه فاروق الذى سبقه الى هناك منذ سنين طويلة
-وهل تثق فى شهامة مصطفى حتى يستضيفك وأنت صفر اليدين؟
-مصطفى طيب وابن حلال وأنا أراسله من زمان ،أما أخوه فاروق فلا أعرف عنه شيئا
-ألا ترى أنه من الغريب ألا تسألنى ولو سؤالا واحدا عن تطور أحداث مشروع الجمعية الجديدة؟
-كل أخبارك عندى.مبروك..وثق من عودتى اليك فى الوقت المناسب لنكمل المشوار معا بإذن الله
*****
أبى يشبه البحر تماما فهو يختزن بداخله الكثير من الكنوز والخيرات.ماذا أقول له؟..كنت أصطاد وقررت الهرب من مواجهة الواقع؟..هذه الأرض لم تعد صالحة لى ولأمثالى بعد أن كانت طيبة فأصبحت مرتعا للشر والأشرار؟..
-علىّ النعمة انت محسود.هى يعنى الزبالة بتاعة برّه حتكون انضف من زبالتنا والا لامؤاخذة العدادات بتاعتك دى ماتشتغلش الا فى الصقعة؟
-فى السفر مصلحة لى ولكل من أحب من الناس
-هات م الآخر..انت بتدور على مصلحتك وبس
-يا أبى والله أنا لم أقرر السفر لجمع المال.أنا مسافر لأتعلم وأدرس فى مناخ صحى حتى أعود بعلمى على ناسى وأهلى
-وتتركنى وحدى أواجه ضياع مصدر رزقى؟!
-لاتخف..أنا واثق أنه لن يجد جديد حتى عودتى بإذن الله
-بالعكس أنا سامع انهم حيردموا المقلب ويعملوه جنينة ويبقى لاطلت سما ولا أرض
*****
علقت بالصنارة سمكة"أبو جرنجع"القبيحة الشكل التى لايأكل السكندريون لحمها لشدة زفارته. ذكرنى وجهها المستفز بأمين السناوى حين فاجأنى بالمصنع وأنا أراقب طفح العجينة من الأحواض وهى متجهة الى مجارى الصرف بكل ما تحمله من مواد محلية ومستوردة لأبحث لها عن علاج.قال لى بحدة وكأنه ضبطنى متلبسا بجريمة كبرى:
-قلت لك أكثر من مرة لاشأن لك بالمصنع
-لكن هذا من صميم عملى
-وماعلاقة شئون البيئة بالانتاج؟
-أحاول تحديث الدراسة القديمة لمنع تلوث مياه الصرف
قال متهكما:
-والى أين توصلت بعبقريتك يابشمهندس؟
-المسألة ليست بحاجة الى عبقرية.كلها خطوات علمية موجودة فى الكتب وأحاول تطبيقها
-تفضل على مكتبك يا أستاذ ودع هذا الموضوع نهائيا..مفهوم؟
*****
كثيرا ما يلفظ البحر بعض القاذورات والنفايات وجثث الآدميين والأسماك ومخلفات السفن والزيوت السوداء،ولكنه يلفظ معها أحيانا بعض الأعشاب البحرية التى تحوى بداخلها عناصر كيمائية هامة تصنع منها بعض الأدوية ذات القيمة الطبية الهائلة..وبينما كنت أرقب كومة كبيرة من القش الذى لفظته الأمواج ارتسمت على فمى ابتسامة عريضة ، بل اننى ضحكت من قلبى حين تذكرت ما حدث منذ أيام.
بعد أن تفاقمت مشكلة زبالى البلدية شاع فى الحى نبأ غريب لم أصدقه فى البداية،لولا أن استهوتنى طرافته فذهبت بنفسى الى ادارة الحى التابعة للحكم المحلى لأشهد بنفسى وقائع ماسمعت.
افترش نسوة الزبالين وأولادهن أرض الحديقة المواجهة لمبنى الحى.كان مشهدا مثيرا فبعض النساء تصوّت وبعضهن تزغرد وعشرات الأطفال يمرحون صائحين فى أرض الحديقة يمينا ويسارا.من الغريب أن هؤلاء النسوة لم يكنّ يطالبن بمطلب محدد.فقط صراخ وعويل، وزغاريد وصياح أطفال.المشهد فى إجماله لم يكن يعطى بالنواح انطباع الحزن والشكوى، كما لم يكن يعطى بالزغاريد انطباع الفرحة أو البهجة.بعض النساء كن يرضعن أطفالهن بأثداء مكشوفة فى غير حرج.بعض الأطفال كانوا يرقصون حاملين أرغفة من الخبز البلدى فى أيديهم.هناك إذن مغزى لما يحدث وإن لم أعرف إن كان هناك محرك أو مخطط لهذا الاعتصام الشبيه بالتمرد.
توجهت الى احداهن متسائلا عما يحدث فأجابت بقوة وتصميم:
-ماداموا قطعوا عيشنا يبقى لازم يصرفوا علينا وعلى عيالنا
-ولكن بهذه الطريقة لن يسأل عنكن أحد
-حنفضل هنا فى الجنينة لحد مايلاقولنا حل.احنا عاوزين نعيش
شعرت بفداحة المأساة حين انقضى وقت طويل دون أن يخرج لهن موظف واحد يسأل عن مطالبهن.بل اننى فوجئت بشرطيين من حراس المبنى يحاولان إقناع النسوة بالانصراف حيث لاجدوى مما يفعلن.
فى لمح البصر ظهرت طبلة أمسكت بها احداهن وراحت تطبل عليها والبقية من حولها يصفقن،وبعضهن ترقصن، والجنديان ذاهلان وقد أحطن بهما فذابا وسط الجمع بلا حول ولا قوة.
لمحت احداهن واحدا من زبالى البلدية يتسكع من حولهن متفرجا على مايحدث وعلى فمه ابتسامة هازئة وبيده مقشته العهدة، فإذا بها تسحبه بعنف وتطرحه أرضا،وإذا ببقية النساء تهجمن عليه عضا وضربا بالشباشب والمراكيب والرجل يصرخ وقد أمسكت احداهن بمقشته وأخذت تضربه بها مرددة فى عصبية:
-خربتم بيوتنا يا اولاد الكلب ربنا يخرب بيوتكم
ولولا أن خلصه الجنديان من براثنهن لأكلنه أكلا وكأنه هو الذى أصدر القرار بإلغاء زبالى الأهالى.
بعد قليل تبلور الموقف حين نزل من المبنى الموظف الكبير الذى طالبن بمقابلته.ذهل الرجل لعدم وجود زبال واحد بينهم.سأل:
-أين رجالكن؟
أجابته احداهن فى سخرية وهى تتقصع واضعة يديها حول وسطها:
-قاعدين فى البيوت ياخويا اسم الله على مقامك بيغسلوا المواعين..منكم لله ياشيخ
واقع الأمر –كما علمت بعد ذلك- أن قرار الغاء اشتغال زبالى البلدية بجمع قمامة المنازل بدلا من زبالى الأهالى كان على وشك الصدور ان لم يكن قد صدر بالفعل.ذلك أنه لم يكن هناك بديل عن الإقرار بفشله بعد أن تفاقمت المشكلة بدلا من أن تحل.
لكن النسوة لم تعط فرصة للرجل الذى لم يستطع ايقاف الصراخ والعويل والزغاريد والطبل والرقص والتصفيق، بل ان احداهن شقت ثوبها طوليا فتعرى جسمها وراحت تلطم على خديها بشدة وهى تولول وهن يرددن من خلفها:
-ان عشنا أكلنا الدبان وان متنا مانلاقى الأكفان
صاح الرجل بأعلى صوته قائلا:
-ياجماعة أنا رئيس الحى وأقول لكم من بكره رجالاتكم يرجعوا الى شغلهم
اندلعت الزغاريد من النسوة وانهالت بعضهن على الرجل تقبيلا ودعاء وهمست احداهن فى خبث:
-مايجيبها الا نسوانها
وظل تساؤلى قائما: ترى من هو صاحب العقل الذى دبر هذا المخطط العبقرى؟!..
*****























المقلـــــب
"أورمه" هو رفيق "ناموسه" وصديقه الحميم وابن مهنته،وإن باعدت بينهما المسافة بين المقلبين،فمقلب خليل السرياقوسى-حيث يعمل ناموسه-يقع فى الملاحات غرب الاسكندرية أما مقلب ياقوت العرشى -والذى هو أنا- فى أبيس فيقع شمالها.
طبقا لتعليمات الحاج ياقوت يقوم أورمه يوميا بغمر بالات الدشت، المعد للبيع مضغوطا لشركات انتاج الورق ، بالمياه المتدفقة من خرطوم غليظ القطر،كما يحشر بين طياتها كميات لابأس بها من الرمل والطوب والزلط والخرق البالية وبعض القطط والكلاب الميتة حتى يتضاعف وزن البالات .وكلما أتقن أورمه هذا العمل الذى يؤديه مرغما وعلى غير رضا منه،ازداد تقدير ياقوت له.
المعلم ياقوت فنان فى استجلاب المال بأية وسيلة.تأتى عربة نقل كى تفرغ مخلفات السفن فى مقلبه.ينزل الموظف الجالس بجوار السائق ليشرف على التفريغ.حينئذ يمارس ياقوت ابتزازا يراه مشروعا مادام الذى يحدث غير مشروع.يسأله ياقوت وهو يعرف الإجابة:
-ايه ده؟
-انت شايف بعينك.مخلفات مراكب
فيدعى ياقوت الشرف والأمانة والاستقامة محتجا على الرجل:
-لاياحبيبى.ممنوع
-نعم ياخويا؟!
-لازم موافقة وزارة الصحة وجهاز شئون البيئة
الرجل يعرفه حق المعرفة ،ولايقوم بهذه المخالفة الا فى مقلبه،ولو ذهب بمخلفاته الى مقلب الحاج خليل لطرده شر طردة.يرد عليه الرجل وهو الآخر يعلم نهاية الحوار المكرر فى كل مرة:
-خليك فى حالك يامعلم ياقوت.أنا أوراقى كلها مختومة وممضية ومدفوع فيها الشىء الفلانى
-سبق وسمحت لك تفرغ عندى قبل كده مره واتنين،لكن ان كان حبيبك عسل..
-كلك ذوق وجدعنه يامعلم
-انت عارف انى ممكن أسبب لك مشاكل كبيرة مع المحافظة لو اتكلمت
ويعطيه الرجل المعلوم.ما أبشع طمع هذه المخلوقات البشرية.كثيرا ما أحمد الله أن جعلنى جمادا مجسدا فى أربعة أسوار، فذراتى لاتحتوى على هذه الصفة الكريهة.
-خذ يا رجل ياطيب
ويضع ياقوت العطية فى جيبه ويقول بابتسامة زائفة:
-فرغ براحتك ياصاحبى
وتفرغ بى نفايات المراكب بما تحويه من جراثيم وسموم مجهولة، قادمة من جميع أنحاء العالم ،فى مخالفة صريحة للقانون.
ياقوت لايعبأ بهذا الشىء،فهو يتعامل مع البلد بقوانين أخرى يعرفها جيدا. يسأل أورمه باهتمام شديد عما جمعه من شوك وملاعق وسكاكين،وهل عثر فى القمامة على قطعة من الذهب وأخفاها منه،وهل امتنع أحد الأهالى عن دفع الشهرية،وهل أعد الشنابر التى سيربط بها بالات الدشت بعد خروجها من المكبس؟؟؟..وأورمه يجيبه عن كل تساؤلاته فى استسلام قدرى يحسد عليه.
كان أورمه يرقب بكر باهتمام شديد وهو يضع أجهزة القياس التى يستخدمها فى مواضع مختلفة منى.لاحظ بكر وجود كدمات واضحة فى وجهه وهالة زرقاء تحت احدى عينيه فسأله:
-وجهك مورم ليه يا أورمه؟
-من الضرب يابيه
-من ضربك؟
-انضربت فى القسم ضرب ما أكلهوش حمار فى مطلع
-وايه السبب؟
-بيه كبير فى خط الزبالة اللى باخدم فيه مارضيش يدفع الشهرية
-ليه؟
-لأنى فوتّ يوم ماخدتش فيه الزبالة .كنت يومها عيان عندى مغص جامد
-وبعدين
-نزل فى ضرب ورفص وشلاليت زى ما اكون عبد عنده
-وانت عملت ايه يا أورمه؟
-عملت ايه؟..وحياتك يابشمهندس عينك ماتشوف الا النور.مسكته عجنته م الضرب ومشيت.بالليل العساكر خدونى عالقسم وضربونى ضرب ما أكلوش حرامى.خلوا وشى شوارع زى ما انت شايف
-ماحدش من عيلتك حضر معاك؟
-عيلتى؟!..حلوه عيلتى دى.عيلتى ايه يابيه صل عالنبى.ده لولا الباشا الظابط قال لهم كفايه كانوا فضلوا يضربوا فى للصبح
-وفين أهلك يا أورمه؟
-فى مصر ياباشا.من سنين مااعرفش لهم طريق جره
-غريبه
-رحت مصر السنه اللى فاتت أسأل عنهم لقيتهم عزلوا
-ماسألتش الجيران؟
-سألت طوب الأرض مفيش فايده
-وهو انت بعدت عنهم ليه من الأصل
-لما سقطت فى الابتدائية خفت من ابويا .كان شرانى وإيده طرشه.قلت أكيد حيموتنى من الضرب.ركبت القطر ونزلت اسكندرية على فيض الكريم
-يا أخى كانت علقة وتفوت بدل الذل اللى انت فيه دلوقت
-أصلك ماعندكش فكرة كان ضربه جامد قد ايه.ده كان بيسيح دم أمى لوحاشته عنى
-ياه!!
-خل بالك هو من جواه رجل طيب لكن الكيف هو السبب.كل يوم يرجع البيت دماغه خربانة وقال ايه كان عاوزنى اطلع دكتور..عمرك سمعت عن دكتور اسمه أورمه؟
-ايه رأيك ننشر لك صورتك فى الجورنال ونقول انك بتدور على ابوك؟
-أبويا مايعرفش يقرا يامحترم
-لما يشوف صورتك يفهم
-ماتتعبش نفسك.أنا خلاص اتعودت عالعيشة دى وانتهينا
وبينما يتحاوران داهمت المكان عربة بوكسفورد نزل منها ضابط شاب وبعض المخبرين. هرول الصبية يحاولون الهرب من الشرطة كما لو كانوا فعلوا جرما.صاح أورمه تلقائيا:
-كبسه ياجدعان
راح المخبرون يقبضون على الصبية ويقذفون بهم فى العربة كالبهائم.كان الحاج ياقوت قد غادر المقلب فلم يشهد الواقعة. سأل بكر الضابط فى دهشة ممزوجة باستياء شديد:
-ايه الحكايه؟
سأله الضابط بعنجهية وغرور:
-من أنت أولا؟
-أنا المهندس بكر السرياقوسى
-وما سبب وجودك هنا؟
-أجرى أبحاثى كما ترى
دهش الضابط ولم يفهم ،لكنه واصل انتفاخه غير المبرر وهو يقول آمرا:
-بطاقتك
أطلعه بكر على بطاقته واستعادها منه ثم سأله فى غضب غير مكتوم:
-ماهى جناية هؤلاء الصبيان حتىتقبضوا عليهم؟
أجابه الضابط باستخفاف شديد:
-ولا حاجه..مجرد تحريات
بكر شاب يفيض قلبه حنانا على البؤساء والفقراء.هكذا أراه ولهذا أحبه.
*****
فوجىء أورمه بناموسه قادما من الملاحة.كان يرتدى قميصا وبنطالا لأول مرة ، وتبدو عليه إمارات النظافة.انبهر أورمه بهذه الظاهرة الغريبة وسأله عنها فعلم أن ناموسه جاء يسلم عليه خصيصا حتى يراه على هذه الصورة قبل أن يتوجه الى العزاء فى زوجة أبيه.ضحك أورمه قائلا فى سخرية:
-لا والله كلك واجب ياناموسه
-ولا واجب ولا حاجه.سرياقوسى أمرنى
-انت زعلان عليها؟
-ازعل عليها ازاى وهى اللى طفشتنى من البيت
-كان لازم أبوك يشكمها
-صل على النبى ..هو كان يقدر يقول لها تلت التلاته كام؟
-يمكن لما يشوفك قلبه يحن
-من تلات سنين ماشفتوش مع اننا فى بلد واحده.بذمتك فيه كده فى الدنيا؟
-كلنا مقطوعين من سجره ومحدش حاسس بنا
وتغلب ناموسه طفولته فيغير مجرى الحديث بعفوية قائلا:
-تصدق ياوله.أنا شفت شمس بيلعب كوتشينه مع الوله الجرنش حرامى البلاليع
-لأ..دمك خفيف
-أنا أتكلم جد مش بهزر
-أفهم!..واحد أعمى يلعب كوتشينة؟!
-والأدهىانه ضبط الجرنش بيغشه فى الورق.دبت بينهم خناقة للركب
-ياشيخ!
-كان ناوى يسرق منه الشايب
-كفاية فشر.رح الى العزا ونتقابل بالليل والتماخين جاهزة
*****
أنا موجود فى الملاحة موجود فى أبيس ، فأنا هو أنا.المقلب.أتكلم من أى موقع فكل المواقع متشابهة وتؤدى نفس الغرض.لكنى حين أتكلم من مقلب الحاج خليل السرياقوسى فى الملاحة أكون أكثر انبساطا وارتياحا عمايكون عليه حالى فى أبيس.
لقد حرت كثيرا فى فهم مسألة اختلاف معادن الناس ، ولماذا يكون هذا طيبا والآخر شريرا.هل خلقهم الله كذلك فلا يلاموا على ما هم عليه،أم أنهم أصحاب الاختيار؟..أنا تهربت من حمل الأمانة حين عرضت على ولكن حملها الانسان ولم يصنها أو يحفظها، فياله من مخلوق عجيب.
وينفخ شمس فى قربته لحنا حزينا يتجاوب مع أشجانى.ناموسه فى عمر ابنه يناديه باسمه مباشرة كما جرى العرف بين الزبالين،فنادرا مايستخدمون الألقاب بغض النظر عن فارق السن..يناوشه قائلا:
-معقوله الجرنش يغشك فى اللعب ياشمس؟
-مش فاهم انى حاكشفه.واد غربى* ابن كلب صحيح
- الجنش غربى؟..ليه؟..من أى خط هو؟
-من نواحى فيلا تاتوزيان الله يجحمه مطرح ماراح
-من تاتوزيان؟
----
غربى بضم الغين وفتح الراء تعنى عندهم الغريب
-ابن أخو موسى زيان أبوعين واحده..مش عارفه؟!
-لأ عارفه
-ابن الوسخة قهر جمال عبد الناصر وفضل معووج لحد ما السادات ذل أنفاسه وخلى مناخيره فى التراب فى حرب أكتوبر
-ياسلام!
-كان يقعد على ناصية شارع أليمان..يلم العيال الصغيرين ويوزع على كل واحد منهم نص فرنك لأجل يتفرج عليهم وهما بيضربوا بعض لغاية مادمهم يسيح
-أما رجل ندل صحيح
-صدقت ان الجرنش غربى؟
-انت عاوز الصراحه ياشمس.كلنا غربيه ومالناش حد
*****
عربات الميكروباص الأجرة تحل مشكلة التواصل بين أورمه وناموسه.فى المساء التقيا بمقهى المعلم سعيد بعد أن انتهى ناموسه من واجب العزاء المفروض عليه من معلمه.
المقهى أشبه بعشة كبيرة تقع على ترعة المحمودية وسط عشوائيات متداخلة من عشش أخرى صغيرة يسكنها الزبالون وغيرهم.اشتراها المعلم سعيد بعد أن جرت الفلوس فى يده من تجارة الدخان الذى يجىء مع الدشت. خلف المقهى يقع مخزن الحى أو كما يسمونه مخزن البلدية.يحيط به سور كبير يفصله عن المقهى..وتأتى عربتا نقل كبيرتان تفرغان حمولتيهما داخل المخزن.يقوم بالتفريغ عمال ثلاثة يرأسهم موظف يتمتع بكرش كبير متدل أمامه.الحمولة عبارة عن عدة مقاعد ومناضد صغيرة تمت مصادرتها من المقاهى والمحلات،وعربات كارو مستول عليها من الباعة الجائلين،وكميات كبيرة من أقفاص الخضروات والفواكه معبأة وسائبة.
ناموسه وأورمه يرقبان ما يحدث.العمال يلقون بالحمولة داخل المخزن فى غير اكتراث ويكدسونها فى أكوام.عامل يتناول اصبعا من الموز يأكله ويلقى بقشره على الأرض.آخر يقضم تفاحة وهو يطيح بالكراسى على الأرض..وينتهى العمال من التفريغ فيدخلون مع رئيسهم الى المخزن.
-أوامرك ياريس
-املأ لى كم قفص تفاح على بطاطس على طماطم على كوسه ومعهم سباطة موز
ويتهافت العمال على سرقة المأكولات المصادرة وتعبئتها فى أكياس كبيرة يذهبون بها الى بيوتهم فينهرهم رئيسهم:
-كل واحد منكم ياخذ بالعقل،والباقى انتم عارفين طريقه
-عارفين ياريس
ويهمس ناموسه لأورمه فى دهشة طفولية:
-شايف عمال الإزالة يا أورمه
-شايف.كل يوم على الله يلهفوا بضاعة البياعين السريحة الغلابة ويروحوها على بيوتهم.الهى تنزل فى مصارينهم ومصارين عيالهم بالسم الهارى
-كلهم كوم وريسهم أبو كرش كوم تانى.كل يوم يقوم بالحملة ويشحن على بيته.بس يارب يشبع
-انت باين عليك عبيط.انت ناسى انهم بيبيعوا الباقى؟
-لمن؟
-لهم زباينهم وعارفين سكتهم.وفى الآخر يجمعوا الحصيلة ويقسموها على بعض بعد ما الريس ياخد نصيبه طبعا
-وياترى الكلام ده بيحصل فى كل الأحياء والا عندنا بس؟
-لا طبعا.فيه ناس كثير عندهم ضمير ولا يقبلوا على نفسهم ولا على عيالهم أكل حرام
- ده ظلم..ظلم جامد قوى ياناموسه
-مش ظلم وبس.ده ظلم ووساخه كمان
-كنت احسب اننا وحدنا المظاليم من بين الخلق
-أنا متأكد ان اللى بيحصل ده مايرضيش ربنا
-بكره يشويهم فى نار جهنم الحمرا والعياذ بالله
ويسود بينهما صمت حزين يقطعه تساؤل ناموسه البرىء:
-قل لى يا أورمه..مش ناوى تلاقى أبوك فى مصر؟
-آه..ناوى طبعا
-امتى ياوله؟
-لما تبقى تلاقى ابوك فى اسكندرية.تعال نقعد تحت السور قبل ما حد ياخد مكاننا
- ياعم تعال نقعد فى وسط القهوة بين المخاليق.أنا مش فاهم ايه غيتك فى القعدة تحت السور
فيجيبه أورمه بتلقائية فطرية:
-علشان باحس ان فيه حاجه فى الدنيا تقبل انى اتسند عليها ياناموسه.حاجه تستحملنى وماتقولليش لأ
*****
ياقوت يجلس أمام الشونة يرقب عملية الفرز التى يجريها أورمه وبقية الصبية.يفاجأبوجود الجرنش بينهم وهو الذى يعمل فى موقعى بالملاحة.يستدعى أورمه مستفسرا فيبلغه ان الحاج خليل طرده لأنه تسبب له فى مشاكل مع البوليس بسبب اعتياده سرقة البلاليع الزهر من الطريق وبيعها لتجار الخردة.
-من أمرك تجيبه هنا وترازينا به؟
-أنا راضى بحكمك يامعلمى.قل لى يروح فين وياكل منين
-مالك انت ان شالله يروح فى ستين داهية.هو مقلب والا ملجأ؟!
-الاتنين يامعلم..وهو انا لى ملجأ الا المقلب؟
أوقعه أورمه فى لحظة ضعف غير معتادة.وافق على ترك الجرنش على ضمانة أورمه.أعطاه نقودا ليشترى الطعام للمجموعة،وهذا ما أثار دهشة أورمه وتعجبه.جلسوا يأكلون.قال أورمه ساخرا:
-الظاهر انك فيك شىء لله يا جرنش
-ليه؟
-ياقوت يمص الدبانه ويموت عالقرش.متجوز من ثلاث نسوان شايفين الويل معاه.كل يوم والثانى تيجى واحده منهم تطلب منه فلوس.أصله منشفها عليهم
قال الجرنش بغباء صريح:
-أما رجل قلة صحيح.انما وافق اشتغل معكم؟
-المهم تبعد عن البلاليع.أنا مش فاهم فيه ايه بينك وبينها
-تار
-تار بينك وبين غطيان البلاليع؟!
-من يوم ما أبويا غرق فى المجرى قدام عينى وهو بيسلك بلاعة ماعدتش أطيق اشوف بلاليع فى أى مكان
-وفين أمك ياجرنش؟
-علمى علمك ياخويا
-عايشه؟
-الله أعلم
-يوم ما مات ابوك كانت عايشه معكم؟
-لأ..طفشت قبل ما يموت
-ليه؟
-أصله كان بيشتغل سناتسى
-يعنى ايه سناتسى؟
-يعنى شغلته يسلك بلاليع البلدية لما تنسد وتطفح عالشارع
-وده سبب ان امك تطفش منه؟
-كانت بتقرف من ريحته لما ييجى جنبها.كل ماتشوفه تقول له قم استحم فكان يضربها بالجامد
*****
حكايات الزبالين فى الملاحة وأبيس تستهوينى،لا لأننى أستمتع بها،فالواقع أننى أتألم بشدة للاستماع اليها وأنا الجماد الأصم،ولكن لأننى أرى فيها عبرة لايراها أولئك المنهومون الى الدنيا المتصارعون عليها كتصارع الكلاب على جيفة.لو كنت قادرا على النطق لقلت لهم أن ينتبهوا بين الحين والآخر الى أنهم صائرون الى زوال فى يوم من الأيام.
*****








أكرم الدقــاق
لم يستطع بكر الصمود أمام السناوى إذ حدد اقامته فى ادارة شئون البيئة ولم يعطه الصلاحية لأى عمل محدد يقوم به.كان يرى فى عجزه عن فعل أى شىء مضاد لفساد السناوى وتلوثه،انتقاصا من رجولته واهانة لكرامته.مسكين.لم يستطع الصمود أيضا أمام انتهازية الدكتور طارق واستغلاله له فى بحوثه الخاصة.كان يرى فى امتثاله لأوامره وسخرته فى خدمة أبحاثه الخاصة وإهماله لبحثه الذى هو مصيره ومستقبله وحلم حياته،عبودية وذلة.لايعرف الا اللونين الأبيض والأسود،بينما لعب الدنيا كله فى الرمادى.لم يستطع الصمود أمام شعبان وخسر حبه ولم يتمكن من ايقاف نزيف جرحه حتى هذه اللحظة.
لو فعلت مثله لما استطعنا انجاز شىء لأنفسنا أو لحينا المغمور فى القذارة.شعبان الشريف يتقمص الآن دور البطل فيدعى أنه صاحب التأثير الفعال على رئيس الحى لإلغاء قرار زبالى البلدية، ويعلن أمام جماهير الحى فى الجمعية العمومية لتنمية المجتمع أنه أيضا هو الذى أقتع المسئولين بالمحافظة بالموافقة على تأسيس "جمعية رعاية العاملين برفع ونقل المخلفات".اندفع بغباء فى حماسه قائلا انه من اليوم انتهى عهد زبالى البلدية وزبالى الأهالى أيضا وانه لن يبقى الا مشروع الشباب الذى ستقيمه الجمعية الجديدة.
صفقت له الجماهير.طلبت الكلمة لأوضح لهم أن زبالى الأهالى باقين فى أماكنهم ليمارسوا عملهم جنبا الى جنب مع عمال المشروع الجديد،فكمية القمامة أكبر بكثير من جهدهما المشترك.صفقت لى الجماهير أيضا.فى جميع الأحوال يصفقون.لايعلم أحدهم سر التحمس الفجائى الذى انتاب شعبان –من بعد طول ممانعة ومماطلة-لإنشاء الجمعية الجديدة ومشروعها المرتقب.أنا وبكر نعرف السبب.السبب هو الاتاوة الشهرية التى طلبها بعظمة لسانه من جمعيتنا.بكر رفض هذا المنطق بشدة أما أنا فوافقت لأننا لو لم ندفع له لواصل وضع العراقيل أمامنا ولما استطعنا أن نخطو خطوتنا التكتيكية الأولى لتحقيق حلمنا الكبير.لو لم ندفع له لما استطعنا إنشاء جمعيتنا من باطن الجمعية الأم التى يرأسها هو،ولا بأس أن نتخلص منه بركلة صغيرة بعد أن نتمكن من مقاليد الأمور ونسيطر عليها.
لست أدرى ان كان قرار بكر بالسفر الى الخارج قرارا صائبا أم لا.الزمن كفيل بتقديم الإجابة.لم يستطع أن يجد المعادلة التى أوجدتها لنفسى للتعايش فى مجتمع ملوث.قرر أن تكون أبحاثه بالخارج وأن يسخرها فى خدمة مجتمعه بعد العودة.
يقول لى الشيطان أحيانا أنه لم يسافر بهذا الدافع بالدرجة الأولى،وإنما ليثبت لشعبان أنه خسر رجلا عظيما يحمل درجة الدكتوراه فى العلوم لم يكن يحلم بمصاهرة من هو مثله يوما،أو ربما عقابا لفردوس التى لم تكن مؤمنة به كما ينبغى أن يكون الايمان فلم تقف بجانبه،ولذلك فقد حق عليها أن تدفع هى الأخرى بالندم ثمنا لعدم جدارتها به.ورغم أننى متفهم لنوايا الشيطان وألاعيبه،الا اننى قادر على ملاعبته هو الآخر.فليقل ما يقول لكنه لن يستطيع أن يهز إيمانى لحظة بعظمة بكر وشموخه وحبه للنظافة والصدق والوضوح.أما عن عجزه عن التعامل مع الملوثين فتلك قدراته ورحم الله امرىء عرف قدر نفسه.ومالى أتباهى بحصافتى وكأننى على ثقة تامة من أننى سوف أنجح فيما فشل فيه بكر.أليس من الجائز أن أرفع راية الاستسلام فى النهاية لهؤلاء الأوغاد.على أية حال فلقد قبلت التحدى وليكن ما يكون.
*****
تحت بند"نشاط لدى الغير"قامت جمعيتنا من باطن الجمعية الأم،ولأن بكر قد قرر السفر فقد توليت رئاسة الجمعية بدلا منه وخصص لها مكتب بإحدى غرف الجمعية الأم لممارسة النشاط منها.
أوضحت لى "بستان"مراقبة الحسابات أن الجهة الوحيدة التى يحق لها حصة تقدر بخمسة فى المائة من دخل الجمعية الجديدة هى الجمعية الأم نظير سماحها بهذا النشاط.حذرتنى من الامتثال لطلب أية جهة أخرى للحصول على أى نصيب من دخل جمعيتنا.انتهت بستان من مراجعة دراسة الجدوى التى أعدتها لنا-تطوعا وبدون مقابل- الدكتورة ساميه المحجوب مستشارة المحافظة لشئون البيئة.أفصحت الدراسة عن الأرقام التقريبية الآتية:
1-دخل الجمعية عن وحدة سكنية من ألفى شقة بمعدل ثلاثة جنيهات عن كل شقة بواقع إيصالات رسمية =6000جنيه
2-دخل الجمعية عن حوالى مائتى محل تجارى بواقع خمسة جنيهات لكل محل =1000جنيه
3-دخل الجمعية من المقالب نظيرنقل المخلفات اليها من المحلات والمطاعم والفنادق=1000جنيه
وتقول دراسة الجدوى ان عربة النقل -المصرية الصنع- ستكون قيمتها حوالىأربعون ألف جنيه،يقوم الشاب بتسديد ثمنها على أقساط شهرية حيث تبلغ قيمة القسط ستمائة جنيه،وبذلك تكون النفقات الشهرية لكل شاب يمتلك عربة ليساهم بها فى تنفيذ المشروع كالآتى على وجه التقريب:
1-القسط الشهرى للعربة =600جنيه
2-راتب السائق =600جنيه
3-رواتب الشبان الأربعة الذين سيعملون على العربة بواقع خمسمائة جنيه للفرد =2000جنيه
4-مصاريف بنزين العربة وصيانتها =400جنيه
5-مصاريف غير منظورة =400جنيه
بذلك يكون اجمالى النفقات =4000جنيه
ومن اجمالى الدخل والنفقات يتبين أن مكسب كل شاب سوف يعادل أربعة آلاف جنيه شهريا.
كان شعبان يتميز غيظا وحقدا على هؤلاء الشباب بعد أن اطلع على الدراسة بحكم موقعه،غير أنه لم يكن الحاقد الوحيد،إذ فقد زبالو البلدية مصدرا من مصادر الهبش والابتزاز.
امتصت الإتاوة الشهرية شيئا من حقد شعبان،أما زبالو البلدية فى عصر التسيب فقد زوروا ايصالات جمعوا بها الإيراد الشهرى من الأهالى الذين لم يميزوا بعد بين القديم والجديد. وإذا كان الأهالى يدفعون تلك المبالغ التافهة لجهة واحدة وهم متضررين،فكيف يكون حالهم حين يطالبوا بالدفع لجهتين؟..
أثرت المشكلة مع "أشرف نصار"رئيس الحى الذى أحال المسئولين الى التحقيق واعتبر أن دوره قد انتهى بذلك.قلت له بمرارة:
-التحقيق لن يحول دون تكرار المأساة وسوف يفقد الأهالى الثقة فى المشروع الجديد.
-لابد من وسيلة نراضى بها زبالى البلدية
تساءلت فى دهشة وغيظ:
-أنت الذى يقول ذلك؟
-أقولها بصفة غير رسمية لأنى أعرف أنك إنسان عملى تحب الحلول الواقعية
-وكيف يمكننى أن أراضيهم؟
-هذا شىء يرجع اليك،وكأنى لم أقل لك شيئا!
هذا هو موقف المسئول الكبير بالمحافظة.يقنن ابتزازا يضع نجاح المشروع تحت رحمة بعض العمال والملاحظين الذين لاولاء عندهم الا لأنفسهم فهم لا يعرفون الولاء لوظيفتهم ولا لحيهم ولا لبلدهم.
رغم تحديد البلدية للمساحات السكنية والتجارية المخصصة للشباب إلا أن سائقى عربات البلدية القدامى لم يقبلوا التخلى عن مكاسبهم القديمة من جمع مخلفات المحال التجارية،وبذلك وقعت أكثر من مشاجرة أمام بعض المحلات والمقاهى والمطاعم بين شباب المشروع وسائقى عربات البلدية،وانتقلت المشكلة الجديدة الى رئيس الحى الذى لم يفعل شيئا كعادته،ولو لم أستطع أن أقنع ضابط الشرطة بسلامة موقفنا لما أفرج عن شباب المشروع.
خطورة أشرف نصار لاتكمن فى كونه مرتشيا يريد أن يفيد لنفسه من المشروع أو أن يعطله ويضع العراقيل أمامه،فهو ليس من ذلك الطراز من الموظفين،بل ان سمعته نظيفة على مستوى المحافظة،وإنما تكمن هذه الخطورة فى كونه عاجزا عن اتخاذ أى قرار بشأن أى موضوع،وتلك فى رأيى مصيبة أفدح من الارتشاء والتربح من المهنة عندما تكون مشفوعة بالقدرة على ادارة العمل.
أدمنت الحوار مع بستان خلال لقاءاتنا المتعددة بالجمعية.كثيرا ما عبرت عن إعجابها بأسلوبى فى التعامل مع المشكلات التى لاحصر لها.
-أحيانا أراك رجلا ناضجا فى الخمسين من العمر
-أما أنا فرغم ذكائك وثقافتك أرى فيك طفلة صغيرة
داعبت الصليب المعلق على صدرها فى حياء وهى تردد الآية الانجيلية الشهيرة:
-لن تدخلوا ملكوت السماوات مالم تصيروا كالأطفال
*****
ردت الروح الى زبالى الأهالى مع السماح لهم بمعاودة عملهم التقليدى جنبا الى جنب مع مشروع الشباب.غير أن لجنة"العرضى"*تعمدت أن تقف لهم بالمرصاد فتصادر عرباتهم الكارو بالحمير التى تسوقها تارة بحجة أنهم يوسخون الشوارع بروث بهائمهم وبالمخلفات المتساقطة من العربات أثناء السير، وتارة بحجة أن الحمير تعانى من أمراض معدية.
لجنة العرضى تتبع شرطة المرافق،وشرطة المرافق تتبع وزارة الداخلية ولكنها لاتتحرك إلا بإخطار من رئيس الحى.لقد احترت فى هذا الرجل المعوق فلم أجد بديلا عن اللجوء الى شعبان فربما يكون أقدر على التفاهم معه منى،فيترك زبالى الأهالى لحالهم ولا يقطع
---
*الهيئة المكلفة بمصادرة الحمير المريضة لعلاجها أو إعدامها
عيشهم..واللجوء الى شعبان يشعره بأهميته وجدارته بالإتاوة وقدرته على تسهيل مهمة المشروع الذى يكرهه من قلبه.إنى على ثقة من أنه يتمنى فى قرارة نفسه فشل هذا المشروع لالسبب إلا لإرضاء نفسه المظلمة،لكن ما الحيلة ولامفر من التعامل مع مثل هذه الأصناف من البشر حتى تستمر الحياة ولاتتوقف.
*****
علمت من الأستاذحنفى الرفاعى بإدارة البيئة أن هناك مشروعا جديدا لمعالجة المخلفات السائلة،أعد دراسته الدكتور طارق الألفى،يستخدم نفس المعدات التى ثبت فشلها.قالت المهندسة ايمان فى انفعال:
-غير معقول..نفس الخطأ يتكرر مرة ثانية!
أجابها حنفى بسخرية اليائس كعادته:
-قالوا للفرعون إيش فرعنك قال مالقيتش حد يلمنى .أنا أهه وانتم أهه.لن يفتح بنى آدم فى الشركه فمه ليقول لا.
صاحت ايمان بانفعال أكثر:
-لا
فأجابها حنفى ساخرا:
-ولا أيضا من عندى..ولكن ما رأيك أنت يا أكرم؟
قلت فى ثقة:
-طبعا لا
-عظيم جدا.معنا الآن لاءات ثلاث لكن مجموعهم للأسف يساوى صفرا لايعلى عليه..وهى تذكرنى –بالمناسبة- بلاءات العرب الثلاث التى ضاعت فى مزبلة التاريخ
-بل يمكننا ترجمتها الى فعل مقاوم فى حدود قدراتنا لو شئنا
تساءلت ايمان:
-وماذا يمكن أن يكون هذا الفعل ونحن موظفين صغارا
قلت لها بهدوء:
-لماذا لانرسل تقريرا فنيا الى الشركة القابضة التى تتبعها شركتنا نوضح فيه خطورة إهدار مال الشركة على مشروع ثبت فشله؟
-ومن الذى سيكتب هذا التقرير ويوقع عليه؟
-ليس أمامنا الا الدكتورة ساميه. نقدم لها المعلومات وهى تكتبه، ونحن جميعا نوقع عليه
صرخ حنفى:
-الرحمه ياناس.أنا عندى خمسة عيال ومنتظر مدير عام!
*****























ناموســـــه
والله العظيم إحنا أغلب م الغلب لكن عايشين وحامدين ربنا.أم بكر تسلم إيديها بعتت لنا عامود أكل تلات كاتات مليان لحمة وخضار.الواد جرنش كل شويه يسحب الطبق ناحيته ويقول "سنّة قدام"وبعدين يرجع يغير مكانه عشان يبقى قريب م اللحمة ويقول"سنّة ورا".قلت له وبعدين معاك يابنى انت لسه فاكر نفسك بتشتغل منادى عربيات زى زمان؟قال لى:
-والله كانت شغلانه بتكسب دهب.الله يجازى اولاد الحرام اللى طفشونى منها
-وطفشوك ليه؟
-أصل ماكانش عندى رخصة مع إن الزباين كانوا بيحبونى ومقبلين على..أصل المنادى اللى معاه رخصة موته وسمه ان واحد غريب يشاركه فى لقمته.
قام شمس حشر بقه بالأكل وهو بيقول:
-تقوم تضربه بحديدة يامغفل وتاخد فيه سنه سجن؟!
حضرته بيتريق وناسى اللى عمله فى بنته.أم الكنى دايما تسألنى:
-هو انت مش ناوى تتجوز ياوله ياناموسه؟
-بلا خيبة.عاوزانى أجيب واحده تعيش معايا فى المقلب ونخلفوا صبيان وبنات؟
-اسمع كلامى ياوله.الجواز يصونك من حاجات كتير
أنا فاهم اللئيمة دى تقصد ايه.هى تقصد البنت "باتعه" اللى بتبان وتختفى على كيفها وماحدش عارف أصلها من فصلها.بصراحة البنت جسمها زى الملبن وريحته حلوه.أنا وهى بنستخبى فى الزباله ومحدش بيشوف ولا يعرف احنا بنعمل ايه.لكن الحقيقة بعد ما بخلّص بلاقى نفسى طاير فى السما ومبسوط قوى زى مايكون حمل كبير انشال من على قلبى.ياريت تيجى كل يوم.
بعد ما أكلنا فضلنا ندعى للحاج خليل وام بكر،وبصراحه كلنا زعلانين قوى من بكر اللى ضحك علينا بعد ماقعد يقول لنا حاعمل لكم نقابة تشوف حقوقكم وتراعى مصالحكم وبعدين هرب وسابنا.لو كان عندنا نقابة كنا أخدنا شقق زى بتاعة المهندسين والدكاترة اللى بنوا لهم عمارات طالعه فى السما.أورمه عيان عيا جامد.مرمى فى المستشفى لاأب ولاأم يسألوا عليه مع انهم عايشين.قلت أروح أزوره.دخلت المستشفى الميرى.دخلونى بالعافية.العنبر بتاع الدرجة التالته عامل زى السويقة.ناس فارشه وقاعده تاكل مع العيانين.وناس بتعمل شاى وقهوة عالبابور.شميت بمناخيرى وسط دخان السجاير ريحة حشيش والله.حشيش انما إيه..غبارة!..دخلت وسط الميغة لقيت أورمه متمدد على سرير كحيان عامل زى سراير الجيش.قلت له:
-ايه ياوله.انت استحليت النومه هنا والا ايه؟
فرح قوى لما شافنى والدمعه كانت حتفر من عينه وقال لى:
-من زمان كان نفسى أنام على سرير وآهو ربنا استجاب لى فى الآخر
-هو انت عندك ايه يابنى.ده انت خاسس النص
-مش عارف.هما بيعملوالى تحاليل وبيدونى برشام
-برشام إيه؟
-يعنى ياخىّكنت حتعرفه لو قلت لك على اسمه؟آهو برشام والسلام
جبت له معايا كيس موز وكيس برتقان.قشرت له موزه وقلت له:
-كل عشان تتغذى
-جبت منين ده ياوله؟
-ماتخافش ويمين الله شاريه بفلوسى
-كلك واجب ياناموسه
-أنا وصيت عليك التومرجى وعطيته علبة سوبر عشان يخلى باله معاك
-تسلم لى ياصاحبى.فاكر ياوله لما كان بكر عاوز يعمل لى تصويره فىالجرنال عشان أبويا يشوفنى ويدور على؟
-مانت طلعت بقف ومارضتش
-وعلى كده اليومين دول مفيش حاجه فى دماغى غير أبويا.حاجه غريبة قوى.ليل ونهار بفكر فيه مش عارف ليه
-ولا انا
-حاسس انى محتاج له قوى وماخبيش عليك خفت اموت مايعرفوليش أهل يدفنونى
-ياراجل صلى عالنبى بكره تقوم زى الجن
-أنا عاهدت نفسى لو ربنا كرمنى وطلعت من هنا سليم أول حاجه حاعملها حانزل مصر ادور على ابويا وحاعرف ازاى أجيبه من تحت طقاطيق الأرض وساعتها اللى يعمله ربنا هو اللى يكون
-عين العقل ياصاحبى.بس حتعرفه ازاى وانت بتقول انك مش فاكر شكله ولا عارف عنوانه؟
-بقول لك حلاقيه.ربنا حيخلقهولى من تحت الأرض وبكره تشوف وتقول أورمه قال لى
-ولو لقيته يعنى حتعمل ايه يافالح؟
-والله ان رحب بى أعيش معاه واشتغل أى شغلانه
-واذا استعر منك؟
-قلبى بيقول لى غير كده.بيتهيألى أول ما يشوفنى حياخدنى فى حضنه ويعيشنى فى حمايته.أنا اتبهدلت قوى ياناموسه.المرض هو اللى فوقنى
-بس انت شد حيلك ولما تقوم بالسلامه يحلها ربنا.نسيت اقوللك الجماعه كلهم باعتين لك السلام وخصوصا ام الكنى وناويين يجولك كلهم بربطة المعلم
*****
بعد ما أورمه طلع م المستشفىسهرنا مع بعض فى عشة ديشه عالترعة.قلت له انا زعلان قوى على معلمى الحاج خليل قال لى ليه كفى الله الشر هو جرى له حاجه؟قلت له من يوم ما بكر سافر وهو راكبه الهم والغم ونفسه اتصدت عن الدنيا .
-ماتقلقش.بكره يروق لما ابنه يرجع م الغربة
-ابقى قابلنى لو رجع
-ليه هو ناوى يهاجر على طول؟
-والله أنا لو مكانه ماارجع مصر تانى
-ليه يعنى؟
-أصله شايف انه مالوش عيش هنا.بيقول ان البلد كلها وسخة
-وانت ايش عرفك انه قال كده؟
-ماتستعجبش.سرياقوسى ساعات بيفضفض معايا ، وعشان كده انا بحبه واخاف عليه. زى ماتقول كده انا واخده بدل ابويا، وبينى وبينك هو اجدع منه ميت مرة
-بس انا فاهم ان بكر طفش عشان شعبان افندى مارضيش يجوزه بنته
-الله يخرب بيت النسوان وبيت سنينهم ياشيخ
-بس يابتاع الباتعه.أم الكنى كانت هنا من شوية وبتقول عليك هجاص كبير
-ليه؟
-لأنك وعدتها انك تفسحها عالكورنيش وخليت بيها
-طب على النعمة لاكون مفسحكم انتوا وام الكنى فسحة تحلفوا بيها طول عمركم
-فسحة ايه المهببة دى.ده انت لميت مننا ييجى عشرين جنيه لحد دلوقت
-أصلى ناوى أوديكوا مطرح ألاجه قوى عالكورنيش مابيدخلوش غير اولاد الذوات
وكان ديشه لسه مادفعش علشان كده قال:
-اعفونى انا م المشوار ده
الجرنش اتغاظ منه وقال له:
-ليه كده ياديشه هو انت مش وش نعمة يا أخى؟
دخلت مراته وقدمت لنا الشاى.بعد ماطلعت قال:
-يابنى عيالى أولى بالقرشين اللى حاصرفهم على كلام فارغ
قلت له:
-براحتك ياصاحبى.بكره تندم.عالعموم نقطنا بسكاتك
سألنى الجرنش وهو بيستعجب:
-وتفتكر ياناموسه حيرضوا يدخلونا مطرح زى ده؟
-ليه هو انت فاكر نفسك حتدخل بالجونيه المعفنة اللى انت لابسها دى؟..كل واحد فينا لازم يلبس الحتة اللى عالحبل قبل ما نتحرك علشان يبقى منظرنا محترم قدام الناس.
أورمه استأذن عشان مسافر مصر يدور على ابوه ..وشمس سأل:
-طيب حناكل ايه هناك؟
-أنا رحت مرة مطعم محترم مع المعلم لقيتهم بيوزعوا ورق ملون مكتوب فيه كل الأكل اللى خلقه ربنا
-وبعدين
-كل واحد يقرا بمعرفته ويختار الأكل اللى على نفسه وعلى قد فلوسه
-وانا حاقرا ازاى ياحمار؟
-ياجدع بلاش قلق.أنا حخلى أى واحد م الزباين يقرا لك ورقتك
-الله!.وهى ورقتى غير ورقتك؟
-لامؤاخذه بقى دى ماعرفهاش لكن بيتهيألى والله أعلم ان الورق كله فورمه واحده
-نهايته .خليك ورا الكداب لحد باب الدار
الجرنش كان خايف ومقلقل ومش عارف يرسى على بر..قال لى:
-يابنى مابلاش حكاية المطعم دى.تعالوا نتمشى عالبحر ونضربوا شانتاوتشات فول وفلافل وخلاص
-يابنى آدم خلينا نفنطز يوم من نفسنا زى بقية الخلق والا هى يعنى المطاعم دى اتحللت لغيرنا واتحرمت علينا
-طاوعنى ياناموسه.احنا مش قد الطلعة دى
-ولا يهمك.أنا المسئول عن أى حاجه بطالة تحصل
-بس السهرة دى حيبقى ناقصها أورمه
-سيبه فى حاله ربنا يعينه
-ياترى حيلاقى ابوه والا حيرجع من مصر فشوش؟؟..
*****














بكر السرياقــوسى
لم أقل لأحد أننى كنت أتابع أبحاث الدكتور هاتس الألمانى فى المجلات الحديثة بمكتبة الكلية.كنت أرى فيه أملى المنشود ،فموضوعات بحثه تكاد تتطابق مع حلمى الكبير.والحق أننى لم أتخيل لحظة واحدة أنه سيأتى على يوم أقف فيه على باب المطار متأملا، ثم أخرج منه لأجد نفسى على أرض ألمانيا التى يعيش فيها هذا العالم الكبير.
قتلت شعورى بالغربة والاغتراب لحظة خروجى من باب المطار.رغم ذلك فقد دب فى قلبى شعور بالخوف العظيم الذى لم أشعر بمثله من قبل.
كانت الصدمة الأولى أننى لم أجد مصطفى.هاجر الى كندا منذ أسابيع قليلة سبقت وصولى تاركا ألمانيا الى الأبد.ربما يكون قد بعث الى خطابا بهذا الشأن ولكنى لم أتسلمه.عندما تلقيت هذا النبأ من أخيه فاروق،لست أدرى لماذا تذكرت فى هذه اللحظة قول الخيام:
غد بظهر الغيب واليوم لى..وكم يخيب الظن بالمقبل
مع أن المجال والزمن لايسمحان باجترار مثل هذه الرومانسيات الحالمة.قلت له بعد حوار غير مبشر:
-هل معقول ألا أجد عملا فى هذه المدينة بأسرها؟
-ماذا أعمل لك؟حظك نحس.جئت فى وقت غير مناسب.أنا لو مكانك أرجع الى مصر.لايوجد هنا تلوث.ألا تريد أن تصدقنى؟.هنا نظافة.هنا عمل وإتقان.هنا1+1=2 ولايمكن أن يكون غير ذلك.مدام عواطف لاوجود لها على الاطلاق.
أنا لم أعتد شعور الكراهية..لكن هذا البنى آدم كريه بكل المقاييس.
القلب قد أضناه عشق الجمال..والصدر قد ضاق بما لايقال
لو تركت نفسى على سجيتها لبكيت بدلا من الدموع دما على فراق بيت فردوس الذى تتكوم تلال من القمامة أمام بابه ،ولكن ما الحيلة وقد مات صلاح جاهين الذى كان يحلم بتماثيل رخام على الترعة وأوبرا ولم يتحقق حلمه حتى الآن.
-يابنى مصاريف الجامعة كبيرة عليك
-لذلك لابد أن أبحث عن عمل
-انت حر.لكن عليك بمغادرة الشقة الآن.. صديقتى مدام أولى قادمة
-الى أين أذهب فى هذه الساعة المتأخرة من الليل والدنيا صقيع؟.درجة الحرارة كما تعلم خمسة تحت الصفر
-هذا لايخصنى فى شىء.انها مشكلتك
-ألا يمكن أن أبقى فى الغرفة الثانية وأغلق على نفسى الباب؟
-لاياحبيبى.هذا لاينفع.أريد أن أكون على حريتى مع عشيقتى
*****
أيام سوداء قضيتها مع هذا الانسان البغيض الكاره لكل شىء فى هذه الحياة حتى نفسه.تعجبت كيف نزل من نفس البطن الذى نزل منها شقيقه مصطفى الانسان الجميل.
فوجئت يوما باختفاء شهادة البكالوريوس من بين أوراقى.سألته عنها.أجاب بقسوة وحشية:
-ماذا تقصد؟سرقتها؟بعتها؟قطعتها ورميتها فى الزبالة؟
-لم لاتعاملنى أحسن من ذلك؟نحن مصريين يا أخى إن لم نكن جيرانا فى مصر
-إنس مدام عواطف يا أستاذ.سبق أن قلت لك هذا مرارا.أنت فى ألمانيا ولست فى مصر
-أنا موافق.مدام عواطف ماتت.لكن أين شهادتى؟
-الشقة عندك.ابحث فى أى مكان شئت.أنا نازل الوردية
راسب ثانوية عامة.كان يمكن أن ينجح كإنسان رغم ذلك،لكنه يعيش الفشل والحقد.لايعرف ماذا يريد ولا يريد لأحد غيره أن يريد شيئا.
*****
جلسنا نأكل معا.كان نهمه للطعام حيوانيا مقززا.يشرب البيرة بشراهة غير عادية.كانت اللقمة تنزل فى جوفى بصعوبة ومرارة ،فلم أكن قد سددت له حتى اليوم نصيبى من السكن والمأكل.قال لى ساخرا:
-ألم تجد بعد عملا يادكتور الزبالة؟
-سأعمل حمالا بمحطة السكك الحديدية
-بالبكالوريوس!
-000
-طيب مع السلامه من غير مطرود.مدام "أولى" على وصول
قلت فى عفوية:
-يا أخى مدام "أولى" هذه فى عمر والدتك
صاح غاضبا بقسوة:
-وماشأنك وكيف تتدخل فى خصوصياتى؟..أنا حر يا أستاذ
-والى أين أذهب الآن فيما تعتقد؟
-عندك البار المجاور للمنزل
-بار فى عز الضهر؟..لاياسيدى.أنا لاأشرب الخمر
-هذه ليست مشكلتى .المهم أن تغادر المسكن الآن.
*****
وساخته فاقت الحد.قمامة زقاقنا أنظف من الخرابة المتعفنة فى قلبه بكثير.ما أن تقاضيت أول راتب من عملى الجديد حتى بادرنى بالقول:
-يجب أن تعلم أن راتبك كله من حقى حتى تسدد كل ما عليك
-ياساتر يارب
-الرب لاشأن له بذلك.أجرة السكن والأكل والمياه والنور وخلافه لاعلاقة لها بالله
-رفقا يا أخى فنحن مسلمين..لم هذا الجفاء كله؟
-خلاص ياحبيبى.المسلمين والعرب راحت عليهم بعد11سبتمبر.ألم تشاهد الأخبار فى التلفزيون؟.ألم تسمع بوش وهو يتحدث عن الحرب الصليبية الجديدة؟
-سمعت،لكنه عاد واعتذر عن سقطة لسانه
-اعتذاره لم يمنع الناس من التهجم على بيوت المسلمين والمسلمات والمساجد فى أمريكا وأوروبا
-ربما يكون رد فعل سريعا ثم تصفو النفوس بعد وقت
-على فكرة.لاتستبعد أن يقبضوا عليك يوما بتهمة الاشتباه ويسجنونك دون تحقيق طبقا للقوانين الأمنية الجديدة
-لماذا؟
-لسبب بسيط.أنظر الى نفسك فى المرآة.وجهك أسود.شعرك مجعد.أنفك فطساء.لهجتك واضحة كالشمس.
-أنا لن أضع نفسى ولو لمرة واحدة موضع الشبهات ولكنك تتلذذ باستفزازى
-هذا طبعى،ولك أن تقبله وتتعايش معه أو تغادر بيتى
*****
أعطيته كل مامعى من مال لقاء اعطائى شهادة البكالوريوس الأصلية التى اعترف بلا حياء أنه أخفاها كرهينة لعلمه بأهميتها للتقدم الى أى جامعة ألمانية.قال لى بلا مقدمات:
-مع السلامه بقى.نشوف وشك بخير
-مدام "أولى"؟
-لاأولى ولاتانيه.أولى لن تأتى بعد اليوم..أنت الذى ستمشى
-الى أين؟
-الى أى مكان غير بيتى.بصراحة أنا لم أعد أطيقك
-وأنا بصراحة أكثر،لم أكن أتصور أبدا أن يوجد بهذه الدنيا مخلوقا على شاكلتك.
*****
كان أبى فى شبابه يشرب الخمر وإن كان يجتهد بشدة فى إخفاء ذلك عن أبنائه.يوم وقعت على هذا الاكتشاف بمحض صدفة تحيرت كثيرا فى أمر هذا الرجل الذى أحبه حبا شديدا وأرى فيه مثلى الأعلى.كيف يربينا على القيم الجميلة ويغرس الدين فى قلوبنا وعقولنا،ويصحبنا معه الى المسجد بين الحين والآخر،ثم أراه يشرب الخمر بعينى مع صديق عمره الخواجه أليكو؟..
كنت أعرف مما علمنى منذ صباى أن رسول الله قد لعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة اليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها،فكيف يضع نفسه موضع المعصية التى تخلو من ثغرة للتبرئة..حزنت كثيرا عليه لأننى أردت أن يحبه الله كما أحببته أنا الآخر.
حين طردنى فاروق من بيته انبعث هذا الماضى فى ذاكرتى،ودفعنى اليأس القاتل والضياع المهين والخوف من المجهول الىالبار المجاور لبيت فاروق.كان صاحبه يونانيا اسمه ميخالى.لم أكن أدرى ان كنت أنشد فى الخمر شيئا من الغيبوبة يخفف عنى ألم الحقد والكراهية الذى عانيت منه على يد هذا الانسان غير الجدير بالانسانية،أم بدافع التجرؤ على مواجهة مستقبل مظلم لا أعرف عنه شيئا.
كنت أشرب وميخالى يرقبنى فى فضول عن بعد.ما الذى حول فاروق الى وحش قتلت الغربة آدميته؟.اننى-رغم قسوته التى لاحد لها-أكاد أشفق عليه.لقد فقد فى غربته الانتماء الى جذوره المصرية الأولى،كما عجز عن الانتماء بقلبه وروحه الى الجذور الألمانية،فهو يكره الألمان كراهية شديدة رغم أنه يتعامل معهم-كما لو كان مضطرا- باحترام وتأدب مغلفين بنفاق ممجوج.ماذا كنت أنتظر إذن من انسان بلا هوية ولاهدف ولا أمل؟..
قال لى ميخالى بانجليزية بسيطة بعد أن عرف أننى مصرى:
-يبدو أنك تشرب الخمر للمرة الأولى
-هذا صحيح،لكن كيف عرفت؟
-لى نظرة فى زبائنى..لكن يبدو أنك شديد الحزن والخوف معا يامستر..
-بكر
-اسمع يابكر.صارحنى بأزمتك ولو كان باستطاعتى العون سأفعل.وان لم يكن فليعنك الرب
وحكيت له ماحدث الى أن أصبحت شريدا بلا مأوى،فسحب الكأس من يدى المرتعشة وقال لى:
-اشرب عصير برتقال من الأفضل
أرشدنى الى ملجأ اسمه"الهايم"ينام فيه الشاردون من الهند والباكستان والمغرب ومعظمهم هاربون من البوليس لأنهم لايحملون ترخيص الإقامة.أوصلنى بعربته الى هناك ولفت نظرى الى اننى سأنام على الأرض .واذا دفعت لهم قليلا من المال يمكننى ان أنام على مرتبة متواضعة على الأرض أيضا.علمت منه أن هذا العنبر خال من التدفئة وأن درجة الحرارة غالبا فى حدود الصفر.فى هذه اللحظة راودتنى فكرة العودة الى الوطن،لكن العناد ركبنى والتحدى ثبتنى فدخلت،وبين حثالة من جنسيات العالم المختلفة تعايشت وتحملت وصبرت.
كنت أذهب الى محطة السكة الحديد فى الصباح وعظمى متكسر فأحمل الحقائب والبضائع وجسمى يشكو وقلبى يئن وروحى تنزف،أما إرادتى فكانت فوق الضعف والانهزام.قال لى ميخالى:
-مادام هناك هدف أمامك فلا مفر من دفع الضريبة
كان منطقه واضحا وتفكيره مرتبا.لامفر من قيام شركات كبرى بتنظيف المدن،وهذا لابد من حدوثه يوما ما.لاتفكر كثيرا فى الزبالين الذين تتعاطف معهم فلن تستطيع أن تفعل لهم شيئا مالم تفعل شيئا لنفسك أولا.
الخطوة الأولى أن تقتصد من راتبك مبلغا يكفى للالتحاق بمعهد رخيص أدلك عليه يعلمك الألمانية.الخطوة التالية أن تلتحق بالجامعة لتبدأ الدراسة.بدون إجادة الألمانية لن تنجح فى شىء.
ولم أجد شيئا أفعله أفضل مما قال.
*****
فى مطعم صغير جلست أنتظر وصول الطعام الذى طلبته.كان النادل أسمر الوجه ذا ملامح عربية.جاء الى حاملا صينية عليها بعض الساندوتشات مغلفة فى كيس من البلاستيك.كان ينظر حوله فى قلق شديد كما لو كان أحد يطارده.قلت له فى دهشة:
-أنا لم أطلب ساندوتشات
-عارف ياخوى.خذهم وروّح دلوقت على طول يعطيك العافية وما تسأل كتير
-هو فيه ايه؟
-البوليس بيعفق فى الأجانب الشرقيين،وأنا أعمل فى هذا المطعم منذ خمس سنين ومع ذلك قبضوا على واستجوبونى ولم يسرحونى قبل أسبوع
-انت عملت ايه؟
-ماعملت شىْء.كل المشكلة انى عربى ومسلم،وكلمة عربى عندهم دلوقت بقى معناها إرهابى
-ولكننا فى ألمانيا ولسنا فى أمريكا
-وما الفرق بين أمريكا وألمانيا وفرنسا؟لو بدّك تفهم الحقيقة انتظرنى لما نحرر فلسطين ونتقابل بعدها وأعطيك محاضرة فى صراع الحضارات
*****
قال لى ميخالى تعقيبا على ماحدث:
-حظك سىء.جئت الى ألمانيا فى ظروف صعبة جدا.المهم ماهى أخبارك؟
-الحمد لله.ماشى فى اللغة وقدمت أوراقى فى جامعة جيسن وقبلونى
-برافو بكر
-لم يبق الا مكان المبيت.الهايم ملىء بالبلطجية والمجرمين.طول الليل سكر وقمار وضرب وخناق.
-لاتقلق.عندى لك مفاجأة ستجعلك تطير من الفرح
*****





فردوس شعبـان
كان لابد من العثور على حل ينقذ وجودى من الضياع.سافر بكر الى المجهول وتركنى وحدى أعانى من جريمة أبى التى لاتغتفر،ومن أعراف مجتمع ذكورى يتلذذ بالتحكم فى المرأة وتوجيهها وفق مشيئته دون اعتبار لكيانها الانسانى.
بعد جهد جهيد فى تصفح الانترنت والجرائد ،عثرت بمعجزة فى زمن البطالة المتفشية بين الشباب على عمل بإحدى الشركات الاستثمارية الأمريكية.عقدوا لى امتحانا شفاهيا وآخر تحريريا فحزت على الصلاحية المطلوبة بجدارة وتقرر لى راتب جيد- بالدولار- لم أكن أحلم به.ذهل أبى للزمن القياسى الذى حققت فيه هذا النجاح بمفردى ودون تفضل منه أو لجوء اليه.غير أن فرحة غامرة قد شابت هذا الذهول عندما علم بمسألة الدولارات.رأيت لعابه يسيل أمام الرقم،وعينيه توحيان بأن راتبى سيكون رهن اشارته وضمن ممتلكاته،بل اننى شممت رائحة الحسد فى الزفير المنبعث من كلماته وكأننى خصم منافس.
ومن خلال الانترنت أيضا داومت على الاتصال بزميلتى وصديقتى سلوى التى تزوجت من حبيبها حازم بمجرد التخرج وسافرت معه الى أمريكا.والد سلوى كان عاملا بسيطا فى احدى الشركات الحكومية،أما حازم فقد ولد فى أمريكا وعاش طفولته هناك قبل أن تعود أسرته الى مصر منذ سنوات فى زيارة عابرة للأهل والأقارب والأصدقاء فكان النصيب.
أفقدنى أبى الانتماء الى بيتى وأسرتى ووطنى وصار انتمائى وولائى منصبين على عملى فقط.لم أكن راضية عن ذلك ولكنى لم أجد البديل إذ تم إلغاء إرادتى ومعها وجودى بأكمله لمجرد أن قال أبى "لا"فى أمر مصيرى لايخص ولايعنى أحدا سواى.
من خلال تعامل الشركة مع جهات مصرية متعددة لمست بيدى صنوف الفساد المستشرى فى البلاد.كل تعامل مشروع أو غير مشروع له ثمن يقبضه كبار الموظفين المتربعين على المقاعد التنفيذية المسئولة.كأن الناس فى بلدى يعملون لأنفسهم فقط ابتداء من أبى وانتهاء بالرؤوس الكبيرة التىتدير شئون البلد.ما أقرأه فى جرائد المعارضة والجرائد المستقلة عن هذا الفساد لايعبر الا عما انكشف منه،أما الذى خفى واستتر فهو أعظم .
تحكى لى سلوى عن حياتها فى أمريكا.تقول انها تتمتع بالحرية فى كل شىء،وأن سبل الحياة ميسرة وفرص العمل متعددة،وأن الانسان معزز مكرم مهما كانت جنسيته مادام يسلك سلوكا جيدا ولا يخالف قوانين البلاد.قالت لى ان ماحدث بعد11سبتمبر من تحول فى مشاعر الأمريكان تجاه العرب والمسلمين و شعوب الشرق الأوسط بوجه عام،كان أمرا طبيعيا مهما بالغت فى تقديره المجموعة الأمريكية الحاكمة،ولابد أنه سيأخذ وقته ويروح.
أحكى لها عن مأساتى التى لم ينتشلنى منها الا العمل الذى –رغم جهدى فى البحث عنه-أرى أنه هبط على رحمة من السماء من حيث لاأدرى ولا أحتسب،وكأن الله يعوضنى عما لحق بى من ظلم وتجاهل.تقول لى ببساطة شديدة من خلال حوارنا عبر برنامج الياهو مسنجر،حيث نتحدث بينما ترى كل منا صورة الأخرى من خلال الكاميرا المتصلة بالكمبيوتر:
-لماذا لاتأتى هنا ولو فى زيارة سريعه؟
لقد حول سؤالها البسيط مجرى حياتى دون أن تدرى،حين سألت نفسى سؤالا آخر:
-بل لماذا لاأهاجر وأعيش هناك؟!
أنا أدرك الصعوبة المتناهية فى الإجابة عن هذا التساؤل الذى سكن خاطرى بسرعة البرق.كيف أسافر وحدى بلا رجل وأنا فتاة مسلمة غير متزوجة؟هل سيسمح أبى بذلك ويوقع على أوراقى بالموافقة؟..هل تقبل أعرافنا التقليدية أن يحدث ذلك؟..كيف ستكون حال أمى عندما تسمع بخبر كهذا؟..انه خبر بمثابة كارثة فى عرف الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران.
ظل السؤال عالقا بالذاكرة يذهب معها أينما ذهبت،كما ظلت الإجابة معلقة حتى التقيت بممدوح،رئيسى فى العمل.
*****
تعمقت جذور الكراهية بينى وبين أبى حين فوجىء بأننى أضع معظم مدخراتى فى البنك ولا أعطيه شيئا من راتبى كما كان ينتظر، بل كما صرح بوضوح بغير حياء.كان يعترض بشدة على تأخرى فى العمل حتى العاشرة مساء فى بعض الأحيان، حيث أعود فى عربة ممدوح الذى يوصلنى الى البيت قبل أن يواصل طريقه الى بيته.فيما يختص بالمدخرات احتلت عليه بأننى سأوفر له آلاف الجنيهات التى كان سينفقها على جهازى حين أتزوج،أما فيما يختص بممدوح فلم يلق مدخلى اليه أدنى قبول.ذلك أنه كان ينتظر منى أن أقول له ان ممدوح سيتقدم لخطبتى ولكنه فوجىء بى أقول له:
-انه صديقى
-نعم؟!!..صديقك؟.فاكره نفسك فى أمريكا يااختى؟
توصلت الى الحل الفورى بشراء عربة جديدة وبذلك أصبحت لقاءاتى بممدوح خارجة عن دائرة علمه تماما،كما اتسعت دائرة حريتى فأصبحت قادرة على أن أذهب الى أى مكان وقتما أريد.كنت أشعر بلذة جنونية وأنا أغتصب منه حريتى .
-ولماذا لايتقدم لك؟
-لأننى لاأرغب حاليا فى الزواج
كل يوم يزداد تفسخ العلاقة بينى وبينه،بينما تزداد روابط الألفة والمودة مع ممدوح،حتى أصبحت أرغب فيه بشدة طاغية.
لم أتوقف طويلا أمام دهشتى من نسيان بكر الذى كان يسكن قلبى ويتربع على عرشه،وتحولى الى رجل آخر بهذه السرعة.دراستى للأرقام علمتنى أنه لاثوابت فى هذه الحياة.اندفاعى نحو ممدوح كان يثير تعجبى فى البداية ولكنى اعتدته واستمرأته وأحببته.ممدوح يختلف عن بكر تماما.هو نموذج للشاب المعاصر الذى يجمع بين كل المغريات.علم.أخلاق.ثقافة.ثراء.خفة ظل.قدرة غير عادية على التعامل بنجاح مع مختلف صنوف البشر من أفاضل وأوغاد.يتمتع ببساطة وتلقائية فى معالجة الأمور.نظرته الى الدنيا تفيض بالتفاؤل والحب والبهجة والانظلاق.عاشق للمتعة والمرح لايعرف الصرامة بقدر مايعرف الدبلوماسية والنعومة.ثقته بنفسه لايعتورها الشك ولو للحظة واحدة.احتوانى فى صدره وقلبه بمشاعره الجياشة وعواطفه المتدفقة وحنانه الآسر.
لم يشر لى من قريب أو بعيد الى رغبة منه فى الارتباط بى.كنت سعيدة بذلك لأننى كنت أشعر بالمزيد من الحرية فى علاقتى به من جهة،وبحياتى الخاصة التى خلقتها لنفسى بنفسى بلا تسلط من أحد من جهة أخرى.تحررت من القهر والقمع والحرمان فى شخصه فأصبحت كائنا مختلفا عما قدر لى قومى أن أكون..أصبحت كائنا تستعبده الحرية!
أسلمت له نفسى –بكامل ارادتى-لأزداد استمتاعا بحريتى المشتهاه.كان حرصه على عذريتى شديدا،ولأول مرة أرى فى عينيه نظرة الرجل الشرقى الصميم.قلت له فى ذهول:
-لكنى أحبك وأريدك
-بل انك منبهرة بى،وربما تشتهينى لذلك،فطبيعتى وتكوينى ونشأتى كلها أمور أجدها تستهويك بقوة
-هل تحبنى؟
-انى شديد الاعجاب بشخصك لدرجة لم تحدث لى مع غيرك ممن عرفت من قبل.أما الحب فشىء آخر
كانت هزيمتى أمامه مريرة حتى أننى تمنيت الموت على ألا أراه أمامى مرة أخرى.تجربة حقيرة بعت فيها نفسى برخص التراب ولم أجد المشترى..ومرة أخرى ينبعث بكر فى خاطرى فأراه مازال مستبدا بقلبى،فهو ابن حارتى وطبيعته من طبيعتى ونشأته من نشأتى وجذورنا تضرب معا فى أرض أبناء البلد البسطاء ، لا أبناء الأثرياء الذين اعتادت الدنيا على خدمتهم والانصياع لرغباتهم وأمنياتهم.
عندما أفقت لنفسى حمدت الله كثيرا وأكبرت فى ممدوح شهامته ورجولته وحرصه على مستقبلى.احترمت صدقه الشديد معى ومع نفسه ولكنى لم أعد أحتمل رؤيته،مثلما لم أعد أحتمل رؤية أبى هو الآخر.
لم أعد أطيق الحياة بلا بكر الذى تركنى وهرب،بل ان الأرض كلها ضاقت بى وضقت بها..فاتخذت قرارى اليائس الجرىء بلا خوف أو تردد.
*****






















المقــــلب
يسكننى جن طيب مسلم لايؤذى الإنس..يحب الزبالين ويحكى لى عما يفعلونه بعيدا عنى.كنا نتسامر ذات ليلة فحكى لى عن رحلة أورمه بحثا عن أبيه:
أمام فيلا تشبه القصر ، محاطة بحديقة واسعة فى منطقة المعادى يحرسها شاب قوى يرتدى زيا مميزا ، وقف أورمه مذهولا يحدث نفسه:
-ياخلق الله!.معقوله أبويا ساكن فى المطرح ده ياجدعان؟!..
كلت قدماه فى أحياء القاهرة حتى اهتدى الى مقصده بدأب رهيب.عاد يحدث نفسه:
-معقولة يسيب ابنه ينام مع الحمير والفيران والكلاب وسط الزبالة وهو ينام هنا؟
اشتبه فيه الحارس لحيرته وتواضع مظهره حين رآه يحوم حول المكان.سأله فى احتقار:
-عاوز ايه ياجدع انت؟بتعمل ايه هنا؟
-هى دى فيلا المعلم خيشه..قصدى خيشه بيه
-أيوه هى..عاوز ايه؟
-عاوز اقابله ضرورى
-انت اتهفيت فى نافوخك يابنى آدم؟عاوز تقابله ليه بقى ان شاء الله؟
-سايق عليك النبى ماتتعبنيش.أنا رجلى حفيت فى مصر كلها عقبال ما عترت عالعلوان .
-أفهم الأول. عاوزه ليه؟
-ياريتنى كنت أقدر أقول لك
خاطبه بامتهان وهو يدفعه من ظهره:
-طيب يلا بقى اتوكل..ورينا عرض اكتافك
فى لمح البصر أعمل أورمه حيلته فى دهاء فطرى.قال بجدية شديدة وبنبرة تحذيرية تحمل فى طياتها شيئا من التهديد:
-إسمع.أنا أحملك المسئولية.فيه ناس عاملين عالباشا كومبينه وناويين يخلصوا عليه الليله دى.وأنا بس اللى عارف سرهم ولازم ألحقه عشان يهرب م الفيلا دلوقت حالا
فزع الشاب وقد وقع عن جدارة فى كمين أورمه:
-يانهار أبوك مهبب..منين جبت الكلام ده؟
متدللا ، بعد أن نجحت مكيدته وأصبح فى مركز قوة ، قال أورمه بحزم وعناد:
-مش شغلك
-طيب انت مين وبتشتغل ايه؟
فكر أورمه قليلا.قرر أن يرفع من شأن مهنته:
-باشتغل ايه؟..باشتغل فراز
-فراز إيه؟..قطن؟
-لأ..حاجه تانيه
-حاجة ايه فهمنى
أتقن أورمه تمثيل دور من نفد صبره فأشاح بيده مبتعدا عن الحارس:
-يوه..انت متعب قوى.أنا ماشى وانت حر انت وهو..مالك انت انا مين وباشتغل ايه.سلام عليكم
جرى الشاب وراءه متوسلا:
-استنى بس ماتبقاش حمقى وخلقك ضيق كده
وصل أورمه الى هدفه.دخل الشاب الى كابينة صغيرة بها تليفون.رفع السماعة معطيا ظهره لأورمه وتحدث بصوت خفيض حتى لايسمعه،لكن عينيه لم تغفلا عن رقابته خشية أن ينصرف.
*****
وسط صالة كبيرة مليئة بالنجف والأثاث الفاخر ، يجلس أورمه على أحد المقاعد الوثيرة دون أن يجرؤ على الاستناد الى المقعد بظهره.ينظر من حوله وأعلاه متأملا مظاهر العز والفخفخة فى ذهول.
على سلم دائرى من خلفه ينزل رجل تجاوز الخمسين من العمر مرتديا ثوبا مزركشا لاتناسق بين أجزائه وألوانه على الإطلاق.ينظر الرجل الى أورمه فى قلق وازدراء.ينظر أورمه الى أبيه الذى حرم منه منذ طفولته بعينين على وشك البكاء وينتابه شعور بالخوف وعدم التصديق..لابد أن الحكاية مجرد تشابه فى الأسماء.
ما أن يقترب منه الرجل حتى ينتفض واقفا فى أدب بل فى ذعر.يبادره الرجل بخشونة:
-ايه ياوله الكلام الكبير اللى بتقوله ده؟
اختلط ذكاؤه بخفة ظله بلعثمته وهو يقول:
-هو أنا لسه قلت حاجه ياباشا؟
-ألله!انت مش قلت لبتاع الأمن ان فيه ناس عاوزين يموتونى؟
بمنتهى الثبات أجاب:
-ماحصلش ياباشا
ينظر اليه الرجل متأملا متفحصا مستريبا وكأن هناك سرا غامضا يربطه به..
-انت اسمك ايه ياوله؟
-اسمى أورمه ياسعادة الباشا
ينفجر المعلم خيشه فى الضحك من طبيعة الإسم الذى ينتمى الى فصيلة اسمه هو الآخر، ثم يتوقف فجأة كمن تذكر شيئا خطيرا:
-بتقول ايه؟
-أورمه
-وبتشتغل ايه يا أورمه
-زبال ياباشا
-يعنى الكلام اللى قلته بره كله فى الكليتشه؟
-تمام يامعلم
ثم متداركا:
-لامؤاخذه تمام ياباشا..كله كلام مضروب
ابتسم المعلم ودعا أورمه للجلوس وقد بدت على وجهه علامات ارتياح غامضة ،وعلى عينيه شرود عميق.
-أقعد يا أورمه
-حاضر ياباشا
جلس مستجيبا فى سرعة البرق.
-قل لى بقى ايه اللى خلاك تقول البقّين دول للراجل بتاع الأمن؟
-علشان يدخّلنى ياباشا
-واديك دخلت.قل لى بقى عاوز ايه؟
-أنا حاقول والله.بس سايق عليك النبى تسمعنى للآخر
-قل وانا سامعك
-مش كان عندك زمان إبن اسمه حامد؟
فزع خيشه من الصدمة فسأله بعنف:
-وانت ايش عرفك بالكلام ده ياوله؟
-ورحمة اللى ميت لك قل لى الحقيقة
-أيوه كان عندى..وبعدين..هاه
-وطبعا سعادتك بقالك زمان ماشفتوش
بقلق شديد وبلهفة أشد قال خيشه:
-هات م الآخر..انت تعرفه؟
-عز المعرفة ياصاحبى..ياباشا ولامؤاخذه
داعبته غريزة الأبوة:
-هو فين؟..هو اللى بعتك هنا ؟؟
-هو فى اسكندرية وبيدور عليك من زمان بس خايف يجيلك ألا تكسر بخاطره وتتبرى منه.
شرد المعلم قليلا.نكس رأسه مابين يديه فى انهزام الى الأرض.فكر بعمق.نظر مليا الى أورمه:
-هو اللى قال لك كده؟
-أيوه ياسعادة الباشا هو اللى قال لى
ثم بمزيد من اللهفة:
-وقال لك ايه تانى؟
لاحظ أورمه-بفطرته-التطور النفسى الذى حدث لأبيه ففاجأه:
-أنا جعان ياباشا.من صباحة ربنا وانا على لحم بطنى.آكل الأول وبعدين أتكلم
أرسل خيشه أحد خدمه لإحضار عشاء.سأله أورمه فى خبث طفولى:
-ماتآخذنيش ياسعادة الباشا..انت باشا والا معلم؟
وقد بدأ يأنس اليه بالغريزة:
-لأ.معلم.بس أجدع من ميت باشا.قل لى بقى ايه الحكاية..وهو ليه ماجاش معاك مصر؟
-من يوم ماسقط فى الامتحان وطفش م البيت وهو مابيفارقنيش.انت عارف الشيخ سيد مكاوى وهو بيقول:
أنا وحبيبى روحين فى زكيبه/يتعجبوا منا الحبيبه
راح يقلد الشيخ سيد مكررا المقطع عدة مرات،بينما خيشه ينظر اليه فى تعجب ودهشة ممزوجتين بشىء من الشعور بالسعادة.
-بس..هو انت ناوى تكمل الأغنيه والا ايه؟
-لايامعلم أنا بس عاوز أوريلك قد ايه احنا الاتنين واحد.بس بدل الزكيبه حنقول جونيه
-وايه الجونيه دى بقى؟
-الشوال اللى بننام بيه ونقوم بيه
بعد صمت عميق قال بعينين حزينتين ونبرات تقطر ندما:
-اسمع يا أورمه.أنا حابعت معاك عربيه بسواق.تعرف تجيب حامد معاك وتيجى؟
-طبعا يامعلم.مادام عطيتنى الأمان أوعدك
أخرج من جيبه بعض الأوراق المالية ودسها فى يده.
-خد دول معاك عشان تروّش نفسك فى السكة
لهفها من يده بسرعة جهنمية.
-ربنا يعمر بيتك يامعلم..أمال فين الأكل؟
وجاء الخادم بالعشاء.
*****
العربة تنهب الطريق الصحراوى ، وأورمه جالس بجوار السائق وقد انتهى من روايته.شد السائق فرامل العربة فجأة وهو يصيح فى وجهه:
-الله يخرب بيتك.ليه ماقلتش الكلام ده من بدرى، ده احنا قطعنا ييجى ستين كيلو
-والنبى ياعم الأوسطى ساعدنى اعمل معروف.أنا مش عارف اتصرف ازاى.أبوس إيدك
صرخ الرجل فى ذهول وهو ينظر الى أورمه فى زيه المتواضع وهيئته البائسة:
-سبحان الله..بقى انت تبقى ابن المعلم خيشه؟!
-طيب ويمين المصطفى أنا ابنه
-أمال مانطقتش ليه وانت قاعد قدامه؟
قال ببراءة صارخة:
-ماقدرتش ياعم.خفت.أصل أنا نفسى ماكنتش مصدق انه أبويا.اشمعنى هو كان حيصدق انى ابنه؟
-لاحول ولا قوة الا بالله
دار السائق بالعربة حول أقرب جزيرة عائدا الى القاهرة.سأله أورمه فى تلهف:
-احنا رايحين على فين دلوقت؟
-راجعين ياخفيف
-وحتقول له ايه ياعم الأوسطى؟
أجابه فى حيرة لم تستطع قهر تعاطفه معه:
-يابنى اعمل معروف ماتدخلنيش فى موضوع معقرب زى ده ممكن يتسبب فى قطع عيشى.
قال أورمه متوجسا:
-آه يبقى انت حاسس انه حينكرنى
-مش القصد.بس يمكن هو مايحبش ان حد يطلع على سر زى ده
-طيب فكرك حيعمل ايه لما يعرف الحقيقة؟
-هو من ناحية الجدعنة جدع قوى،وبعدين يابنى ده انت لحمه ودمه،ازاى ينكرك؟!
-اللى خلاه نسانى العمر ده كله،ايه اللى حيخليه يفتكرنى دلوقت بعد ماربنا فتح عليه من وسع.
قال السائق فى شهامة وبتلقائية:
-بقولك ايه..أنا حقول له ، ورزقى ورزقك على الله
*****





















أكرم الدقـــاق
هناك نغمة إحباط تسود المجتمع.الناس يائسة من كل شىء.حكومات فاشلة.فساد يستشرى فى أجهزة الدولة.غلاء شديد.حريات مكبوتة.لاكرامة لمواطن فى قسم شرطة أو مستشفى حكومى.خيوط الثقة تقطعت بين الجميع ، بحيث صار كل يتوقع الشر من الآخر أو يتربص به أو يحاول استغلاله لتحقيق منفعته العاجلة..وسط هذا الظلام الحالك أرى فى الدكتوره ساميه المحجوب شعاع نور يضفى الأمل على الحياة.هذه السيدة تقتطع الكثير من وقتها الثمين للخدمة العامة، وكأنها وقعت معى أنا وبكر اتفاقا تضامنيا تطوعيا للنهوض بمجتمعنا الصغير.كل ماقدمته لجمعيتنا من خدمات كان بلا مقابل.بل انها تطوعت بإعطاء محاضرات لشباب الحى تعلمهم كيف يحافظون على نظافة بيئتهم وتشرح لهم معنى التلوث بشتى أنواعه،ولقد وجدت استجابة رائعة من الشباب الذين بدوا متعطشين الى الاستماع لمن يرشدهم الى أى شىء صحيح.
ما أن بدأ المشروع يخطو خطواته الأولى الى النور حتى ظهرت فى الأفق شركات جديدة للنظافة وكلها تحمل أسماء أجنبية،وكأنما يستنكر أصحابها علينا النجاح،بينما التربح دافعهم الوحيد الى اقتحام هذا المجال..وقد ألبسوا عمالهم أزياء مميزة ذات ألوان فاقعة،مكتوب على ظهورها أسماء شركاتهم.
أصابنى القلق حتى خيل الى أن هناك مؤامرة نسجت خيوطها فى غرف الحكم المحلى بين هؤلاء وموظفى المحافظة..وسألت الدكتوره ساميه:
-هل لديك معلومات عن شركة النظافة الجديدة"أليكسو كلين"؟
-سمعت أنهم مجموعة من اللواءات ووكلاء الوزارة السابقين أسسوا هذه الشركة ومن الواضح أنهم يفتقدون الخبرة فى مسألة نظافة الأحياء
-لكنهم حصلوا فى زمن قياسى على ترخيص من الحكم المحلى
-المحافظة لاتمانع فى قيام أى نشاط للنظافة مادام له شكل قانونى،وأنت تعلم ان اتصالات هؤلاء الناس بأولى الأمر متشعبة بحكم مناصبهم السابقة
-الملاحظ أن نشاطهم يكاد ينحصر فى كنس شارع الكورنيش والشوارع الرئيسية فقط
-احمد ربنا انهم لايحصلون شيئا من الأهالى
-ومن الذى يدفع لهم؟
-الحكم المحلى طبعا
تخبط وارتباك ومحسوبية وظلم وفوضى!!..إذا كانت المحافظة نفسها تساهم فى هذا العبث فالعوض على الله.لقد كشف لى احتكاكى الدائم بالمحافظة عن أسرار تدعو الى القرف،أفشى بها الى موظف صغير كان يتعاون معى و يسهل لى أمورى.قال ان المورد الذى تعاقدت معه المحافظة على توريد وتركيب صناديق قمامة الطريق المعلقة فى أعمدة النور،تقاضى عن كل صندوق من هذه الصناديق الصغيرة مبلغا طائلا،وإن المبالغ التى أنفقت على صيانة عربات البلديةالمستوردة بلغت أرقاما خرافية ورغم ذلك فمعظم العربات معطلة.أما عن بند استهلاك المكانس والمقشات وأدوات النظافة الأخرى فقد كانت مرونته تسمح بشراء مقشات يكفى نصفها لكنس مدينتى الاسكندرية والقاهرة معا،لكنها تستهلك للأسف بعد عدة أيام من شرائها ويتم شراء مكانس وأدوات جديدة بدلا منها.
أستمع الى هذا وأتعجب ، فالكثير من الشوارع والحوارى مازالت تعج بالقمامة ولاتجد من يرفعها..تذكرت بكر وحسرته على ترك الشعب لهؤلاء الناس يمتصون دمه وهو لايحرك ساكنا.انتابتنى فورة حماس مفاجئة لأى فعل مضاد أنفس به عن غضبى.كتبت رسالة الى رئيس الوزراء أثبت له فيها أننا نلقى الى البحر بمالايقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه يوميا ورويت له قصة المعدات الفاسدة بتفاصيلها.
بعد أن انتهيت من كتابة المذكرة كان لابد أن أوقع عليها حتى يمكن الرجوع الى لمساءلتى ولتقديم براهينى.عند هذه اللحظة توقفت طويلا وفكرت طويلا.لكنى لم أوقع.ألقيت بالرسالة كما هى فى صندوق البريد على عنوان مجلس الوزراء، وفى الليل لم أنم دقيقة واحدة.
*****
فى الصباح توقفت عند قراءتى الجريدة على صفحة الحوادث حيث نشر خبر تفصيلى نقلا عن جريدة أجنبية، يقول بأن هناك حكما قد صدر ضد احدى الشركات الأمريكية التى شاركت فى تنفيذ مشروع الصرف الصحى لمدينة الاسكندرية بعد إدانتها بالتلاعب والرشوة،وأن الغرامة المقررة فى الحكم بلغت مائة مليون دولار.وقد ورد فى هذا الخبر أسماء بعض المسئولين فى المحافظة ممن تواطئوا مع هذه الشركة..وقالت الدكتوره ساميه ان مشروعات الصرف الصحى التى نفذتها الشركات الأمريكية فى الاسكندرية ومعها بعض الشركات المصرية من الباطن قد استغرقت مايقرب من ثمانى سنوات،وان جانبا كبيرا من المعونة صرف على شركات دراسة الجدوى الأمريكية،وجانبا كبيرا آخر صرف على الرشاوى والعمولات التى تورطت فيها الشركات الأمريكية والمصرية.
مازلت أتعجب لتقاعس حكامناعن رفض معونة الذل الأمريكية التى لانستفيد من معظمها شيئا،فضلا عن شعورنا بالتبعية المهينة التى نضطر اليها سمعا وطاعة.
ومن العجيب أيضا أن يكون لشعبان الشريف نصيب من معونة أمريكية أخرى تقدم لجمعية تنمية المجتمع المحلى ضمن معونات دولية أخرى.
فى المساء جاءنى المعلم سعيد صاحب المقهى.كنت على وشك مغادرة الجمعية حين اصطحبنى الى مقهاه وطلب منى أن أرشح نفسى لانتخابات الجمعية المقبلة لأن الحى كله يرغب فى التخلص من شعبان بعد أن فاحت رائحته من سرقة المعونات وتسجيل إنفاقها فى بنود ورقية وهمية.
*****
ثارت ثائرة أمين الحناوى على جميع العاملين بإدارة البيئة.كان الأستاذ حنفى أكثرهم خوفا وانزعاجا وبدا كالقنفذ المتكور حول نفسه.لم يخطر ببال السناوى أننى كاتب المذكرة،وأنا لم أذع سرى على مخلوق.كان من الواضح أنه تعرض لمساءلة بالفعل وأن مركزه بالشركة بات مهددا.
بفعل نصف إيجابى واحد إذن يمكن تحريك الأمور ولكن هل من مجيب؟..تعلل أمين السناوى بأسباب واهية فوقع جزاءات وأوقف ترقيات وهدد بالفصل،لكنه لم يهتد الى الفاعل المجهول.
مرت أسابيع قليلة على هذه الواقعة التى كانت حديث الشركة ،ورويدا رويدا تضاءل الحديث وانكمش ثم تلاشى ، ونسى الجميع الموضوع وبقى أمين فى موضعه واستمر يسرق وشعبان يسرق والصرف الصحى يسرق والشركات المصرية والأمريكية تسرق،حتى تعجبت كيف لم تفلس مصر حتى الآن..وكيف لاتفلس وقد سرق الدكتور طارق-الأستاذ الجامعى- بحثا صناعيا من الدكتوره ساميه وباعه دون إذن منها لإحدى الشركات.لو استمر بكر معه طويلا لانتهى البحث بقتله وبقضاء بكر بقية عمره فى السجن.
رغم كل شىء فقد هلت بشائر نجاح المشروع وبدأ الشباب يسددون أقساط العربات ويكسبون ويرتدون ملابس فاخرة ويشترون موبايلات ويتقدمون للخطوبة والزواج،بل ان البعض منهم اشتروا لأنفسهم عربات ملاكى.بعثت الى بكر رسالة حتى أدخل الفرحة على قلبه وأسأله أن يبلغنى بأخباره التى انقطعت.
بدأت أكوام القمامة تختفى تدريجيا من المربعات السكنية المسندة الى المشروع،لكن معظم المدينة بقيت على قذارتها،وبدأ الصحافيون يهاجمون المسئولين بالمحافظة والأحياء ويتهمونهم بالإهمال والتقاعس عن أداء واجباتهم الوظيفية.
وفجأة دوى النبـــأ فى المدينة كدوى الرعد.
*****


خليل السرياقوسى
الله يرحمك ياعبد الناصر.أصحاب البلد اليوم يصعب عليهم أن يتركونا نعيش فى سلام مع أننا نتركهم يفعلون مايريدون..بعد فشل زبالى البلدية كانوا متضررين من عودتنا الى عملنا جنبا الى جنب مع شباب المشروع الجديد، كما لو حرموا علينا الحياة، بينما أثبت الشباب رجولتهم وشهامتهم فلم يفكر أحدهم فى الاعتداء على حقوقنا.والحق أن أكرم قد نجح بجدارة فى ادارة هذا المشروع الذى سانده فيه الكثير من الشرفاء وعلى رأسهم الدكتوره ساميه.
صدقت نبوءة أليكو بأن المشروع لن يضيعنا كما اعتقدت ، فالأولاد يعملون فى مناطق سكنية معينة ونحن نعمل فى مناطق أخرى.غير أنهم استطاعوا اجتذاب عدد كبير من صبية المقالب للعمل معهم ، وهذا لم يزعجنى مثلما أزعج ياقوت وغيره فالعمالة عندى زائدة وكان من الصعب على أن أستغنى عن عامل واحد فأكون سببا فى قطع رزقه خوفا من مجهول، فالمسألة كلها أرزاق يدبرها الخالق.
لأول مرة ترى عيناى شبابا يعملون فى الزبالة، يرتدون الجينز والقمصان الفاخرة فى أوقات فراغهم التى يقضون قسطا منها على مقهى المعلم سعيد يتبادلون فيها الأحاديث المتفائلة حول مستقبلهم ، خاصة بعد أن ينتهوا من تسديد أقساط العربات.اللهم لاحسد،فالواحد منهم أصبح دخله عدة آلاف من الجنيهات فى الشهر،وقد علت البسمة وجوههم وسكنت الطمأنينة للأيام قلوبهم وبدأوا يفكرون فى الزواج والانجاب.انزاح القلق عن صدرى وغمرنى الرضا عن كل شىء،وأصبحت أشكر الله فى ليلى ونهارى وصحوى ومنامى على رضاه عنى ولكن أين النداء؟..
قلت ان أصحاب البلد يستكثرون علينا أن نعيش فى سلام وتلك من أعاجيب الدهر لاشك فى ذلك.هاهم يقتلون الوليد الجديد بين يوم وليلة وبجرة قلم من غير أن نفهم لذلك سببا وكأننا مجرد مواشى ترعى فى هذا البلد..يافرحة ماتمت.
فوجئت بعربات من البلاستيك زرقاء كبيرة توضع على نواصى الشوارع،تنزلها عربات نقل مستوردة عليها اسم شركة أجنبية.سألت ايه الحكاية فقالوا انها الشركة البلجيكية التى ستقوم بتنظيف الاسكندرية بأكملها.
لم أصدق حتى فوجئت بمخزن البلدية خلف المقهى وقد وقفت أمامه طوابير هائلة من الشباب ينظمهم جنديان من الشرطة.سألت عن الموضوع فعرفت أن ادارة الشركة البلجيكية تعقد هنا مقابلات مع الشباب الذين تقدموا بطلبات للالتحاق بالعمل فى الشركة،وأن هناك لجنة من الخواجات هى التى تمتحنهم.
تبادلت النظرات الحائرة مع الحاج ياقوت والمعلم سعيد ونحن نثرثر على المقهى وسألت:
أنا-أمال ياترى الولاد بتوع المشروع الجديد حيعملوا إيه؟
ياقوت-أهو ده بقى اللى نفسى أعرفه
سعيد -مش معقولة يصيعوهم على كده.دول عليهم أقساط لسه مااتسددتش غير أجور السواقين والعمال
أنا - يمكن الشركة حتاخد مناطق وتسيب مناطق تانيه للمشروع
ياقوت- بقول لك أخدوا اسكندرية كلها من بابها صدقنى
أنا -لو الكلام ده صحيح يبقى عليه العوض ومنه العوض.مافاضلش غير نقعد بعد كده فى بيوتنا زى النسوان
ياقوت-ياحاج خليل أكتر العيال اللى عندى فى المقلب سابونى وراحوا يشتغلوا عندهم
سعيد-سبحان الله.بقى ماعرفناش ننضف نفسنا نقوم نروح آخر الدنيا عشان نجيب خواجات من بلجيكا ينضفونا؟!
*****
لابد أن أكرم قد علم بالمصيبة التى حطت على أدمغة الجميع..توجهنا اليه.
قال أكرم بعينين لمعت بهما دموع القهر والهزيمة ان هذه-للأسف-هى الحقيقة.بهوات المحافظة والأحياء لم يجدوا لأنفسهم مخرجا من الأزمة المثارة حول عجزهم عن تنظيف المدينة،غير أن يطرحوا هذه العملية فى صمت خسيس كمناقصة عالمية رست على الشركة البلجيكية.
ياقوت-وحيدوهم كام على كده؟
أكرم -حوالى سبعين مليون جنيه كل سنه
أنا -يا خلق الله!!سبعين مليون؟!..أهو احنا كده يااولاد العرب،مانمدش الا لبره
أكرم -العقد بيقول انهم مسئولين عن كنس الشوارع وغسيلها ورفع المخلفات وتدويرها بعد فرزها ودفن الباقى فى تربه مخصوصه فى برج العرب
سعيد –ياه..دى الدفنه حتبقى بعيدة قوى.أمال الناس حتزور ازاى؟!
..ضحكنا ولم يضحك أكرم .
أكرم –الأهم من ذلك هو الكارثة التى نواجهها الآن.كل المقالب ستؤول اليهم وكذلك مصنع السماد العضوى..يعنى انتهى دور المقالب وزبالين الأهالى و أيضا المشروع الجديد !
..سقط قلبى بين ضلوعى وكدت أرى أمام عينى نهاية الحياة.
ياقوت-يعنى ماحدش حيجمع فلوس من الأهالى غير بتوع بلجيكا؟
أكرم -للأسف
صرخت فى غضب:
-والولاد حيسددو أقساط العربيات منين؟
أجاب أكرم بهمس غير مسموع:
-ربنا يعينهم
لم تستطع الجمعية الأم أن تفعل شيئا ، فالتيار قوى عليها وماهى فى النهاية الا مجموعة من الموظفين الذين لاحول لهم ولاقوة.أما الجمعية الجديدة فقد شهدت ليلة سوداء كاد الشباب فيها أن يفتكوا بأكرم بعد أن باتوا مهددين بالسجن وقد تضاربت حقوقهم مع حقوق البنك الذى أقرضهم وصندوق التنمية الاجتماعى الذى يعتبر الممول الأساسى للمشروع،ولم يعد أحد يفهم شيئا.
كان مشروع الجمعية الجديدة قد لقى دعما هائلا من رئيس الوزراء الذى كان يتوقع نجاحه حتى يعممه على بقية المحافظات، فمن الغريب أن تلغيه المحافظة من جانبها وهو فى سنواته الأولى.
فى تلك الأثناء أوقف شعبان الشريف عن العمل وأحيل الى النيابة بتهمة الاختلاس،حيث تولى أكرم رئاسة الجمعية الأم بترشيح شبه إجماعى من الجمعية العمومية،وأصبح وحده فى مواجهة العاصفة.حمله الشباب مسئولية الموقف الخطير الذى أصبحوا فيه بعد منع تحصيل الرسوم من السكان المستفيدين من المشروع الملغى.ثار عليه الضامنون المتضامنين مع الشباب ،فكل أربعة منهم كانوا قد ضمنوا شابا لدى البنك فى تسديد أقساط ديونه،وأصبحوا الآن مطالبين بالسداد نيابة عنهم بحكم القانون.
فعل أكرم ما باستطاعته لمواجهة الموقف.اشتكى الى المحافظة ثم اشتكى المحافظة الى وزير البيئة ثم اشتكى الجميع الى رئيس الوزراء.اتصل بالصحافة وبأعضاء مجلس الشعب منذرا بعاقبة تجاهل مواجهة المشكلة بحل فورى حاسم يحفظ لكل الأطراف حقوقها.لكن أحدا لم يرد عليه ردا مفيدا.مجرد كلمات للتهدئة والتأجيل والطمأنة.
أقام دعوى على المحافظة بعدم أحقيتها فى إلغاء المشروع من جانب واحد، متجاهلة الأطراف الأخرى وأهمها الصندوق الاجتماعى للتنمية الذى يرأسه رئيس الوزراء.بالطبع لم تلاق الدعوة غير مصيرها المحتوم من التهرب والتأجيل والمماطلة،وقال له موظف كبير فىالمحكمة ان مثل هذه القضايا قد تستغرق سنوات ثلاث على الأقل حتى يصدر فيها حكما.
أين أنت يابكر فقد عاودنى الخوف وما من نداء يزرع السكينة فى قلبى.أين أنت ياعزيزه فقد فقدت الحياة بهجتها عندما فقدت الحب والأمان.يقول لى أليكو ان الحل الوحيد لارتباكى وقلقى وخوفى هو أن أعود الى الكأس،لكنى لم أعبأ به ،فأملى فى الدعوة كبير، ولن أتلقاها مالم أقهر نفسى، فإن حب الشىء لاينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا.






















المقـــــلب
أنا جزء من أرض هذا الوطن.جدرانى مبنية من طينه المقدس..ولهذا فربما كنت الجماد الأوحد فى العالم الذى يعرف معنى المشاعر والأحاسيس وروعة الانتماء، على عكس مايجزم الخلق باستحالة أن يكون ذلك كذلك.اننى مهموم بقضايا الناس فى وطنى.يؤلمنى كثيرا أن يتحكم فى أقدارهم مجموعةمن البشر ضمائرهم ميتة وقلوبهم غلف.بالله كيف تتخلى كل المؤسسات الرسمية عن شباب المشروع بهذه البساطة وتتركهم نهبا للأذى والضياع،وكأنما غاب القانون وغاب معه العدل وساد الظلم وعمت الفوضى.
وجود الشركة البلجيكية جعل من الضحايا فريقين:الأول هو زبالو الأهالى المظلومين فى جميع الأحوال ، والثانى شباب الجمعية الجديدة الذين أحدثكم عنهم. البعض منهم باع العربة بثمن بخس ليسدد مايمكنه تسديده من الأقساط مضطرا الى الاستدانة حتى يفلت من جدران الزنزانة. البعض هرب من المشكلة ومن الضامنين بأن هرب من البلد.بعض الضامنين دفعوا الثمن ظلما وعدوانا خضوعا لسطوة الأمر الواقع وقسوته.،فالشباب لاحيلة لهم ولاقوة.البعض هرب من تنفيذ الأحكام لاجئا الى الجماعات الدينية المتطرفة،والبعض انحرف الى حيث التكسب غير المشروع وبأية وسيلة.لست أدرى الى متى سوف يستمر هذا الارتباك الشائن فى ادارة شئون البلاد.
من المؤكد أننى نقلت اليكم تعاستى واكتئابى ، وربما كرهتم حياتكم إذن بسببى..لذا أجد من واجبى أن أرفه عنكم قليلا بما رواه لى الجنى من أمر ما كان لناموسه وصحبه..كان سيناريو الأحداث كالآتى:
كورنيش الاسكندرية
المشهد رقم(1)
-الكورنيـــــش
-كوبرى ستانلى الجديد بمعماره الفنى الرائع.
-أحد المحلات الأنيقة على الرصيف المواجه للكورنيش وهو ذو طراز غربى حديث.
-مجموعة ناموسه وام الكنى والجرنش وشمس كقطيع بشرى ضل طريقه فى أرجاء المدينة، بملابسهم المتواضعة وهيئتهم غير اللائقة بالمكان الذى يقفون أمامه من الخارج متطلعين اليه فى انبهار.
-ناموسه يقود الجماعة بثقة لاحد لها ناموسه

-يقترب من الباب فيشد بطريق الخطأ الضلفة المغلقة فلا يفتح الباب ويبدو عليه قليلا من الارتباك.
-الجرنش معلقا فى ثقة الجرنش
-ناموسه محاولا فتح الضلفة الأخرى ناموسه
-الباب يفتح معه ناموسه
-المجموعة تدخل لتجد فى استقبالها فتاة أنيقة ترتدى يونيفورم المحل.
-ميرفت تنظر اليهم فى قرف وتقزز ودهشة وكذلك ينظر اليهم رواد المحل. ميرفت
-بنعومة شديدة محاكيا أسلوب الجنتلمان ناموسه
-مبتعدة عنه فى فزع ميرفت
-بثقة شديدة ناموسه

-فى ذهول وسخرية ميرفت
ناموسه

-يحاولون الدخول فتعترضهم بينما تصرخ مستدعية المدير
ميرفت

-المتر حسين شاب وسيم يبتسم فى ظرف ومحبة حسين
-ناموسه مرتاحا لحسن استقبال حسين ناموسه


قطـــــع


المشهد(2) داخل المطعم
-ناموسه مخاطبا ميرفت في عتاب بينما يرحب بهم حسين ويفسح لهم الطريق للدخول ناموسه
-ثم بعد تردد مخاطبا حسين ناموسه
حسين
-معترضة بشدة محذرة حسين ميرفت

حسين

-بينما يقودهم حسين الى مائدة بعيدة يقفز ناموسه فرحا ليقبله ثم تسير المجموعة من خلفه وسط ذهول الحاضرين وسخريتهم..
-حسين يشير اليهم بالجلوس الى المائدة المتطرفة.
-ناموسه والمجموعة مازالوا واقفين فى رهبة ناموسه
-مغامرا باتخاذ هذا الموقف الانسانى حسين
-وكأنها تخاطب واحدا من أبناء مهنتها ام الكنى

-بتواضع جميل حسين
ام الكنى
حسين
-كطلقة مدفع مفاجئة الجرنش
-ناموسة يزغده موبخا ناموسه
-ثم مخاطبا حسين بتأدب ناموسه

-حسين مستمتعا بمغامرته تماما حسين


-الجميع يبحلقون فى وجهه بذهول وهم يتبادلون نظرات ساخرة.
-حسين يواصل استمتاعه بمغامرته حسين


-ناموسه القائد وقد أعيته الحيلة لمواجهة الموقف الملغز الذى وجد نفسه فيه اذ لم يفهم شيئا مما سمع،شأنه فى ذلك شأن بقية المجموعة..يجد نفسه مضطرا الى الاستسلام. ناموسه




-يضحك فى سعادة من القلب حسين
ناموسه


حسين

-رافعا الكلفة بلا حرج ناموسه






-مذكرا ناموسه كما لو كان نسى أمرا خطيرا شمس
ناموسه

حسين
-حسين يجمع الشوك والسكاكين من المائدة تاركا لهم الملاعق فقط.
-ناموسه يحتج رافعا الكلفة بشدة ناموسه



-متراجعا بصدق حسين
ناموسه
حسين


شمس


-يناديه بإبنى وهو فى عمر والده ناموسه

الجرنش
أم الكنى

-قبل أن ينفد صبره وبصراحة قاطعة حسين


-متماديا مع حسين كما لو كاناصديقين ناموسه


حسين
ناموسه

حسين

-خائفا متحسبا للمستقبل ناموسه







-بمحبة ممتزجة بالإشفاق حسين

ناموسه
حسين


ناموسه
حسين

-مرتديا ثوب الكبرياء الكاذب الجرنش

ناموسه يزغد الجرنش في جنبه ناموسه
ثم مخاطبا حسين وهو غير مصدق ناموسه
-مندهشا للقبه الجديد حسين


متباهيا بانتصارره أمام الجميع ناموسه

تابع ناموسه
ثم مخاطبا حسين ناموسه
تدعو له بنبرة مولولة ام الكنى
محاولا منع نفسه من الانفجار في الضحك حسين
شمس
متجها الى مرفت مخاطبا اياها بصوت خفيض حسين

مضطرة الى طاعة رئيسها مرفت


قطـــــع

















المشهد(3)
-حسين فىوداع المجموعة أمام باب المطعم والجميع فىحالة ابتهاج غير عادية.
-ناموسه القائد معبرا عن شعور المجموعة ناموسه



بابتسامة راضية متفهمة حسين

ناموسه

مربتاعلى ظهره في تعاطف جميل حسين
رافعة يديها الى السماء في صدق ام الكنى
ليل/خارجى








تعالى جانبى يا ام الكنى ..يلا بينا نخش يارجاله


الله.دول باين عليهم قافلين ياجدع
استنى بس يا أخى
أهو اتفتح..اتفضلوا



ايه ده؟؟..انتوا ايه؟
مساء الخير ياهانم
عاوزين ايه؟
جرى ايه يامازمازين..حنكون عاوزين ايه يعنى؟..عاوزين نتعشوا
انتم؟..عاوزين تتعشوا هنا؟!
آه..فيها ايه يعنى مادام فلوسنا فى جيبنا

الحقنى يامستر حسين تعال شوف الجماعه دول عاوزين ايه
مساء الخير ياجماعه
مساء الفل ياباشا.على النعمه انت وشك سمح وباين عليك حتحترمنا




ليل/داخلى

شايفه الاستقبال الحلو
ممكن ندخل ياباشا؟
آه طبعا..أهلا بيكم اتفضلوا
مستر حسين!!معقوله اللى بيحصل ده؟!
خلاص ياميرفت خلاص.روحى انتى وانا حاتصرف.اتفضلوا ياجماعه




نقعد ياباشا؟
طبعا طبعا اهلا وسهلا انتم شرفتونا
يشرف مقدارك يابنى انت اسم النبى حارسك اسمك ايه
اسمى حسين..المتر حسين
وانا ام الكنى ياخويا
يا أهلا بيكى تحبوا تتعشوا ايه بقى؟
أنا عاوز لحمة
اسكت انت
أيوه ياحسين بيه انتوا عندكم ايه يامتر؟
عندنا ياسيدى سى فود سالاد وبيكاتا بالشامبنيون وشرمب باستا وشرمب كوكتيل..


وعندنا كمان مشروب ممتاز اسمه بونا كوناتا..طبعا غير المشروبات العادية


اسمع بقى يامتر باشا..احنا م الآخر كده الجماعه اللى بيشيلوا الزبالة بتاعتكم وكمان زبالة البيوت والشوارع..يعنى زى ماتقول كده أصدكاء البيئة
اهلا بيكم انتم على عيننا وراسنا
الله يكرمك ياصاحبى.احنا بالصلاه عالنبى كده مافهمناش ولاكلمه م الأكل اللى قلته ده كله
طيب ايه رأيكم تحبوا أحضرلكم عشا على مزاجى
أموت فيك ياسحس بس مروءة قبل مانمشى تبقى تحفظنا اسمه عشان نرسم نفسنا قدام العالم اللى فى المقلب ونتعوج عليهم خصوصا الواد ديشه اللى مارضيش ييجى معانا عشان يعرف انه فاته نص عمره
وفى القهوه ياوله
طبعا ياشمس..أمة خلقه كلها لازم ياخدوا خبر
وانا تحت أمركم


جرى ايه ياحسين؟انت بتلم الشوك والسكاكين ليه؟خايف ولامؤاخذه نسرقوهم؟لأ بقى كده عيب قوى فى حقنا وفى حقك كمان
والله ما اقصد يا..
محسوبك ناموسه
مااقصدش يامعلم ناموسه أنا بس عاوزكم تاكلوا على راحتكم من غير ايتيكيت
عداك العيب ياصاحبى..شوف ياحسين أنابقى عاوز أغمس أى حاجه يكون فيها دمعه وإدام
يابنى تغمس ايه بس..هى البلاوى اللى قالها دى بتتغمس؟
انا عاوز ملوخية بالأرانب
معندكوش طواجن باميه ياخوبا والا مسقعة؟
شوفوا بقى.أنا حجيب لكم عشا حيعجبكوا قوى..حتاكلوه وتقولوالى الله ينور
ماشى يامعلمه بس اللى أوله شرط آخره نور والبكا علىراس الميت ولامؤاخذه
انا مش فاهم انت تقصد ايه
تقول لناكده يالصلاة عالنبى العشوة دى حتكلفنا كام
ماتشغلش بالك انت بالحساب كل وانبسط ومالكش دعوه بالباقى
لأبقى.ماهو ماتاخدنيش في عشره دوكه وتخلى لى البحر طحينه.أنا عاوز آكل وانا مطمن مش تيجى فى الآخر وتقوللى ادفع الشىء الفلانى وبعدين بدل ما نناموا في المقلب نناموا فىالتخشيبة..آه قل لنا من دلوقت كده وعلى بياض ومابين البايع والشارى يفتح الله
شوف ياسيدى انتوا ناس بتخدمونا كل يوم وتشيلوا زبالتنا.صح؟
صح
يبقى لازم تدونا الفرصة انتوا كمان عشان نخدمكم والدنيا أخد وعطا مش كده برضو والا ايه؟
عداك العيب وقزح ياصاحبى
انتواالنهارده كلكم معزومين عندى على حساب المحل
لاياحبيبى احنا جايين ناكل بفلوسنا مش جايين نشحت
قلت لك اتكتم انت
انت بتتكلم جد يااسطى؟
آه طبعا باتكلم جد.حتتعشوا وتتحلواوتشربوا شاى وقهوه كمان على حساب صاحب المحل.أنا يعنى
شفتوا ازاى عشان لما اقول لكم انه يوم حتحلفوا بيه طول عمركم تبقوا تصدقونى
واحنا قبلنا العزومه يابو الكرم كله
ربنا يطعمك مايحرمك يابنى روح
أروح فين ياطانط
بس ياوليه انتى جايه تعددى هنا
قولى لماجد يجمع لى آخر بواقى سليمه م الأوبن بوفيه بتاع الغدا
حاضر




















ليل/داخلى


احنا مشكرين قوى ياسحس بيه.بس مالكش حق ترجع البقشسش ياراجل.احنا برضو جدعان ونعرف معنى النزاهة
انا عارف ياناموسه بس انتوا ضيوفنا ازاى ناخد منكم بقشيش
يا أخى عاوزين نعمل معاكوا دور واجب ماتحرمناش منه
كلك واجب ياناموسه
ربنا يطعمك مايحرمك ياحسين يابن..هى امك اسمهاايه ياخويا
حسين منفجرا في الضحك وناموسة يدفعها ناموسه ياوليه اتكلى على الله انتى حتناسبيه عاوزه تعرفى اسم امه كمان
ثم معتذرالحسين ناموسه لامؤاخذه يامتر ماتاخدش علىكلامهادى ست طيبه وعلىنياتها
حسين فاهم ياناموسه فاهم
يتحسس الطريق الى حسين حتى يجده بمهارة شمس قل لى يابيه ممكن ابقى آجى هنا اضرب لكم مزيكة قرب ومش عاوز فلوس بس اتعشى كل يوم
متخلصا منه بلطف حسين بعدين نتفاهم في الموضوع ده ان شاء الله
ناموسه آخر طلب لى يامتر
حسين اتفضل
ناموسه
تابع ناموسه اسمه ايه البتاع ده اللى شربناه في التحالى؟ بيكا عالبلاطه؟
ضاحكا من قلبه حسين لأ اسمه بينا كوناتا
-ناموسه يردد الاسم هامسا مع نفسه عدة مرات بيتا كونانا نينا كوباتا بينا كوناتا
-مودعا المجموعة وهى تغادر حسين مع ألف سلامه نورتونا
-جمهور الجالسين يصفقون لهم في مرح ودون سخرية وميرفت مازالت رافضة لكل مايحدث.
-ناموسه رافعا يديه محييا الجماهير كزعيم محبوب.

قطــــع

استشاع نبأ المغامرة الناجحة لناموسه بين جميع الزبالين.تلك المغامرة التى أعلت من شأنه وأقرت زعامته بينهم ، فهو الذى استطاع بجرأته اقتحام العالم الفوقى الذى يخدمونه بوازع من الخوف والرهبة والشعور بالدونية.
ومنذ ذلك اليوم انزاح عن كاهل الزبالين حاجز نفسى رهيب كان يفصل بين حقهم في الحياة ويأسهم منهـــــا.
*****












فردوس شعبـــان
أتممت كل اجراءات السفر في سرية تامة.طلبت إجازة مؤقتة من العمل رغم قرارى بعدم العودة،فقد رأيت الابقاء على شعرة معاويه تحسبا لاحتمال فشل التجربة.معى الفيزا التى سهلت لى ادارة الشركة الأمريكية الحصول عليهابناء على دعوة من سلوى وحازم.معى تذكرة السفر ومبلغ يكفينى للإنفاق على نفسى لفترة معقولة.والآن لامفر من المواجهة..صاح أبى:
-لابد أنك جننت
وصاحت أمى:
-منك لله..تفضحيننا أمام الناس؟!
لم أعبأ بثورتيهما.أبلغتهما أنها مجرد رحلة سياحية لن تتجاوز أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، وفى ضميرى شىء آخر وإن لم يكن محددا.
وقفت بمفردى في المطار أمام مكتب الجوازات أكاد أرتعش من الخوف والشعور بالوحدة.لم تمض دقائق حتى تجاوزت مشاعر الاستعباد والتبعية للرجل، ووجدت نفسى داخل الطائرة بين السحب.انتابنى شعور رائع بالبهجة والانطلاق والتحرر من كل قيد.كنت أرتدى بدلة كاملة من الجينز وفى جيبى علبة سجائر مستوردة.عندما اقتربت منى المضيفة طلبت منها في جرأة المتمرس كأسا من النبيذ الفرنسى الذى سبق أن شربته مع ممدوح فأعجبتنى الحالة المزاجية العالية التى نقلنى اليها.الجرأة صارت مذهبى.الحياة ملكى.يومى هو جميع عمرى.هنا لن يقول لى أحد أن هذا عيب أو حرام.العيب والحرام هو مافعلوه بى.من حقى الآن أن أشعر بالنشوة وأن أحلق في آفاق الحرية وأتخذ قراراتى لنفسى بنفسى.فردوس شعبان الضعيفة المستكينة التى لاحول لها ولا قوة،والخاضعة بطول عمرها لإفعلى ولاتفعلى..أصبحت اليوم انسانة أخرى.
على باب المطار الأمريكى حيث الغرب المسيحى المتقدم والموصوم عندنا بالكفر، عاودنى الخوف الى درجة الارتجاف الداخلى العنيف.ماذا أفعل لو لم أجدهما بانتظارى كما وعدانى؟..صحيح ان العنوان معى واننى أجيد التحدث بالانجليزية وأستطيع استئجار تاكسى لينقلنى على الفور الى منزلهما،ورغم ذلك فإنى جد خائفة..مازلت أعانى من قيود الحارة وجنازير الرجال الطغاة الأغبياء الذين لايرون الحياة الا من خلال ثقب ضيق عليه غشاء رقيق..حتى ممدوح يفكر هو الآخر بنفس العقلية رغم تحرره الظاهرى .
فجأة وجدتهما أمامى.سلوى وحازم.النموذج المحظوظ في الحب.اللهم لاحسد، فأنا أحبهما وأتمنى لهما النجاح فيما فشلت.استقبلانى بفرحة طاغية وترحاب جميل غير مصدقين اننى نجحت في اجتياز كل العقبات لألتقى بهما.ركبت معهما العربة وانطلقت بنا عبر شوارع عريضة مليئة بالبنايات العملاقة المخيفة، التى تبعث في النفس رهبة قوية لابتعادها الشديد عن مفهومى لكلمة البيت..رهبة يؤجج من لهيبها شعور غامض بمادية الانسان وعزلته ووحدته واغترابه..
في دقائق معدودة تجاوزت هذه الخواطر السوداء،حتى وصلنا الى البيت..فيلا صغيرة تحيط بها حديقة جميلة وتقع في شارع تحف به الأشجار ذات الأوراق الصفراء والحمراء والخضراء.لأول مرة أرى هذه الألوان الثلاثة مجتمعة في شجرة.المكان كله يوحى بالهدوء والسكينة، بل انه يخدر الأعصاب..يهدهدها ويدللها في نعومة ورقة.
خلال أيام قلائل كنت ضيفة مرغوبة على العديد من الأسر المصرية الأمريكية.أدركت بكل حواسى مامعنى أن يعيش الانسان حرا سعيدا.المصريون هنا تظهر مصريتهم على حقيقتها.الحب.السماحة.الطيبة.الشهامة.المروءة.صفات وجدت مناخا صحيا مواتيا فنماها وأظهرها ورعاها.رغم ذلك فقد أكسبتهم الحياة الأمريكية طابعا عمليا حادا لاأعتقد أنه يتناقض مع تلك الصفات الانسانية الرائعة.
زرنا معا العديد من الأماكن السياحية في واشنطن وعلى رأسها حى المول الذى يحوى نصب واشنطن التذكارى،وهو مسلة مصرية،كما يحوى تمثال ابراهام لنكولن صبى المحامى الذى وحد الشمال والجنوب وحرر العبيد،وتمثال جيفرسون واضع الدستور، والبيت الأبيض الذى يسكنه مهووس متعصب،ثم مقر الكونجرس حيث يقع تمثال السيدة"حرية" في أعلى مستوى البناء.
كلما ذهبت الى مكان أو التقيت بأحد،رأيت الحرية وسمعت صوتها ولمست وجودها وشممت رائحتها وتذوقت طعمها.لولا أن فعل بى أبى مافعل لما وقعت على هذا الاكتشاف المثير.لقد قدم لى هدية العمر ولكن بغباء شديد.الناس هنا يفكرون ببساطة في اتجاه الهدف مباشرة.قال لى حازم ان العالم تسوده أنماط أربعة من التفكير.الأول هو التفكير الغربى والأمريكى وهو التوجه المباشر في خط مستقيم لاصطياد الهدف ،والثانى هو التفكير الروسى حيث يتجه الى الهدف بطريقة الزجزاج،والتفكير الآسيوى الذى الذى يتعامل مع الهدف بمحاصرته دائريا،أما التفكير الشرقى فهو يعتمد على الالتواء واللف والدوران حيث يستغرق وقتا طويلا وجهدا كبيرا في الوصول الى الهدف،هذا ان استطاع أن يصل اليه.
من سوء حظى أننى امرأة شرقية عربية مصرية كرمها القرآن وأهانها الرجال.لماذا لم أولد في هذه البقعة الساحرة من الأرض التى يتنفس أهلها الحرية مثلما يتنفسون الهواء ، فأعيش حياتى بخيرها وشرها كما أريد؟!..
النظافة التامة في كل مكان وكل شىء هى أهم مالفت نظرى.صحيح أن هناك بعض الشوارع القذرة،لكن نوعية القذارة هنا لاتقارن بأكوام القمامة المكدسة أمام البيوت والمدارس والمحلات والمستشفيات في بلدى.
كان همى الأكبر خلال اللقاءات والزيارات،سواء مع المصريين الأمريكيين أو مع الأمريكيين أنفسهم،أن أتفهم موقف الرجل من المرأة في هذه البلاد التى دينها الحرية.ومن خلال زيارتى لعدة ولايات تبين لى أن وضع المرأة في كل ولاية يكاد يختلف في قليل أو كثير عن غيرها،فالمجتمع الأمريكى متنوع الأجناس،وبذلك لم يكن ممكنا تعميم ملاحظاتى في ولاية على سائر الولايات الأخرى.لكن العامل المشترك هنا هو اختلاف ثقافة الأمريكيين عن ثقافة المصريين،فالاختلاف الحضارى وطبيعة وضع الدين وموضعه عند كل حضارة يعقدان من مسألة المقارنة.ومع ذلك فقد وجدت أن نسبة الطلاق مرتفعة نسبيا.المرأة هنا ند للرجل في كل شىء..حتى في البيت هو ملزم بمساعدتها،ولكل منهما كيانه المستقل الذى لايمكن أن يذوب في كيان الآخر إلا في اللحظات الحميمية المقترنة بالغريزة.ورغم أن المرأة المصرية تعمل وتشارك الرجل في الإنفاق على الأسرة،إلا أنها تشعر تجاهه بشىء من الدونية يقل عند البعض ويزيد عند الآخر،أو هو الذى يرغمها على غرس هذا الشعور في كيانها،فهى تعمل وتنفق،وفضلا عن ذلك فهى تمسح وتكنس وتطبخ وتربى الأولاد وتساعدهم على أداء واجباتهم المدرسية ،وترضى رغبات زوجها قبل أن ترضى نفسها،بل انها تبالغ في ذلك أحيانا الى حد المرض،فهى تحب أولادها بجنون وتسخر حياتها وتفنيها في خدمتهم وتضحى لأجلهم بغير حدود،متحملة ما لاتطيقه امرأة في أى مكان بالدنيا منذ طفولتهم وحتى بعد أن يتزوجوا وينجبوا الأحفاد.
*****
في زمن قياسى نجح حازم في تدبير عمل مؤقت لى كمندوبة مبيعات بشركة من شركات مواد التجميل.المهم أن أحصل على دخل يعيننى على الاستقلال بحريتى المعبودة، حتى أستطيع أن أفكر كيف أمحو الرجال الثلاثة من حياتى محوا أبديا.الرجل الذى تحكم بتسلطه على حياتى.. والرجل الذى استسلم لهذا التسلط بسرعة البرق ولم يأت بفعل إيجابى واحد للحفاظ على حبنا.لوطلب منى في تلك الليلة أن نذهب معا الى المأذون لنصبح زوجين كأمر واقع لما ترددت لحظة واحدة ولو أرادنى في تلك الليلة لأعطيته نفسى في المكان الذى يختاره..والرجل الذى كانت سقطتى معه شرخا في جدار حياتى لن يتكفل برأبه إلا الزمن.
يبقى موقفى القانونى من الإقامة بالولايات المتحدة.إقامتى القانونية هنا أقصاها ستة أشهر،فماذا أفعل بعد ذلك لو قررت البقاء،وماذا سأفعل في مصر لو قررت العودة؟..
لم أجد إجابة مريحة عن السؤالين، غير انصهارى في عالم الجمال والنظافة والحرية حتى ذبت في أمريكا ونسيت مصر وأبى وأمى ،ولم أعد أفكر كثيرا في مصيرى المجهول أو أعبأ به.


*****





















المقـــــلب
في جلسة ودية بين خيشه وابنه أورمه-حامد سابقا-وإن كانت تنقصها الحميمية من جانب الأب الذى أدركه القلق على مستقبله ومستقبل أولاده بعد ظهور أورمه،قال خيشه:
-شوف يابنى.أنا اتغيرت والدنيا كمان اتغيرت.زمان كنت أسكر من الفقر بكاسين سفنجه ودلوقت لماعرفت العز والشبع ماعادش يأثر فيّ برميل ويسكى.
وبشجاعة الإبن البار بأمه الغائبة واجهه أورمه:
- بقى لك ساعه عمال تكلمنى يابا وبرضو مش عايز تقول لى أمى فين
قال خيشه بجهله الغاشم:
-بصراحه أمك كان وشها فقر علىّ.من يوم ماطلقتها وباب السعد انفتح لى.ماتزعلش م الكلام ده لأن هو ده اللى حصل،وهى الدنيا كده ياحبيبى عمرك ماتفهمها ان كانت ماشية بوشها والا بقفاها
-يعنى انت عايش هنا لوحدك؟
-لأ عندى مراتى وعيالى
-أمال هما فين بالصلاه عالنبى ؟
-مسافرين
-وأمى عايشه فين هى واخواتى؟
-أنا أخدت لها شقة كويسة وكل شهر أبعت لها اللى يكفى أورطة عيال ويفيض
-خلاص.أناكده ولامؤاخذه عرفت آخرتى معاك
-عرفت ايه ياحامد؟
-حتقول لى أروح أعيش معاهم وتزود لنا الشهرية وتفضك م المشوار ده كله مش كده برضو؟
-والله كبرت ياوله وبقيت بتفهم أهه..أامال زمان كنت غبى ليه
-انت مش لسه قايل دلوقت انك اتغيرت والدنيا كمان اتغيرت
-آه صحيح
-وياترى اخواتى مابيشوفوش ولادك دول؟
-لاياحبيبى دول سكه ودول سكه تانيه خالص
-يعنى ايه؟
-جرى ايه ياوله انت جاى تحاكمنى والا ايه؟ أنا حر أمشّى حياتى على كيفى
-ماقلتش لأ..لكن ربنا مبيحبش الظلم
-وانا لاظلمت امك ولا اخواتك ولما تشوفهم ابقى اسألهم حتلاقيهم مبسوطين اربعه وعشرين قيراط،ولماربنا ياخدنى الورث بتاعىحيتقسم عالجميع بشرع الله..عاوز اكتر من كده ايه؟
-طيب والحداشر سنه اللى أنا عيشتهم في الزباله كانوا عدل يامعلم خيشه؟..وتطنيشك علىّ طول المده دى كان عدل برضو؟
في نبرة تحمل اعترافا ضمنيا بالذنب أجابه خيشه:
-ماتقعدش تقطّمنى بقى كفايه.أنا غلطان في حقك ياسيدى وحعوضك بإذن واحد أحد عن كل اللى فات.
..رافضا الجانب المادى من العرض قال أورمه:
-حتعوضنى ازاى؟بقرشين يامعلم؟أنا خلاص اتوسخت من برّه ومن جوّه ، وعشان انضف وارجع بنى آدم صاغ سليم ،دى ماحدش يقدر عليها غير اللى خلقنى وخلقك.
..كلما تكلم أورمه ازدادت دهشة أبيه وتعاظم إعجابه الخفى به..
-يخرب بيتك..انت ياوله بتتكلم زى الرجاله
-ماهو لو ماكنتش راجل بصحيح ماكنتش قدرت أربى نفسى بنفسى لحد دلوقت.
قام خيشه واحتضنه في حنان..
-خلاص ياحامد ماتزعلش
-كان نفسى أرجع حامد تانى لكن باين مفيش فايده
-مفيش فايده ازاى؟ انت حتشتغل معايا ياجدع
-اشتغل معاك وابقى من ايدك دى لإيدك دى بس على شرط
-ايه هو؟
-الاخوات كلهم يعرفوا بعض
بعد فترة من الصمت والحيرة قال خيشه:
-لايابنى دى صعبة قوى دلوقت
-ليه يعنى ايه اللى صعبها والا احنا يعنى اولاد الجاريه
-يابنى دول عيال متنورين ومتعلمين في مدارس أجنبى
-الله الله ياعينى عالعدل اللى بتقول عليه
أدرك الأب أنه يحاور رجلا مكتمل النضج، ليس من الحكمة أن يتخلى عنه.
-اسمع ياحامد
قال له أورمة بتحد بعد أن نجح في إفحامه:
-قلت لك انا لسه لحد دلوقت أورمه الزبال،وانت اللى في ايدك ترجعنى حامد تانى..نعم!
-ايه رأيك حابعت اشترى لك طقم هدوم أبهة وننزل نروح أى مطرح نتكلم مع بعض
-والكلام هنا ماله؟
-ياوله حد يكره المنجهة والنضافة؟
-محدش قال كده
-طيب خلاص..تعال
أخذه تحت ذراعه الأيمن ونادى خادمه:
-ياحسان..
****


















بكر السرياقوسى
سعدت كثيرا بتقدمى السريع في دراسة اللغة الألمانية،وسعدت أكثر بالحصول على المأوى المطمئن الذى دبره لى ميخالى في بيت مسعد.كلما شعرت بانشراح صدرى للمعيشة مع هذا الشاب المصرى الجميل تذكرت الآية القرآنية الرائعة"فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".أما مصدر سعادتى القصوى فكان لقائى بالرجل الحلم.الأسطورة.دكتور ياتس.أستاذ تكنولوجيا الورق بجامعة جيسن.وجهه شديد الشبه بوجه جان بول سارتر ولكنه أطول منه بكثير.أحببت فيه تواضعه الشديد وقوة إيمانه.كنت أرى الإيمان في سلوكه وكأنه هضم الأديان الثلاثة واستخلص من عصارتها رحيقا لسكينة روحه.في البداية كنت متوجسا قلقا،لكن بالتعامل والمعاشرة تبين لى أن في قلبه متسع لكل الأفكار والأديان والقيم الانسانية النبيلة.لقد أحببته بقدر نفورى وتقززى من الدكتور طارق الألفى ابن بلدى ودينى.حددنا معا نقطة البحث في استخراج السماد العضوى من القمامة وتجربته في المزارع المختلفة.
عودنى أبى أن أفكر في الله قدر المستطاع في كل لحظة وعند مواجهة كل حدث، خيرا كان أم شرا..ولقد أذاقتنى تجربتى مع فاروق مرارة الحيرة ولوعة العذاب،فكنت أتساءل لماذا ابتلانى ربى بهذه التجربة القاسية التىكشفت لى عن أسوأ ما يمكن أن تنطوى عليه النفس البشرية من قذارة وتلوث..وعلى الفور وبدون مقدمات كان النقيض في مسعد."ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها"..خراط ماهر.خريج معهد دون بوسكو الإيطالى بالاسكندرية.الألمان الذين يعمل معهم يحبونه ويقدرونه، فهو دقيق فى عمله نظيف في ملبسه مقل في حديثه،يحترم القانون والوقت والكلمة.جمعنى به الخواجه ميخالى الذى أهدانى به الله ليأخذ بيدى خطوة بعد خطوة،مستثيرا لإرادتى،محفزا لهمتى،على طريقته الغربية.هو مسيحى يؤمن بالله ولكنه يقول لى ان الله بحاجة الى المساعدة"God needs help"فأتذكر مثلنا المصرى الدارج"إسع ياعبد وأنا أسعى معك"..وهو يؤمن بالمثل الصينى القائل:"لاتعطنى سمكة ولكن علمنى كيف أصطادها".قال لى مسعد بعد أن عرف بقصتى مع فاروق إنه كان يشعر بالوحدة في شقته الواسعة،ويتمنى أن يشاركه المعيشة فيها مصرى ملتزم وعلى خلق،يبدد عنه مشاعر الغربة ويذكره بنيل مصر وبحرها وأزقتها وهوائها وترابها وناسها الطيبين.
اصطحبنى بعربته الى بيت فاروق حيث جمعت أغراضى بأكملها مودعا حياة البؤس والهوان،وعدنا الى شقته نتقاسم معا حياة سوية هانئة.لم يكن مسعد راضيا عن عن عملى المرهق الذى لايكاد يدفع عنى الجوع ويعيننى على سداد رسوم الدراسة وتعلم اللغة.رفض بشدة أن يتقاضى منى أى مقابل نظير إقامتى معه قبل أن أوفق في الحصول على عمل يوفر لى الدخل المناسب للوفاء بالتزاماتى المتعددة.
كان الفرق شاسعا أيضا بين معامل الكلية هنا ونظيرتها في مصر.كل الإمكانيات الحديثة ميسرة في خدمة الباحث من أجهزة وكيماويات . تشعر وأنت تدخل المعمل أنك في رحاب معبد أسطورى مقدس،أنت فيه الحر الكريم لا العبد المهان الذى أراد أن يشتريه الدكتور طارق الألفى..وبدلا من عم غنيم ساعى المعمل الذى لم يكف يوما عن نصحى بتقوى الله باعتبارى-رغم أنفى-كواحد من أبنائه العشر،كان "فيفندى" الذى لايمكن أن ينطق إلا إذا نطق أبو الهول.يصنف قمامتى ومخلفاتى التى أجمعها من المزارع والمقالب في أكياس جميلة مختلفة ألوانها،كما لو كان يعبئها بقطع من الماس.بعد انتهاء عمله يخلع القفاز ويعقمه ويعقم يديه،ولايبدى ذرة من التأفف لما تبعث به هذه الأكياس من رائحة.
فوجئت بصوفيا صديقة مسعد التى لاتفارقه أيام العطلات تمر من أمام معملى،فخجلت أن أسألها عن سبب تواجدها هنا وهى التى تعمل في مجال التمريض.في المساء أخبرته فلامنى لأنى لم أكلمها،خاصة وأنه عرفنى بها من قبل، واشتركنا ثلاثتنا في أكثر من حوار.لست أدرى لماذا تذكرت مدام أولى الشمطاء فسألته بصدق شديد:
-هل تنوى الزواج منها؟
-هذا السؤال هو مشكلتى الوحيدة مع الحياة
-كيف؟
رغم أن تعليمه متوسط إلا أن ثقافته الحياتية لابأس بها.قال انهما متحابان،لكنه يخشى اختلاف الطباع والتربية وطبيعة النظرة الى الحياة الزوجية،فهؤلاء الناس يفكرون بطريقة مختلفة تماما.الحب عنده لايكفى كضمان لاستمرار حياة زوجية مستقرة بالمفهوم الشرقى ..وكم قرر أكثر من مرة أن ينتصر على تردده ويتخذ قرارا حاسما بالزواج الا أنه يعود فيتراجع من جديد.
أشفقت عليه من حيرته الشديدة وهو يعانى ذلك الصراع الأزلى بين الشرق ذى الحدس والبصيرة والوجدان،وبين الغرب ذى النظرة البراجماتية الحسية التحليلية.ذلك الصراع الذى يصعب حسمه في معظم الأحيان.
لمت نفسى على تطفلى غير المشروع،لكنه أخبرنى أن لصوفيا اندرسون شقيقة تدعى أنيتا تعمل باحثة في نفس الكلية التى أعمل بها،ولابد أنها كانت تزورها لأمر هام، فالزيارات ممنوعة في المعامل إلا في أضيق الحدود.
تطرق بنا الحديث الى شخصية أندرسون التى احتار فيها مسعد.كان يتوقع أن ينفر منه الرجل للتباين الشديد في المستويين الاجتماعى والمادى بين صوفيا ومسعد ، فضلا عن اختلاف الدين والثقافة.لكنه فوجىء بالرجل يرحب به في بيته ويبدى لامبالاة تامة بشأن صداقته بصوفيا.الأغرب من ذلك أنه صرح وبشكل مباشر أنه لن يعترض لو فكرا بالزواج فحرية صوفيا تكفل لها وحدها اتخاذ القرار دون تدخل منه بغير النصيحة والمشورة حين يقتضى الأمر.وقد انتهز مسعد فرصة تسامح هذا الرجل وبساطته بأن راح يبذل غاية جهده كى يغير الكثير من المفاهيم الخاطئة عن الاسلام الذى ارتبط في ذهن أندرسون بالقتل والدماء والارهاب.
لم أكن أتصور أن هذه الفتاة البسيطة في مظهرها وحديثها وسلوكها، والتى تعمل كممرضة بإحدى المستشفيات ، هى ابنة مليونير معروف بين رجال الأعمال الألمان الذين يمتلكون العديد من المصانع والمزارع والشركات الكبرى.أخبرنى مسعد أنه علم من خلال حديث عفوى معها أن أندرسون بحاجة الى عمالة مؤقتة بإحدى مزارعه.
****
والعقد أمامنا سألنى أندرسون بهدوء:
-هل يعجبك هذا الأجر؟
الحق أن لعابى سال لضخامة الأجر مقارنة بما أتقاضاه لقاء شقائى وهد حيلى كل يوم..سارعت بالقول:
-أشكر الله على ذلك
تعجب الرجل من قولى وسألنى في دهشة:
-وما شأن الله بذلك؟
-كل شىء بأمره
-ولكنك لو فاوضتنى لربما اقتنعت برفع هذا الأجر،فلماذا تضيع على نفسك هذه الفرصة بسبب الله؟
ارتبكت بشدة ورحت أستغفر الله في سرى وحسمت المناقشة:
-أنا لا أريد أجرا أكثر من ذلك
لم يزايله التعجب وهو يقول لى:
-أنتم يا أبناء الحضارة الشرقية تخلطون الدين بالدنيا وهذا هو سر تعاستكم وتخلفكم!
تبين لى أنه يفكر بصورة كربونية من ميخالى،ولابد أنهم يفكرون جميعا بهذه الكيفية.
****
مفاجآت القدر تمنحنى القدرة على مواصلة الحياة على أمل أن تأتى بخير لم يرد على الخاطر،وعظمة الغيب في مجهوليته التى تحفزنى على العمل والأمل..من أين كان لى أن أعرف أنه سيكون بيدى اليوم فائض من المال، أو أننى سأعيش في مسكن جميل برفقة طيبة، أواصل أبحاثى بنجاح لم أكن أتوقعه؟!..كل هذا لم أحلم بتحقيقه حين كان غيبا،ولما تحقق لاأكاد أصدقه..شىء محير!..وكأننى أصبحت على موعد دائم مع الحظ،فقد التقيت كثيرا من المرات مع أنيتا في الكلية أحيانا وفى المزرعة أحيانا أخرى،وشعر كل منا بانجذاب عقلانى تجاه الآخر،فقد كانت أفكارنا متقاربة الى حد كبير حتى أنها قالت لى يوما أننى رغم رومانسيتى المثالية المفرطة انسان عملى قاطع ومحدد، وأنها تتمنى أن تتمتع بما أتمتع به من خيال واسع أتعامل به مع الحياة،إذ أنها لاتستطيع إلا أن تفصل فصلا حادا بين العقل والعاطفة.
تعجبت في صمت من تطابق فكرها مع مقولة مفكرنا المصرى زكىنجيب محمود والتى كان لايمل ترديدها:"دع ما للعقل للعقل وما للقلب للقلب"..وتساءلت في حيرة أهو الذى يفكر مثلهم أم هم الذين يفكرون مثله،أم أن في مثل هذه الدعوة تكمن الحقيقة الساطعة التى لاتفرق بين شرق وغرب!..ولما اطلعتها على بحثى صاحت في حماس:
-لماذا لاتجرى تجاربك على القمامة بمزارعنا؟
رحب أندرسون بالفكرة وترك لأنيتا أن تقدم لى مايلزمنى من تسهيلات .لكنها لم تكتف بذلك وإنماكانت تصحبنى غالبا في عربتها من المزرعة الى الكلية ومن الكلية الى المزرعة وأحيانا من البيت الى أى منهما..ما هذا "الدلع" يابكر؟..انه الرضا من الله فلاتحسد نفسك عليه.
قال أندرسون ان هناك مثلا شائعا في أوروبا عن أهل الشرق ،كان وربما مازال ينفر الكثيرين من رجال الأعمال الأوروبيين عن استثمار أموالهم لديهم،ثم جاءت أحداث 11سبتمبر لتزيد الطينة بلة.إنه مثل الباءات الخمسة أى الصفات الخمس التىتبدأ بحرف الباء، وهى: راقصات هز البطن belly dancers ، والبدوانية bedwan ذوى الطبع البدائى الغليظ، والبليونيرات bellionaires الذين أثروا من البترول دون أن يبذلوا مثقال ذرة من جهد أوعمل ، ورواد البازارات bazar buyers الذين يشترون الأشياء بسفه من أموال شعوبهم دون الاحتياج اليها،وأخيرا مفجروا القنابلbombers أو الارهابيون الذين يقتلون الناس في عبثية مجنونة .رغم ذلك فقد وجدته مهتما ببحثى اهتماما غير عادى.كان يلقى على أسئلة كثيرة:
-ماهى الفروق الجوهرية بين قمامات المنازل والمزارع والشوارع والمقالب في بلادكم؟
-هل تدفنونها أم تحرقونها أم تعالجونها وكيف؟
-كم طنامن المخلفات تفرزها مدينتك يوميا؟
ثم اصطحبنى يوما الى مصنع سماد عضوى يمتلكه وأطلعنى باهتمام على تفاصيل عملياته الصناعية التىتنتهى بتعبئة السماد في الأكياس.في نهاية الجولة صرح لى بأن معامل مصنعه ستكون مفتوحة لى في أى وقت أرغب أن أجرى بها تجاربى.
اتضحت لى الرؤيا حين أخبرنى أنه يدرس فكرة إنشاء مصنع مماثل في احدىدول الشرق الأوسط التى يتعامل معها ليكون نواة لمجموعة مماثلة في دول أخرى.فكر في اسرائيل ومصر وشرع في اعداد دراسات جدوى مقارنة لقيام هذه المشروعات بحيث تكلفه الحد الأدنى من المتاعب الادارية والمعوقات البيروقراطية وإنفاق الرشاوى على كبار الموظفين.قال لى بوضوح ان رأس المال لايعرف الدين ولاالوطن.انه لايعرف إلا نسبة العائد اليه:أهى مجزية وتستحق المغامرة أم لا؟!..
يعبر أندرسون ببساطة ووضوح عن دهشته لغباء العرب بنفس القدر عن إعجابه بذكاء اليهود الذين نجحوا في استثمار أحداث 11سبتمبر استثمارا خبيثا فراحوا يفعلون بالفلسطينيين مايشاءون-تحت شعار مكافحة الارهاب-بمباركة من كاهن أمريكا المهووس الجالس في البيت الأبيض.وكعادته في الانتقال المفاجىء من موضوع إلى آخر حسب هواه ، سألنى عن اسم أستاذ القسم المشرف على بحثى فأطلعته عليه وخجلت أن أسأله عن السبب.
لست أعتقد أن الكثيرين من أبناء جيلى يعذبون أنفسهم بأن يفكروا مثلما أفكر في مواجهة تقلبات الحياة.معظمهم يواجهون الانتصارات والهزائم والتقلبات بدهشة شديدة في كل مرة رغم التكرار.لاشك أننى أندهش مثلهم، ولكننى أجد نفسى دائما أسيرا للتأمل العميق فيما يحدث ، وكأننى أختزن في قلبى تجربة عجوز في السبعين..اليوم مثلا فاجأنى مسعد بنبأ انقض على سعادتى فأحالها أنقاضا.طلقت شقيقته الوحيدة من زوجها الذى تزوجها بعد قصة حب عرفها الجميع.لايمكن لمسعد أن يتركها تعيش وحيدة في مصر،فالشقيقان مقطوعان من شجرة كما يقول،والشقيقة قادمة للإقامة معه،ولابد لى من البحث من جديد عن مكان آخر للإقامة.السعادة قصيرة العمر حين تقف أسبابها على ما يأتى من خارج الذات.كل ماحدث لى حتى الآن لم يكن بيدى،لكنى لن أتقاعس يوما عن الركض نحو هدفى بكل ما استطعت من قوة وليكن بعد ذلك ما يكون.دخلى من المزرعة كبير ويكفى لاستئجار مكان مناسب للإقامة.لامبرر للحزن أو تعذيب النفس بالاعتراض على القضاء..ولماذا أتألم على فراق مسعد وقد فارقت أبى وإخوتى، وفى النهاية كل شىء الى فراق.
كنت غارقا في تأملاتى وأنا أرقب غليان محلول أبخره في المعمل.ما أن انتهيت من عملى حتى توجهت الى معمل أنيتا الذى يقع في نهاية طريق طويل بنفس المبنى.كنت بحاجة ملحة لأن أحكى لها عما حدث، لالتقدم لى حلا ، وإنما لمجرد أن تستمع الىّ وأنا أفضفض عن نفسى حتى أرتاح.
ماأن اقتربت من باب المعمل حتى سمعت دوى صرخة هائلة.اندفعت بسرعة الى الداخل لأجد النار مشتعلة في أنيتا،تحيط بمعطف المعمل جهة الصدر والبطن.بجوارها كان كأس كبير موضوعا علىسخان كهربائى تندفع منه النار بقوة تجاهها.سارعت بوضع كراستى على فوهة الكأس فأطفأت النار المنبعثة منه وفصلت التيار عن السخان . في نفس اللحظة لففت معطفى الذى كنت أحمله على يدى حول جسد أنيتا واحتضنتها بقوة لأعزل النار عن الأكسيجين حتى انطفأت تماما.لكن النار كانت خبيثة إذ تسربت على الأرض حين وقع الكأس فانكسر وسال مابه من محلول طيار قابل للاشتعال.وجدت نفسى أفعل أشياء متعاقبة بسرعة بهلوانية حتى تمكنت من السيطرة على النار التى وصلت الى رأسى فسارعت بوضعها تحت صنبور المياه بعد أن أصابتنى بحروق في الكفين والرقبة.
****
لم يستطع أندرسون أن يفهم أو يستوعب ما روته له ابنته أن هناك رجلا يضحى بنفسه ويلقى بها الى التهلكة بهذه البساطة، فيتعرض للحريق من أجل إنسان غيره.عقله مبرمج على حسابات رقمية صماء.لو كان مكان هذا الرجل لانحسر دوره في الإسراع بإحضار رجال المطافىء والإسعاف دون أن يعرض نفسه للخطر.لكن لأن الأمر متعلق بابنته فقد اختلط عليه الأمر بين النفىوالتصديق والإعجاب والحسد والشعور بالامتنان. أردت أن أخلصه من حيرته فقلت له بصدق:
-أنا لم أفعل غير الواجب
وكأنما ضاعف قولى من حيرته وتعجبه فقال بنبرة تأملية:
-يبدو أننى لن أستطيع أن أفهمكم يا أهل الشرق
وبينما تمرضنى صوفيا- ومعها أنيتا- لمداواة الحروق ، فاجأتنى أنيتا بقبلة رقيقة على جبينى وهى تقول:
-أنا معجبة بك جدا يابكر
..كانت حادثة اشتعال النار في أنيتا مجرد تدبير قدرى غامض ليعوضنى عن فقدان المأوى الذى استكنت اليه بمأوى أوسع وأجمل وأكبر وأغنى..فقد عرض على أندرسون-ومعه أنيتا-أن تكون إقامتى الدائمة بالمزرعة وبلا مقابل!..
خليل السرياقوسى
لاأعرف كيف يعيش الإنسان مطمئنا وهو مهدد في رزقه.البلجيك الذين أذلهم هتلر قادمون لاحتلال مقلبى..اليوم أو غدا قادمون فماذا أفعل؟..
مشروع الشباب فشل وعجزت الجمعية الأم مثلما عجزت جمعية القمامة عن فعل أى شىء.امتلأ المقهى بهؤلاء الشبان البائسين بعد أن انضموا الى ضحايا الخصخصة الذين لم يجدوا مقابر يدفنون بها همومهم غير الثرثرة ولعب الطاولة والدومينو طوال الليل والنهار حتى يغلق الحاج سعيد باب مقهاه في الساعات الأولى من صباح كل يوم..فهل يكون مصيرى هو الانضمام اليهم؟..سبحان الله!!..أنا قاعد في مقلبى فيأتى رجال من آخر الدنيا ليأخذوه منى والحكومة تعلم وتوافق وتحرس وتبارك!..الحكومة التى شاخ أفرادها على مقاعدهم وتعفنوا من شدة التلوث..أى هوان هذا ياعالم!..أين الحق أين العدل أين الوطن؟..وأين بكر وأين عزيزة وأين النداء؟..لاشىء.
موضوع الأمس الخطير وحدث الساعة الذى يهم كل الجالسين على المقهى أكثر مما يهمهم ضياع مصادر رزقهم ، هو غرق جارنا حوده السكران.اسمه السكران ومات سكرانا بالفعل وهو يغنى في نشوة عقب مضاجعة"مخدومة"-على حد وصفه المتكرر لنا عن طبيعة أدائه الجنسى-مع فوزية..غرق في نعيم الخصخصة داخل البانيو.
طمعت فوزية العتر-زميلته بالشركة- في المعاش المبكر.لم تكن متزوجة وبالتالى لم يكن يحق لها أن تتقاضى مكافأة الدفعة الواحدة.هداها تدبيرها الى أن تستعير السكران من زوجته بقسيمة زواج، تعاهدا على أن تكون وقتية،وأن يتم الطلاق بعد حصولها على المكافأة مباشرة، على أن تتقاضى زوجة السكران عمولتها عن شهامتها تجاه صديقة عمرها.
الذى حدث أن فوزية-بعد أن قبضت المكافأة- "شبطت" في الأسطى حودة مضحية بصديقتها،فشجعته على أن يرفض الطلاق.لم يكن هناك شىء في هذه الحياة يعنى رواد المقهى غير التعقيب على هذا الحدث بآراء متباينة :
-بصراحه المره حلوه ولونه
-ياشيخ دى مراته وشها يقطع الخميره م البيت
-هى دى النذاله كما أنزلت
-معاه حق ياجدع..دى عليها جسم يحل من عالمشنقة
-أهو اتمتع وشاف له يومين حلوين قبل ما يموت
وأنا غارق في كربى جاءتنى زوجته قبل وفاته بأيام قليلة-بعد أن مزقت شعر فوزية في مشاجرة تاريخية- تطلب منى أن أقنعه بتطليق فوزية والعودة الى بيته وأولاده.كان في نيتى أن أبذل جهدى لإعادته الى صوابه،لكنه لم يمهلنى وغرق في حوض صغير.
اليوم موضوع جديد.محاكمة شعبان الشريف بتهمتى التزوير والاختلاس وطرده من الجمعية والحكم عليه بالسجن وتولى أكرم الدقاق رئاسة الجمعية الأم.كل يفتى برأيه وسط طرقعات زهر الطاولة وقطع الدومينو على المناضد:
-لم يكفه أن يلهف فلوس الجمعية فلهف فلوس الشركة
-وليه الحكومه تسرق أرزاقنا ولما نسرقها نتسجن؟
-أصله غشيم كان بياكل لوحده
شعبان الشريف الذى يتقزز من مصافحة الزبال وقراءة الفاتحة معه يرقد الآن في السجن.هذا هو الفرق بينه وبين الملك الذى هو أنا.كله بأمره،واللهم لاشماتة.
لو تركت نفسى أسيرا لهذا العالم فلن أستطيع أن أفعل شيئا أواجه به الكارثة القادمة.الحاج سعيد ثائر لأن محصل الكهرباء طلب منه سبعين جنيها متضمنة رسم القمامة البلجيكى الجديد الذى قررت المحافظة ضمه الى فاتورة الكهرباء.كانت قراءة العداد أربعين جنيها فقط .سأله الحاج سعيد مقهورا:
-هو عداد نور والا عداد زبالة أنا مش فاهم
أكد لنا أكرم أكثر من مرة أن الشركة البلجيكية تتقاضى سبعين مليون جنيها عن رفع قمامة الاسكندرية كل عام.ألا يوجد رجل واحد من المسئولين في هذا البلد ينظر بعين العدل الى المواطنين البؤساء نظرة انسانية منصفة؟..نحن لانريد أكثر من حقنا في الحياة والعمل الشريف.لماذا يحرمنا مجموعة من الجبابرة من هذا الحق وكيف يبقون بعد ذلك على كراسيهم كل هذا العمر دون أن يزحزحهم أحد؟..
أخذوا مقلب الحاج ياقوت،لكنه وجد لنفسه مخرجا بأن تحول الى الاتجار في دشت الورق فقط، تاركا مهنة القمامة.لكن كيف سيحصل على الدشت والبلجيك قد أخذوا الجمل بما حمل؟..ليس أمامه إلا أن يشتريه منهم بالسعر الذى يحددونه،فليس يعنيهم أن يربح الحاج ياقوت كثيرا أو قليلا.لكنى واثق أن ياقوت يعرف كيف يتصرف مع الحكومة،إذ اعتاد أن يقول لنا في مجالسه انه يعرف كيف يضاجعها دون أن يريها عضوه..وسوف يكسب وسوف ينشىء مصنعا للورق مثلما فعل من قبله خليفه وفرغلى اللذان أصبحا من كبار أثرياء الاسكندرية في غضون سنوات قلائل وأصلهما زبالين مثله تماما.
شاهدت في التلفزيون فيلم ناصر56 وبكيت من قلبى على هدم كل مابناه هذا الرجل العظيم ونحن نتفرج ساكتين.لم يبق الا الأمل في أولادنا أن يعيدوا في المستقبل بناء ماهدمه آباؤهم،ولكن أين أولادى منى الآن وقد تولت طبيعة الحياة قطع الحبل السرى الذى كان يصل بينى وبينهم.عفيفى وفتحى تزوجا وذهب كل الى حال سبيله ولم أعد أراهما الا في المناسبات.الهام وعزيزة على وشك الزواج وستنشغلان بأبنائهما وزوجيهما وسوف يكبرون جميعا ويكبر أبناؤهم وتسير الحياة وأموت ويقولون الله يرحمه كان رجلا طيبا.هذه هى قصة الحياة بلا رتوش.وربما أنسى عزيزتى المحبوبة الغائبة حين ترحل ابنتى عزيزة مع زوجها،فوجودها في قربى يذكرنى دائما بحبيبتى التى سرقت منى..أما بكر فغيابه عنى يثير في نفسى الاحساس بغياب الطمأنينة تجاه الأيام القادمة، مثلما غابت المتعة في مجلس اليكو بلا بيرة ولا سلطنة دماغ.
أشعر هذه الأيام في كثير من الأحيان أن حياتى قد أوشكت على الانتهاء أو أنها لابد أن تنتهى.يتناوبنى القلق والألم والغضب على التوالى وتكاد حياتى الساكنة تقتلنى، فلا جديد يبهج ولا أمل يدفع الى الحركة،ولاشىء يهز القلب ويحرك المشاعر..لقد أحالوا حياتنا الى موت..منهم لله!..
****
هاهو القلب يهتز،لكنه اهتزاز آخر غير الذى أطلبه.في المستشفى وأهلى من حولى أدركت أن عهد القوة والفتوة قد انتهى الى غير رجعة على يد ذبحة صدرية خبيثة مفاجئة.انهالت علىّ المحاذير الطبية عن التدخين وضرورة التزام الراحة والانقطاع عن العمل وبذل المجهود..ربما تموت ياخليل قبل أن تسمع النداء الحبيب الذى طال انتظارك له كى تلبيه.ربما تموت قبل أن ترى ابنك الدكتور بكر.كنت غاضبا لأن البلجيك سيأخذون منك المقلب.الذى أخذه بالفعل هو قلبك العليل.العلة بدأت بفقد عزيزه وانتهت بالذبحة..آه يازمن!..
وكأنها لحظة انصهر فيها العمر كله حين وجدتها واقفة أمامى بعد هذه السنين الطوال.كل منا ينظر الى الآخر كما لو كان لايعرفه حينا،وكما لو عاش عمره كله معه حينا آخر. خيل اليها وهى ملتاعة على حالى أن شدة دهشتى قد أفقدتنى النطق فصاحت بصوتها المنغم الجميل:
-ياندامه..انت مش عارفنى ياخليل يا سرياقوسى؟!
-لااله الا الله..أنا لو تهت عن نفسى مااتوهش عنك يا غاليه..ويمين المصطفى كنت على بالى من دقايق
-سلامتك ياسيد الرجال
-ياه..تلاتين سنه زمن..ازيك ياغاليه
-جرى ايه يارجل..قم اقف وشد حيلك..النومه دى مش بتاعتك
وكأننا نجلس وحدنا همست لها في انشراح:
- وكتاب الله انا كان قلبى حاسس انى لازم حاشوفك قبل ما اموت
-بعد الشر ياخليل..بعد عمر طويل مديد ان شاء الله
كان لابد أن أوضح للجميع من هى هذه الغالية.مات زوجها في البلاد البعيدة التى أخفاها بها عن عينى .لم ترزق بأبناء. ورثت عنه مالا كثيرا. فكرت في كل من عرفت في حياتها من أهل وأقارب وأحباء وجيران فلم تجد غيرى كى تلجأ اليه.شقيقها الوحيد يتنقل في عمله بين البلدان العربية فلا تعرف له موطنا منذ عدة سنوات،وحتى لو عثرت عليه فزوجته شيطانة يستحيل العيش معها.عزيزه الآن لم يعد لها في هذه الدنيا غيرى ولن أتركها.قلت لأم بكر:
-من النهارده عزيزه حتكون أختك
عانقتها زوجتى وهى تنظر اليها كما لو كانت كائنا مسحورا.هذه هى عزيزة التى لم أخجل ولم أتردد في ذكر حبى لها أمام زوجتى وأولادى على مدى سنوات العمر.
قالت انها اشترت شقة بإحدى العمارات ووصفت لنا عنوانها.كانت تزورنى كل يوم.لم تمتعض أم بكر من حضورها المكثف و المباغت في حياتى لأنها أدركت كم أنا سعيد بعودتها الىّ.
تعجبت لطيبة زوجتى الفطرية وحسن نواياها ونكرانها لأنوثتها طمعا فى إرضائى..لكننى لم أتعجب حين لاحظت منذ عودتى الى بيتى أنها تكثر من وضع الماكياج والتزين بفساتين جديدة على غير عادتها منذ كبر الأولاد.
****
أمام المقلب وقفت عربة ملاكى فاخرة.نزل منها خواجه أحمر الوجه أصفر الشعر ومعه سائقه وشاب نحيف يرتدى نظارة سميكة..من خلفها وقفت عربة المحافظة ونزل منها مجموعة من الموظفين.راحوا يعاينون المقلب والشاب ذو النظارة يترجم له مايقولون.لم يعرنى أحدهم اهتماما وكأننى لست موجودا على أرضى وحياتى ورزقى.حانت النهاية..المقلب سيتركنى ويذهب اليهم في لحظة.عرفنى أحد الموظفين.لاحظ غليانى وغضبى فقال لى بسماحة:
-ماتزعلش ياحاج اللى يسرى على غيرك يسرى عليك
-هى ايه الحكايه فهّمونا ياناس
-انت فاهم كل حاجه
لم أشعر بنفسى وأنا أجرى مسرعا الى العشة.كان عقلى في مكان آخر غير رأسى في تلك اللحظة.من أحد الأركان أخرجت سيفى الذى أخبأته للطوارىء.اليوم يوم استخدامه ولا يوم غيره.
-يمين بالله العظيم ان مامشيتوا دلوقت لأذبحه قدامكم
وأمسكت برقبة الخواجه بذراعى الأيسر وأنا ألوح بالسيف بيمناى.ساد الفزع والارتباك بينهم.تعالت أصواتهم المحذرة والمهدئة يطلبون منى التعقل والحكمة.لماذا يتخلى الجميع عن الحكمة وأبقى أنا الحكيم الوحيد في هذا البلد ؟!..صاح كبيرهم:
-مفيش داعى نجيب لك البوليس ياحاج.اللى بتعمله ده غلط ومالوش لازمة
- المقلب ده مش حيتاخد منى الا على جتتى
التف رجال المقلب وصبيته من حولى ثائرين يريدون أن يفتكوا بالخواجه الذى كان يرطن في ذعر بكلمات غير مفهومة.قال كلاما للشاب المرافق له ترجمه لى بأن الخواجه لن يكون سببافى ضياع رزقى لأنه سيلحقنى بالعمل في الشركة البلجيكية.بلغ تصميمى ذروته وكأننى لم أسمع حرفا مما قيل لى:
-قل له أحسن يرجع بلده وهو صاحى
تجمع أهل الحى من حولنا مرددين عبارات السخط والقرف من الحكومة وموظفيها المرتزقة الجبناء.راح الصبية يقذفونهم بالحجارة ويجرون.اشتبك الأهالى في نزاع مع الموظفين وتدهور الموقف فأصبح منذرا بالخطر.بعد قليل جاءت عربة بوكسفورد ونزل منها النقيب هشام ضابط النقطة وبعض العساكر..يعرفنى هشام جيدا فقد تعاونت معه من قبل على فض خصومة دموية بين عائلتين متناحرتين،وظل من يومها يكن لى تقديرا خاصا.قال بهدوء:
-الأول سيب رقبته ياعم الحاج وبعدين نتفاهم
كنت أتنفس بصعوبة وغلّ الدنيا كله يغلى في صدرى المذبوح..أنا الملك العزيز خليل السرياقوسى بمقلبى والعبد الذليل بدونه.توالت ضربات قلبى الخائن بشدة وتساقط شلال عرق من جسمى،وشعرت بصدرى ينضغط بعنف خانق.جاء الحاج سعيد مهرولا وهو يقول لى في فزع:
-إعقل ياحاج انت رجل صاحب مرض
..في نفس اللحظة سقط السيف من يدى ولم أشعر بشىء.
****

أكرم الدقاق
انتهت فصول المأساة بصدور حكم من المحكمة بتعويض غير منصف للشباب لايمكنهم من سداد أقساط العربات التى اشتروها، ومات المشروع ومات معه أى احتمال لمحاسبة المتسببين فى فشله.قال المسئول الكبير في المحكمة ان المحافظة لم تعد بحاجة الى المشروع نظرا لتواضع إمكانياته واستدل على ذلك وبرره بالنجاح الساحق للشركة البلجيكية فىتنظيف المدينة.الحق أنه لم يكذب في استدلاله ،فقد كادت القمامة أن تختفى من شوارع المدينة وأزقتها،رغم أن الأيدى العاملة للشركة البلجيكية كلها أياد مصرية. لكنه كذب في ادعائه،فالفرصة لم تعط للمشروع وإنما قتل في مهده
الآن فقط ينبغى أن أعترف بسقوط نظريتى ونجاح نظرية بكر.لكى نغير يجب أن نهدم القديم أولا ونزيل آثاره ثم نبنى الجديد على أرض نظيفة ممهدة،وهذا ليس في استطاعتى أو فى استطاعة أحد بمفرده.التغيير يتطلب ثورة شعبية شاملة على القديم البالى المتعفن..لنفس السبب لم يستطع خليل السرياقوسى أن يقاوم جبروت السلطة، لأنه ضئيل بمفرده قياسا الى قوتها وسطوتها.
بعد يومين من اقتحام المقلب مات الرجل مقهورا.ولئن كان موته متوقعا لانهيار حالته الصحية خلال هذين اليومين، فإن موت محبوبته عزيزه من بعده بيوم واحد أثار ذهولى،لكنى كنت على يقين من أن هناك سببا غامضا يربط بين الموتتين، قابعا في غور أغوار خبايا النفس البشرية.رأيت أم بكر وهى تبكى زوجها مرة،ثم رأيتها وهى تبكى عزيزة مرة ثانية،ولم يكن بيدى غير الحسرة على آمالى التى انهارت وانهارت معها آمال الزبالين البؤساء الذين تصدرت لرعايتهم.أنا لا أفهم بالمنطق العقلى معنى مايحدث.لعل للرب حكمة في كل ذلك لايدركها العقل.كانت بستان تشاطرنى الآلام والهموم،لكنها سافرت مع أسرتها الى الإمارات العربية إذ تولى والدها رئاسة فرع الشركة التى يعمل بها هناك.لم أجد غير صدر أمى أتنهد عليه وهى تربت على شعر رأسىكطفل صغير.
اشتعلت بصيرتى وأنا أتأمل ماحدث.انه التلوث بعينه رغم النظافة البادية على الشوارع، فالملوثون من داخلهم لم يعرفوا كيف السبيل الى ازالة التلوث من الشوارع..وحتى ان كانوا يعرفون فهم لايريدون،والأيدى المصرية التى أنجحت الشركة البلجيكية هى خير شاهد علىذلك.
قالت الدكتوره ساميه إن الحفاظ على البيئة من التلوث لايقتصر على إزالة القمامة من الشوارع.سارعت بالتعليق:
-تقصدين أهمية إزالة القمامة من الصدور
-أنا لم أقصد ذلك وإن كانت هذه ضرورة،لكنى أتكلم عن منظومة متكاملة وفكر عام
-كيف؟
قالت ان غياب هذا الفكر عن القائمين على شئون البيئة يهدد اقتصاد البلد وأمنها القومى،وضربت لى أمثلة عديدة عن اختفاء أثر هيئة تخطيط المدن التى كانت تخصص أطراف المدينة لإنشاء المصانع، فأصبحت المصانع تقام وسط البلد وتصرف مخارجها الملوثة على السماء والنهر والبحر دون أن يعبأ أحد بصحة المواطنين،وكأنهم يريدون التخلص من أرواحهم عن عمد..حدثتنى عما يحدث في بحيرة مريوط:ناس تخطط لزيادة الثروة السمكية وآخرون يخططون عن جهل لتدميرها..وعن الغبار الناتج من مصانع الأسمنت والغزل والنسج فيلوث الرئة ويزيد من نسبة الأمراض الصدرية..وعن ارتفاع نسبة الإصابة بالفشل الكلوى الناتج من المياه الملوثة والأسمدة السامة.
****
انكمش نشاط جمعيتنا بعد الإجهاز على المشروع بفعل التلوث العام،وتوقف بصفة مؤقتة نشاط الجمعية الأم،حتى انتخبنى أهالى الحى رئيسا لها من بعد شعبان.قبلت هذه الرئاسة من باب الخجل والحياء من أهل الحى لأننى في حقيقة الأمر قد أصبت بحالة من التجمد ،ولم أعد أفكر الا في قرب رجوع بكر ليشد من أزرى ونصنع معا شيئا.. تيقنت من سلامة مبادئه لعجزى عن تحقيق معادلة تجمع النظافة والتلوث بين طرفيها على أمل أن تقضى الأولى على الثاني تدريجيا.لم تفلح الدبلوماسية ولم يفلح الدهاء ولم تؤد المرونة الى شىء.صدق بكر،فأمين السناوى مازال سادرا في غيّه.يريد أن يبرهن للجميع على أن الشكوى المدعمة بالأدلة لم تؤثر على موقعه رغم أنه لم يتوصل الى كاتبها.لو كان بكر هو الذى كتب هذه الشكوى لوقع عليها بإسمه دون تردد أو تخاذل،على عكس مافعلت أنا..واضح أن الحلول الوسط والألعاب البهلوانية لم تعد صالحة للعمل بعد أن بلغ الانحدار مداه.الحلول القطعية الباترة فقط هى التى تصلح للمقاومة والتغيير..نسف القديم الملوث أولا،ثم إعلاء الجديد النظيف من بعد ذلك.
أمين لايشبع ولايرتوى من المال الحرام.تواطؤه مع الدكتور طارق أصبح حديث الجميع ،ابتداء من الأستاذ حنفى كبير غرفة المنفيين ومساعدته المهندسة ايمان،وانتهاء بأصغر عامل في الشركة..لكن أحدا لم يفعل شيئا.استخف قومه فأطاعوه.تفتق ذهنه عن حيلة جديدة تجلب له موردا لايتوقف من العمولة الحرام.جاء يوما وبصحبته خبير أجنبى متعجرف لتجربة مادة كيمائية جديدة ادعى أنها تحسن من الخواص الطبيعية للورق.لاحظت بالمتابعة الدقيقة أن خواص الورق من مقاومة للشد والانفجار والتمزق بعد إضافة هذه المادة الي عجينة الورق، لم تتحسن في قليل أو كثير.راجعت نفسى مع مهندسى المعمل الكيمائى فربما كنت مخطئا.كان بصحبتى الأستاذ حنفى الذى صاح في سخرية ممتزجة بالوقار:
-كل حاجه صح في مكانها الغلط.وإن لم تكن تصدقنى اسأل الأستاذ شناوى مدير الحسابات
-وماله الأستاذ الشناوى بالموضوع؟!
-بالأمس رأى بعينيه أمين بك مع الخبير يتناولان العشاء بالنادى
-والمعنى؟
-سعر الطن من هذه المادة خمسة آلاف دولار.يعنى لو العموله 1% يقبض خمسين دولار عن كل طن،ولو2% يقبض مائة دولار..ثم اضرب في عدد الأطنان التى ستورد الينا كل شهر،وبعد ذلك تعال لنتكلم براحتنا عن التلوث وكيفية إزالته ، فالكلام ليس عليه جمرك
كل يوم يمر أزداد شعورا بالدونية لعدم قدرتى على مواجهة أمين بأننى صاحب الشكوى،وكلما ازداد طغيانه وتجاهله للجميع ازداد شعورى بالذنب والندم.غير أننى لم أستسلم تماما، فقد تحديته على طريقتى المراوغة التى لم أستطع التخلص منها حتى الآن رغم تسليمى بالعجز والتجمد وعدم القدرة على الفعل.قدمت له تقريرا بخواص الورق المنتج على الماكينات وكانت خواصه ممتازة.قال بغرور ونحن واقفين أمام الماسورة التى تغذى عجان الورق بالمادة إياها:
-هذا يؤكد أن إضافة المادة الجديدة هو السبب
-ولكن المادة ليست هى السبب
-ألا تراها بعينيك وهى نازلة من المواسير؟
-الذى تراه نازلا من المواسير هو الماء وليس المادة!
-ماء؟..من الذى فعل ذلك؟؟
-أنا الذى أمرت باستبدال الماء بالمادة لترى النتائج بنفسك على الطبيعة
أسقط في يده وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتنى وحدى.أحالنى الى التحقيق بدعوى أننى غيرت ظروف التشغيل دون الرجوع اليه.
أمام المحقق كان لابد أن أعرف من أنا الحقيقى.هل أنا أكرم النفعى الذى لن يختلف كثيرا عن أمين في هذه الحالة أم أننى أكرم آخر..كان بكر ماثلا في مخيلتى وأنا أقول الحقيقة أمام المحقق بلا ذرة من تردد.
أمر أمين السناوى بحفظ التحقيق ليلم الموضوع، ولم أستطع أن أغير شيئا من واقع الأمر. بلغ بى الغيظ مداه وقررت أن أتخلص من القيد الحديدى لمعادلتى الفاشلة..اقتحمت مكتبه صائحا:
-أنا الذى كتبت الشكوى الى رئيس الوزراء !
بكر السرياقوسى
ما أجمل الدنيا حين تسخو بالعطاء فتكون أيامها مترعة بالهناء والسعادة والطمأنينة.هاهو القلب ينبض بمشاعر طازجة تذكرنى بنبضه القديم الذى تعمدت أن أوقفه من قبل،فهل أسمح له أن يتمادى في غيه فيعطلنى عن تحقيق مسعاى أو يعرضنى لفشل جديد قد يهدم كل مابنيت؟..
لهذه الفاتنة الأوروبية سحر ثلاثى المفعول لايقاوم.أنا مسحور بعقلها وقلبها وجسدها دفعة واحدة،لكنه سحر لايذهب بالعقل وإنما يشعله بالفكر والحيوية.تتصرف بحرية تامة وتراعى حرية الآخرين بنفس القدر. في سلوكها الأخلاقى تحفظ يعجبنى.يمكننى القول بأنها مسيحية معتدلة.أدهشنى حبها الشديد للدكتور هاتس،وهى تنطقه ياتس.سألتها عن السبب فقالت في حسم:
-الدكتور ياتس فكره كونى شامل.إنه حالة خاصة من البشر لا من اليهود.
تضاعفت قوة التفاهم بيننا ، حتى أننى كنت أشعر براحة غامرة وأنا أتبادل معها الحديث في أى موضوع.قالت لى يوما بعد انصراف الدكتور ياتس:
-ليت العالم ينتبه الى روعة مانفعله ثلاثتنا أنا وأنت والدكتور ياتس
- أية روعة هذه!
-الاسلام والمسيحية واليهودية يعملون معا في صمت من أجل حياة انسانية أنظف
****
فوجئت بمحققين من الشرطة يأتيان الى المزرعة في طلبى مما أثار ارتباكى ودهشة أنيتا وفزع أندرسون.التهمة هى الاشتباه في قتل مدام "أولى"عشيقة فاروق العجمى.تلك الشمطاء التى كانت سببا في إذلالى دون أن تدرى.أقوال فاروق تؤكد أننى كنت شريكه في قتلها وسرقة أموالها ومجوهراتها..وأسألك يارب هل هذا تلوث مصرى صميم أم أنه تلوث انسانى على وجه العموم،لاشأن له بدين أو وطن!
أوضحت للشرطة أن علاقتى به قد انقطعت تماما منذ أن غادرت شقته،ولماسئلت عن مكان تواجدى ساعة وقوع الجريمة لم أستطع أن أتذكر وبدا علىّ شىء من الارتباك،فقد مضت أشهر عديدة على ابتعادى عن هذا الوغد.رحت أسرد عليهم حركتى اليومية المستقرة من المزرعة الى الكلية،وقليلا من التغيير الاستثنائى بالخروج مع أنيتا، فلابد أننى كنت ساعتها في أحد هذه الأماكن لاغيرها..وكانت مفاجأة لى حين طلبوا أنيتا للاستجواب فحسمت الأمر بقولها:
-كان معى في ذلك الوقت نتناول العشاء في مطعم النجوم
وضعنى تصريحها في موقف أشد ارتباكا،فأنا لاصلة لى بهذه الجريمة من قريب أو بعيد،لكنى لم أكن واثقا من صحة ادعاء أنيتا وتحديدها لمطعم معين.
بعد ثبوت التهمة-بالعديد من الأدلة والشهود-على فاروق بمفرده،سألت أنيتا وأنا في حيرة:
-هل كنا بالفعل في ذلك المطعم ساعة وقوع الجريمة؟
-أظن ذلك
قالتها ببساطة شديدة وكأنها تظن فعلا ولكنها لاتجزم،ولما لاحظت شدة تعجبى من موقفها سألتنى بنبرات حازمة:
-هل قتلتها يابكر؟
-بالطبع لا..وأقسم بالله على ذلك
-لاحاجة بك الى القسم،فيقينى أنك لاتفعل ذلك..لهذا قلت ماقلت
-ألم يكن قرارك عاطفيا؟
بابتسامة غامضة قالت متخابثة في دلال:
-إسمع يابكر.نحن الآن نيوترال.أنت أنقذتنى وأنا أنقذتك..خالصين
تقاربت عواطفنا من بعد هذا الحدث مثلما تقاربت أفكارنا من قبله، وتضاعف حماسى للعمل بهمة عالية،وما أن أصبحت على وشك الانتهاء من الجزء الأول من البحث حتى فاجأنى الدكتور ياتس بقوله:
-الآن يابكر قد انتهى دورك مع القمامة الألمانية
-كيف يادكتور؟..اننى لم أنجز أكثر من ثلث البحث حتى الآن!
-أعرف ،ولكنك ستستخرج السماد اللعضوى من القمامة المصرية وتحت إشرافى أيضا.
أصابتنى الدهشة المختلطة بالفرحة بما يشبه الدوار في رأسى وانهمرت في سيل من الأسئلة:
-كيف؟..هل ستأتى معى الى مصر؟..ومن الذى سيتولى الانفاق على البحث،وهل..
قاطعنى قائلا برفق العلماء:
-لاتتعجل الأمور.سوف أحضر إلى مصر بعد انتهاء رسالتك،والبحث سيكون مشتركا بين جامعتنا وجامعة الاسكندرية،وشركة كبرى-كما هو المعتاد عندنا-ستمول البحث وأنت تعرف صاحبها..
-من هو؟
-مستر أندرسون
وليلة السفر جاءتنى أنيتا.كانت قلقة على اختفاء والدها دون أن يعلم عنه أحد شيئا، سواء بشركاته المتعددة أو بالفنادق التى ينزل بها أو بالمنتجعات التى يستريح فيها.لم يستطع البوليس أيضا أن يتوصل الى مكانه.عرضت على أنيتا أن أؤجل سفرى حتى نعثر على أبيها،ولكنها أصرت على الرفض بمنطق براجماتى لايستطيع العقل أن يرفضه. بدأت في البكاء كامرأة شرقية،ثم إذا بها تلقى برأسها علىصدرى وتحتضننى في قوة وحنان.ياإلهى..لم أعرف أن للقبل بين المحبين لذة كهذه التى أذوب فيها وأفنى وأتلاشى..ودون أن ندرى انصهرنا في وحدة جسدية رائعة لم أعرف مثيلا لنشوتها في حياتى.
****
من مطار القاهرة الى مدخل الاسكندرية كان صدرى قد تشبع برائحة مصر، التى مهما كانت عطانتها تتحول بداخلى الى مسك وعنبر.وفى موقع محدد بطريق الملاحات تعجب سائق التاكسى لأمرى حين طلبت منه التوقف وانتظارى لحين العودة،واتجهت الى المقلب.
خيل الى أننى تهت عن المكان ولكن هذا هو المستحيل بعينه،فهنا يقبع الملك على كرسى عرشه في شموخ..أبدا لم أجده كما لم أجد أحدا من رعاياه المحبين،وإنما وجدت عمالا يرتدون"يونيفورم" عليه اسم شركة أجنبية يقومون بفرز مصنفات القمامة تحت إشراف رجل أجنبى،ولمحت امرأة مقرفصة مكومة في أحد الأركان تصدر عنها صيحات غضب لاتنقطع:
-ماتتعبش نفسك ياجورج.أنا قاعده هنا على قلبك ليوم الدين
لكن جورج هذا لايشعر بوجودها ولايوليها سمعه أو بصره أو أدنى اهتمامه.
-ايه اللى جابك هنا يابارد؟.رح في داهيه منين ماجيت.احنا ماصدقنا خلصنا م الانجليز وأيامهم السوده
اقتربت منها..تعالى في حضنى ..
-انت مين؟
-انا بكر السرياقوسى ياام الكنى
وكأننى كنت أجالسها منذ قليل،قالت في حسم:
-رح هات لهم البوليس يابكر..المطرح ده بتاعنا مش بتاعهم
-حاضر..حاضر ياام الكنى
وجاءنى أحد العمال مندهشا..فهمت منه الحكاية وحزنت بعمق مكثف،لكنها استطردت في عفوية:
-أبوك الله يرحمه كان حيقطع رقبته بالسيف لولا ان السر الإلهى طلع ساعتها
..السر الإلهى؟؟!!..لابد أنها تخرف،فلايعقل أن يموت أبى دون أن أعرف.
لم أستطع التوجه الى البيت من شدة الخوف.قررت الذهاب الى المقهى ومتاعى مازال مكدسا في حقيبة التاكسى،والسائق مازال حائرا في أمرى لأنها-فيما يبدو- كانت المرة الأولى في حياته التى يصطحب فيها عائدا من الخارج لا الى بيته وأسرته، بل الى مقلب زبالة ثم الى مقهى ما هى إلا عشة متواضعة،روادها مجموعة من البؤساء.التقانى الحاج سعيد بالأحضان قائلا:
-البقية في حياتك يابكر
إذن فقد مات الملك!..أى حسرة أن يموت أبى في هذا التوقيت قبل أن يحج ويرى ابنه الدكتور..اعتقد الحاج سعيد أننى علمت في الخارج بموته،ولكنه دهش حين نزلت عبارته كالصاعقة على رأسى رغم التمهيد الأولى الذى قدمته لى أم الكنى دون أن تدرى..وانفجرت في بكاء شديد.
****
بكائى أمام أكرم على كل ماحدث كان بلا دموع،فالدموع كانت تنزف من القلب على أبى ومملكته وعلى الزبالين وشباب المشروع والمحافظة والحكم المحلى والحكم الأجنبى والدنيا كلها.أى سواد كثيف يستبد بالصدر والروح.أهذا الذى هو أنا الآن هو نفس الأنا الذى كان بالأمس بين أحضان أنثى غارقا في نشوة الحب،سكرانا بالروح والجسد، منفصلا عن الأرض موصولا بالسماء في غيبوبة مقدسة؟!..لم يستطع هرقل أن يقتل أنتييه الا بعد أن رفعه من الأرض لأنه كان يستمد قوته من ثباته عليها،ورغم ذلك يحضرنى موال محمد عبد المطلب القديم:"أنا مهما اشوف العجب واطوف بلاد ياما..أجمل جمال أنظره هو جمال بلدى"..آه يابلدى لماذا أحبك بهذا الجنون وكيف أستطيع التثبت والتشبث بأرضك حتى لا أموت بسيف أبى،ومن أين لى بطمأنينة راسخة وأنا أفرح بالموجود وأحزن على المفقود،ولم الطمأنينة يارجل وكأنما ليست لرحلتك نهاية،ونصحنى أكرم بالتفرغ لبحثى أولا قبل أن أفكر في أى حلم أو أمنية لى أو لغيرى وكنت سعيدا لأننى لن أرى الدكتور طارق الألفى مرة ثانية فقد تقرر أن تكوت أبحاثى بكلية العلوم وبإشراف الدكتوره ساميه المحجوب المتخصصة في أبحاث البيئة،وإن كان بحثى في قصة ظهور عزيزه ثم موتها بعد موت أبى مباشرة،بحثا مرهقا يشدنى بقوة بين الحين والآخر ويدفعنى الى التساؤل عن معنى الحياة ويؤكد لى أن مجاهيلها وأسرارها ومفاجآتها غالبا ماتستعصى على البحث والتفسير والتعليل،ولقد تنقلت بين معامل الكلية ومقالب الزبالة المطورة ومصنع السماد الذى احتله البلجيك فجددوه وطوروه ونظموه،وتأملت شوارع المدينة وقد تخلصت من تلال القمامة والقاذورات وأصبحت نظيفة بالفعل،والذى يدهشنى أن أمى لم تذكر الراحلة عزيزة بكلمة سوء وكأنها التزمت بمطلب أبى أن تخاويها.كل ماقالته أن الفراغ الذى تركه أبى يضنيها،لولا اعتكافها الدائم على الصوم والصلاة..ولما عاتبتها قالت انها لم تشأ أن تقهرنى بنبأ وفاته في غربتى حتى لاتتسبب في ارتباك شئونى هناك..وقالت لى أنيتا على الهاتف ان جماعة مجهولة قد اختطفت أباها وطلبت فدية مالية كبيرة لقاء إطلاق سراحه،وإنهم حصلوا عليها بالفعل بناء على تعليمات أندرسون لمعاونيه،فهنيئا لهم بحرية الخطف والتهديد والقتل والإرهاب التى لايلصقونها دوما إلابالعرب والمسلمين حتى من قبل أن يتوصلوا الى الفاعل الحقيقى.لقد روجوا في البداية لصراع ثقافى بين الحضارات ثم انتهوا الى اختزال هذا الصراع الى صراع وحيد بين الغرب والإسلام،وقالت لى أنيتا:
-لقد أوحشتنى جدا يابكر..إنى أفكر في زيارتك بمصر!
****



















د0ساميه المحجوب
أبسط ما يمكن أن يقال عن مفاهيم الرجال عندنا عن المرأة أنها مفاهيم غير نظيفة.عندما تزوجت مروان كنت أرى فيه نموذجا مثاليا للجنتلمان.مهذب.دبلوماسى.منظم.دقيق.موفق في عمله.وسيم.صحته جيدة.لكن معاشرته فاجأتنى بأمرين كان كل منهما أغرب من الآخر.الأول أنه كان يغار بشدة من كلمة "دكتورة"ويكره انشغالى بالأبحاث والدراسات والمؤتمرات رغم إخلاصى الشديد في أداء واجباتى كزوجة وأم لبنت واحدة.كل تميز أحققه في عملى لابد أن يعقبه شجار ونزاع،وأن يصحبه شعور بالحقد لايكنه إلا خصم لعدوه.أدركت تماما أنه ساخط على تقدمى عليه في الدرجة العلمية وكأننى المذنبة المسئولة عن توقفه عند حد البكالوريوس وانصرافه الى جمع المال.أقواله وأفعاله كانت تنبىء بوضوح عن استقرار مفهوم غريب في ضميره عن المرأة ممثلة في شخصى،فلا يجوز عنده أن أتفوق عليه في أى شىء.أنا مجرد زوجة فحسب.جارية اشتراها لتقضى له حاجاته فقط.
الأمر الثانى-وهو يؤكد صحة تصورى-كان سلوكه معى في الفراش.لو قلت مهما قلت في هذا الشأن فلن يصدقنى أحد،فأنا بالنسبة له مجرد ماعون يسكب فيه مضغوطاته البيولوجية الملحة ثم علىّ أن أذهب بعد ذلك الى الجحيم.يتحول الى إنسان متخلف شديد الجهل باحتياجات المرأة الطبيعية من ملاطفة ومؤانسة ومودة.حيوان مسعور يقذف بحممه الحيوانية في جسدى بعنف وغلظة وشراسة ثم يتركنى في ذروة الالتهاب دون أن يعبأ بوجودى.
حاولت بكل سبل التحايل الممكنة أن أدربه على كيفية أن يتعامل معى كأنثى بإنسانية وتراحم،لكنى لم أستطع.لم يفلح التعليم في تخليصه مما توارثه عن أجداده من خرافات اجتماعية ملوثة بدونية المرأة.صفعنى بشدة على وجهى حين رفضت ذات ليلة أن أخضع مستسلمة لرغبة مفاجئة انتابته قرب الفجر لمضاجعتى بينما كنت مجهدة أغط في نوم عميق.
في النهاية لم يكن أمامى إلا أن اتخلص من هذا العذاب فكان الطلاق. سافرت وتفرغت للعلم و احتفظت بابنتى نهال معى.صنعت منها إنسانة مثقفة واعية وأعددت منها مشروع زوجة مثالية لعقلية الرجل الشرقى ، تعرف كيف تحتفظ بكرامتها وحقوقها ورغباتها المشروعة.
****
عرفت في بكر شابا شديد النقاء وتعاطفت مع طموحاته وأحلامه وهو ابن عامل القمامة.تمنيت كأم أن تكون نهال من نصيبه،لكنه عاد من ألمانيا مرتبطا بألمانية فحزنت،لكنى أخفيت حقيقة أمنياتى ومشاعرى عن نهال وبكر معا.أغلب ظنى-من واقع خبراتى-أن مثل هذه الزيجات لاتنجح في معظم الأحيان.والحق أننى أشعر بشىء من السخط تجاه خيرة شبابنا الذين يتزوجون بأجنبيات تاركين بناتنا للعنوسة والذبول.في مصر تسعة ملايين عانس كما تقول الاحصائيات.الشباب عاجزون عن الزواج وعجزهم وثيق الارتباط بالعجز العام اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.الناس كلها تعرف أن مسئولية العجز تقع علىكاهل المهيمنين علىادارة شئون البلاد منذ عدة عقود.الأمر المؤسف أنه رغم تلوث عدد كبير منهم بجرثومة الفساد،إلا أن الشعب عاجز عن التخلص منهم.طالت هذه الجرثومة معظم قطاعات المجتمع حتى وصلت الى الجامعة.الدكتور طارق الألفى خير مثال لهذه الحالة.سرقته لأبحاث غيره تجعله لايختلف في شىء عن الأساتذة الذين يبيعون الامتحانات.حتى في مجالنا ظهرت نماذج أخرى من رؤساء الشركات السابقين والأساتذة المتفرغين والضباط المتقاعدين..كلهم أصبحوا في غفلة من الزمن خبراء في شئون البيئة بين يوم وليلة وطبعوا لأنفسهم كروتا تحمل هذه الصفة..ظاهرة يسميها العوام"سبوبة"للرزق وإن كان غير مشروع.ندوات ومؤتمرات وولائم وزيارات غير مجدية وخطابات متبادلة وفاكسات وعمولات وسمسرة على المشروعات وأحاديث في التلفزيون وسفريات الى الخارج ،وكل ذلك بلا أدنى أثر إيجابى فعال، فالشركات الصناعية تلقى بمخلفاتها في البر والبحر والنهر بلا حساب،ولا يستطيع أحد أن يتخذ قرارا قابلا للتنفيذ يإغلاق شركة مخالفة لقوانين البيئة.المسألة كلها كلام في كلام.مجرد موضوع جديد منشط لثقافة اللفظ التى يبرع فيها مجتمعنا دون إنجاز.
براءة بكر ونقاؤه وحماسه لإنجاز عمل يفيده ويفيد مجتمعه كانت جميعا بمثابة مطهر صحى لجرحى الملوث ببكتريا مجتمع منفصم على نفسه يجمع بين كل المتناقضات.كلما تأملت صبره وإصراره ومثابرته على إنجاز بحثه، انطلقت أفجر طاقاتى في خدمة شباب الحى الذى أنتمى اليه وتنويرهم وتثقيفهم بيئيا.لم ترد الى خاطرى يوما رغبة في الحصول على أى مقابل من أى جهة أو بأية وسيلة.وجود هذا الشاب في حياتى كان شيئا هاما يبدد وحدتى ويخفف من وطأة قسوتى على نفسى بالانهماك في العمل ليل نهار دون فسحة من الوقت أمنحها لنفسى كى أستريح أو أتأمل أو حتى ألتقط أنفاسى.كانت تساؤلاته بريئة وإن كانت واعية.قال لى يوما في تعجب:
-إن قمامة الأحياء الراقية تعطى سمادا أوفر من قمامة الأحياء الفقيرة
-احمد ربنا أنك تستفيد بها في بحثك كما يستفيد بها بعض الفقراء الذين يجدون فيها طعاما لهم
-وأين العدل في ذلك؟
-وأين العدل في إلقاء بعض الدول الغنية بفوائضها الغذائية في البحر للحفاظ على الأسعار العالمية؟
كلانا يشعر بالغربة في وطنه بشكل أو بآخر،وكلانا عانى من الغربة خارج الوطن.تألمت كثيرا لما رواه لى عن تجربته المريرة في ألمانيا،لكنه بالتأكيد لايستطيع أن يدرك طبيعة معاناتى في كندا وأمريكا وأنا امرأة بلا رجل تصارع الغربة والوحدة معا.كان بمقدورى أن أندمج في حياتهم وأشاركهم اللهو والمتعة في أوقات فراغى فلا أشعر بغربة أو وحدة.لكنى استعضت عن ذلك بعملى وابنتى،فبقيت حتى هذه اللحظة بلا رجل.ليال طويلة من عمرى أمضيتها باكية على فراشى عندما كنت أتجاسر على التفكير في النوم.كنت راهبتين في وقت واحد.راهبة في خدمة العلم وراهبة في خدمة نهال التى لم توفق حتى اليوم في العثور على رجل مناسب تعيش في ظله حياة كريمة.وبقدر سعادتى بالرهبنة الأولى تجىء تعاستى في الثانية إذ أخشى أن أموت قبل أن أزوجها.
****
حبى لأكرم لايقل عن حبى لبكر،لكنه حب من نوع آخر.أرى فيه شقاوة الشباب ومشاغبته من جهة في ثنايا سعيه،ولكنى أراه من جهة أخرى حريصا على ألا يكون شهيدا لمبدأ أو مسيحا يحمل خطايا الآخرين.يجمع في مهارة بين سبل تحقيق الهدفين، العام والخاص، مجتهدا ألا يسلب أحدهما من الآخر شيئا.كنت واثقة أنه لن يصمد طويلا أمام هذا التناقض،ولقد تحقق حدسى بالفعل حين أعلن في ثورة من ثورات غضبه على انحراف رئيس شركته أنه كاتب الشكوى المجهولة..وحين عاد اليه بكر كان كمن عادت اليه روحه.ارتاح بكر لتحوله وراحا يخططان معا لمشروع السماد الجديد الذى سيقوم على بحث بكر ودراساته ويمتص تداعيات المأساة التى أودت بمشروع الشباب الذى خططا له من قبل.سينتج المصنع ألف طن من السماد يوميا ويستوعب جزءا كبيرا من قمامة المدينة وعمالة الزبالين العاطلين.
في غمرة حماسهما فكر أكرم في الاستقالة من الشركة والتفرغ لتأسيس شركة جديدة تقوم بتسويق وبيع السماد المنتج.نصحته بالتريث حتى يخرج المشروع الى حيز الوجود الفعلى،خاصة وأنه ينوى الزواج من بستان بعد عودتها من الإمارات في أقرب إجازة لأبيها،ولايجوز له التفريط في وظيفته بهذه السهولة.كل ما عليه أن يواصل نضاله ضد السناوى وجها لوجه متحملا النتائج في صبر وشجاعة.لكن مجريات الأمور لم تشأ أن تطيل من صبره أو تمتحن شجاعته،فقد بيعت الشركة ضمن خطة الخصخصة الى مستثمر كويتى كانت أولى قراراته الاستغناء عن أمين السناوى وطارق الألفى.مابين يوم وليلة فقد أمين هيله وهيلمانه وأصبح في الشارع بلا عمل، وأضحكنى أكرم حين أخبرنى أن الأستاذ حنفى قد أقام حفلا في غرفة المنفيين بهذه المناسبة شماتة في السناوى والألفى وقال بسعادة:
-الآن أصبحت كل حاجه صح في مكانها الصح
لكن فرحته لم تدم طويلا إذ تم الاستغناء عنه هو الآخر ضمن خطة المالك الجديد لتقليص عمالة الشركة.
****
هذا هو عالمى الذى أغرقت نفسى فيه:شئون البيئة.الأبحاث.خدمة المجتمع المحلى.تدريب الطلبة على أسلوب التفكير العلمى القائم على الإبداع لاالحفظ والتلقين.تقديم المشورة الى المحافظة في كل مايتعلق بالمشروعات الخاصة بنظافة المدينة..إن عاجلا أو آجلا فلسوف تتزوج نهال.أنا الآن على مشارف الخمسين،وقد أنجزت الكثير للآخرين فماذا عن نفسى وعن حياتى القادمة؟..لقد رفضت عروضاكثيرة للزواج من قبل.اليوم أعاود التفكير في هذه القضية المؤجلة،وبإلحاح يطاردنى بين الحين والآخر..لماذا لاأتزوج؟..
****




















المقلــــــب
عندما بلغ أليكو النبأ جاء طائرا بعربته الىّ.دائما تكون بدايتى من حيث ينتهى الناس.حمل خليل في عربته وانطلق مسرعا الى المستشفى.وعندما سلم خليل الروح بكى أليكو كامرأة.في المساء ظل يسكر حتى غاب عن وعيه.
بعد أسابيع قليلة بلغنى أنه هاجر الى اليونان ولم يعرف أحد السبب في هذا القرار المفاجىء،لكن ربما كان السبب الذى أظن أننى أعرفه هو السبب الحقيقى.
****
بهت ناموسه للانقلاب الذى رآه في هيئة أورمه وحديثه..شكلا وموضوعا..
-ايه ياوله الحلاوه دى؟..خلاص نضفت ونسيتنا ياجربان
-مش ممكن أنسى حبايبى..أمال أنا اليه اللى جابنى من مصر
-أقعد احك لى عملت ايه مع أبوك
-معندكش فكره ياناموسه يعنى ايه تعيش في وسط عيلتك.تاكل وتشرب وتلبس وتقلع وتنام معاهم
-يادلعو يادلعو
-لك حق تتريق أصلك ماجربتش
-واجرب ازاى يافالح؟
-تسيب أبوك عايش لوحده ليه ؟..ماتعيش وتشتغل معاه يا أخى
-الوله الجرنش طلع خبيث.أخدها من قصيره وراح اشتغل مع الخواجات
-يابنى لازم تفهم ان كار الزبالة بتاعنا انتهى خلاص..لازم تتصرف
-بيقولوا المهندس بكر حيعمل مصنع سماد وحيشغلنا كلنا فيه
-أنا ماعدتش اصدق كلام الافندية المتعلمين دول..كلهم فنجرية بق وبس..تعال انا عازمك عالغدا في المطعم اللى خدتنا فيه قبل كده،فاكره؟..
****
بدأت المحافظة في تنفيذ مشروع تجميل ضفتى المحمودية.أول الإجراءات كان إزالة العشوائيات.أحال البلدوزر عشة ديشه الى حطام.جلس مقرفصا وسط أنقاضها وقد أشعل نارا يستدفىء بها ووضع فوقها براد شاى.قال لناموسه في بؤس شديد:
-بالذمه ده يرضى ربنا؟..الشغل وكرشونا منه وبقينا صياع.الخواجات ومارضيوش يشغلونا عندهم..كمان المتوى اللى لاممنا وساترنا يهدوه وقال ايه عشان تجميل المدينه..ياخى يحرق دين المدينه اللى تعمل فينا كده
-وحد الله يارجل.بكره المصنع الجديد حيلمّنا كلنا ان شاء الله
-بصراحه أنا مش مصدق ان اليوم ده حييجى
-خلاص روح اعمل زى عبيد وودّى نفسك في داهيه
-ماله عبيد؟اللى اعرفه انه اتدروش من تحت راس الاقساط اللى ماعرفش يسددها ودقنه بقى طولها شبرين
-يابنى انت على نياتك..دى تايوانى
-يعنى ايه
-عبيد ياصاحبى بيشتغل هجّام بالليل وسمعت كمان انه بيبيع بانجو
****
دونا عن مطاعم اسكندرية الفاخرة، اختار الدكتور هاتس –ربما سمعتها ياتس-مطعما شعبيا رخيصا للسمك في منطقة مزدحمة بالسكان والبيوت والأطفال والعربات والباعة الجائلين،وقد دعاه بكر لتناول الغداء احتفالا بحصوله على الدكتوراه.تبادل هاتس مع ساميه التهنئة بنجاح جهدهما المشترك.لم تستطع الدكتوره أن تمسك لسانها عن ذكر الأبحاث المكدسة بمكتبة الجامعة دون أن يعبأ بتنفيذها أحد.
على نفس المائدة جلست أنيتا متأففة من الضجيج والذباب والزحام والجو الحار الرطب الخانق وكانت حاملا في شهورها الأخيرة.
وكان مصنع السماد محور الحديث عن المستقبل..
****
أنا حزين…
لم أكن أتصور يوما أن يأتى هؤلاء الغزاة ليحتلوا أرضى ويطردوا منها أهلى..
لو كان بيدى أن أفعل شيئا يغير من هذا الواقع الأليم أو حتى يقاومه لما ترددت…
لو كان بيدى أن أحرق المسئولين عما حدث وأدفنهم في أرضى لفعلت…
ورغم أنى حزين،فأنا لم أفقد الأمل في المستقبل ولن أفقده ، فلعل فيما أرى وأسمع من بشائر موحية بإرادة التغيير، عزاء لى فيما مضى..وخيرا فيما يجىء.
****
بكر السرياقوسى
عاصفة ذهنية حارقة تجتاح عقلى فأحمل نفسى بها الى نسمات الفجر المترعة بالشجن وفى قلب التجويف الصخرى يتناثر رذاذ الموج على وجهى فالبحر ثائر والطبيعة غاضبة وقد تناثر دم العجل على عتبة مصنع السماد وفزع أندرسون من المشهد فكاد يغمى عليه حين قال له أحد العمال معلهش ياخواجه دىحاجه صعبه انك تفهمها وغافلتنى أنيتا وأخذت ابنى يوسف الذى تسميه جوزيف وهربت به الى ألمانيا أما الدكتور هاتس فقد كان انبهاره بالأهرام عظيما وقالت لى أنيتا اننى عقلية كبيرة وليس من المعقول أن أضيع طاقتى في هذا البلد المتخلف المحكوم بالعسكر والملىء بالقاذورات والذى لايحترم أهله القانون ولايقدرون قيمة الوقت وكنت أظن أن الخطة كانت مبيتة بين أندرسون وابنته ليختطفا الولد لكن تبين لى أن هذه المسألة برمتها لاتعنى أندرسون في شىء بل انه لامنى لأننى كنت على دراية تامة باختلاف الثقافة والتربية والديانة ورغم ذلك قبلت الزواج منها بإرادتى لكن أحدا لم يعرف حتى اليوم أين هى فردوس وماذا تفعل الآن في الحياة وماذا تفعل الحياة فيها وهل علمت بدخول أبيها السجن أو خروجه منه عليلا ذليلا وترى أنيتا أن بلدى بينها وبين التقدم واللحاق بالعالم عقودا طويلة وهى تريد لجوزيف أن يكون ألمانيا وأنا أريد أن يكون يوسف مصريا وأغلب ظنى أن هذا الموضوع سيظل مؤجلا الى أجل غير مسمى فهل كان شعبان السبب في كل ماحدث وهل كان أندرسون منصفا حين لام ابنته بنفس القدر الذى لامنى به لأنها كانت على دراية تامة بما كنت أنا على دراية به ومع ذلك سارعت بالمجىء الى مصر متلهفة على الزواج منى وكنت سعيدا في الكنيسة وأنا أشهد مراسم زواج أكرم من بستان فما هذا الجنون الذى يدفعنى الى البقاء في هذا التجويف وقد أشرقت الشمس وتصاعد هياج الأمواج أما من مكان آخر على هذا الكوكب الذى لايكف عن الدوران يستطيع أن يمتص توترى وعواصفى غير هذا المكان فالملوثون في بلادى نوعان الأول كاره لها يتعمد تلطيخ وجهها بالقار حتى يستطيع هو أن يتجمل ويتزين ويغرق في جشعه ونهمه وشراهته وتكالبه ولهفته ورذاذ الموج يغسل روحى مما علق بها من أدران اليأس والتخاذل والثانى ينعم بجهله وشقاوته فيقتلع ذلك الكائن الأخضر الجميل من جذوره ليزيد من عرض الطريق ويقيم البنايات الأسمنتية الضخمة في واجهة الكورنيش ويلوث السمع بالضجيج والضوضاء المنبعثة من الأجهزة القبيحة ويلوث البصر بتعليق اللافتات الضخمة في أى مكان وكل مكان ويحيط جذوع الأشجار الطبيعية بالمصابيح المضيئة الملونة الكريهة والناس تتدافع وتتقاتل وقد انمحت من أسارير وجوهها علامات المحبة والتسامح لتحل محلها إمارات التربص والعداء والكراهية وكل سمات الصراع الفتاكة فهل تكون الراحة في ألمانيا ومعى جوزيف أم تكون هنا بغير يوسف ولماذا لاتكون هنا ومعى يوسف فهنا الأحق والأولى ولكن من المحتم أن يتم القضاء أولا على ذلك التلوث القمعى الذى كتم -بقوانينه المقيدة للحريات-على صدور الناس وقلوبهم وألسنتهم وأعينهم وعقولهم فجعل عليها غشاوة من البلادة والسلبية والتواكل وإنى سعيد لأن هذه الغشاوة قد بدأت في الذوبان والتحلل منذ شهر أبى سيفه في وجه الغاصب وهجمت جماهير الحى على زبانيته وحراسهم من الشرطة غير عابئين بشىء ولكنها معضلة كبرى أن تنتقل هذه الغضبة المحدودة الأثر الى الجماهير العريضة فالتلوث العبودى جعل من الأحزاب مجرد جرائد يقرؤها بعض المثقفين ومن الحكام مجرد مجموعة من المماليك تعيش على السلب والنهب في عصر الفساد العظيم والتلوث الأعظم والمسألة لابد أن ينظر اليها بهذا المنظار الواسع الرؤية حتى لاتضيع فردوس ولايسقط أبى ولا أحرم من إبنى ولايتحول الزبالون الى لصوص صغار يزج بهم الى السجون عند أول سقطة لأنهم لايمتلكون مليارات يهربونها الى الخارج لينعم أولادهم بجبروت الثروة والسلطة وطغيانها وفجرها وسفاهتها وشتان مابين رائحة القمامة العفنة ورائحة الموج الطازجة المفعمة بالطهر والحيوية وما أروعك يا أكرم وأنت تدير شركة تسويق السماد بنجاح كبير وما أسعدنى بفرحة العمال والموظفين وهم يقبضون رواتب تكفيهم لحياة كريمة والمسألة بحاجة الى فكر متجدد وإرادة حديدية واعية بدونهما ستظل القمامة راكدة على الأرص وفى داخل الصدور وإنى لاأرى بديلا عن أن يلعب الزمن القريب دوره المطلوب كما لعب دوره مع أورمه حين تحرك ومع ناموسه حين بحث عن البديل ولست أستبعد صحة ماتردد من أن أليكو قد هاجر من مصر عائدا الى موطنه الأصلى حزنا على أبى لا من أجل أسباب أخرى فأسرار الحياة لاتقاس بالمتر ولاتوزن بالكيلوجرام وإنما هناك القلب المتقلب أبدا وهذه السمكة كبيرة جميلة لامعة تتلألأ مع ضوء الشروق متراقصة في نهاية شعر البوصة لأقبض عليها بيدى وأشم رائحة زفارتها الجميلة وأضعها في الغلق وقد امتصت رقصاتها الرشيقة ماتبقى بذهنى من عواصف طاغية استحالت مع الشروق الى نسمات هادئة طاهرة مطهرة.
****
سعيد ســــالم






أولا: تعريف بالكاتب سعيد ســـالم
-سعيد محمود سالم.... من مواليد الاسكندرية 1943
-عضو اتحاد كتاب مصر.رقم العضوية 400
-عضو اتحاد الكتاب العرب.رقم العضوية 624
-عضو لجنة النصوص الدرامية بالادارة المركزية للإذاعة والتليفزيون بالاسكندرية
-عضو هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية
-عضو أتيليه الكتاب والفنانين
-عنوان المنزل 5شارع على باشا ذو الفقار شقة 10 بمصطفى كامل.الاسكندرية
-تليفونات:المنزل 035462869 الموبايل0124390259
-المؤهلات:1-بكالوريوس الهندسة الكيمائية 1964.كلية الهندسة.جامعة الاسكندرية
2-ماجستـير الهندسة الكيمائية 1968. كلية الهندسة.جامعة الاسكندرية
-المهنة: مهندس استشارى بالمعاش
•• مجمل أعمال الكاتب حتى عام 2008
( 23 ) عملا مابين الرواية والمجموعة القصصية.
-فى مجال الرواية: (14) روايـــــة
-فى مجال القصة القصيرة: (9) مجموعات قصصية
-فى مجال الدراما الإذاعية: عشرات المسلسلات والسباعيات والسهرات الدرامية بإذاعتى القاهرة والاسكندرية.
-فى مجال المسرح:مسرحيتان كوميديتان كل منهما فى ثلاثة فصول
-فى مجال النقد الأدبى:مجموعة دراسات عن أعمال بعض الكتاب المصريين والعرب نشرت بمجلات وجرائد مختلفة.
-فى مجال المقالة: مجموعة مقالات ثقافية وسياسية واجتماعية نشرت بمجلات وجرائد مختلفة.
-فى مجال الدراما التلفزيونية:مسلسل كوميدى "عاليها واطيها"من انتاج صوت القاهرة عام2008 من اخراج وائل فهمى عبد الحميد.
•• أهم الجوائز التى حصل عليها الكاتب
1-جائزة إحسان عبد القدوس الأولى فى الرواية لعام1990 عن رواية "الأزمنة" الصادرة عن روايات الهلال بالقاهرة.
2-جائزة الدولة التشجيعية فى القصة القصيرة لعام94/95 عن مجموعة"الموظفون" الصادرة عن مطبوعات اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
3-جائزة اتحاد كتاب مصر فى الرواية لعام 2001 عن رواية "كف مريم".اتحاد الكتاب بمصر.
- مجالات نشر قصصه القصيرة:
على مدى مايزيد عن ثلاثين عاما نشرت له مئات القصص القصيرة والمقالات فى الجرائد والمجلات المصرية والعربية الآتية:
الأهرام-الأخبار-أخبار اليوم-أخبار الأدب-الجمهورية-المساء-أكتوبر- حواء-مايو-الهلال-الثقافة-الكاتب-إبداع-آخر ساعه-روز اليوسف- القصة- عالم القصة-البعث-تشرين- الموقف الأدبى-الآداب-الثورة-الأسبوع الأدبى-البيان-الأنباء- العربى-الفيصل-المجلة-الحرس الوطنى-الشرق الأوسط-الدستور- الرأى-اليوم السابع-صباح الخير- الكويت-البحرين الثقافية-الرافد.
الروايات المنشــورة
1-جلامبو جماعة أدباء الاسكندرية 1976
2-بوابة مورو جماعة أدباء الاسكندرية 1977
3-عمالقة أكتوبر الهيئة المصرية العامة للكتاب 1979
4-آلهة من طين الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 طبعة أولى
دار الجليـــل بدمشق 1986 طبعة ثانية
5-عاليها أسفلها وزارة الثقافــة بدمشق 1985 طبعة أولى
دار المستقبل بالقاهرة 1992 طبعة ثانية
الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995 طبعة ثالثة
6-الشــرخ دار طلاس بدمشـــق 1988
7-الأزمنــة روايات الهلال بالقاهرة 1992
8-الفلــوس دار المستقبل بالقاهرة 1993
9-الكيلو 101 دار المستقبل بالقاهرة 1997 طبعة أولى
الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999 طبعة ثانية
10-كف مـريم اتحاد كتاب مصر 2001
11-حالة مستعصية روايات الهلال 2002
12-الشىء الآخر دار ومطابع المستقبل بالفجالة ومكتبة المعارف ببيروت 2004
روايات تحت النشر:
13-المقلب المجلس الأعلى للثقافة
14-الحب والزمن الدار للنشر والتوزيع(نشرت على حلقات بجريدة الدستور المصرية)
المجموعات القصصية المنشورة:
1-قبلة الملكة اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1987
2-الموظفون اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1991
3-الجـائزة قايتباى للطباعة والنشر 1994
4-رجل مختلف الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995
5-الممنوع والمسموح مختارات فصول ‏2002‏
6--أقاصيص من السويد هيئة الكتاب 2005
7- قانون الحب الكتاب الفضى 2006
المجموعات القصصية تحت النشر:
8-هوى الخمسين كتاب الهلال
9-رحيق الروح مكتبة الأسرة
ثانيا:نماذج من آراء الكتاب والنقاد حول أعمال سعيد سالم
ملاحظة:أعد هذه الدراسة دكتور محمد زكريا عنانى بالتعاون مع الكاتب
• نجيب محفوظ
من حسن الحظ أنني تمكنت من قراءة بوابة مورو، وأشهد بأنها جذبتني إلى قراءتها بسحر فيها لاشك فيه وهى عمل جيد فى تصويره للبيئة ، وبما قدمته من شخوص حية ممثلة في الراوي والأب والفتاتين ، وأسلوبها ينبض بالحياة والتلقائية ، وإني أهنئك عليها وأعتبر عملك من آيات البشرى ببعث الحياة الثقافية التي لم يعد لها من عماد إلا حماس بعض الشبان أمثالك من أدباء مصر العزيزة- مجلة أكتوبر 7/3/1978
• يوسف إدريس
سعيد سالم هو ابن الإسكندرية الذي دخل المسرح الأدبى دخول العاصفة ، والذي أتوقع أنه سيظل يثير من حوله تلك العواصف الخلاقة، وأنا قرأت أعماله الروائية الثلاثة"جلامبو" وبوابة مورو" و"عمالقة أكتوبر" وكنت سعيدا بها جدا ، وسعيد سالم أقل الكتاب تأثرا بي، فله استقلاله الفني وله طريقته الخاصة وله مدرسته في الكتابة أن قصص سعيد سالم أحسن من قصص يوسف عجنون مليون مرة-مجلة البيان الكويتية – يوليه 1982
الدكتور على الراعي•
مما لاشك فيه أن سعيد سالم قد قدم في بوابة مورو عملا جادا يستأهل النقد الجاد، ومن ثم احتفيت به بالطريقة الوحيدة التى يستأهلها العمل الجاد ، وهى حمله على محمل الجد فعلا ، ومعاملته معاملة الفن القادر على أن يثبت للتحليل ، بما يعنيه هذا من استخدام لأسلحة النقد الثقيلة في عرضه وتفسيره وتبيان نواحي ضعفه ومواطن قوته . مجلة المصــور – 26 نوفمبر 1982
الدكتور سيد حامد النساج•
إن الفكرة المسيطرة على سعيد سالم في كثير من قصصه هي فكرة الحرية ، واختياراته في الأغلب الأعم هي شخصيات مكبوتة تعيش أزمات فردية والواقع موجود في ذهن الكاتب وهو يكتب ، لكنه يستخدم الفنتازيا أحيانا ليعبر من هذا الواقع برسائل الرمز والإيعاز والتضمين ، وأنا اتفق مع الكاتب فى ما ورائيات قصصه فهي مكتوبة بوعي شديد. إذاعة البرنامج الثاني.. برنامج مع النقـــــاد
•يوسف الشار ونى
أحب أن أعلن أن رواية "جلامبو" – كعمل أدبي أول على مستوى فني ناضج وملفت فيه دفقه الشباب ونظرته المحتجة على كثير من الأوضاع التي لا يرضى عنها في مجتمعه وفى نفس الوقت فان حبه لمصر لم يلهه عن فنه فلم ينس أنه يقدم عملا روائيا ، فلم يقع في براثن التقريرية ولا الأسلوب المباشر ولا حتى الأساليب التقليدية ، ونحن نستنشق في كل سطر من سطور الرواية عبق الإسكندرية ونكاد نتذوق طعم ملوحة بحرها ونستمع إلى أغانيها ونجوس وسط فلايكها وقد هبت علينا عواصفها وهطلت أمطارها. كتاب نماذج من الرواية المصرية هيئة الكتاب 1977
الدكتور عبد العزيز الدسوقي•
سعيد سالم روائي وقاص موهوب ، وقد احتفيت به وقدمت قصصه باعتزاز في مجلة الثقافة وسأظل أعتز بنشر إبداعه في المجلة لأنه-في رأيي- من أعظم كتاب القصة والرواية في جيل السبعينات - مجلـة الثقافـة ديسمبر 1977
•دكتور صلاح فضــل
1-عمالقة أكتوبر:
إن القصاص سعيد سالم يستحق عناية نقدية خاصة لأنه لايكتفى بموهبة الحكى بل يحاول استثمارها بذكاء ومهارة وهو يتميز بقدرة تصويرية ذات أبعاد تشكيلية تفيد من الإنجازات السينمائية وتقترب من التسجيل التشكيلي المجسد ، وهو لا يستقر على منظور واحد يرصد منه المشهد وتيار الوعي هو السمة الغالبة على الأداء القصصي عنده . جريـــــدة الأهـــرام 22 ينايــــر 1980
2-كف مريم:
استطاع سعيد سالم بدأبه ومثابرته أن يستثمر ذكاءه الابداعى وتوقه الطليعى معا وأن يزحف بثقة الى الصفوف الأولى من كتاب السرد العربى فى مصر.وكنت قد تنبأت له منذمطلع الثمانينات بمستقبل واعد فى فن القص لموهبته ودهائه وقدراته التشكيلية البارزة وهاهو اليوم يقدم مايعتبره ذروة ابداعه ودرته الفريدة وهى رواية"كف مريم"...ونلاحظ أن جسارة الكاتب وتجريبه لعوالم جديدة فى كلا الجانبين التقنى والدلالى قد أضفى على الرواية قدرا من العمق والأصالة التى توقظ فى القارىء حس التوتر الدرامى والشفافية الروحية مما يعد شاهدا على نجاح المبدع فى تحريك السواكن الراكدة… وقد استطاع سعيد سالم أن يقيم البناء الدلالى لنموذجه الواعر على تحويل صورة "مريم" من مجرد امرأة مصرية تدفع ثمن فتنتها الأنثوية انتقاما من الزوج الذى اغتصبها الى رمز أعلى للعذراء التى تجمع بين التقديس الظاهر والتدنيس الباطن وقد احتشدت فى مسيرتها ملامح التمييز فى الجنس والدين والهجرة والعمل والحقد الدفين المتنامى لجرائم التعصب الأعمى.
الأهرام 16/6/2003
محمد السيد عيد•
لقد أسعدني تماما أن أجد في مجموعة " قبلة الملكة" خروجا على القضايا المألوفة في ساحتنا الأدبية ومحاولة جادة للتفلسف يقوم بها الكاتب السكندري سعيد سالم ، والمحور الذي يدور حوله كاتبنا هو "الحياة" وما يؤرقه في هذه الحياة هو غموضها لذلك نراه يردد بإلحاح عبارات مثل: "لست أدرى" ، "لست أفهم" ، الأمر شديد الغموض" انه كاتب طموح يحاول أن يعرف سر الحياة وأن يثبت قدمه في أرض التفلسف ، ويتأثر فى رؤيته كثيرا بالعبث ، كما يتاثربه في أحداثه وشخصياته أما اللغة فتبتعد عن التجريب لكنها في مجملها جيدة ومعبرة - مجلـــــــة إبداع أكتوبر 1988
•دكتور يوسف عز الدين عيسى
عندما قرأت روايتي"جلامبو" و"بوابة مورو" للأديب المهندس سعيد سالم شعرت بأنني أقرأ لشاب موهوب مطبوع لا مصنوع ، وربما يكون ذلك راجعا إلى خبرته في كتابة البحث العلمي فهو حاصل على الماجستير في الهندسة الكيمائية من جامعة الإسكندرية، وهو يكتب بتلقائية تشبه تلقائية الكاتبة الإنجليزية"جين أوستن" والتي وصفها أحد النقاد بأنها تكتب كما يزقزق العصفور ويبدو تركيب روايتيه في نظام هندسي مترابط ، وتتحرك أحداثهما فى قفزات تشبه القفزات المرسومة بدقة في بعض أنواع الرقص الإيقاعي أو رقصات البــاليه - جريدة الأخبـــــار يوليـــو 1979
دكتور محمد مصطفى هداره•
تأتى معظم قصص سعيد سالم كصرخة احتجاج لحرية الانسان وقيمته الذاتية وكتأكيد لأهمية الفكر فى زمن المادة والبطل فى هذه القصص هو الفكرة وليس الشخصية أو الحدث والكاتب يتقن الوسائل الحديثة فى فن القصة القصيرة ،فهو لايعتمد على السرد والحكاية فقط وانما يستخدم المونولوج الداخلى استخداما جيدا بتعبير فيه تكثيف وشاعرية ، وهو يجنح قليلا الى السيريالية دون اغراق فى الغموض، كما يستخدم الشكل الأسطورى فى بعض الأقاصيص، أما لغتــه فهى متميزة فى مستواها الفنى والفكرى برنامج مع النقاد – اذاعة البرنامج الثانى 12 فبراير 1990
دكتور السعيد الورقى•
1- جلامبو1976
من القراءة الأولى لرواية "جلامبو" نكتشف أننا أمام كاتب سكندرى حقيقى ، فى كتاباته طعم
الماء المالح ورائحة اليود وأعشاب البحر ، وفى شخصياته صدى لاضطرابات البحر وصراع الانسان وقصة كفاح كل يوم ، والى جانب شخصية البطل قدم سعيد سالم فى عمله القصصى حشدا من الشخصيات الرائعة التى تستطيع كل منها على حدة أن تكون نواة قصصية لعمل قصصى رائع- مجلــــة الكاتب مايو 1976
2- كف مريم 2001
لاتقف براعة سعيد سالم فى روايته"كف مريم" المانع المانح على قدرته فى وضع تصميم بنائى محكم لعمله،ولا على دقته فى رسم شخصياته وفى تكوين علاقات هذه الأشخاص ببعضها وبنفسها وبالحدث،ولا على منظومة القضايا والأفكار التى كانت حاضرة فى ذهنه وحركها من خلال شخصياته،ولا على التوازن الحسابى الدقيق لاستحضار أصوات شخصياته وتناسب حجمها مع حضورها،وإنما يقف على قمة براعته الأدائية لغة السرد لديه بما فيها من شاعرية مثقفة وما فيها من قدرة حركية تمتلك خصوصيات السرد..
سعيد سالم حكواتى مثقف،يمتلك تلقائية الحاكى الذى يظل مسيطرا على اذنك حتى نهاية الحكاية وهكذا كان يوسف إدريس العظيم. (الأهرام11/11/2001)
شــوقى بغدادى•
ان هذا الشاب المختص بالكيمياء مسكون بهاجس الكتابة القصصية الى حد الهوس ، وكأن شيطانا داخليا لايقاوم يدفع به الى انجاز عمله فى جلسة واحدة وهو عارف بأصول اللعبة القصصية بتقنياتها المعروفة قديمها وحديثها ، وكتابته أشبه ماتكون بنهر غزير سريع التدفق ، وجمال عمله كامن فى وحشيته . تقديم رواية آلهة من طين – دار الجليل دمشـــق 1986
•مصطفى عبد اللطيف السحرتى
يمثل هذا الكاتب الجيل الغاضب ، بل الجيل المتمرد المعربد وهو يسير على تقنية جديدة هى الكتابة بجمع اللقطات فى حركة جد سريعة أشبه باللقطات السينمائية وقد مثل لنا سعيد سالم المنتمى السلبى الفوضوى الذى أراد أن يغير المجتمع فخاب ، وبقى أبناء الحى – بوابة مورو – كما هم فى رضا وتواكل وقناعة ، وبقى هو فى حيرته وقلقه . مجلة الثقــــــافة يونية 1977
جلال العشـــــرى•
تختلف "آلهة من طين" عن روايات سعيد سالم السابقة سواء من ناحية المضمون وزاوية الرؤية أو من ناحية الشكل وأداة التعبير ، وأخيرا من ناحية الأسلوب وطريقة الصياغة، مما يجعلها رواية غير تقليدية تتمرد على كل ماهو مألوف فى الفكر والصياغة والتعبيروالرواية فى الحقيقة تتجاوز حدود الواقع لكى تقترب من مملكة الرمز وتصبح الشخصيات دلالات على معان ميتافيزيقية وفلسفية، وتصير القضية المحورية التى يرتكز عليها الصراع الروائى هى قضية العلاقة بين الفن والدين ومن هنا اتسم شكل الرواية بالنـزعة اللاواقعية التى تبتعد عن الأساليب التقايدية فى السرد والحوار ، ففيها يمتزج المونولوج الداخلى بالمذكرات الشخصية أو أسلوب الاعتراف ، ويلتقى الحوار المتداخل بالاسترجاع ، ويجتمع الطابع التسجيلى للاحداث والتواريخ بالشطح الفلسفى الذى يقود الى التأمل فى جوهر الخلق وماهية الابداع - مجلة الاذاعــــة والتليفزيون 14/12/1985
أحمد زكى عبد الحليم•
فى " قبلــــة الملكة" يبدو سعيد سالم حريصا على أن يمسك بتلك الخيوط الرئيسية فى حياة الانسان وخاصة أولئك الذين يعيشون حياتهم على نور العقل والمعرفة فينسج من هذه الخيوط أوتارا يعزف عليها مفارقات الحياة من خلال ألحان حزينة وشجية ويظل سعيد سالم صاحب أسلوب متميز ليس بطلاوة الكلمة ولكن بمقدرتها على اختراق الحجب والوصول الى جوهر الأشياء بحيث نرى حياتنا دمعة على أقدارنا ونبتسم فى سخرية أو فى حزن من أجل أيام ماضية وأيضا من أجل أيام مقبلة -مجلــــــة حواء 19/3/1988
دكتور محمد زكريا عناني•
ونحن نقرأ رواية " الأزمنـــــة" نشعر أن الواقع كيان راسخ يتمثل فى كل جملة فيها ، ونعيد قراءتها فنهتز بفيض رومانسيتها وشجنها ، ولهذا الحب الموؤد بين بطلها ونجلاء، ولموت الأب وعذاب الغربة ثم نسترجع أصداءها فأذابها دنيا من الرموز التي تنساب طبيعية طيعة لا يفرضها منطق جامد ولا تخطيط نظري فإذا بنا أمام بناء فني يستفيد من كل الإمكانيات الفنية التي يسمح بها جنس الرواية- جريدة الأخبـــــار2/9/1992
•الدكتور مصطفى عبد الغنى:
1-منذ البداية نكتشف أن سعيد سالم كان مهتما بفكرة الانتماء التى قد تعوقها أشياء كثيرة كى لاتغدو انتماء ايجابيا. وقد كان يعوق الانتماء-فيما يرى- الكثير من مظاهر الفساد الاقتصادىبوجه خاص، ونستطيع أن نربط هنا بسهولة بين هاجسه المضمر(الانتماء)وخوفه المعلن من الفساد.لقد تبلورت قناعته التى لخصت رواياته الأربع الأولى من مفهوم(الانتماء)وهو موقف شعورى ايجابى لايمكن أن يتحقق مالم يكن متبادلا بين الوطن والمواطن ، الى تأكيد هذا المفهوم بازالة معوقات الفساد من أمامه فى أعماله الأخيرة.ان الكاتب كان دائم العود الى العدو الخارجى وربطه بما يحدث فى العالم، مستخدما كثيرا من أساليبه الفنية من التقطيع السينمائى والاسترجاع والتسجيل وما الى ذلك. ان مايريد تأكيده سعيد سالم هو أن الواقع السياسى بدأ فى التغير تحت عنف معاول الاقتصاد الغربى والأمريكى بوجه خاص، بمؤسساته وأحلامه الجديدة فى السيطرة على العالم، ومع ذلك فانه لم يصل به الأمر الى اليأس والقنوط قط..
كتاب قضايا الرواية العربية. الدار المصرية اللبنانية1999
2-إنه لم يبق أمام الإنسان العربى غير أحلام اليقظة ليمضى اليها هربا من اثنين:إما الجنون وإما الفرار من الوطن كله،"ولابأس من الجلوس في البيت ومشاهدة برامج التلفزيون الاسلامية التى تتحدث عن خوارق أولياء الله الصالحين وتسخير الجان لتحقيق المنافع،وعن الدجاجة التى تضع بيضا مكتوب عليه لفظ الجلالة والشهادتين،وعن الشجرة التى تنمو فروعها على هيئة لاإله الا الله،والجاموسة التى يشفى لبنها مرضى السكر".
جريدة الأهرام7/6/2004(حول رواية الشىء الآخر)
•صافيناز كاظم:(حالة مستعصية)
رواية لأديب لاذع يمتلك سطوة المزاح بأدوات فن صعب لا أتحمله إلا من الذين يعرفون دروبه ومسالكه،فيتحركون بشقاوة وحكمة،ورشاقة وثقة.حواة بلا احتيال،يوقظون الشغف ويكتبون المرفوض لدى فأسامحهم لبلوغهم براعة التوظيف.هذه"الحالة المستعصية"قدمها سعيد سالم بسلسلة روايات الهلال أغسطس2002.حققت حضورها في إحساسى،وكلما عبرت بخاطرى ترسم على وجهى الابتسامة المخضلة بالحزن والمحن.بطلها المتكلم بالتداعيات،يطارده آخر بمكالمات هاتفية يسبه ويشتمه ويكيل له الاتهامات.ونظل معه نتساءل من يكون هذا المطارد-بكسر الراء-العنيد حتى يكتشف المفاجأة ونعرف منه أنه هو في حالة مونولوج منقلب على نفسه هو المطارد-بفتح الراء-وهو المطارد-بكسر الراء-قلت لكى أريح نفسى،هو"ذات" تحاسبها نفسه اللوامة،بعد أن سجلت عليه الخطايا والكذبات وادعاء التقوى والاستقامة المزيفة..لاخوف إذن. مادامت هناك نفس لوامة فهناك طوق نجاة،ومن ثم فالحالة ليست مستعصية.أبدا ليست مستعصية.
مجلة المصور عدد 22/7/2005
•الدكتور هشام صادق: (دوائر الهوان في رواية الشىء الآخر)
لم يكن غريبا أن يعترف منصور عبد الرازق بطل رواية الشىء الآخر بسلبيته ووقوفه موقف المتفرج على ما يدور حوله من تراجع قومى واحتلال أجنبى جديد لوطنه الذى سيطرت عليه الإدارة الأمريكية من الخارج وقوى الفساد والتخلف من الداخل،حتى نجحت في الإمساك بمقدراته الاقتصادية الى حد بات يهدد وجود الطبقة الوسطى والتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانضمام الى الغالبية التى تعيش تحت خط الفقر.وإذا كانت رائحة الفساد قد أزكمت الأنوف في قضايانواب القروض وغيرهم فإن المؤسسات العلمية والجامعات قد شاركت في زفة النفاق،حتى أن رئيس جامعة عريقة قد بدأ مهام وظيفته بترشيح رئيس الوزراء للحصول على أكبر جائزة تقديرية في البلاد،وذلك "بعد أن ترسخ في ضمير سيادته النقى أن هذا الرجل هو أبدع المبدعين في مصر".. جريدة العربى الناصرى6/6/2004
•الدكتور حامد أبو أحمد: (الشىء الآخر)
رواية فريدة في هذا الجنس الأدبى كلها تبحث في سؤال كيف يكون الإنسان مهزوما وعاجزا لدرجة أن يبلغ به الأمر التوحد مع العجز،أو أن يتحول العجز الى حالة وجودية:"أنت مجرد صدفة أكثر من كونك فكرة حقيقية شئت ذلك أو لم تشأ،فوجودك كان قهرا في جميع الأحوال لأنك لم تمتلك حق العدم"..يحدثنا البطل العاجز المهزوم أن"ارتخاءه لصيق الصلة بالارتخاء الذى أصاب الدولة على يد المتحكمين في مقاليد أمورها،والذين لايزيد عددهم في أعلى تقدير عن أربعين شخصا يهيمنون على مقاعد السياسة والاقتصاد،والذين لم يتغيروا منذ عشرات السنين ولم يغيروا في واقعى المتردى شيئا بالإيجاب،وكأن المقاعد التى يجلسون عليها عاشقة للغباء والفشل والعفن"..لقد حاول سعيد سالم في روايته الجميلة أن يمزج بين الواقعى والسحرى ليقدم لنا صورة عما يدور في بلادنا خلال هذه الأيام.وإضافة الى استخدام بعض عناصر الواقع السحرى،وهى ذات تقنيات خاصة،نجده قد لجأ الى استخدام تقنيات حداثية أخرى جعلت روايته تنطوى على نوع من الخصوصية التى تميزه بين أقرانه من كتاب الرواية.ان هذه الرواية تجمع بين التوصيف والتحذير والبحث عن حلول في زمن استنام فيه الكتاب للراحة وتعايشوا مع الأوضاع السائدة،ومن هنا يصبح صوت مثل صوت سعيد سالم ضروريا ولازما لمواجهة الأوضاع المتردية.
جريدة القاهرة31/8/2004
•الدكتور محمود اسماعيل: (الشىء الآخر)
مؤلف الرواية أديب متمرس،ومبدع متميز في أجناس أدبية متنوعة،فقد أنجز اثنتى عشرة رواية وتسع مجموعات قصصية ومسرحيتين فضلا عن عشرات المسلسلات الدرامية الاذاعية،كما أسهم في حقل النقد الأدبى..حيث نشر الكثير من المقالات والمتابعات النقدية في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية..وتتمحور هذه الرواية حول موضوع محدد:هو أزمة المثقف الملتزم في مجتمع فاسد،ويرجع هذا الفساد الى طبيعة النظام الأوتوقراطى العسكرى المتسلط،ولاغرو،فالعداء بين المثقف والسلطة عداء تاريخى،فالسيف والقلم لايجتمعان.السلطة تنشد تكريس الوضع القائم والمثقف الملتزم ينشد التغيير.وبديهى أن تفضى تلك المعادلة الى الصدام بين الخصمين اللدودين ومن ثم يكون المثقف أكثر من غيره مستهدفا من قبل السلطة الغاشمة،فتصادر على فكره وتطارده وتحاصره حتى يصبح أسير الدفاع عن وجوده..ذاك هو مصير منصور عبد الرازق كما صوره سعيد سالم ببراعة،إذ تتمحور أحداث الرواية حول "عجزه" وهو عجز تمثل في "إخصائه"سياسيا وعضويا،ففقد توازنه واختل عقله ودمرت كينونته،والأخطر مايفضى اليه ذلك العجز من تداعيات على المستوى الفردى والأسرى،وعلى الصعيد العام..
جريدة القاهرة13/9/2005

ثالثا: بعض الآراء الخاصة للكاتب
• رؤيتى لماهية الفن:
من خلال 23 عملا هم حصيلة انجازى الأدبى حتى الآن : أربع عشرة رواية وتسع مجموعات قصصية أستطيع أن أصرح باعتقادى فى صحة المقولة المعروفة أن" الفن امتاع وتنوير " ، وأنه ان لم يحقق الهدفين معا هبطت قيمته. انى أرى فى الفن سبيلا راقيا لتحقيق التصالح والتناغم بين الانسان ونفسه من جهة ، وبينه وبين الحياة والكون وخالقه ..من جهة أخرى انى أرى فى الفن خلاصا شجيا يصل الانسان بالأرض والسماء فى حب لاحدود له ولقد وجدت فى فن الابداع الروائى والقصصى ضالتى التى تحقق لى كل تلك
الغايات مجتمعة .
لمــــاذا أكتب ؟ •
أكتب لأننى مدفوع الى ذلك الفعل الذى يكاد يكون غريزيا ، والذى أسميه أحيانا بشهوة
الابداع ، ولأننى لو لم أمارس هذا الفعل الفطرى التلقائى فاننى أختل من داخلى وتتعاكس ملكاتى وتضطرب نفسى ويدهمنى اكتئاب لاتنقطع موجاته المتعاقبة لكنى فى الوقت ذاته أشعر بثقة شديدة أننى أؤدى رسالة لامبرر لوجودى على قيد الحياة ما لم أجتهد فى توصيلها لعشيرتى فى الانسانية وأنا لست أجهل أن توصيل الرسالة من الكاتب للآخرين مرتبط بأسباب أخرى خارجة عن ارادته ، كالنشر والنقد والجمهور القارىء … تلك الأسباب التى تبدو – فى حالتى على الأقل – متعثرة الى حد كبير ، حتى أن بعض أعمالى تنشر بعد مرور عشرة سنوات على كتابتها أو يزيد مثل رواية الفلوس الا أننى حين أكتب لا أعبأ بسبب واحد من هذه الأسباب ، وانى لأشكر الله كثيرا على أن هدانى لذلك بعد أن حبانى بالموهبة .
لمـــن أكتب ؟؟؟ … •
من المؤكد حسبما تشير الاحصائيات أننا شعب غير قارىء ، وبالتالى فأنا أكتب الى فئة محدودة جدا من مجتمعنا العربى الكبير -علىعكس الحال حين أكتب التمثيليات الدرامية بالعامية المصرية - لكنى أعتقد أن تأثير الفن فى دائرة محدودة من البشر يمكن أن يتسع فى دوائر أخرى أكثر امتدادا مع الزمن غير المرتبط بعمر الفنان ، بحيث يأتى تأثيره تراكميا لاوقتيا. ليست تلك ذريعة للاستمرار فى الكتابة بلا أمل ، وانما هى نظرة واقعية قائمة على تأمل عميق فى فلسفة أن يمضى انسان عمره فى تأدية عمل لايستطيع ولا يأمل أن يقطف ثمرته على الفور وليس المقصود بالثمرة نفع شخصى بقدر ما هو مقصود توصيل الرسالة المشار اليها ، فهذا هو النفع الأكبر والمتعة المشتهاه.
كيف ، وفيم أكتب ؟؟ •
ان ميلاد العمل الأدبى عندى يقوم بالدرجة الأولى على انشغالى المؤرق بقضية انسانية ما ، تسيطر على مشاعرى وأحاسيسى وتدفعنى الى البدء فى الكتابة دفعا لاسبيل الى مقاومته ولا يعنى ذلك أن الدافع الأولى عندى هو الفكرة المجردة "كالسعادة والحرية والعدالة"، بل هو الاحساس المصاحب لهذه الفكرة والمتوحد معها وأضرب على ذلك مثالين : الأول هو الذى حركنى لكتابة روايتى الرابعة التى تتعرض للعلاقة بين الفن والدين ( آلهة من طين ) كمرحلة أولى ، ثم روايتى العاشرة ( حالة مستعصية ) كمرحلة تالية.. كان الدافع هو احساسى بأننا كمصريين وعرب ، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات نعانى من انفصام فكرى مقيت بين ثنائيات يعتقد الكثيرون أنها متناقضة، اذ يختلط فيها المطلق بالنسبى سواء عن غير قصد أو لقصد مشبوه ، مثل الأصولية واللبرالية ، أو الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة ، أو الدين والدولة … وغيرها من ثنائيات تشتعل بينها المعارك على جبهتين تعتقد كل منهما أنها صاحبة الحل الأفضل أو الأوحد، بينما يتغافل الجميع عن فكرة ايجاد حلول تكاملية لاتفاضلية ولا تلفيقية ، تشفى الأفراد والجماعات من ذلك الانفصام الذى يؤدى بقراراتنا ومواقفنا الحياتية الى أن تكون مجرد ردود أفعال لما يحدث فى الدنيا دون مبادرات ايجابية أصيلة من جانبنا ..أما المثال الثانى فهو الدافع الذى قادنى الى كتابة رواياتى الثلاث الأولى – جلامبو ،بوابة مورو، عمالقة أكتوبر- كان الدافع هو احساسى القوى بفكرة الانتماء بمعناها الشمولى أولا ثم الوطنى ثانيا. اننى أعتقد أن الانتماء هو عقد مواطنة مكتوب بين الوطن والمواطن وموقع من كليهما ، فاذا غاب توقيع أحد الطرفين أصبح العقد باطلا، وهذا يفسر ما يحدث لشبابنا الذين يكتشفون أن عقودهم الانتمائية موقعة من طرفهم فقط، فإما يلجأون الى الاغتراب خارج الوطن للبحث عن الحلم الأمريكى وخلافه،أو الاغتراب داخل الوطن سواء بالانحراف أو التطرف ، كما أن البعـض منهم وهوالأكثر حساسية وانطوائية قد يلجأ الى الاغتراب الداخلى فتدهسه الأمراض النفسية والعصبية ، بينما هو باق بجسده داخل وطنه من هنا كان بطل" جلامبو" لامنتميا وبطل"بوابة مورو" ذا انتماء سلبى ، أما بطل "عمالقة أكتوبر" فكان ذا انتماء ايجابى ، لكن الكثير من السلبيات والمعوقات حالت دون تحقيق انتمائه.. وفى النهاية فاننى أستطيع استخلاص آراء النقاد حول معظم كتاباتى فى أنها كتابات أشبه ما تكون بالكوميديا السوداء التى تميل الى التفلسف الساخر وتتخذ من الطابع غير التقليدى أسلوبا لها ، اذ يمتزج فيها السرد بالمونولوج الداخلى بالحوار المسرحى والسيناريو السينيمائى والخطابات وتيار اللاوعى ، دون التخلى عن فكرة" الحدوتة" سواء باللجوء الى الواقعية أو الفانتازيا أو الى المزج بينهما ، ويشير بعض النقاد الى تصاعد الحس الصوفى فى لغة أعمالى الأخيرة مثل الكيلو 101 الوجه والقناع وكف مريم.
رؤيتى لقضية الشكل والمضمون
يرى البعض أن الشكل هو الوعاء الفنى الذى يصب المضمون بداخله. أما أنا فأنضم الى هؤلاء الذين لاينظرون بصورة منفصلة للشكل عن المضمون، اذ أننى أرى فيهما مصهورا متجانسا أذابه الصدق الفنى. ويمكننى ايضاح ذلك بطريقة اجتماعية مرة وبطريقة كيمائية -بحكم مهنتى- مرة أخرى. فأما التفسير الاجتماعى فهو يشبه زواج -رجل بامرأة على أن يكون الصدق الفنى هو المأذون الذى يعقد عليهما.. وأما التفسير الكيمائى فهو أن المصهور أو المزيج يصعب فصله الى مكوناته ، على عكس الخليط الذى يمكن فصله الى العنصرين المكونين له.
قضية الفصحى والعاميــة:
معنى القصة العربية أنها نوع من فنون الأدب المكتوبة باللغة العربية، واللغة فى ذاتها هى إحدى مكونات الجمال الفنى فى القصة، وهى أحد العناصر الأساسية فى إنشاء القانون الفنى المختص بذات القصة والنابع من جوهرها وشكلها.فإذا ماخلطنا العامية بالفصحى فى عمل قصصى فإننا نكون كمن أصدر قانونا ثم قام بالخروج عليه،هذا من حيث المبدأ، أما من حيث النتيجة فإن الخروج على القانون-مثلما يشكل جريمة فى عرف المجتمع-يشكل فى عرف الفن جريمة أيضا،وأقصد بذلك جريمة القبح والتشويه وعدم التجانس والنزول بالفن إلى درجة سفلى.
وإنى أتفق مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهما من الكتاب المعاصرين الذين انتهوا من هذه المشكلة بنجاح فيما يسمى باللغة الثالثة التى تستخدم فى الحوار فقط،وهى لغة ذات جرس أو رنين أو إحساس عامى لكنها فصحى فى الأصل،أما السرد فيظل على عرشه الجدير به،إذ أن الحوار وحده هو الذى يتعرض للتعبير عن متحاورين تتفاوت مستوياتهم الثقافية والمعرفية والتعبيرية.
رابعا: مساهماته الإبداعية فى الأنشطة الثقافية والفكرية المختلفة
سعيد سالم كاتب دؤوب يتمتع بقدرة غير عادية على الصبر والانتظار مع مداومة الإصرار على الفعل دون أن يستسلم لليأس،فمعظم رواياته لم تنشر إلا بعد كتابتها بسنوات عديدة بلغت أحيانا عشرة سنوات(رواية الفلوس) وزادت عن ذلك أحيانا أخرى(رواية حالة مستعصية) ورغم ذلك فهو يقتحم مجالات عديدة يعبر فيها عن فكره ويطرحه بصور متنوعة كالمقالات والمسلسلات الدرامية والندوات والأحاديث الصحافية والإذاعية ، متحديا بذلك كل الظروف التى كان من الممكن أن تدفع به إلى اليأس والتوقف عن الإبداع.لذلك نجده يصرح فى شهادته المشار إليها فى مجلة فصول- خريف 1992- قائلا:"إن عملية قتل الإبداع لاتحدث إلا من داخل المبدع نفسه،فالعوامل الخارجية مهما كانت قوتها يستعصى عليها أن تقضى على الابداع،بل إنها ربما تستثيره فى حدود معينة،وهى قد تعوق المسيرة الابداعية حينا أو آخر طبقا لنوعها وأثرها لكن المبدع لايقتله أحد إلا نفسه.
إن سيكولوجية الابداع مسألة معقدة للغاية ولا يمكن أن تخضع لقواعد معروفة أو ثابتة إذأنها تختلف من كاتب إلى آخر، بل إنها تختلف عند الكاتب الواحد نفسه من حين إلى آخر...إن حالتى المزاجية المتقلبة بشدة ترتبط بالابداع إلى حد كبير،ولاشك أن هذه الحالة تأخذ طابعا خاصا حين يغزو العراق الكويت، وحين تدمر أمريكا الشعب العراقى على مسمع ومرأى من العرب تحت راية الأمم المتحدة، وحين أقع فى حب جديد، وحين يتضاعف سعر رغيف الخبز فى بلادى، وحين يقتل الشعب اللبنانى نفسه، وحين يتصدى أطفال فلسطين للمجنزرات الصهيونية بالحجارة، وحين تحاصرنى مكبرات الصوت المحيطة بمنزلى تنادى بعضها على بضاعة للبيع، وتذيع بعضها القرآن عزاء لفقيد، وتذيع الأخرى حفل زفاف همجيا".
ونخلص مما ذكره سعيد سالم إلى أن هدفه الأساسى الملح من رحلته الابداعية هو توصيل فكره الى الناس بأية صورة، فإن واجه صعوبات كالنشر ومتطلبات الحياة اليومية وضغوطها والبعد عن العاصمة وقيود العمل والسكن ، فإنه لاينصرف إلى الشكوى والتذمر وإنما ينطلق إلى تنويع أدوات توصيل فكره ورسالته قدر المستطاع. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال مساهماته الآتية:
1-إلقاء المحاضرات حول قضايا الفكر والفن والمجتمع فى العديد من المنتديات الأدبية مثل قصور الثقافة والروتارى وبعض المراكز الثقافية الأجنبية وأتيليه الكتاب والفنانين وبعض البرامج الاذاعية مثل برنامج مجلة الاسكندرية ويوميات سكندرية.
2-المشاركة فى التجمعات الأدبية ومعارض الكتاب خارج مصر والتصدى لمناقشة القضايا الثقافية الوطنية والقومية من خلال الحوار مع المثقفين فى سوريه والعراق والأردن وأمريكا والسويد.
3-إعداد برنامج درامى أسبوعى بإذاعة الاسكندرية بعنوان"عالم القصة" يتم فيه تناول الأعمال القصصية للأدباء الجدد للتعريف بإنتاجهم ودفعهم إلى دائرة الضوء الجماهيرية.
4-مخاطبة الجماهير فنيا من خلال تقديم عشرات المسلسلات الدرامية الشهرية والسهرات والتمثيليات القصيرة بإذاعتى القاهرة والاسكندرية.
5-المشاركة فى بعض البرامج الثقافية التلفزيونية كالأمسية الثقافية بالقناة الأولى وكاميرا 9 بالقناة الثانية ومساء الخير والصالون الأدبى وحياتنا وفى سهرتنا نجم بالقناة الخامسة.
6-عقد ندوات دورية بنادى سموحة الاجتماعى الرياضى لمناقشة الأعمال الأدبية والفنية المختلفة وتشجيع البراعم الجديدة بدفع إنتاجهم للنشر.
7-المشاركة فى عضوية لجنة النصوص الدرامية بالادارة المركزية لاذاعة وتلفزيون الاسكندرية لاختيار الأعمال الدرامية الصالحة التى تقدم فنا راقيا دون المساس بالقيم والمقدسات والأعراف.
8-المساهمة فى رفع الكفاية الانتاجية للعمال وتقليل عوادم الانتاج والمحافظة على جودته وعلى نظافة البيئة من خلال تقديم أعمال درامية قصيرة لبرنامج مع العمال وذلك بحكم خبرته المهنية الطويلة فى هذا المجال.
9-عقد صالون أدبى غير دورى بالمنزل للالتقاء بالكتاب والشعراء والأدباء والفنانين.
10-المساهمة فى الندوات الأدبية التى تعقد بالمراكز الثقافية المختلفة خارج الاسكندرية مثل الفيوم والوادى الجديد والبحيرة والاسماعيلية والسويس.
11-طرح ومناقشة القضايا الثقافية العامة من خلال كتابة المقال الساخر فى بعض الجرائد والمجلات مثل أخبار الأدب وأخبار اليوم والاسكندرية وهنا الاسكندرية وجريدة الدستور.



#سعيد_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد سالم - رواية المقلب