أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - فائز الحيدر - لقطات من الذاكرة.... بائعة القيمر وضحة















المزيد.....

لقطات من الذاكرة.... بائعة القيمر وضحة


فائز الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 2978 - 2010 / 4 / 17 - 01:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لقطات من الذاكرة....
بائعة القيمر وضحة
كثير من المدن العراقية إشتهرت ومنذ عشرات السنين بمنتجاتها المحلية ، وأصبحت تلك المنتجات علامة مميزة لكل مدينة لا يضاهيها منتوج مماثل في مدن اخرى ، فإشتهرت محافظة ديالى بالبرتقال والحمضيات ، بينما إشتهرت محافظة الموصل بالكرزات ، ومدينة سدة الكوت بالسمك ، وقضاء بلد بالعنب ، وقضاء سامراء بالبطيخ ، والفلوجة بالكيمر ، ومحافظة النجف بالطرشي ، وقضاء الشامية بالرز العنبر ، ومحافظة أربيل باللبن المدخن والكباب ومحافظة البصرة بانواع التمور... ألخ .

في أواخر فصل الربيع وأمتدادا" لنهاية فصل لصيف يبدأ موسم ( بائعات الروبة ) في الفلوجة حيث تسكن العديد من العوائل المندائية . وعادة ما يحفز القرويات بائعات الروبة بتسويق ألبانهن في تلك الأيام بالتزامن مع نضوج التمر الذي يروجه الفلاحون على شكل ( رطب ) ، حتى بات تواجد بائعات الروبة في الأسواق من المشاهد المألوفة ، وأصبح الإقبال عليه كبيرا" , وأطلق على أولائك النساء العاملات ( بالمعيديات ) .

ويقال ان أصل المعدان هم من بقايا السومريين الذين سكنوا الاهوار وعانوا من صعوبة الحياة وقسوتها .إلا ان الأمام أبو الفضل الميداني في كتابه ( مجمع الأمثال ) فيقول إن المعيدي هو نعت أطلقه ( النعمان بن المنذر بن ماء السماء ) أمير المناذرة في الحيرة على المعيدي ( ضمرو أبن أبي ضمرة ) الذي كان يغير على مال ( النعمان بن المنذر ) ملك الحيرة ، وكان جيشه يطارده دون جدوى ، وكان يعجبه ما يسمع عنه من شجاعة واقدام ، إلى ان أعطاه الأمان ، فلما رآه إستزرى منظره لأنه كان قصير القامة دميم الخلق فقال ( تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) .

إن منظر بائعات اللبن جميل جدا" خاصة وهن يحملن على رؤوسهن أقداح اللبن المنضّدة في أوان فوق بعضها ويتمايلن في مشيتهن بحيث يمنح الأواني الإستقرار والثبات . يحملن كل يوم صوان ألمنيوم أو مصنوعة من أوراق سعف النخيل متباينة في القطر ومملوءة بطاسات اللبن الرائب المعدنية والخزفية الملونة وبشكل رائع وتعلوها الكشوة المائلة للصفرة الطافية على السطح ، مشّكلة طوابق عدة قد تصل حتى الطابق الخامس أو السادس أو أكثر .
يدخلن بائعات القيمر السوق قبل شروق الشمس ، قادمات من أرياف المدن المختلفة وهن يحملن العشرات من طاسات الروبة وصحون القيمر على رؤوسهن وسط الكثير من علامات الأستغراب ، متى أستيقظن من النوم ؟ وكيف جئن الى المدينة ؟ وعند منّ تركن أطفالهن ومن يرعاهم ؟ وأين أزواجهن ؟
تقول أحداهن إننا نستيقظ فجرا" أو ( الغبشة ) ، وكلمة الغبشة تعني باللغة العربية الفصحى الصباح الباكر وقبل شروق الشمس ، ومعنى الغبش في اللغة العربية هو اللون الرصاصي ، حيث يكون لون الصباح مزيجا" ما بين الأبيض والأسود .

ومن المهن الشعبية القديمة الموجودة في الفلوجة ولها زبائنها وشعبيتها في ذلك الزمان هي ( بيع الكيمر ) وهو قشطة حليب الجاموس ، والتي أصبحت مهنة يزاولها الكثير من الكسبة من الرجال والنساء على السواء ، حيث يعتبر الكيمر وجبة غذائية دسمة ، حيث ماتزال بيوت عدة في أطراف المدن وخاصة الوسطى والجنوبية تحتفظ بالجاموس وتعمل القيمر لكسب قوتها .

لقد تعارف العراقيون على أن يباع الكيمر في المناطق الشعبية في كافة المدن العراقية، وقديما" كان إكرام الضيف القادم من مدينة أخرى يكون عادة بتقديم صحن من الكيمر صباحا" ، أو يقدم كوجبة فطور للشباب المتزوجين في أيام الزفاف ، أو حتى في الفواتح تضامنا" وتقديرا" لأهل المتوفي والمعزين . ولا يكتفين البائعات على بيع الكيمر وحده في النهار وإنما يبعن اللبن الرائب ( الروبة ) عند المساء. حتى سمين أحيانا" ( ببائعات الروبة ) .. وعادة ما نشاهد بائعات الروبة والقيمر وغالبيتهن من النساء المتوسطات في السن في معظم كراجات النقل وتجمعات العمال والأسواق الشعبية وقرب المخابز والافران والعتبات المقدسة ويعتبر ( الكيمر والعسل ) وجبة فطور معروفة ومرغوبة جدا" لدى الجميع .

عندما أصطحبني والدي لأول مرة وأنا في الثامنة من العمر وفي أواسط الخمسنات من القرن الماضي الى بيت بائعة الكيمر المعيدية ( وضحة ) في ضواحي مدينة الفلوجة لنشتري صحن الكيمر بخمسين فلسا" ، لم أكن أميز بين أناث الجاموس وذكورها ، سألت الوالد حينها ... ( يابه هذا الحليب مال الكيمر يأخذوه من هاي المعيدية لو من الجاموسة.. ) ، عندها صفعني والدي على خدي ودمدم بصوت واطئ خجلا" ( أسكت أبني بعدين أمك تفهمك بالبيت !!! ) ، كانت المعيدية ( وضحة ) في منتصف العشرينات من العمر ، ذات ملامح قروية جنوبية جميلة ، وجه صافي وعيون كبيرة سوداء ، وسمار شرقي لطيف ، كان يعجبني كثيرا" عندما أشاهدها وهي تقطع طبقات الكيمر بالدبوس وتعطيني أفضل صحن لديها ، في الوقت الذي كان البعض من الزبائن المحيطين بها ينادونها ( خالة وضحة بداعة ابنج زيدي شوية كيمر وحليب ) .

كان الكيمر الذي تعمله ( وضحة ) له طعم خاص تعودنا على تناوله نحن الصغار صباح كل يوم مع الدبس والحليب قبل الذهاب الى المدرسة ، ولكن من الذي يجلبه للبيت يوميا" وبيتها يقع في طرف الفلوجة الشمالي ويبعد عنا أكثر من كيلومترين ، ولكوني شغوف بأكله مع الدبس صباح كل يوم ، تطوعت دون أخوتي الصغار لأحضاره يوميا" ( الغبشة ) أوعند الفجر وقبل أن تذهب ( وضحة ) الى السوق صباحا" لتبيع ما تبقى لديها من صحون الكيمر وقبل أن يصل أحد زبائنها قبلي ليختار الصحن الأفضل لديها ، خاصة وإن هناك الكثير من المنافسين الأشداء من أبناء المحلة والأقارب وغيرهم ومنهم أبن العم ( أبو مناضل ) ، ورغم فارق العمر الكبير بيننا ، كنا نتسابق فجر كل يوم للوصول الى بيتها والحصول على الصحن الأفضل ، حتى تخلى طوعيا" عن المهمة بسبب عدم تمكنه من النهوض مبكرا" فجر كل يوم .

كان عليّ قطع المسافة في غبشة الصباح مشيا" على الأقدام ولم أفكر يوما" بالخطف والسلب والقتل والتفجيرات والعبوات الناسفة التي عادة ما تواجه أطفال العراق هذه الأيام خارج بيوتهم . فغبش الصيف له رائحة لطيفة خاصة ، فالجو يكون صافيا" والهواء خال من الأتربة مع برودة لطيفة ، أما غبش الشتاء ، فهناك إختلاف واسع ، فالأمطار كثيرة والأوحال تغطي شوارع المدينة الترابية ، كان أذهب في الأيام الممطرة متعثرا" في الأوحال واضعا" على رأسي كيس الحنطة الفارغ ( الكونية ) كمظلة ، حماية من المطر ومرتديا" الجزمة المطاطية تركية الصنع ماركة ( سمسون ) والتي جلبها الوالد لي خصيصا" من بغداد لهذه المهمة ، ولكن عند عودتي الى البيت حاملا" صحن القيمر معي أشعر بالغبطة والفرح لأني أنجزت مهمتي اليومية بنجاح ، في حين لا يزال الأهل يغطون في سبات نومهم الصباحي .

وعند المساء تأتي المعيدية ( وضحة ) مع من ترافقها من المعيديات بائعات الروبة وهي تتمايل بمشيتها أمام أصحاب المحلات في السوق حيث يتواجد الكثير من الزبائن الدائميين لها ، كان بعضهم عندما يسمع صوتها وقهقهاتها مع زميلاتها عن بعد يتركون ما بيدهم من أعمال جانبا" ، ويقفون أمام محلاتهم بحجة أو بأخرى ليقتربوا منها وزميلاتها لشراء الروبة أو دفع ما ترتب عليهم من ديون عن قيمة كاسات الروبة للأيام الماضية ، وهم يسمعوهن الشعر الغزلي تغزلا" بجمالهن وجمال عيونهن السوداء الكبيرة وسط ضحكات وضحة وزميلاتها البريئة .

وأتذكر أحد أيام الصيف حين جاءت وضحة تسير كعادتها وهي تتمايل في سوق الصاغة بهدوء يتعقبها عن بعد بحسب الفضول بعض الصاغة الشباب ، حتى دخلت محل الوالد وسط استغراب من تعقبها ، راجية الوالد أن يصنع لها حجل من الفضة والذي يسمونه ( أبو الثومة ) ، وبعد فترة قصيرة من مغادرتها وصلت الى الوالد عدة عروض من الصاغة الآخرين يرجوه السماح لهم بأخذ قياس رجل وضحة لصنع الحجل والتغزل بمفاتنها ولكن الوالد كان لهم بالمرصاد .

وما يجري في السوق لوضحة وزميلاتها خلال ذلك اليوم يكون موضع نقاش ومباراة في تنظيم أبيات الشعر الغزلي بين من شاهدها والذين يحظرون ما بعد العشاء في دواوين البيوت أو الى أحدى المقاهي الشعبية القريبة لشرب القهوة وتكون وضحة على رأس قائمة الحديث ، أضافة
لتبادل آخر الأخبار المحلية والسياسية .

كندا
16 / نيسان / 2010



#فائز_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقطات من الذاكرة..... الجدة بصرية
- لقطة... من داخل المستشفى
- في الذكرى الثلاثين لأعتقال الشهيد نافع عبد الرزاق الحيدر
- في ذكراه السادسة ، النصير سلام عبد الرزاق الحيدر / د . أبو ت ...
- إتحاد الطلبة العام وصالح المطلك
- محنة الصابئة المندائيين وإزدواج الشخصية
- هل تصدر المرجعيات الدينية فتوى تحرم قتل المندائيين
- من ينقذ الصابئة المندائيين من الأبادة الجماعية ؟؟
- الإعلام المندائي ... الواقع والطموح
- المثقفون والموقف من دعاة الثقافة
- على هامش إنعقاد المؤتمر الخامس لإتحاد الجمعيات المندائية في ...
- على هامش إنعقاد المؤتمر الخامس لإتحاد الجمعيات المندائية في ...
- المهرجان الدولي التاسع للشبيبة والطلبة ، صوفيا بلغاريا / 19 ...
- المهرجان الدولي التاسع للشبيبة والطلبة ، صوفيا بلغاريا / 19 ...
- المهرجان الدولي التاسع للشبيبة والطلبة ، صوفيا بلغاريا / 19 ...
- الثقافة العراقية ما بين فكر البعث والعمائم
- المثقف المندائي والتعصب ولغة الحوار
- الثقافة ما بين الحوار والتكفير
- المثقفون والنرجسية ومرض الأنا
- مهدي ( شنور ) عودة الوالي .... قائد عمالي صلب ومسيرة يذكرها ...


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - فائز الحيدر - لقطات من الذاكرة.... بائعة القيمر وضحة