أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 17 - والأخيرة















المزيد.....


رواية جفاف الحلق – 17 - والأخيرة


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2975 - 2010 / 4 / 14 - 17:13
المحور: الادب والفن
    


رواية جفاف الحلق – 17 - والأخيرة

- 17 –

قامت الحرب، وسقطت غزة.. ذهل أبي، الذي عاد من مصر قبل أسبوع، تحدث باعجاب وتقديس عن جمال عبد الناصر، والجيش المصري حول القناة وفي سيناء، عن معدات حربية، وأسلحة تشيكية وروسية، خالف تحليلات ابو السعيد(جعفر فلفل)، المتوجس من لعبة السياسة، والخائف على الثورة المصرية من ضربة عسكرية ساحقة.. أبي يحب المصريين، ويرى الخلاص على يد عبد الناصر، ويعتبر حصار الفالوجا قد جعله فلسطينياً لا يرضى بالضيم، ولا يهدأ طالما البلاد في قبضة اليهود الملاعين، أبي يحلم بالعودة وتوسيع تجارته ومساحة أسواقه من رفح إلى رأس الناقورة.. في القاعة والسوق يتحدث عن شركات المحلة الكبرى، ومصر البيضاء وكفر الدوار، وآلاف العمال في صناعة النسيج وعن مجمعات الحديد والصلب، وعن سد سيقام في الصعيد، ومياه تكفي لري سيناء الذهبية، وكهرباء تصل إلى غزة.. أبي يؤمن بالرجال الأنبياء والأتباع المخلصين.. أسألــه:
- هل المجـدل بعيدة؟
- نصف ساعة بالسيارة ؟ والله بعد الحرب لأظل أجري على نفس واحد، ما يردني غير هواء العلية.. أنعس وأنام ع البحري..
جدي الذي قطع الاسكندرون، ومر بالأكراد على الأقدام مع فلول الأتراك، ثم جاب البلاد طولاً وعرضاً زياتاً، وبائع أقمشة، سريحاً من حوران سوريا إلى بلبيس مصر.. لا يطمئن للأيام والحكام، تطارده أشباح اللصوص، وقطاع الطرق، والموت في الخنادق، والجوع.. من المجدل يهرب والطائرات تقصف والبحر يقصف.. موت يحرق الزرع والضرع ،جدي يكبح جماح أبي:
- هو مين عبد الناصر يحط راسه براس الانجليز والفرنساوية؟
بورسعيد تُقصف من البوارج والطائرات.. عدوان ثلاثي، المصريون ينسحبون من سيناء، ويغرقون السفن في القناة.. يدمرون كوبري الفردان، وجسور القوات المسلحة, موت وذكريات موت في المجدل، لحم مدفون ولحم يتناثر، وعائلات كاملة تختفي تحت اشجار التوت والجميز رحيل ومتاهة.. أيام تدور، تحط الرحال في الدار العالية عند كتف تلة صلاح الدين، هدفاً واضحاً للطائرات.. نهبط من دارنا، نترك أنوالنا ومالنا، نختبئ مع أهل الحارة في وكر أبو العينين في بطن التل ويبقى جدي في الدار:
- يا ختيار الدار عالية والضرب بيطولها.. والفشك الطايش كثير
- المقدر مكتوب، خذوا الأولاد والنسوان وروحوا الوكر..
جدتي معه، كتلة خوف وموت مؤجل، نسحب في أذيالنا جدتي نفيسة.. نساء وأولاد ورضع افترشنا أرضية الوكر مع رطوبة تشرين، في الوكر حجرات ودهاليز وممرات لجأ اليها الناس في حرب الأتراك.. ثم استغلت صوامع للتخزين، وسترت اللاجئين في الهجرة، تضيئ الوكر سراجات بالكاد تبدد العتمة، فوهة الوكر مستورة بالبطانيات السوداء، تواجه ريح الليل وتمتص بقايا شعاعات الأسرجة، الطائرات تحوم طوال الليل على ارتفاعات منخفضة.. ندفن رؤوسنا في صدور أمهاتنا.. أصوات الرجال تصدر فحيحاً لاعنا غاضباً مذعوراً:
- أسكتوا الأولاد بلاش يعرفوا الوكر ويضربوه
في حاكورة أبو العنين، وفي غرف البيت الضيقة، يتلفع الرجال بالبطانيات، يتكومون حول الراديو، وقد شبحوا انتيله على شجرة اللوز العارية.. مارشات عسكرية خافتة، وأغانٍ وطنية يبثها صوت العرب، بيانات عن بوارج وطائرات وقتال بالسلاح الأبيض في الشوارع، محطة الشرق الأدنى، واذاعة لندن تنقلان أخبار الحرب في سيناء، وأحاديث عن دبابات ومدافع تدك المنطار وتمسح الدشم والمواقع، صليات الرشاشات في الحواري الشرقية.. مطر يهطل طوال الليل وعند الفجر نرهف السمع، هرولة الناس إلى الغرب باتجاه البحر، يلهثون وينثرون أخبار سقوط المنطار، وانسحاب الجيش وهروب الضباط.. عن قيادات تخفت بالقنابيز وأثواب النساء ..هياج حزين واجف.. قدر يخبئ أشباح الموت.. ترقب وحذر وصراخ الأطفال.. رتل سيارات تسبقه قعقعته واشارات الوايلس، يهبط من حارة بني عامر إلى ساحة الشوا.. لغة عرجاء وخشخشة ميكروفون وزخات رصاص تثقب السماء.. تنقر الجدارن على طول الشارع.. صمت يقطعه هدير محركات السيارات الثقيلة والمجنـزرات.. وصوت نسائي حاد:
نـداء.. نـداء.. نداء إ
لى أهالي غــزة
بأمر من الحاكم العسكري العام لمدينة غزة، "ساجان الوف حاييم غئون"، على جميع السكان رفع الرايات البيضاء والتزام الهدوء داخل البيوت.. وسنطلق النار على كل شخص يوجد خارج بيته" .
يتحرك الرتل باتجاه سدرة الخروبي.. يمسح فضاء بيارة أبو راس رصاصاً.. أبي يتصنت على الاذاعة المصرية
دع سمائي فسمائي محرقة
دع مياهي فمياهي مغرقة
رجل يهجم على الراديو يغلقه، ويقطع سلك الأنتيل، يلفه ويرميه بعيداً في الحاكورة :
- لا بقيت سماء ولا بقيت أرض وقاعدين بيغنوا!!
وتجمع الرجال، رؤوس مطأطأة، نختبئ في أحضانهم مثل ديدان الأرض البردانة، خيّم الليل، وانتهت الحرب وسلم الحاكم المصري، واستلم الحاكم الاسرائيلي، من الوكر تسللنا إلى البيت قفزاً عن الأسوار من بيت لبيت، كان جدي قد نبش جورة نول ذيب المصري وتهيأ، فتح أبي صندوقه، وعاد بالبندقية الألمانية وأمشاط الرصاص.. لفوها بقماش أبيض وربطوها بخيوط خضراء قوية، جدلوها من حرير المقاطع، دفنوها في جورة النول، وفردوا عليها الحصيرة وفرشة جدي، فقد قرر النوم في القاعة..
عند الفجر هطل مطر غزير، لم يسبقه شرر برق ولا هدير رعد، ولم يحجب صوت النداء المسرسع..
إلى جميع سكان حارة الدرج وحارة التفاح
( بأمر من الحاكم العسكري لمدينة غزة "ساجان ألوف حاييم غئون" ، على جميع الرجال من عمر 16 إلى60 سنة ، الخروج من البيوت رافعي الأيدي على الرؤوس، والتجمع في ساحة مدرسة صلاح الدين.. ومن يخالف الأمر ستطلق قوات جيش الدفاع الإسرائيلي عليه النار).
في القاعة حول جدي تكومنا، نصغي لصرير الريح ووقع الأقدام على الأرض اللزقة في الحارة، الحارة تغوص في الصمت، يقطعه زخ المطر ونقر حبيبات البرد على السواطيح الزنكية.. الأفق ملبد بغيوم سوداء حجبت شمس النهار شرقاً قبل أن تولد ، صار الوقت ضحى طقطقة على باب بيت الجيران، ودق عنيف على باب دارنا.. أعقبه زخات رصاص, صليات متصلة في السماء، باب الدار يفتح على مصراعيه، الجنود يملأون حوش القاعة، يصعدون إلى الدار الفوقا، وينتشرون، جدي يقف عند باب القاعة، بحذر يدخلون علينا، مجندة تصوب بندقيتها باتجاهنا، فيما الجنود بين الأنوال وأكوام الغزل والقماش.. كبيرهم يسأل جدي:
- ما في رجال هون؟
- طلعوا إلى المدرسة مثل ما طلبتم
- وين السلاح يا ختيار؟
- الدار قدامكم فتشوها..
تراطنوا همساً، وانسحبوا من القاعة والحوش، وتراطنوا في الحوش، فهبط الجنود من الدار الفوقا، جندي شاب يلوح للمجندة بربابة خالي.. خردقوا غيوم السماء بالرصاص وخرجوا.. حول جدي في القاعة تكومنا، أمي وزوجة خالي صعدتا إلى الدار الفوقا، أغلقتا ما استجاب من أبواب الحجرات (قلبوا الدار عاليها واطيها )
وفي المساء قبل زحف الليل بقليل، رجع الرجال، وتحدثوا عن معتقلين وجنود وضباط مصريين حمّلوهم في الشاحنات والمجنـزرات، وتحدثوا عن ضرب وشج رؤوس وعن دم شخب ونفر من العروق. وعندما سمح بالتجول ساعات بعد أيام، سطا الناس من كل الحارات على مستودعات الوكالة في حارة بني عامر، وعلى مستودعات تموين الجيش عند الإمام الشافعي، نهبوا الدقيق والسكر والفول والعدس، حملوا الزيوت والتمور والمعلبات..
حتى ألواح الخشب وقضبان الحديد وقطع الصاج نهبوها من ورش تعليم الصناعة في مدارس الوكالة مع عددها من مناشير وشواكيش وملازم نزعت عن الطاولات.. أولاد يحملون مساطر الرسم الهندسي وأوراق الرسم البيضاء، وعلب الطباشير.. جنود الإحتلال في الطرقات وعند الزوايا لا يأبهون بما يجري، بين الحين والآخر يصرخون على شاب أو رجل يوقفونه ويدفعونه في سياراتهم، ولا أحد يعرف مصيره، منهوباته على الأرض تدل عليه.. وفي ساعات منع التجول تتجول ريح تتشرين في الأزقة والبيوت، تحمل أخباراً عن احتلال قد يطول، وعن انسحاب متوقع، وعن موقف أمريكي وروسي.. وعن نفاد الوقود والدقيق من المدينة، تتمدد ساعات التجول، وتتسع خطوات الناس عن بؤر بيوتهم ومدارات سكناهم، بعض الطمأنينة في وقت التجول التي تحددت من السادسة صباحاً وحتى الرابعة مساء، الناس مثل طوابير النمل إلى الأحراش طواري وبلطات ومناشير وفؤوس.. مناسيس وأزاميل، قطعت الغابة حطباً ووقوداً لوحقت الأشجار حتى الجذوع وعروق الجذور وجدت من يتتبعها ويعود بها حطباً رديئاً معروفاً بكثافة دخانه وتفحم جمره.
في الليل نتدفأ على نار حطب أخضر لم يطرد ماءه بعد، دخانه اللزج يغير طعم الهواء، ويشكل المكان، ويعشش في ملابسنا قبل أن تشويه النار وتعرف مسالكها فيه، أحاديث وحكايات عن حروب انتهت، وحروب آتية ، عن تراجع وعن موت وجوع واعتقال وتعذيب، وجنود مصريين يتجمعون في مستشفى الشفاء مرضى ومصابين ومقطوعين.. وعن لجان اغاثة تجمع مساعدات من الموسورين والقادرين، والشيخ هاشم الخزندار التاجر والفقيه والشيخ خلوصي بسيسو القاضي، وغيرهم أخذوا المهمة على عاتقهم.. أبي يتبرع ببعض القماش، وزريفة ولطيفة خلف الماكينة تحيكان الجلابيب والشراويل والملابس الداخلية لأصحاب القسمة والنصيب…
المدينة قلقة حذرة بعد أن اجتمع الحاكم الجديد بالأعيان والتجار ورجال الدين، وطمأنهم، وطلب منهم العودة إلى الأسواق والحقول والحياة العادية، إلى المدارس تقاطرنا...
وتسربنا إلى فصولنا بعد جرس خجول واهن، لم نصطف في طابور ولم نحيّ العلم، ولم يتقدمنا صلاح اللبابيدي، الذي قتل في بيته أمام زوجته الشابة الجميلة وأطفاله ،ولم يعد عودة إلى المدرسة، وعرفنا أن أمه رجعت به إلى البيت عندما رأت دورية الجنود عند باب المدرسة.. لم نعد إلى نشيد الكرمل المعطر، والبرتقال المزهر.. في المدرسة صار الحديث همساً، والأستاذ عوض الله لا يحمل خيزرانته، لا يعاقبنا على واجب لم نؤده، ولا على مسألة أخطأنا في حلها.. حصص الدراسة قلصت، واشتقنا لحصص الرسم والرياضة البدنية وطابور الكشافة، وفي يوم عاد أبي مهموماً فقد اعتقل جعفر فلفل وابنه سعيد، وتحدث عن تعذيب، وتغطيس في الماء البارد، عن تقليع الأظافر بالكماشة، وعن نفخ الإبن أمام أبيه مثل الذبيحة قبل سلخها.. جدي الذي يخاف من الحيطان التي لها آذان يهون الأمر ويقطع على أبي الاسترسال أمامنا.. يتمتم (مطرح ما تأمن خاف ) يرتفع صوته منبهاً
- ايش عرّفك هو في حدا طلع من السجن؟!
- هيك بيقولوا، ماهو تعذيب اليهود معروف، يعني بدهم يطعموهم ملبس وحلقوم، الله يصبرهم!
وسألت عن محمد فارس، الذي لم يعد يزورنا، أخذني أبي إلى حضنه ملسوعاً فزعاً:
- ليش بتسأل عنه؟
- علشان يطخ اليهود ويطردهم
ساد صمت واجم.. لا أخبار عن محمد فارس، قيل أنه قتل في تلة المنطار، واختفت جثته تحت الردم، وقيل أنه ركب البحر باتجاه لبنان.. وقيل أن اليهود اعتقلوه في جباليا يوم جمعوا الرجال في الساحة، بعد أن تعرف عليه رأس الخيش، وصابر يحلف بروح أبيه أنه رآه مع ضابط مصري كبير يختفيان في حارة الصبرة.
***
الحياة في غزة محكومة بمواعيد منع التجول، تغلق الأبواب على الناس، وتصبح الشوارع ملاعب لدوريات الجيش.. نرهف السمع لهدير الآليات والسيارات العسكرية، عندما تأخذ مواقعها في ساحة الشوا، توزع جنود الدوريات الراجلة إلى الحواري والشوراع، تتعرف على اتجاهات الدوريات من خشخشة أجهزة اللاسلكي، ولغة متقطعة تتقاذفها أجهزة الإرسال والإستقبال، حارتنا المحصورة بين ساحة الشوا وسدرة الخروبي،تطل على فضاء بيارة أبو راس.. تمشطها دورية راجلة تحت حماية جيب يذرع الشارع جيئة وذهابا.. نتلصص على أفراد الدورية من ثقوب الأبواب، ونتوقع صليات الرصاص من جندي مذعو، جنود الدوريات يطلقون النار باتجاه البيارة، على كل شيء يتحرك.. وفي النهار نسمع حكايات الرصاص الطائش في حارة التفاح والمشاهرة وبركة قمر والمحطة، وفي دارنا نستطلع أفق الحارات من البراندة.. تنبسط البيارة خضراء تغلفها غيوم كانون الهابطة، سقف رمادي يبشر بمطر لا ينقطع.. فرح اذا هطل المطر في ساعات منع التجول.. فالجنود يلجأون إلى عروق الجدران وسياج البيارة، وسرعان ما تلتقطهم سيارة الجيب، وتذهب بهم بعيداً.. نخرج من مرابضنا ونصل ما كان قد انقطع من لعبة المسكوبية، والبنانير، وحاكم وجلاد، نتجرأ بعد طول استطلاع، نقفز إلى البيارة، من ثغرات في السياج أعدت سلفاً خلال النهار.. نعود برأس خس، أو درنة فجل، أو بعض بصل أخضر.. بعض الكبار رجالاً ونساءً يتسللون معنا ليعودوا بكرنبة، أو رأس ملفوف،.. طبخة يوم واحد وجبة عشاء متأخر.. حول الكوانين يدور حديث الحروب، وعسر الوقت، وقلة الشغل والعمل.. ونهارات مصادرة بين حدى منع التجول، ورخص يفرضها قانون الحاجة والفاقة والإحتلال.. جدي يبرر الأمر ويلخصه :
- من يأكل عليه أن يطعم، وأرض الله لعباد الله، والسرقة للأكل مش حرام.. السرقة للبيع تستأهل قطع اليد واللسان
ناطور البيارة يدور حول السياج يسد الثغرات بأكوام من هيش يدل على الثغرة ولا يغلقها، لا يتتبع آثار الأقدام أو بقايا طين الأرض الحمرا تصل ما بين السياج وعتبات البيوت يتعامى ويمسح الآثار، ويموه الخطى تحسباً من دورية جيش أو جولات صاحب الأرض التفقدية.
ودعنا الكوانين، قطعنا آذار، ودخلنا بوابة شباط بمزاجه الأرعن وبقايا غيومه وأمطاره تعايشنا مع منع التجول، وحفظنا مواقيت الدوريات الراجلة والمحمولة، نمتلك الشارع بالتناوب مع العسكر.. حتى كان يومٌ اشتد فيه الريح والمطر، وتجاوز منع التجول مدار النهار إلى حواف الليل.. من البراندة نهلل إلى حبيبات برد تنقر بلاط الدار تتقافز مثل حبيبات الرز المقشور المغسول.. نتطلع الى الدنيا تحت أبخرة السحابات المعلقة على هامات الزيتون شرقي البيارة، تموه علينا ملامح الحارات البعيدة.. صابر يعبر الدار فجأة أبكم يشير إلى البيارة ..
ثلاثة أشباح يركضون باتجاه الشرق.. برق يفجر السماء، ينثر خيوطاً من نار تشقق زرقة السماء فوق حاجز الغيوم.. يهبط رعد زاعق يرج سكون الدنيا.. تمضي الأشباح إلى غابة الزيتون.. صابر يهمس في أذن خالي:
- طخوا العرايشي!
- وين؟
- في قهوة الساحة
انسحاب اليهود من سيناء وغزة، وقوات طوارئ دولية، أخبار مصر في الراديو تهلل لانتصارات، عدوان ثلاثي خائب وفاشل، اذاعة الشرق الأدنى، تعلن عن انسحاب وتبادل اسرى، ونزع سلاح.. رؤوسنا الصغيرة لا تستوعب غير انسحاب اليهود من غزة.. وانتصار عبد الناصر.. لا تفسر كيف انتصر عبد الناصر، فيما الضباط والجنود المصريون قتلوا أو وقعوا في الأسر.. آمنت أن عبد الناصر كما يقول أبي, رجل ، يختلف عن كل البشر، ينتصر.. أخذت أروّض الحكايات في عقلي، وغمرت الدنيا أصوا ت الرصاص حتى مطلع الفجر.
وأطلقت المآذن آذان الفجر، وقذفت الجوامع المصلين إلى الحواري.. تهاليل وزغاريد، ورصاص مبتهج.. ما الذي جرى وما الخبر؟ أم علي الجرجاوي في بطن تلة صلاح الدين تلهج بين التصديق والرجاء..
- اليهود انسحبوا..!؟
الناس تستقبل الناس في الأزقة والحواري، الجموع صاعدة باتجاه الساحة، مهرولة نحو محطة القطار.. وشمس عذراء تجاوزت السحب وسبقت المطر "جدي يقول اذا سبقت الشمس هطول المطر يكون النهار صحواً,أما اذا ضخت الغيوم أحمالها قبل الشروق تبقى الشمس على خجلها ولا تصعد إلى قبة السماء"
اليوم تبكر شمس آذار نحو دروبها تستقبل هتافات الناس .. والناس حول سيارات قوات الطوارئ الدولية.. يستقبلون جنوداً زرق، جاءوا من أركان الدنيا، يرطنون لغات غريبة عجيبة..كنديون وبرازيليون، ويوغسلاف وهنود، غزة تستقبلهم بعناقيد البرتقال ورؤوس الخس، وحتى عيدان قصب بركة قمر، يطوقون أعناقهم بأغصان الزيتون وأكاليل الفل والقرنفل، يرشون رؤوسهم بالملح.. الجنود يوزعون الإبتسامات، يراطنون الرجال والشباب بانجليزية مكسرة، يخبرون عن هويتهم وبلادهم البعيدة ..
من الشجاعية تحركت المظاهرة سلكت شارع عمر المختار..هتاف يرج الأبدان..
غزة غزة عربية..
لا شرقية ولا غربية بدنا ادارة عربية
أبي قابض على ذراعي، يهتف، بين الهتاف والهتاف ويدخل في نقاش غاضب حول تدويل القطاع..رغبة جامحة بعودة الإدارة المصرية ..هياج واندفاع وهرولة نحو الساحة (ميدان فلسطين ) المظاهرة تنتظر روافدها من الحواري والمخيمات.. وتهلل للسجناء الذين خرجوا لتوهم من سجن السرايا، حملوا على الأكتاف.. فاختاروا المظاهرة على العودة إلى البيوت.. تتحرك المظاهرة باتجاه مبنى سراي الحكومة، حيث تمركزت قيادة قوات الطوارئ، الجنود الزرق يحيطون بالمبنى ويرفعون على ساريته علم الأمم المتحدة، أزرق يرفرف في السماء، والجنود يتصدون للناس الذين حاولوا اقتحام المبنى.. شاب يتسلق شجرة الكينياء في ساحة السراي.. يرفع العلم الفلسطيني.. يرفرف العلم.. ويسقط الشاب برصاصة جندي أزرق، يصل الشاب إلى الأرض..
ويبقى العلم فوق هامة الشجرة.. رصاص يثقب السماء وعلم يلف جثة الشهيد محمد المشرف ومسيرة هائجة مائجة تمضي به إلى مقبرة الشهداء عند بوابة المدينة.. زخات المطر تهطل، وشمس النهار توارت خلف غيمة داكنة فسيحة باتساع سماء غزة
***
رقصت غزة.. عادت الإدارة المصرية...عاد الحاكم الإداري العام، ورجع محمد فارس بزوجة مصرية جميلة، وأضفنا إلى حكايات الدار حكايات الضرائر في بيت الفدائي، الذي يحتكم الى كفه الغليظة في فض النـزاعات بين زوجتيه.. زوجته الأولى تحرد عند أهلها، ويقوم جدي بردها الى بيتها، ونعمات المصرية الغريبة يفيض بها الكيل فتحرد عندنا، فتشد الدار نساءً ورجالاً من ازرها ظالمة أو مظلومة، فهي الصغيرة الجميلة الغريبة عن ديارها، وأبي يهدد زوجها بارجاعها إلى مصر في أول سفرة له، والسفرات كثيرة متلاحقة..
في الدار وجدت النساء ما يثرثرن حوله، وما يفتشن عنه، بعد أن تقلصت الأعمال في القاعة، وتعرت معظم الأنوال من غزلها وخيوطها، أحد أولاد ذيب المصري ترك القاعة ليعمل حارساً في كامب القوات الكندية، وسحب معه رمضان الأفندي فراشاً ومراسلاً أهله إلى ذلك ما ظل معه من كلمات انجليزية تعود إلى عمله في "كمبات " الإنجليز في يبنا.. اقتصرت القاعة على أربعة أنوال جرارة ونول جدي.. تزودهم أمي وزوجة خالي بما يكفي من مواسير خلال ساعة خلف الدواليب..
ذيب المصري وجدي، يجوبان الشجاعية ومخيم الشاطئ وجباليا بحثاً عن عمال، والعمال نصبوا أنوالهم في بيوتهم تحت العرائش في أحواش الدور أو في توسيعة أقيمت للنول خارج الدار، يعملون لحسابهم أو لحساب المعلمين.. جدي يعود منهكاً ينفخ ويتساءل: هل تغيرت حوال الصنعة وتبدلت قوانين القاعات؟ يرى في التبدلات ايذاناً بانقراض وصايا النبي شيت رب الصنعة.. ويؤمن بأن سيدنا النبي غاضب على أهل المجدل، لأنه زرع الأنوال فيها فنصبوها في غير مواطنها.. خالي يعاتبه:
- أي هي الأنوال شجر تزرع وتقلع؟
- النول شجرة.. كل نول يستر صاحبه، ويفرع نولاً ثانياً وثالثاً.. مثل الشجر يتفرع وتطرح ثمراً وبذوراً تعطي شجراً.. كل الأنوال اللي انت شايفها أصلها نول واحد..
- انت مصدق ان النبي شيت جاب النول، هو كان فاضي يهدي الناس ولا يشتغل على النول..؟!
من القاعة اختفت أصناف طردتها المنافسة مع الأقمشة المصرية المستوردة، واعتصمت أصناف بأصولها ولم تتأثر.. اقتصر الأمر على أقمشة الفرش والمراييل والحواشي (أقمشة القنابيز) والمقاطع (الثوب المجدلاوي ) والمناديل.. في الأماسي يدور النقاش حول تفكيك الأنوال العارية وبيعها وتقليص أعمال القاعة على ما هو موجود، تنتصر النساء للفكرة بعد أن ذقن حلاوة الراحة وبذرن عدداً اضافياً من الأولاد والبنات، لكن أحداً لم يجرؤ على طرح فكرة تصفية الأنوال نهائياً, رغم أن الأحوال تمضي نحو ذلك، فخالي مشغول بالسوق ومنافسة تجار الجملة، وأبي تأخذه مصر ذهاباً وإياباً.. حتى كان يوم فاجأنا جدي، وقد اشترى داراً في مخيم الشاطئ، وقرر الانتقال اليها مع عائلة خالي، وتمترس خلف قراره :
- لوقتيش بدنا نظل ندفع أيجار للدور؟!
- يعني هي دور المخيم ملك مطوب يا ختيار؟!
- مثل الناس ولا باس..ماله المخيم..على الأقل كل الناس في الهوا سوا
***
دار جدي في طرف المخيم تطل على الأحراش.. بعيدة عن الشارع العريض وصفّ المراحيض العامة، وقريبة من حوض الطلمبة الشرقية التي حفرتها الوكالة حديثاً.. خالي لم يسكن الدار إلا بعد اجراء التصليحات اللازمة، صب أرضية الحجرات والبراندة بالاسمنت، وأقام عريشة من الزينكو أمام الحجرات، وبنى مرحاضاً ومطبخاً في طرف الحوش، أقامت جدتي خلفه فرن الطابون.. حوش الدار الرملي زرع بالنعنع، وشجرة ليمون وزيتونة وبعض القرنفل والورد، بعد أن خلطت تربته بالطين من المطينة التي فتحت في أرض البلاخية عند شاطئ البحر، والحقت القاعة بالدار في توسيعة من أرض المخيم تجاورها غرفة المقعد (المضافة) التي فرشتها جدتي بحصيرة قديمة فردت عليها الوسائد والحشايا ..
يوم زيارة دار جدي يوم عيد، وتواصل واكتشافات وحكايات نتزود بها طوال أيام الأسبوع تصطحبنا أمي عصر الخميس، ونعود مساء الجمعة.. أنطلق في الأحراش (الغابة) مع هيجر وأولاد الجيران، نفتش عن زغاليل العصافير في الأعشاش، وعن صغار الكلاب والقطط، نعود ببيض الشنار الملون، ونعثر على سلاحف صغيرة، نطارد السحالي، وتفلت منا الأرانب البرية يرشقنا النيص بسهامه الإبرية.. نجمع بعض "الكعوب" والحماصيص الأخضر وأزهار البابونج.. أتعلم من الصبيان في المخيم كيف ننصب أفخاخاً للأرانب البرية والعصافير.. نطارد مع ابي حسام العوجا الذي يصطاد الحمام البري ،والخضير، والهداهد والشنار بالجفت.. نرافق زوجة خالي إلى الطلمبة نملأ أباريق الدار والقدور والطناجر الصغيرة، نفرغها في مزيرة المقعد والأزيار الاحتياطية في حوش الدار، نروي مزروعات الحوش، نحتطب لوجاق القهوة، ونجمع الأوراق الجافة وعسف الأغصان الميتة وقوداً للصاج وفرن الطابون، نتجمع حول الطابون عند الخبيز نتزود بأقراص الخبز مع الزيت والزعتر أو مع البيض، نتشابك ونتصارع اذا تعلق الأمر بشواء العصافير التي نعثر عليها في الأعشاش..
المخيم عالم آخر وحكايات أخرى، سوق المخيم بسيط وصغير ويخلو من الفاكهة، المشي بالأحذية حالة استثنائية عند الصغار، القباقيب أحذية معتمدة لا تسمع نقراتها على رمال الأزقة. في المخيم نتعرف على تقسيمات جديدة وحوار جديدة.. حارة المجادلة وحارة الحمامية، وحارة اليافاوية، وحارة الجوارنة على الشاطئ مباشرة، إلى البحر نمضي مع الفجر..
نتقافز بين الصيادين، نخطف ما تيسر من أسماك السردين...ونفتش في (عقاره ) جرافات الصيد، وننتظر عقارب الماء حتى تهمد، ونأمن من لسع شفراتها السوداء التي تشق جلد أكفنا وتفرع فيها سماً حارقاً.. عند العصر نمضي في ذيول أمهاتنا نغطس في الماء، ونلتقط من تجاويف الصخور ما تيسر من أسماك الداقور السوداء اللزجة نعود بها حية تلعب في الماء داخل صفائح تنك، ننـزع أبو جلمبو من مراقده، نشعل النار على الشاطئ نأكله مملحاً مع خبز محمص وبصل أخضر وفلفل أحمر مخروط.. في الليل أجمع فناجين القهوة السادة من أيدي رواد المقعد.. سأل جدي:
- ليش تركت الدار الكبيرة وسكنت المخيم؟
- علشان الناس في المخيم مثل بعض، كلهم مهاجرين
يضحك ويضمني إلى صدره.. يحدق في وجهي ويهمس:
- علشان نرجع ع البلاد عن طريق البحر.. اللي يمشي على الشط بيصل ولا يتوه.. تدله ريحة الشيخ عوض إلى المجدل
- ليش أبويا مش راضي يشتري دار في المخيم؟
***
وبعد أقل من عام استلمنا دارنا في مخيم الوحدة التابع لمخيم الشاطيء، والذي عرف وما زال بمخيم المجادلة.. وعشنا حياة أخرى..



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق – 16 -
- رواية جفاف الحلق – 15 -
- رواية جفاف الحلق – 14-
- شهادات محمد أيوب في الجبهة الموازية
- رواية جفاف الحلق – 13 –
- رواية جفاف الحلق – 12 –
- رواية جفاف الحلق -11 –
- رواية جفاف الحلق – 10 –
- رواية جفاف الحلق -9 –
- رواية جفاف الحلق -8 -
- روية جفاف الحلق -7 -
- رواية جفاف الحلق – 6 –
- رواية جفاف الحلق – 5 –
- رواية جفاف الحلق -4 –
- رواية جفاف الحلق – 3 –
- رواية جفاف الحلق – 2 –
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 17 - والأخيرة