أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق آلتونجي - الحنين الذي يرتعش له شغاف الحجاب الحاجز في لقاء مع الشاعر والروائي حمودي عبد محسن















المزيد.....


الحنين الذي يرتعش له شغاف الحجاب الحاجز في لقاء مع الشاعر والروائي حمودي عبد محسن


توفيق آلتونجي

الحوار المتمدن-العدد: 2982 - 2010 / 4 / 21 - 23:19
المحور: الادب والفن
    


الحنين الذي يرتعش له شغاف الحجاب الحاجز
لقاء مع الشاعر والروائي حمودي عبد محسن


حمودي عبد محسن أديب معروف ولد و وترعرع في مدينة "النجف" وينتمي الى عائلة ترجع أصولها الى الأزمان الغابرة ينتمي أهلها الى هؤلاء الأوائل الذين التفوا حول مرقد جدهم الإمام علي بن ابي طالب صلوات الله عليه وسلم سنة 170 للهجرة ، مرقد نما حوله مدينة تمتد الى الجهات الأربعة بعد ان كانت قرية صغيرة بجوار احد أقدم مدن العراق القديم بكنائسها ومعابدها التي فعل الدهر فعلتها بهم فباتت خرابا وآثار قوم. هذه المدينة التي تطورت على تل رملي مرتفع بعض الشيء يعتقد انها كانت على ضفاف بحر كبير "ني" الذي جف لاحقا وتصحرت المنطقة بأكملها حيث الصحراء التي تمتد شرقا بآلاف الكيلومترات في عمق الجزيرة العربية..
لنا هذا اللقاء معه كي يحدثنا عن كل ذلك الكم الهائل من الإبداع الأصيل الذي يزخر به رواياته و دواوينه الشعرية..

المكان يحتل مكانة عضوية ووظيفية في رواياتك حيث كتبت عن المنفى وعن النجف وأزقتها ومقبرة وادي السلام ومرقد الإمام ، كيف عالجت المكان كأداة للتعبير في رواياتك وبالأخص روايتك عن النجف ؟

أن الرواية تعكس الواقع المتعدد ، وتنوع الظواهر كمرآة للحيز المكاني والزمن الجاري كتدفق لرؤية الإنسان وأحاسيسه ومشاعره وخياله في ملامح اجتماعية ذات نظرات تناسبية في جدلية الفهم ، في بنية النص ونمط التفكير الجمالي بتعاطيه المكان كأثر ، فالروائي يصف الإنسان بحد ذاته ، إنسان المجتمع ، ويصف المكان كوحدة الحياة مع الوجود والعيش والنضال لمعرفة حقيقة الحياة العامة والخاصة ، وتصور العالم الموجود بالدقة ، أي إنسان المجتمع الواسع ، والفكرة المعينة ، والصورة المعينة في العلاقات الإنسانية الاجتماعية ، يحللها في مستوى الإدراك بمفهوم الحياة في الظروف كحق الإنسان في الحب ، في العيش ، في المكان ، هذا يكشف لي المكان في مودة عاطفية وثقافية وأخلاقية بصورته أو صورة الطبيعة لأتأثر بها ولتنعكس في الرواية كعيش المتناقضات بمختلف المستويات التي أنتمي إليها سواء كانت في بلد الثلوج أو بلد الجبال والصحراء والرافدين ، تشكلت في وعي وتنافرت في ذهني بين عوالم متعددة محسوسة ، وخرجت جميلة مثل تفتح زهرة من برعمها بعد صراع طويل وقيم ، خرجت واضحة تسمو بصعود كل الدرجات ، مزهوة بشموخها ، وفي أعماقي يتجدد حبي للمكان وتأثيره على إحساسي ، فالمكان هو إطار الأحداث في الرواية وانعكاس للإحساس ببيئته وتأثري به ، وتأثر شخصيات الرواية تاريخيا وثقافيا به ، نشوءا وتكوين ، تآلفا وعيش ، وارتباط وجودي ونفسي ، فعندما كتبت رواية المزمار التي تتحدث عن عانة المغرقة وهي الرواية الأولى التي كتبت عن أعالي الفرات كان للفرات جريانه الخاص ونواعيره وبساتين النخيل الزاهية ، عانة تلك رقيقة الهواء ذات السواقي المتدفقة التي كان هارون الرشيد يصطاد الغزلان في ربيع رياضها وغدرانها المعتمة بالزهر ، فكان للبستان وجزر الفرات والصحراء مدلولات ليست تاريخية فقط بل جمالية أيضا واستطعت أن أجسد هذه اللوحة الجميلة المتعددة الألوان أثناء بزوغ الفجر وأثناء حمرة الغروب وعندما يتجلى القمر للبدوي في الصحراء ، سماء مزركشة بالنجوم المتلألئة التي تضئ المدينة ، ولم أغفل أبواب بيوتها التي يدقها المطر فقد كانت مزهرة أمام نظري بحفيف أوراق الشجر و نواعيرها وحلي وزينة أهلها .هكذا وأنا أكتب عن مدينة بحيرة البلوط التي أعيش فيها وأسمي الرواية حورية بحيرة البلوط التي ترجمت إلى السويدي لتكون البحيرة والغابة محوران أساسيان في الرواية فالبحيرة تعج بأصوات النورس وهي تتدفق بمياهها الصافية تحت المطر ، هذا عالم غني للحدث في مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة أما رواية الدفان والغجرية ، ورواية حكاية من النجف فمكانهما المدينة – المدينة بأزقتها الضيقة ، وسراديبها السن ، ومحافل الفكر والأدب ، ومنازل الشعراء ، والمدارس الدينية ، ومكتباتها التي تتكدس فيها مخطوطات عتيقة ، ودواوين الشعر ، ومصادر التاريخ ، ومجلدات اللغة والفقه ، المدينة الكامنة بأسرارها في طرازها الخاص الذي لا يشبه مدينة أخرى ، لها ألغازها وعاداتها وشعائرها وتقاليدها ، وفيها مرقد الإمام علي الذي صحنه يأوي سجع الحمام وهدهدة الهدهد ورفرفة السنونو ودعاء الزائرين وابتهالات المصلين وعزاء الحسين ومودعي الجنائز ، ذلك يؤنس الروح إذ يوشحها أذان الفجر المنساب فوق السطوح المتسلل من مئذنة الإمام الذهبية الذي بنى اللقلق عشه فوقها ، فينهض النجفي تداعب وجهه أنسام الصباح الآتية من البادية ، يتوضأ ، ويؤدي الصلاة ، أيضا في المدينة وادي السلام الذي يحتضن رمله القبور ، تلك شواهدها مطرزة بأبيات شعر ، الشعر في مدينتي يتدفق صافيا شفافا حسنا مثل جريان الفرات ، يتذوقه النجفي عذبا ، ويتغنى به مثلما يتغنى بنخلة أو سدرة أو زهرة الجلنار ، النجف من مدن الغور ، تقع في أطراف الصحراء ، تغطي تربتها.الرمال والحصى ، وتنبت فيها أشواك لتكون مراعي لجمال البادية ، هكذا وجدتها في أطيب هواء في طفولتي وصباي ، كما قال عنها الشيخ علي الشرقي
اللطف غبش صفحة الوادي المنثور بالشقائق
والرمل مواج السبائك بالشذا الفواح عابق

فالشتاء فيها بارد قارص ، والصيف حار جاف ، إلا أنها كانت ضاحية جميلة من ضواحي المناذرة ، انتشرت فيها الديارات ، دير فاثيون ، ودير ابن مزعوق ، وديارات الأساقف ، يحتضن مشارفها نهر الغدير ، وتزين بقصر أبي الخصيب والسدير ن لتكون ظهرا عجيبا لدير مارث مريم الذي بناه المناذرة بنواحي عاصمتهم الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب ، وقد نزل فيها خالد بن الوليد عند فتح الحيرة ، ونزل فيها المسلمون حين دارت معركة القادسية بين الكوفة والعذيب ، والنجف في المصادر اللغوية مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد ، ويكون في بطن الوادي ، وقد يكون ببطن من الأرض ، وجمعه نجاف .وكان النعمان بن امرئ القيس الذي بنى الخورنق يجلس في قصره ويشرف على أنزه البقاع زهرا ، وكثرة البساتين ، وتدفق المياه ، والحيرة انشئت في منطقة النجف ، ولذلك أطلق عليها ( حيرة النجف ).و ( النجف الحاري ) أي النجف الحيري ، وقد افتخر الحيري والمغني حنين بأن منزله النجف ، فقال في بيته :
أنا حنين ومنزلي النجف وما نديمي إلا الفتى القصف

وقال ابن بطوطة عن أهلها حين زارها في سنة 1326 م : هم أهل كرم وشجاعة ولا يضام جارهم ، صحبتهم في الأسفار فحمدت صحبتهم .

الرمز حالة ملازمة للتعبير وقد يحذف العديد من الفقرات ويستبدلها برموز حسب الفترة التاريخية التي كتب فيها الرواية ، هل تجد إشكالية بين الرمز والسرد في روايتك ؟

أن الرواية ذات نوع سردي نثري يستخدم فيها الخيال ، وقد يكون التاريخ أيضا ، لتوجه الرواية خطابا جماليا بالمعنى ، وتستعمل أوسع الأدوات الغوية لتنمو في الفضاءات الخاصة بها لتكون حرة في الظواهر التي يعيشها الإنسان في العلاقات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية واقعي كان ذلك أو غير واقعي بغية التخاطب مع البشر ، أنها إبداعية قد تؤرخ الوجود الإنساني بحضورها المعرفي لتنمي الوعي الفردي في زمن محض لأن قارئها فرد من المجتمع بالرغم من تعدد أشكالها كنص له بداية ونهاية ، حتى لو كانت الرواية تمتاز بغرابتها ، بخيالها كي تعطي رؤية للعالم ، ومهما تحكم الروائي في الأحداث ، فهي نص تعبيري في جوهره له دلالته في الشكل والمضمون ، فالتفسير والفهم يستحوذان على القارئ لينشأ عنده التآلف المعاش مع الرواية ، التآلف المعاش مع الوجود ، وتتولد عنده خبرة في ضوء سياق الرواية وروح عصرها ، فلغة الرواية التي يتواصل بها القارئ تتحدث إليه ، وهي تقول شيئا ما إليه لوحده سواء كان ذلك من الماضي أو الحاضر ، فإن اللغة تتحدث إليه بوصفه معاصرا لزمنه ، وهو يفهم ما تقوله اللغة ، وهو هذا هو الحضور للمستقبل ، لتتجلى له الأشياء ويندمج معها ، ويتواصل بحميمية رغم قد يتولد عنده اغتراب ، ويتواصل مع الأفكار والاختلافات والمتناقضات ، ولذلك ربما يستخدم الروائي إشارات غامضة عن طريق الرمز ليكيفها مع الفكرة ولتتوافق مع المفهوم ، وهكذا يستخدم الروائي لعبته بالرمز لربما لأسباب اجتماعية أو أخلاقية أو دينية أو تاريخية ، وبما أن الرمز يعني الإشارة أو الدلالة إلى شيء خفي ، ليوصلنا إلى إظهار المحسوسة للفكرة ، والرمز قد يكون جزئي نفهم معناه بالإدراك ، ويتفاعل القارئ بين الإظهار والإخفاء في الرواية ، وهنا لابد أن يكون الروائي المبدع ناجحا في استخدام الرمز ، والكيفية التي بها يستطيع القارئ الإدراك للخفي والغامض بالرغم من أن الرمزي يحجب أشياء وراء حجاب ، وقد استخدمت الرمز في رواية المزمار عندما أشرت إلى البيوت المهجورة ذات الأقواس التي هاجر عنها أهلها ، وأقصد هنا اليهود ، وكذلك الموت في رواية الدفان والغجرية إذ له معاني كثيرة خاصة في ما يتعلق في المطهر والعقاب وعزرائيل والانبعاث ، وكذلك في الفقرة الأخيرة من رواية حورية بحيرة البلوط حيث تتحول شخصية الرواية الرئيسية إلى حورية بالرغم من طريقة الانتحار في البحيرة ، أما راية حكاية من النجف فمليئة بالرمزية لما يتطلب مني مراعاة المعتقد الديني وأشير هنا إلى مراجعة التاريخ إلى ذهنية التفتح والعقلانية والنظرة المتجددة لإعادة كتابة التاريخ المليء بالأخطاء والتزوير والتحيز فعندما تحدثت عن الفتح الإسلامي للعراق بقيادة خالد بن الوليد فعل السيف في أعناق المناذرة وهم مجردين من السلاح أو أسرى حتى قيل أن الفرات صار أحمرا من كثرة الدماء ، فكان أحد المسلمين يصرخ : ليس هكذا يا خالد . هذا لم يتطرق له الأدب الحديث ، والذي لا يتماشى على الإطلاق مع الشرع الإسلامي ، وكان خالد بن الوليد قد فعل الذبح بعرب البادية أثناء خلافة أبو بكر ، وذات مرة أخذ زوجة أحد المسلمين ، إن البناء الذي توج بالدم ما زلنا نعاني منه ، وكم عانينا منه في زمن الدكتاتورية ...

المنفى ولغته السحرية لم تفارقك شعرا ونصا أدبيا بين شخوص التقيت بهم وذكريات عن أمكنة عشت فيها وغرست فيها ذكريات لا يمحيها الزمن ، حدثنا عن أسرار تلك اللغة السحرية ؟

نحن نقرأ ونكتب بلغة القرآن الكريم التي وحدت العرب ، وأنشأت حضارة إسلامية ، وهنا من يقول أنها لغة الجنة ، ولغة آدم ، ولغة الخلق الأول ، ومهما يكن فإن اللغة العربية لها حلاوتها ونغمتها البلاغية والغنائية فمن يتذوقها يتوشح ببديع كلامها وحسن منطقها فعندما كنت صغيرا أقضي وقتا طويلا في تجويد آيات من القرآن الكريم ، وحينما يفترش فوق يدي رغيف خبز محمص ذهبي سحبته يد حنونة من فوهة التنور ، أضمه إلى صدري ، وأهرع إلى محافل الشعر أو إلى الإمام علي في نهج بلاغته أو إلى البحتري لترافقني قصائده في منامي ، هذا وقد كتبت خطبة نثرية وقدمتها إلى معلمي الشاعر في المدرسة الابتدائية ، طلب مني أن ألقيها خطابا في يوم الخميس بعد رفع العلم ، وكان لي ذلك وسط تصفيق زملائي الطلبة ،هكذا صرت أكتب الخطب وألقيها وأنا مفعم بذلك الإحساس الثوري الذي ينبع من كبريائي ، وأتذكر أن أول قصيدة كتبتها في المتوسطة ، فقدمتها إلى أستاذ في اللغة العربية من آل طبيخ الذي تعتمر رأسه عمامة سوداء ، مسد لحيته البيضاء المهيبة ، وقال : أنت متأثر بشعر المتنبي ، هذا جيد ، لكن يجب أن تكون القصيدة قصيدتك أنت من وحي ملكتك أنت ، هكذا يمكن أن تصبح شاعرا .
كنت مغرما بالنحو ، وأجيد الأعراب ببراعة ، وعندما دخلت كلية الفقه لم تفارقني ألفية بن مالك ، ولم تفارقني كتب البلاغة والمنطق فكانت الجمل وتفاسير الكلام والإعجاز في الكلمات من محبتي ، فاللغة تتجلى لي في قوتها التعبيرية ودلالتها الأصيلة الفعالة في خاصيتها المالية ، وقد تآلفت معها ألفة حميمة لأعبر مراحل ومسافات ، فلي فيها لغة تخاطب النص وتراثه وثقافته بقيمة ومتعة سواء في بعد الشكل أو جوهر الجواهر من خلال الانسجام والتصميم لأنني أتعامل مع لغة التراث والتاريخ والخبرة ، فالنص الأدبي الناجح يدوم لحسن استخدام اللغة ، وصداه يتردد في وعي الأجيال ، لينفتح أمامها فهم وأفق لما يكتب عن الحقيقة المتواصلة لأن النص يثبت حضوره المطلق ويحتفظ بجماليته ، وهذا ما أبتغيه من اللغة في كيفية حسية ذات ذوق خالص ليعيش القارئ طقوس مستقلة في عالم اليوم المضطرب ، وليس سرد صحفي يختزل اللغة ويجردها من جماليتها ، هذه رؤيتي للشعر والنص النثري أن تكون لغته ذات حس جمالي وشعور بالحقيقة ، تتجاوز التقليد السائد في عبثية السرد الصحفي . لقد قرأت الكثير من روايات السرد الصحفي لأصحاب الجوائز والشهرة الفارغة التي تخلو رواياتهم من الإبداع والخبرة الجمالية وتوجه القارئ إلى السطحية التي لا تنمي الذوق والوعي الجمالي الفردي ، منصرفة تماما إلى تغيب القارئ ، وتخلق نوعا من التعارض والقطيعة بين اللغة والمضمون ، بين المظهر والواقع ، ألم توجد دعاوي لإلغاء جمالية اللغة لتفقد هويتها ومكانتها ؟! دعاوي لم تكن إلا أصوات لا تسمع ، وألوان لا ترى .
وهذا لا يعني أنني أدعو إلى الشكلانية المجرة المختزلة للمضمون ، فوحدة المضمون والشكل بنية جمالية حسية لابد منها ذات جاذبية بالنسبة إلى القارئ ، هذا هو الارتباط الوثيق بين الشكل والمضمون بواسطة لغتنا العربية ليتجلى الذوق السليم في النص وفي دنيا الحياة الإنسانية .

عشت بين ثقافات متعددة منذ اليوم الذي تركت هموم المدينة وتوجهت نحو جبال كردستان لتحارب الظلم والظالمين وبين انتقالك بين ثقافة الشرق والغرب كانت هناك محطات حدثنا عن تأثير تلك المحطات في أدب حمودي عبد محسن .

نعم ، أنا أكره الظلم والظالمين سواء في دولتهم الاستبدادية أو في دائرة قابيل يقتل هابيل أو بلغة الذئب الشرس في العواء الأخير وهو يتناول عشائه من دم الفريسة أو ضحية البريء عند مذبح الآلهة أو عند معبد الكهنة الذين يدعون إلى الحروب سواء كانوا من عبدة النار أو الأصنام أو عشاق الآلة الحربية أو مستمدي الوحشية من قوة الغابة المظلمة أو أولئك الضالين في عبدة الحجر المقدس ، وفي هذا المضمار كتبت مذكراتي عن نضال الأنصار البواسل في مقاومتهم ظلم الدكتاتورية ، وكتبت العديد من القصص القصيرة حول الظلم والظالمين والدمار والتخريب ووحشية فريسة الغابة . نعم ، رحلت إلى محطات كثيرة كي تتشبع روحي بثقافات الشعوب ، لا ، لتتصادم بل لتلتقي في بناء ثقافة خالدة ولتغير وجه العالم نحو الجميل والأفضل . نعم ، في رحلتي المتعبة التي أحمل فيها قلما ودفترا ، اكتشف الود الإنساني بين البشر والتوق إلى السلام والمحبة ، هكذا كانت محطتي الأخيرة في مدينة بحيرة البلوط ، وقد تكون الأخيرة ، لا أدري ، هذه المدينة المحاطة بالبحيرات والغابات التي كتبت عنها حورية بحيرة البلوط ، وكتبت مقدمتها الكاتبة والمخرجة المسرحية كريستينا نيرو ، وهذا مقطعا مما كتبت : أن المثل القائل ( الشرق والغرب لا يلتقيان ) لا ينطبق على رواية الكاتب حمودي عبد محسن ( حورية بحيرة البلوط )فإنها تنفرد بنظرتها الموحدة لكلا الثقافتين العربية وشمال الأوربية حيث بيوت سمولاند الخشبية أحيطت بطبيعة جنائن الشرق بنخيلها الباسق وأشجار زيتونها العبقة ، محلقة فيها طيور البجع ، والبلابل . إنني ألمح مجون ( ألف ليلة وليلة ) في الجنوح المعروف عند ( كارين بوي ) الناضج بمشاعر الندم عند مقربة الهاوية ( من الصعب أن تكون غير متأكد ، خائف ، ومشتت ، من الصعب أن تعرف العمق أو البرودة ) . وكذلك كتب الغلاف الخارجي للرواية الدكتور في فلسفة أصول الأديان تربيون لينيورن : حورية بحيرة البلوط ذات بناء جميل جدا لقصة شعرية ، مختومة بأحاسيس كبيرة ، وقدرة على عيش الأحداث ، وذات خيال معبر غير عادي ، هي تجسيد بارع لشيء منجز .


استخدمت التاريخ وأساطيره والموروث الثقافي للعراق في كتاباتك ما هي مكانة أساطير حضارة بلاد الرافدين في أدبك الإبداعي ؟

أن الأسطورة لم تكن معزولة عن البشر في وادي الرافدين على الإطلاق إذ لمجتمعها الحضاري المتكامل قوانين تتحكم في التنظيم الاجتماعي ، وبالمناسبة أن السومري كان يعتقد أن هناك عصر ذهبي قديم سبقه وهو وريث له ، عهد السلام والإخاء الذي لا ظلم فيه ، ولا خوف ، بلا حزن وشر ، ولا حيوانات مفترسة تهدد وجوده ، الكل يعيشون في نعيم ورخاء ، ومتساوون في العيش ، لذلك كانت له المخيلة والأسطورة لتنتج أدبا ملحميا في أسطورة الخلق وأصل الوجود والكون والآلهة والطوفان التي غالبا ما تكون مرتبطة بالمغامرة والبحث كما في ملحمة جلجامش البطولية الخالدة التي هي أقدم الملاحم الأدبية في العالم والتي عالجت الحياة والموت ، وما بعد الموت ، والخلود ، والصراع الأزلي من أجل البقاء دون موت ، وكذلك نزول عشتار إلى العالم السفلي عالم الأموات بعد زواجها من تموز وتعرضها للعذاب ومقايضة خروجها منه ، فملحمة جلجامش رغم عنفها تمجد بطلا ، وتتغنى بأمجاده بعد عثوره على سر الخلود وفقدانه ثم رجوعه يائسا من مغامراته التي انتهت بالفشل ، فهذا الأثر يشكل انسجاما لتلك الحضارة القديمة التي تعتبر مفقودة الذي ما زال يمتلك حيويته ويؤثر فينا أبناء هذا العصر بالرغم من مضي أكثر من أربعة آلاف عام على تدوين ملحمة جلجامش ، فاستطعت في ملحمة الإله تموز التي كتبتها أن أجر شيئا من التاريخ الأسطوري دون أن أستسلم لها ، فجعلتها تسهم بشكل في تكوين ملحمي جديد ، خلقت له أبطالا جدد لما يمر فيه العراق من ويلات ومآسي أي بإعادة التجانس بين ما هو قديم وحاضر كدلالة للواقع دون أن ينتهي التاريخ ، تلك هي الجدلية التاريخية بنزاعاتها وتناقضاتها لا تهدم الأسطورة وإنما تتهيكل في النص ، وتجرها من حضارتها الأولى وهذا ما يجعل أسطورة وادي الرافدين تختلف عن الأسطورة التاريخية في الهند وبلاد فارس والإغريق ، فقد أضفيت الطابع الأسطوري لوادي الرافدين ليتحد مع الخيال الشعري عبر تقنيات بلاغية أصيلة لتصنع في قالب ملحمي يتحدث عن حقيقة الاحتلال والمعنى والموت والحياة والحب فيها أصوات متعددة متهكمة لما يجري من خراب في بلادنا ، وهنا لابد أن أشير إلى بعض الحقائق في الأسطورة التاريخية القديمة التي أثرت في لغة ملحمة تموز وأحداثها وفنها الجمالي :
1 – أن الأسطورة التاريخية القديمة في بلاد الرافدين تمر في ثلاث مراحل : الخروج ، البحث ، العودة ( الرجوع ) .
2 – البطل تتغنى به بلاده ، وتمجد مغامراته التي واجه فيها تجارب قاسية وأهوال ومحن من قوى شريرة ، كادت تهدد حياته .
3 – خروجه وبحثه وعودته غالبا ما تأتي بالنفع والفائدة لبلاده .
أضفيت في ملحمة تموز كنتاج أدبي معاصر الجوانب الآتية :
1 – الطابع البطولي لتكون حافلة من خلال لغة شعرية تنسج بطولات باهرة ذات مآثر إنسانية ، لها سمة جديدة ، وبعث جدي .
2 – التوافق في البناء بين ما هو أسطوري وواقعي بإجراءات تحويلية بلاغية في وسط خطر ، وأزمة بلادي ، في خوض صراعا عنيفا بين البطل وقوى الشر التي احتلت بلادي .
3 – تغير مجرى التاريخ في عالم مروع محفوف بالمخاطر لتصل ملحمة تموز إلى ذروتها بالبحث عن منقذ للبلاد لإثبات وجودها في الحب والأمل ، وقد يكون حنين إلى الماضي تستدعي أزمنة عبر لغة شعرية مرهفة .
واستخدمت أيضا اللاواقعية الأسطورية في تحولها إلى الواقعية لتتوافق مع الخطاب الأسطوري في القصة القصيرة لأثير الإحساس بالتوتر والاغتراب وليتواصل التحول أيضا من اللازمني القديم إلى الواقع ، لربما تكون هذه القصص خارجة عن المألوف إلا أنها تحتفظ بالتزامها وأصالتها ، وتظل أبعد مدى في أعماق الحاضر ضمن سياقها الأدبي خاصة عندما تعالج حوادث الطوفان الشهيرة ومغامرات عشتار .


في رواية النجف تستحضر الموروث الديني في عملية توثيق للمكان والحدث كيف كان ردود الفعل للنجفين حول هذه الرواية ؟

أن الجدال حول الموروث الديني في الأدب مشحون بالتوتر اليوم لأنه طابع روحي ، ويتحدث عن المقدس لدى الناس ، لا اعتقد أن رؤيته رؤية محايدة ومجردة تؤدي مصداقيتها لأن ذلك يخلو من المعنى من حيث المبدأ ، والموروث الديني أصبح شائعا وينتمي إلى الحياة اليومية ، لذلك يجب أن يفسر ويفهم من ماضيه ، ونتطرق له في النص الأدبي في صورته الأكثر واقعية وممارسة ، ونتجنب التطرف في الحديث عنه ، ونميز بين إرادة الناس وإدراكها لما تقوم به خاصة في ممارستها الطقوس الروحية والشعائر الدينية التي تدخل أيضا في الموروث الديني لاسيما هناك تجارب الشعوب التي تلجأ إلى الموروث الديني والغيبي عندما تصاب بنكسات اجتماعية سياسية إذ ينخر القهر في أعماقها ، وتأكل الهزيمة تطلعاتها فتجد في الطقوس متنفسا سيكولوجي يهدأ غضبها ويوفر لها الراحة والطمأنينة حتى لو كان ذلك في جلد الذات المرفوض شرعا في الإسلام إلا أنه عندنا اكتسب عادة التحدي للظلم وتبيان معاناة المظلوم عطشا في لهيب شدة الحر الذي يمس الماضي والحاضر ، وهذا اللجوء إلى الموروث الديني يعني أشياء كثيرة في التفكير ونمط الوجود ، لذلك أن مهمة تناوله في الأدب ملقاة على عاتقنا ، ولا يمكن أن نصرف النظر عنه ، وقد تكون هذه المهمة صعبة ، وهذا ما فعلته في رواية حكاية من النجف أو في قصص قصيرة ، إذ رحت صادقا أستنطقه في الكتابة ، فكان النص يتحدث بقدرته الخاصة ، يتحدث في نسيجه المحبوك ، وتعبيره اللغوي ، فلابد من الانتقال إلى الذروة في الكتابة عن المقدس والطقوس الدينية وممارسة الشعائر ، وهذا لا يدعو إلى الدهشة لأننا هنا نتحدث عن الأدب الجميل ، وقد استقبله النجفيون باعتزاز ، وكثرة طلباتهم على رواية حكاية من النجف التي تناولت الموروث الديني .

قصيدة النثر تأخذ حيزا كبيرا من الأدب الإبداعي لحمودي حدثنا عن انعكاسات الأدب الشعري العربي القديم في كلمات القصيدة الحديثة وهل هناك خيط رفيع يربط الماضي بمفردات الشعر المعاصر ؟

العرب قالت سابقا قصيدة فصيحة أو بليغة ، وشاعر فصيح أو بليغ ، وقالت كلمة فصيحة ولم تقل كلمة بليغة ، وفصاحة الكلام خلوصه من الضعف وتنافر الكلمات وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته فلكل كلمة مع صاحبتها مقام في الحسن والقبول ، وهذا مقتضى الحال ، وقيل أيضا أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة وأن سبيل المعنى يقع التصوير فيه ، فالبلاغة هي المعنى والبيان والبديع التي تجمع في الشعر كقول الخنساء :
إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكائك الحسن الجميل
وكقول امرئ القيس :
كأن المدام وصوب الغمام وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها إذا طرب الطائر المستحر
وكقول ابن العميد :
قامت تظللني من الشمس نفس أعز على من نفسي
قامت تظللني ومن عجب شمس تظللني من الشمس
وكقول الشاعر:
ما نوال الغمام وقت ربيع كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ونوال الغمام قطرة ماء
وكقول الشاعر :
أتتني تؤنبي بالبكا فأهلا بها وبتأنيبها
تقول وفي قولها حشمة أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم أمرت الدموع بتأديبها
من هذه النماذج الشعرية نرى مدى اهتمام الشعر العربي القديم بالصورة البلاغية وتوابعها في مواضعها ومعانيها مهذبة مستقرة في محلها بصدق التعبير والانتماء لتكون نسجا من التصوير البارع المتقن الرفيع ، ولتكون القصيدة ذات قافية واحدة ووزن واحد خاصة عندما يقف الشاعر على الأطلال ويقول قصيدته في جمال حسي وحنين إلى الماضي ، فالقصيدة العربية مرت بمراحل كثيرة ، واقترنت بتغيرات وتطورات في ملامحها ولتتجدد في بنائها الفني وأغراضها في الغزل والفخر والمدح والهجاء ، وظهر الشعر الصوفي وخمريات أبو النواس و شعر المجون إلا أنها حافظت على أصالتها ، وحافظت على الصورة البلاغية الذي يجب أن تأخذ بها القصيدة الحرة في تجددها وحداثتها اليوم والتي برع بها بدر شاكر السياب سابقا في قصيدته أنشودة المطر .

لا يمكن توديع الأديب حمودي عبد المحسن دون الشوق لقراءة كل كلمة من الكلمات التي خطها كاتبنا في مجموعة من الدواوين والروايات التي نشرها وحين أبوح له بسري هذا يضحك قائلا:
لعلك قراتها مرار يا صديقي ....
فارد : كانها أي الكلمات خمرا تعتق كلما مر الزمن قارئي الكريم.



#توفيق_آلتونجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جماعة كركوك الأدبية مسيرة البحث عن الروح في مدينة القصيدة ال ...
- العشق على الطريقة النمساوية
- تركيا والسير بجنوح
- رومانيا، عقدين من الحلم بالحرية
- جرائم الشرف وثقافات الشرق
- نظرة الى المهاجر بعيون غربية
- الملف التقييمي الذي سيصدرفي التاسع من كانون الاول 2005
- رد على اسئلة الحوار المتمدن حول العمل المشترك
- الحركة النسوية الكوردستانية ومؤسسات المجتمع المدني
- أستفتاء وأستطلاع رأي ألشعب أداة لترسيخ الممارسة ألديمقراطية ...
- تحت ظلال علم العراق الجديد
- وداعا يا فقر والى اللقاء يا فقراء
- توسع الاتحاد الاوربي نحو الشرق- حلم الملوك- ومتاهة تركيا


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - توفيق آلتونجي - الحنين الذي يرتعش له شغاف الحجاب الحاجز في لقاء مع الشاعر والروائي حمودي عبد محسن