أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صلاح الداودي - آن كُكْلاَن : معاشرة اللامادّيات















المزيد.....



آن كُكْلاَن : معاشرة اللامادّيات


صلاح الداودي

الحوار المتمدن-العدد: 2973 - 2010 / 4 / 12 - 00:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



ص. ص 37-59

الجزء الثاني

اللاّمادّي في الفن المعاصر

لم تعد الفيزياء ولا نظام العالم المجال الذي يمكن أن نفحص فيه مسألة اللاماديّ ونمتحن في نفس الوقت إستعماله وجدواه اليوم ـ فذلك شأن الفيزيائيين و علماء الفلك والرّياضيين (Les Mathématiciens)وهم يتداولون بيسر الجزئيات و التدفقات والكوانطات (quanta)ـ، وأنا شديدة الإحتراس من أن أتبعهم على هذا الميدان. فمسألة اللاماديّ تطرح من جهة لم يتطرق لها الرّواقيون (stoïciens) وهي، لعجبي، منطقة الفن أو، بأكثر دقة، مسألة الأجساد. أُستدعِيَ اللامادي فعلا في هذا المجال. ومع ذلك لم يُستدعى. ألم يكن ذلك بصفة غير مباشرة وكأنّ الأمر كان (Par défaut) فبدلا من طرح السؤال مباشرة فإنه أتى مقلوبا: "ما هو اللامادي؟" موقع: "فلِما الجسد غائب عن الفن المعاصر؟".
يمكن لذلك أن يُفاجِئ ولكنّ مطلب الجسد في المجال الفني أمر واقع وهو مطلب راهني و تكراري ومستمرّ وعنيد وواخز. فهوأصبح تقريبا مبحث غير قابل للتجنّب في النقاش حول الفن المعاصر وبالخصوص ما دام الأمر يتعلق بالفن المدعوّ رقميا. فهل لا يزال في ذلك جسد؟ إنه لم يعد يوجد جسد فقد تغيّب الجسد الخاصّ بالفنان. إن الآلات هي التي تصنع الأثر أو ترسم وتحسب وتبتكر. ولكن هل تبتكر بحقّ؟ زد على ذلك السؤال: أيّة آلات؟ لأنه ثمة فرق بين آلة وآلة. فإذا إخترنا هذه الوجهة، فالجسد بدوره آلة: وحينئذ لن ننتهي من تحريك وإعادة طبخ وتحمية هذه الأسئلة في المؤتمرات والمناسبات العالميّة الأخرى. فالأحكام المسبّقة والطوبوس (topos) هما مصطلحان مبتذلان مرة أخرى: أثر "يدوي" ضد تقنية، ملموس ضد مجرد، تأثر ضد بُرود. آه !التأثر... إنه بحقّ دقيق عن الوصف. ذلك أنه يحملنا. كيف؟ أين؟ بإتجاه من؟ بإتجاه ماذا؟ لا نعلم. ليس بالضرورة بإتجاه الجميل، ولكن بإتجاه الفن: عالم آخر، أبعد، هناك. لأن ذلك يفارق، إنّه يجب أن يفارق. فكيف إذن؟ هل أن الجسد يصلح للمسافنة نحو الضفة الأخرى، أينما لم يعد يوجد جسد تحديدا، فقط ذهن أو ذهنيّ، كما نشاء؟ نرى الآن أن الأشياء تختلط. لا شيء يبدو على الحقيقة واضحا في هذه المطالبة.
نريد الجسد ولكن الجسد في الفن هو كلّ ما نريد: يد الفنان التي توجّه كل الجسد نحو الفعل؛ وهذا النزوع هو كذلك إذن وبديهيا الذهن، سبب ذهني (علّة عقلية)، توجّه اليد؛ جسديّة هي الممارسة التي تؤدّي إلى التدرّب ولكن جسديّ كذلك التأمّل والذكاء الذي من دونه لا توجد أيّة ممارسة. جسد هو أيضا الأثر، الذي هو ماديّ: قماش أو صباغ أو حجارة أو رخام أو لوح أو إسمنت؛ وأجساد كذلك الأدوات من كل نوع وكذلك والسنائد؛ ثم الأجهزة والآلات ـ لأننا نحتاجها كي نخلط و نحمل و ننقل و نتشبّث ونودع. فتنظمّ إذن إلى الجسد الخاص بالفنان عناصر محيطِه. وبالاختصار، يسمّى جسدا كل ما يتعلق بالمبدِع سواء أكان فكرا أو مادة. لنقل إذن أن هذا الجسد الذي نحن بحاجة ماسّة إليه,هو ببساطة الفرد الذي نريد أن نتحسّس حضوره "من خلف" العمل الفني. ولكن هل أن هذا الحضور ذاته جسديّ؟ ألا يتعلق الأمر على عكس ذلك بلاماديّ غير قابل للفهم ولا للّمس؟ هل هو "خلف الأثر"، أ ليس هو ذاته غير قابل للّمس؟ ها نحن نقاد دون أن نعلم المزيد إلى السؤال البدئي: ماذا نريد بالجسد عندما نريده أو عندما نزعم أنه يوجد جسد رغما عن الظواهر كما هو الشأن بالنسبة للرقميّ على سبيل المثال؟
هل يجدر بنا أن نفكر بأن هذه المطالبة خالية من المعنى وأنها لا تدلّ مجملا سوى على قلق ما قبالة الحالة "الغازيّة" للفن المعاصر؟1 أو، بشكل أعم، هل كان الأمر سيتعلق بحيرة تصاحب إختفاء الجسد وهو يصير موضوع تلاعبات تكنوـ بيولوجية؟ كنا سنفهم إذن بشكل أفضل التكاثر الفعلي الحالي لنصوص حول أهمية الجنس، حول المسّ الشبقي (جنون الغرام) أو البورنوغرافيا2. يجري كل شيء وكأنما أصبح الجنس النقطة البُؤرية لمقاومة الآلات المجرّدة للاّمادية المزعومة للمادّة. وأخيرا لم يعد للبشر مشدودين إنقباضا إلى جنسانيتهم من دليل آخر على هويتهم سوى لذة الجماع وملكة التكاثر. وهكذا فإن توجيه الإتهام إلى كل أنواع الفن التي تضع مادية العمل الفني وجسدية الفنان موضع تساؤل لا يفقدها كثافتها بل إنه على العكس يدعّمها. والحال هذه، فإنه لم يوجد أبدا حضور للجسد في الممارسات الفنية أكثر من حضوره في الفن المعاصر وإن كان الأمر يبدو شديد الغرابة: إن أغلبية الأعمال التي يتم عرضها جسدية تماما؛ يعني أنها تهتم بالجسد قبل كل شيء: يحتل الرقص مكانة رفيعة في المشاهد وفي الأدب ـ النظري والنقدي على حدّ السواء ـ زد على ذلك أنصبة (نُصَبِ) (installations) الأشياء اليومية، التافهة والحميمة ـ أي المختارة من أجل قرابتها مع جسد المؤلف ـ ، أعمال مبتذلة و تكرارية و منزلية على الأغلب مثل إعادة تنظيم الشقق وتهيئة النزل؛ أو كذلك التدخلات التي تقود إلى البتر و الأوشام و الوضعيات القسرية و العمليات الجراحية المتنوعة التي تغير شكل الجسم البشري إلى درجة جعله مجهولا أحيانا. وإلى جانب هذه الأعمال المعروضة، بطريقة تقليدية قطعا، يفترض الآن فن بيوتقني (biotech) وجوده مستعملا مصادر جراحة الزراعة و الإستنساخ والبحوث الجينية. ويهدف الفن التقني إلى التوفيق بين الجسد والآلة عن طريق إستعمال زراعات الأنسجة ورأس المال الجيني منتجا إذن، لا تغيير أجسام تشكلت قبلا، وإنما مُنسلا ما يشبه تكنوـ أجساد جديدة. واليوم، يتخلي أورلان (Orlan) الفنان المشهور بالعمليات الجراحية وبالمعالجات الرقمية التي كانت تمكّنه من تحويلات وجهيّة لينهمك في تجارب بيوتكنولوجية. ومشروعه: تجفيف زراعات من جلده الخاص مهجّنة مع متبرّع أسمر القشرة في مفاعلات حيوية(bio-réacteurs) من تمديد سلسلة رسومه (بورتريهاته) الذاتية الإفريقية إلى اللّحم الحيّ مباشرة. وتعرض مارتا دي منازاس(Marta de Menezes) رسوما ذاتية لدماغها الحي مستعملة الرنين المغناطيسي الذي يسمح بمشاهدة إشتغال دماغها في الزمان الواقعي. ويجري أورون كاتس وإيُونا زور(Oron Catts et Iona Zurr) زراعات حية من خلال جلدهما ليصنعا منه دُمى مهجنة ونصف ـ حية، يغذيانها في أرحام أنبوبية؛ فن محوّل إلى شيء كائن وقس على ذلك إقتراحهم على الجامعيين رسومات ذاتية بيُوتقنية قابلة للزراعة؛ داليا شوفو (Dalia Chauveau)(الوكالة من أجل الإستنساخ) وكاترين إيكام (Catherine Ikam)اللتان تشتغلان على الإستنساخ وبالإستنساخ3 . ثمة إذن حضور جدّ كبير للجسد في الفن المعاصر، وبالأحرى، يبدوا الإلتماس الذي كنا نتحدث عنه محيّرا. ويصحّ بالمقابل أن أعمالا من هذا النوع لا تدرك من طرف الجمهور كفن وذلك إذا ما كان له، فضلا عن ذلك، علم بها ـ وهو أمر نادر. الأمر إذن هو أنه إلى جانب الأعمال المدركة كـ"جسدية" بالفعل، تدرك أعمال أخرى كأنما هي بلا جسد أي "بلا فن". غير أن الأمر لا يبدو بأيّ شكل من الأشكال متعلقا بالبحث عن أجساد ممثلة أو بالتصوير(Figuration) سواء في النحت أوالرسم أو الفيديو أو الفوتوغرافيا، ويبدو أن مسألة التجريد مسألة متفق عليها وكذا الفن المفهومي. وإذا كان هذا مزعجا فإنه مع ذلك قابل للتحمل وهو زيادة على ذلك مقبول: هكذا الحال. إن ما سيكون موضوع طلب ليس إذا الأجساد في الأعمال الفنية وإنما جسد العمل الفني وجسد الفنان.
ولكن، وهذا أمر آخر يدعوا للفضول، إذا كان الجسد مطلوبا فإن اللاجسدي ليس مقصيا؛ ولو أردنا ان نصوغ ذلك بطريقة أخرى لقلنا أن الفن هو مكان يظهر فيه مطلب "اللامادية" في نفس الوقت الذي يظهر فيه لزوم المادية. إن التعالي مطلوب: فأية مادية تهمنا، كيف هي ومن أي نوع هي؟ وكذلك التعالي و اللارؤية واللاجسدية؟ وهذا ما يظل مأموريّة ملغزة كفاية. وفيما أبعد من أن تكون المسألة مسألة كلمات أو تمييز بين الألفاظ فمن المؤكد أن هذا النصيب اللاجسدي هو عنصر مهمّ في إدراك الجمهور للأعمال وأن هذا العنصر له دور في ممارسة الفنان وفي ممارسة المتفرج وهو جزء منهما. إن غايتي هنا هي بالطبع أن أحاول إستيضاح الكلمات وفهم هذا الدّور ولكن هذا يعني أيضا أن مسائل اللاشيء والخلاء لا تتقاطع بالضرورة مع مسائل اللامرئي وغير القابل للوصف وإن نزع المادية لا يستجيب لنفس الضرورات التدليلية التي تستجيب لها اللامادية وإن هذه الأخيرة ليست بالضرورة مرتبطة بالروحانية وبالتصوف. ومن هنا الأهمية التي يمكن أن تكون لنظرية الرواقيين في اللاماديات بل ضرورة هذه النظرية للتغلب على الإلتباسات. من المؤكد أن هذه الكلمات تتهيأ لنا على أنها من نفس العائلة وذلك ما يسهّل الأخطاء. ولكن، تماما كما في كل عائلة أين يستعمل أفرادها المختلفون الكلمات صارخين حا ـ دِي ! (hue-dia !) وهنا أيضا يتقاربون لينفصلوا أكثر؛ فليس ثمة أية قاعدة تقضي بأن اللامرئي يعني الديني أو أن "اللاشيء" هو قسرا النرفانا (nirvana) أو أنه يجب كذلك الإلتزام بفلسفة زن (Zen) للحديث عن الخلاء أو لإبرازه. وبلا شك هل أننا ننظّر في الغالب "على الهوى" جرّاء عيب الذهاب إلى الأعمال نفسها وخلل في إختيار الدروب.
وأما الآن فسألتزم إستدعاء الأعمال وذلك حسب نظام اللاماديات الرواقية الأربعة.
الفن المنزوع الماديّة
لنبدأ بأولى الدواعي التي عادة ما تذكر عندما نتحدث عن فقد الجسد: نزع مادية الفن وهو عنوان مؤلف لوسي ليبّار (Lucy lippard)4 . ونزع المادية هذا هو ما تصف به ليبار التيار الذي حمل فناني الستينيات الأمريكيين على التخلي عن موضوع الفن كموضوع وحيد و مصنف كنوع مستقل يستمد قيمته من ذاته حسب التقليد الحداثوي وعلى الإهتمام بالتدنية (minimisation) وربطه بممارسات فنية أخرى كالرقص والمسرح و التجليات (performances) والموسيقى وإرفاق كل ذلك بميل نحو العاديّ و اليومي؛ وعلى العموم، العمل على إختفاء كل علامات "الفن الكبير" و ضياع الفن العظيم وعدم تحقق الهوية الممكنة للفنانين و وإستحالة الأجناس والأشياء نفسها كفن. وبذلك يتم تطهير مسرح الفن وإخلاء المكان.
وبهذا المعنى يكون نزع المادية عملية لها قواعدها و مفاهيمها ونشاطاتها كما يمكننا الحديث عن إيديولوجيتها. إذ لا بد للفن أن يفك إرتباطه بنسق الفن؛ فالأزمة تخصّ إستقلالية الفنانين طوال السنوات الستة التي تم توصيفها من طرف لوسي ليبّار وهي إيديولوجية لها ككلّ الإديولوجيات قديسوها المؤسسون لهذه الممارسة الجديدة.
ليست غايتنا هنا أن نمتحن أو أن نستعرض تسلسل أو تاريخ عمليات دخول الفنانين مسرح الفن - ولا معرفة إذا ما كانت تدشينية أم لا- ولا أن نقارن كذلك التأثير والتأثر المتبادل بين الفنانين ولكن أن نختبر علاقة أعمالهم الفنية باللامادي؛ إذ ماذا يعني في الواقع أن يستعمل الفنان مصطلحات مثل "نزع المادية" أو "اللامادي" وضمن أي نطاق تكون أعمالهم "لاماديّة" لهذا السبب؟
ثمة لبس كبير يعسّر بالفعل كلمة "نزع المادية": ولا يتعلق الأمر أبدا بممارسة نشاط فني يستغني عن المواد لأنها تظل موجودة وبكثافة: أطنان من التراب و الصلب و الخشب والأركان المادية الأكثر تنوعا. حتى أنه يوجد نوع من العظمة في البحث عن المينيمالية (minimalisme): لأن التدنية ونزع المادية هما عمليتان سياسيتان و ثقافيتان وعلى صلة بإستغلال الأعمال الفنية وبنظام السوق كما بمبدأ فصل الأجناس ولا صلة لذلك بالمواد المستعملة في العمل الفني.
غير أنه ليس أقل تأثيرا و لو كان مجازيا تماما على جملة ممارسات العصر التي يطرح عليها السؤال "كيف". كيف التخلص من الطرق العادية للفعل و كيف يمكننا أن نتخلص من التقاليد ونحن نستمر في ممارسة الفن؟ إن الأجوبة عن السؤال "كيف" تستند إلى التفكير في المفاهيم التي كنا إلتقيناها: إنها المفاهيم اللامادية الرواقية الأربعة: الخلاء والزمان و المكان والما يعبّر عنه (exprimable) التي تسكن قلب عمليات "نزع المادية" المتنوعة و ذلك إنطلاقا من الستينيات وإلى الآن.
أنوي دراسة كل هذه المفاهيم في علاقة بما يحدث وبما حدث في ميدان الفن. أُستعمل كل منها فعلا في الممارسات كما في الخطابات التي ترافقها وسأضيف أن ذلك حدث في الغالب دون علم.
فصل عن الخلاء والموضع
كان أستاذ الرسم بالمعهد يقول لنا "أرسموا شكل الخلاء". وقول كهذا كان يبدو لي عبثيا ولكن الأمر كان في الواقع يتعلق فقط بالبون ما بين الإناء ومقبضه: فضاء هو، حسب فهمي، جزء من الإناء أي من الإمتلاء. لأنه لم يكن من الممكن أن يكون ثمة مقبض دون هذا الفضاء ولكان الإناء مزهرية. إن الأمر ـ كما كنت أقول- هو أن الملاء والخلاء هما شيء واحد وعبثا كنت أحاول تفسير ذلك للأستاذ.
"اللاشيء العظيم"
إن شكل الخلاء أو الخلاء لَإغواء وتحدّ بالنسبة للرسام و للكاتب و للشاعر ولمتسلق الآلب و للمهندس المعماري، وماذا أيضا؟ كل بناء هو لعبة توازن بين خلاء وملاء و كلام وصمت و سكون وحركة إلى حدود أبسط حركة تصهر الملاء والمنحلّ. إنها معاينة تافهة ولكنها تتجلى بشكل خاص مع بعض أعمال الفنانين. لم يعد الخلاء بالنسبة للبعض منهم مجرد مكون في هندسة أثر يدخل في علاقة مع الأشكال الممتلئة كقوة الإمتداد والوزن ولكنه يأخذ كقيمة في ذاته إذا لم يكن ذلك كقيمة نهائية و كهدف وغاية. فحضوة الخلاء التي نشأت في العقود الأولى من القرن العشرين، لم تفنّد إنطلاقا من الخلاء ـ ومهما كانت الجوانب التي كانت وراء ظهورها ـ فهي لم تهجر أبدا مسرح الفن. تستلهم أجيال عديدة من الفنانين من التفكير في الخلاء حسب الأنماط الخاصة ولكن الهم مشترك: الـ (الاّند آرت)(Land art) مع سميتسون (Smithson) بخاصة ولكن كذلك أولدنبورغ (Oldenbourg) وروزنباخ (Roshenbach) ومن كلاين (Klein) إلى روبار بارّي (Robert Barry) مرورا بفيلّوكس (Filloux) وجون كايج (John Cage) وأمّا بارت (Barthes) وبلونشو (Blanchot) (وحتى فيدغنشتاين) (Wittgenstein) فهم مدعوون إلى المساعدة.
يجمع معرض "اللاشيء العظيم" (الشيء الطفيف) (« the big nothing ») (« le grand rien ») بمعهد الفن المعاصر (ICA) بفيلادالفي (Philadelphie) بين ماي وأوت 2004 قائمة مدهشة من الفنانين؛ إذ يوجد هناك يان أدار، آيرين أناستاس، ريشار آرتيشفاجار، مايكل آشار، ميشال أودار، جوبايار، روبار بارّي، لارّي بال، بارنادات كوربورايشن، جايمس لي بيارس، موريسيو كاتلون، توماشيماس، بروس كونّار، داي ويذاوت آرت، جاسّيكا ديامن، رو إيتريدج، لِيلِي فلوري، روني غابري، جاك غولدشتاين، كاترينا فريتش، دومينيك غونزالاز فورستار، نيكولا غياغنيني، هيفي أنديستريز، ريشار هوك، روني هوزن، بيار هوغ، غارات جايمس، راي جونسون، إيف كلاين، جواشيم كواستار، جوتّا كوثر، يايوا كوزاما، لويز لولار، غوردون ماتّا ـ كلارك، ألاّن ماك كولّوم، باتريك ماك مولاّن، جون ميلاّر، مات مولّيكان، إيلين ناف، غابريال أوروزكو، رافايال أورتيز، شارلومانيو فلسطين، فيليب بارّانو، ويليام بوب ل. ، دوريس سالسادو، كارين شنايدار، ألاّن سوكيلا، أرلان شيشي، سانتياغو سيارّا، جون سميث، روبار سميتسون، بول سوانباك، ريركريت تيرافانيجا، أُندي وارهول، جايمس والّينغ، جون واسلاي، ستيف فولف، دافيد هامّونس وشارون لوكّارت (The fabric workshop and Museum, Philadelphia)...
يحاول المركز العالمي للفنون تنظيم هذا الجمع بتصنيف المباحث والدوافع والتأثيرات والقصود دون تفسير لما يدفع الفنانين هكذا بإتجاه اللاشيء العظيم وكيف يتلقون ويستغلون هذه الدعوة. لا يهم كثيرا إذا كان ذلك تحت تأثير التفكير الشرقي، موضة الفلسفة الطاويّة (Taoïste)[الصينية]، فلسفة الزن (Zen)[اليابانية] المستخدمة بالمناوبة من طرف الكتّاب لأن البحث عن الأسباب لا يجب أن يؤدي بنا إلى البحث عن علة العلل، عن الأول الذي... إن ما يهم في الحقيقة هو أن حبّ الخلاء يمسّ الفن المعاصر بطرق مختلفة وهذه هي الطريقة التي يظهر بها هذا الحبّ وعلى ذلك يكون إذن موضع رهان يهمّ موضوعنا: فبأي خلاء وبأي عديم جسد يتعلق الأمر؟ ما الذي يخفى على الفهم في كلمة "خلاء"؟ وهل بإمكاننا أن نحاول توضيح هذا اللاشيء بأن نتدخل نظريا حول اللاماديّ المتعدّد؟
أشكال الخلاء[رقم] واحد: الثقب
إن فكرة كون الخلاء ثقب في جهاز [الخزان ـ الصندوق...] معطى هي فكرة شائعة. وثمة شيء ما سلبي داخل هذا، إنه نقص أو خلل في الصنع أو خطأ في مكان ما [شيء ما]. وفي هذه الحالة يفاجئنا الخلاء دائما في جهاز موجود هنا ـ الآن سلفا ومتشكل قبلا. وإنه يأتي وجوده ليقطع أو يوارب أو يعدم أصلا. ويمكن لذلك أن يعزى لقلة يقظة أو لخطيئة بشرية أو لخطإ من أخطاء الطبيعة و إبتذال وإستنزاف الأشياء أو قصور نظام الذاكرة [ثقب الذاكرة]. ولكنه إذا أنجز بتبصّر وحسب مشروع محكم فإنه يحرج بنية موجودة ويصبح مثيرا. وإن ذلك بيان بالفعل: هذا شأن الـ (Placid civic monument) لكلايس أولدنبورغ (Claes oldenburg) (1967) الذي تمثل بمناسبة معرض نحت في ثقب مفرّغ في (Central Park) ومملوء بسعة من التراب تعادل الكمية المنتزعة. إنه ثقب ملموس وجدّ واقعي فهو محفور في الأرض بواسطة مجرفة ولكنه ثقب من حيث هو إستعارة نزع مادية وتحطيم لنظام عرض قائم وتقويض للعظمة: صرح مقعّر (جوف صرح) كتجسيد لشكل الخلاء. وهي عملية مشابهة لما يقوم به فنانو الاّند آرت في الصحراء فهم كذلك لا مادّيون. مثل النسخة السلبية المزدوجة(double négative) لمكايال هايزر (Michael Heizer),الذي يتمثل الأمر بالنسبة إليه في تحويل مائتي طن من التراب. وهنا لعبة الغدوّ والرّواح بين خلاء "مسطّح" ( الصحراء الأفقية) والخلاء العميق (الثقب المقعر العمودي) تتضاعف بلعبة بين البعيد, الذي يقع بعيدا عن منال المتفرج, والوثيقة (الصورة الفوتوغرافية) المعروضة في رواق: فأحدهما إن صح القول ينفي الآخر, و"تنزع" العملية بكاملها مادية الرواق (الذي لا يعرض العمل) والوثيقة (لأنها ليست أصلية) وتنزع في نفس الوقت العمل الفني في حد ذاته لأنه يبقى لامرئيا. ولكن نزع المادية هذا لا يكون إلا بشرط هو إعطاء كلمة "نزع المادية" معنى رفض مؤسسة الفن, وواقعها السوقي الذي تجسده المتاحف والأروقة. "كان يبدوا أن الفنانين سيتحررون من طغيان سوق الفن من الطابع التجاري للأعمال الفنية5".
وأما مسالة نزع المادية التي تتمثل في التخلص من المادة الملموسة للعمل فإنها ليست مطروحة للنقاش أصلا6. غير أن هذا التأويل يختزل نزع المادية في بعدها السياسي والسوسيوثقافي وبالتالي يضعف الإنجاز. ولكن البقاء خارج المؤسسة لا يؤدي إلى النتيجة المأمولة لأنه على العمل الفني المرحّل أن يعاد في النهاية إلى النسق الذي خرج عنه حتى لا يظل يعاني من البقاء رهن محاولة غير محولة يعني غير معترف بها بل غير معروفة. إن الترحيل هو فعل يحتجز العمل في اللاإعتراف ويعزله وزيادة على ذلك لا بد إذن من اللجوء إلى نسق وسائط معقد كفاية من أجل أن يلعب الرواق دوره الضروري كدليل. فيظل كل من الرواق والمتحف قوام حركة تهجير الأعمال الفنية وينحنيان إجلالا للآثار الموثقة للمنفى. وتتكفل المجلات (Art forum pour incidents of mirror travel in the Yucatan) لسميتسون أو (Sun Tunnel) لنونسي هولت وكذلك الأفلام (كأن يعرض الرواق التلفزي البصري سنة تسعة وستون وتسعة مائة وألف أعمالا لسميتسون ماريا، هايزار، ديني أوبّانهايم، باري فلاناغُن، يان ديبّاتس أو ريشار لونغ) بنقل المعلومة وترحيلها فكما يوضح سميتسون "ثمة عَوْد معلومة فمهما ذهبت بعيدا إلى الأطراف يعاد إرسال الفن دائما بطريقة أو بأخرى7".
لا، تستنتج لوسي ليبّارد، الفن المنزوع المادية لن يكون.
لم ينجح التيار الذي رفض فن الأروقة والمعارض التقليدية وفضّل المكوث في الخارج بكل ما في الكلمة من معان إذن في فرض معياره ولم يواصل مسرح الفن إستعمال المكونات المعهودة فقط وإنما يتحمل أيضا توسعا واضحا للوسائط الثقافية. لقد تمت البرهنة على أن هذه الأخيرة ضرورية بالخصوص في حالة إذا ما قصدنا تجاهلها. وبرغم هذا الفشل النصفي لنزع المادية بالمعنى الذي كان تمناه نقاد وفنانوا السبعينيات وقع شيء ما غير الرهانات والأدوار وقلب المشهد. وأصبحت شعارات الأروقة ذاتها "لا شيء لننظر إليه" أو "أنظروا إلى موضع آخر"8. وهكذا أصبحت هذه الأروقة ناغمة الفنانين وأفرغت نفسها من معناها بشكل يجعلها تستطيع مواصلة لعب دورها كمكان لا مناص منه.
إنها لازمة تؤكد على المرور من الخلاء إلى الحيز ومن الحيز إلى الخلاء مع الإنقلابات الدائمة في قلب فضاء لا يكف عن تسجيل روحاته وغدواته وأدوات النقل والوصل التي تخصه ودون أن نتمكن فعلا من معرفة أي المواقف "النقدية" علينا أن نتبنى قطعيا. وبالمقابل فإن ما يجب البحث فيه في هذا الجهاز هو مفهوم تغيير الموضع (déplacement)، الحركة التي تحمل هكذا لوضع ما نريد إيداعه، أن نركز النزع (الإزالة) على الدوام. فهل في ذلك بيان لمقام اللامادي الذي يخص كياني الموضع والخلاء؟ فلنحاول، لمعرفة ذلك، أن نرى كيف تشتغل حركة التغيير هذه.
عن تغيير الموضع كعمل [فنيّ]
تضلّل عمليات تغيير وضع (الأشياء) في موقع المواقع السابقة ونقلها من موقع لموقع (« in-site/ex-sites ») النظر ـ الذي لطالما أعتبر ناقل الحركة المهيمن بالنسبة للفنون التشكيلية ـ ، التي لا تتمكن من التخلص منه كليا.
إننا في الواقع نعلم أن مواقع اللاند آرت الأمريكي منيعة جدا عن الولوج أو لا مرئية أصلا مثل اللولب الملقى (spiral jetty) المغطى بالماء معظم الأحيان لروبار سميتسون. فإذا كان التغير الحاصل على "موقع العمل الفني" لا يتم بالنسبة للمتفرجين إلا بصفة نادرة جدا بما أنه ليس حتى ضروري وإذا كان تغيير الفنان إيحائي ومفترض ولكن غير أكيد ـ حيث لا دليل سوى الوثائق التي قدمها الفنان نفسه ـ ، فبأي تغيير يتعلق الأمر؟ إذا كان العمل الفني يبقى خارج الرؤية فإننا ندخل مجال الخيال والريب: فهل لما أراه هنا (في الرواق) مصداقية؟ ـ وهل يوجد الشيء ـ المشار إليه كغائب ـ فعلا؟ ألا يخفي التغيير (نزع الموقع) الذي نظهره كما هو بكل بساطة الإختفاء واللاوجود؟
تطرح مسألة موقع العمل بإستمرار مع تغيير الموقع ـ الذي هو كذلك عنوان عمل من أعمال سميتسون ـ : فأين هو، وإذا كان في مكان ما فمن أي طبيعة هو؟ إن اللاند آرت هو الذي يطرح بأكثر كثافة مسألة التأرجح بين الخلاء والموقع. فما هو موقع "اللاّمواقع" لروبار سميتسون؟ "تكمل" وثيقة معلقة على الحائط عملا فنيا هو إنتزاع أجزاء صخور من موقع مفترض واقعي وعرضها في رواق، إنه هكذا. تجميع قطع من الموقع وبعض الوثائق إذن مثال آخر على ذلك، لا ـ موقع فرانكلين بنيو جرزي المركب من حاوي معادن يأخذ شكل شبمنحرف ذا نقطة نفاذ مبتورة ومجزأة لخارطة جوية مقتطعة حسب نفس الشكل من خمس وعشرين صورة فوتوغرافية للموقع ونص يشرح بالتفصيل حجم الحاوي ومقياس الخارطة.
حفر ثقب في موقع ما لإستخراج أجزاء ثم تم نقلها إلى موضع يعني إلى رواق ـ ينتمي إلى نظام الأروقة. ووضع إذن ردم المواد التي كانت في عمق الثقب في الرواق الذي أصبح نتيجة لذلك موضعا ولكن موضعا مصنوعا من نفيه (سلبه) أي الخلاء؛ الخلاء الذي يظل بالنظر إلى ذلك داخل الحيز كمن يتهدده والذي يظهر أثره عينيا في متوازي السطوح المملوء بالقطع.
نحن هنا على الحقيقة داخل لعبة الخلاء والموضع ولكن ما كان يبدو ديالكتيكيا في البداية ينكشف الآن على أنه شيء مغاير تماما لأن النقيضين لا يلتقيان ولو للحظة ضمن مفهوم أكثر إتساع يضمهما وهو ينفيهما معا: فالتناقض يبقى مفتوحا و متحركا و غير مسدود أبدا ولا يكف عن التأهب. وهكذا فإن العملية التي تكمن في إفراغ المواضع تعود إلى تبادل الموضع والخلاء في نوع من الفالس (الرقصة الدائرية)، فأينما كان أحدهما فارغا كان الثاني ممتلئا وكأنما يفلت الخلاء من كل عملية قصدية.
غير أنه، إن لم تأت هذه الطريقة في صنع الخلاء ثمارها المرجوة، فلها أن تثير الإنتباه إلى هشاشة المواضع وتفاهة مقاربة من نوع فضائي أو مقاربة نقدية سوسيوسياسية وهو ما كان على الرغم من هذا قاعدة ودافع الإقتراحات النقدية لفناني السبعينيات. يمكن أن تفهم هذه الرقصة المتناقضة كنقد للنظام القائم، كإرادة عود إلى الطبيعي إن لم نقل إلى الطبيعة (الأمريكية الكبرى والمتوحشة) كإحتجاج على الخدعة المتخفية (فحركة الثورة ضد المؤسسة هي جزء من ثقافة الستينيات) كعبادة للحركة والسرعة (الثقافة المهيمنة (الثقافة السيارة)) (La culture car) وهكذا يمكن أن تقدم كل الحجج المنتمية إلى تاريخ الفن وعلم الإجتماع.
حتى أنه لا واحدة منها تشفي بحق، فلقد قبلت كل التي تتعلق باللاند آرت بل دعمت وتم التعليق عليها من طرف الفنانين أنفسهم، ولا واحدة منها على أية حال تتناسب والوضعية الحالية. وفي الواقع، هجر الجدل الحيوي الدائم بين أنصار الموقع الخصوصي والسياق أو مكان التموقع نسبيا المشهد السياسي ـ الإيطيقي وإنتقل على العموم إلى المديني.
لم تعد المواضع كالمتاحف و الأروقة أو الأماكن المحددة في المدينة أو في الصحاري موضوع خلاف ولكن تغيير المواضع في حد ذاته أصبح مع التكنولوجيات الجديدة وكحامل لتصور آخر عن المواضع والخلاء أمرا لا يمكن مقاربته إلا على قاعدة الدعائم المتحركة والاّجسدية.


الخلاء، الموضع والموقع الخصوصي.
إنها نفس اللعبة وقد أصبحت أكثر إنفتاحا لأنها تلامس مسألة العالمي والمحلي، العولمة ونتائجها خاصة وأنها أصل الجدل الذي لا يزال راهنيا إلى اليوم حول ما هو موضوع أو في موضع ما، ماهو في وضع وهو صانع لوضعية ما (L’in situ) والموقع الخصوصي (site specific). لا يتعلق الأمر في هذا الجدل بمغادرة المؤسسة و بصنع الخلاء وبترحيل "موضع" الأعمال الفنية إلى موضع آخر أسطوري. فهذه العملية برهنت على وهنها فيما إستفادت المؤسسة من ذلك.
ما الذي يحدث إذن من شبيه ومختلف مع الموقع الخصوصي؟ إن الموقع الذي يوجد فيه عمل فني هو محضه بشكل واضح وقصدي وهو، على ما نعلم عن اللاماديات، موضع ما. إنه يحضن شيئا، جسما، أي العمل الفني. وهو لذاته، بما هو كذلك، رواق أو متحف خاص. ولهذا فإن عملا "في موضع" يبدع الموضع الذي يحتله ويتماهى معه. وهذا التعلق الوثيق يحدده "عمل موقع خصوصي". فالموقع لا يمتلك إذن خصوصية لافتة للنظر، ولا العمل الفني كذلك، وإنما العلق بينهما وأهميته بالنسبة للتحديد (التعريف). يبدو الخلاء إذن غائبا في هذا الأمر أين لا يبرز إلا الثابت، الهدف المعلن و الغاية المبرمجة والموضع المحتل من طرف جسم ما. أين الجدل إذن؟ لماذا يقوم وعلى ما يقوم؟ ألا يكون غياب الخلاء هو الذي يحرضه؟ ولأن هذا الموضع ـ العمل المنغلق على ذاته ومهما كان متمسكا بهويته الخاصة والخصوصية يعلن مع ذلك عدم إكتماليته ؛ فهو يدعو ما ينقصه؛فضاء غير معمور بأجسام: إنه ببساطة يبحث عن لامادي هو الخلاء. يتحول الموقع الخصوصي إذن إلى موضع منذ أن يضم جسما (العمل الفني)، ولكن ما ينقص الموضع هو بالمقابل وقف على الرواق، على المتحف أو على بعض فضاءات العرض: الإمكانية "المجردة" « nue »)) تقريبا لإستقبال الأجسام. يعني أن تكون بالأساس فارغة. الرواق أو المتحف هما في الواقع خلاء بما يعني إستطاعة إستقبال أي جسم كان في أية لحظة كانت وعدم التعلق بما يعرضان ما عدا السمعة التي تم تحصيلها بالتبادل فالأعمال تترك جزءا منها ـ الشهرة (fama) ـ المتعلقة لاماديا بالأروقة التي إحتضنتها وتنال بالمقابل صيت الرواق بفعل التأثير "الإعلامي".
إذا كانت عملية الإخلاء قد أعتبرت في وقت ما وبالنسبة لممارسات معينة وسيلة لنزع مادية الفن, فإنه يبدوا أن هذا المسعى قد تاه وأنه يتوجب البحث عن نزع المادية بوسائل أخرى ما دام يبدوا أن هذا هو ما ترنوا إليه الممارسة الفنية المعاصرة. وبالأحرى, علينا أن نحمل المحاولات المعاصرة للإخلاء على أنها محاكاة ساخرة وإلا قصيدة إستدراكية: إنها تخرج عملية الإخلاء مشيرة في نفس الوقت إلى إستحالة "إستنفاذ الموضع" البيريسي وإرجاعه إلى مفاعيله الهزلية. وكذا الشأن بالنسبة لغرفة كورنيليا باركار(Cornelia Parker) (Soil remored from under neath leaning tower of pisa to prevent it from failing (2003))). أو كذلك (1992) Spoon excavated it self . ثمة طريقة أخرى في صنع الخلاء هي تحطيم الأعمال من طرف مبدعيها. وثمة أمثلة على هذا التمشي الإتلافي (iconoclaste) موجزة وتهكمية في كتاب فنان بدأه عام تسعة وتسعون وتسعة مائة وألف, مؤلف من طرف إيريك فاتيي (Eric watier), وهو غير منته بطبيعته: إحصاء الإتلافات9 .
نتبين من خلال ذلك أن الخلاء لا يظهر أبدا من خلال ثقب أو فتحة في عدة ما, ولكن بالأحرى من خلال فضاء الإستقبال هذا؟ هل لا يصبح الرواق الذي لطالما حُقر من اللاماديين وبصفة قطعية, الشكل المادي بما يجعله خادم أو وكيل "الخلاء" بالنسبة للأعمال التي تلجأ فيه بشكل مؤقت؟
أشكال الخلاء [رقم] إثنين: اللاّمادي تحت راية الأبيض
لقد تمّ إستكشاف هذه الفرضية المضللة من طرف المونوكروميين (أنصار الأحادية اللونية) (monochronomistes) بكل ما تحمله من مفارق وبكل ما في هذا الإنقلاب من ظنين بالنسبة إلى نقد النظام.
لن يتعلق نزع المادية الذي يمارسه المونوكروميون أبدا بالسوق ولا بموقع الأعمال ولغة التجمد التي تمثلها المتاحف والأروقة ولكنها ستتعلق بالشيء ذاته. فما يجب أن تنتزع ماديته هو العمل الفني بالذات: وهذا يعني أنه يجب عليه التخلي عن الإفراط في إستعمال الأشكال والألوان التي تثقل فضاءه: إن عليه أن يصنع الخلاء في ذاته. وسيأخذ مبدأ نزع المادية هذا إذن شكل اللوحة البيضاء أو ذات اللون الوحيد الأوحد كالأزرق أو الأسود مجلية رفض كل شكل ولون يمكن أن يزعج العذرية الماهوية لفن الرسم. وهكذا يصبح الأبيض شعارا لنزع مادية جديدة: تلك التي تتعلق بالممارسة الفنية لا بشناعة نظام الأروقة والسوق. فيمس هكذا إنقلاب بمكانة المواضع التي هجرناها. واللامادي يلزمه وجه مادي ليتجلى. وعلى النفي أن يثبت نفسه: إذ يجب أن تعرض اللوحة البيضاء "في مكان ما".
يحوّل هذا الموقف مبدأ نزع المادية إلى مبدأ صنع اللامادية. لقد جهرنا بذلك. ونحن ندخل ـ أو على الأقل يُدخلنا الرسم ـ عهد اللامادي. فيتطهر فن الرسم مجردا من مادته الخاصة (التصوير و الأشكال و الألوان و البُنى): وحدها ماهيته تتجلى كما يغيرها في ذاتها العراء.
إن هذا التطهير هو الذي يوصلها إلى عتبة اللامادية أو الحياة الروحية. فلقد تسامت بتضحية إرادية إن صح القول. ولم يعد بمستطاع أي لحم ولا أي تعلق حسي أن يشدها; إذ بوسعها إذن أن تكون كل "حساسية" وذلك ما يتضمن "الحاسة" طبعا ولكن الحاسة الروحية الذهنية لا الحاسة العضوية. سنرى أن هذه الروحية التي يرنوا إليها فن الخلاء ـ منزوع المادية أو منفي (مخلي) المادية ـ تعرقل مع ذلك اللاجسدي الذي يفترض أن تهدف إليه. فلماذا أحادي اللون ولماذا الأبيض؟ لأن هذا الأخير هو في جميع أشكاله علامة على شيء ما (Rien)، على الخلاء: الأبيض في نص كفضاء "أبيض"، كلا لون (non-couleur) أو كإنصهار لكل الألوان وهو ما يفيد نفس المعنى. الأبيض للمليء كما كان الثقب للطمر منذ قليل. بينما تنتظر الورقة البيضاء أو القماشة البيضاء أن تكون مكتوبة أو مرسومة بعد قليل. تكون حينئذ هذه الصفحة أو هذه القماشة خالية من الأمارات التي يفترض أن يقدماها للقارئ أو للمتفرج فتلك ممارسة نقدية، رفض ونفي لما يوجد (لوحة ملآنة بالعلامات الملونة و بالأشكال) لا نقصانا. فالأبيض ذاته هو عندئذ تعبير عن الخلاء أكثر مما هو إستعارة الخلاء و"شكله" في هيئة لاـ شكل (non-forme).
تحمل هذه الطبيعة المزدوجة للأبيض: "غياب اللون وفي نفس الوقت مزيج عميق من كل الألوان" كما كتب مالفيل (Melville) على الإستفهامات الميتافيزيائية وتثبت تصغرنا اللامتناهي أمام "الأعماق البيضاء للمجرة [...] السر السحري لهذا البياض [...] الرمز الأكثر دلالة على الأشياء الروحية، الستار الحقيقي للرب المسيحي والفاعل الذي يكثف رعب الأشياء التي ترهب الإنسان في نفس الوقت [...] هذا البلا لون أو الملون بغياب الرب الذي يبعد عنا الهلع10 ".
يدل الأبيض في هذه الرؤية على غياب الرب وبالتوازي على البحث عنه؛ وتمثل النبرة الروحية للبياض و لا ماديته الخالية ("مبدأ النور الدائم البياض وعديم اللون11 ") سندا مفضلا لهذا البحث عندما يعبر عن نفسه في الفن. لأنه ـ الرسم ـ مكلف بتمثيل هذا الغياب و هذا الخلاء وبإستحضار البحث الذي يفرضه إنعدام الرب.
وهنا تكمن كلّ مفارقة المونوكروميين بعينها: إظهار ما يفلت عن الإدراك بطريقة حسية ـ الخلاء، اللاشيء. لأننا نرى الأبيض و نرى اللوحة البيضاء كما نرى الرواق الفارغ: فالخلاء والأبيض يعرضان بطرقة حسية وجود غياب مقصود. فهل يمثل ذلك بلا شك تفوق هذا الشكل من الخلاء الذي هو الأبيض على شكل "الثقب": هذا الذي يعود بالفعل إلى الإمتلاء الذي حفره ويبقى رهينا لحافاته. وأما الأبيض فيمحي ويمحو سياقه في "ظرف نفي" (ne pas): هو فعل عدم الملأ و عدم العودة إلى ما يحده، الإختفاء والإخفاء وذلك مثال (l’idéal) الحضور المحض.
نرى بوضوح أي إغواء يداعب هنا منظري الإيكونوكلازم. وذلك قبل أن نعرض إلى التيولوجيا السالبة (وهي كلمة يمكن أن تتلاءم بشكل أفضل مع ممارسة المونوكروم)، مسألة الحضور في الغياب بأكملها وطريقة كسر حاجز اللامرئية بجعل غياب الرؤية مرئيا و متضمنا في لعبة التخبئة التي يدعو إليها المونوكروم. إنها طبعا تذكرنا بالعطفة التي تدعوا من خلالها الإيقونة البيزنطية لتأمل الإلاهي بجعل شكلها مظلما وغامضا. وبنفس الوثوب صوب الروحية اللامادية عند كلاين ونفس التحويل عبر اللامرئي لتحسس روحية حضور صادر عن الجسد, ولكن خارجه.
يبدو الأصل الديني والصوفي للمسألة متلائما مع "الحساسية الرسمية" (picturale) اللامادية كما عاشها أو وصفها إيف كلاين أو روتكو(Rothko). غير أن الرسم (schéma) المفهومي المصطنع الذي تخضع له الأيقونة في التقليد البيزنطي لا يتناغم تماما مع تساوق الممارسة الرسمية للمونوكروميين. ومع ذلك فالإبراز (المفرط في الاستعراض) للطابع الصوفي للمونوكرومات يحجب أن يكون الرسامون يرسمون! وأنه هناك في الرسم إبتهاج لا علاقة له بمجد الإله والبحث عن الإلاهي.
يوجد بالفعل عند كلاين مقابل جسدي لأعماله اللامرئية، لـ"قياساته الإناسية"(Anthropométries) ـ أجسام أنثوية مثارة بإنغماسها في اللون الأزرق ـ وهذه الإثارة متأتية مباشرة من المادة الرسمية كحسية ولو سطحية وذلك رغم كل ما يمكن أن نقوله عن الطابع الشعائري ذا الرجع الديني للحدث والتأويل المسيحوي (christique) الذي يمكن أن نمارسه: ستكون النساء المرسومات مادة التحول على منوال التحول القرباني الذي يحول ماء وشراب القداس إلى جسد ودم المسيح. ثمة عنصر آخر يعطل كل تأويل مفرط لنزع المادية أو لنفيها: وهو العودة الإجبارية للسوق و لوسائل الإعلام و ولعلامات الإنتماء الظاهرة مثل التوقيع. فإذا كان فعل عدم الرسم يصبح حينئذ بشكل مفارق ماهية الرسم، وإذا كان الفعل يكمن في اللافعل والرسم في اللارسم فإن الوسط والسياق اللغوي أو النصي هما الذين يظهران العلامات الغائبة في اللوحة أو في الصفحة. فنعود إذن رغم إرادة الإمحاء عودة إطرادية للعلامة والتوقيع. ونعود أيضا بالإضافة إلى ذلك إلى الرواق وإلى المتحف الخاص بالمعرض القائم والمحدد.
نتبين عندئذ أنه يتوجب إعادة تأهيل المتحف والرواق لأنه من الملح "عرض" السلب، الصفر ـ شكل؛ وأنه يجب على "حال اللاوجود" (« ne pas») أن يرى كما هو. فعدم الوجود ( ne pas»[le]« ) لا يعني إطلاقا أن الرسم إنتهي وفراغ الرواق لا يعني مطلقا أن الرواق إمحى من مشهد الفني. بل إنه على العكس مرئي في عرضه للاّمرئي. والفن لا يتخلى عن سند مادي ما لكي يصير لاماديا. إنه على العكس يلتمسه بكثافة. كأحداث و إشهارات ومرور غصبي بوسائل الإعلام... فإذا إختفى الشيء المرسوم فإن ما يبقى منظورا هو حدث إختفائه نفسه. وهكذا فإن الرواق الفارغ يتفاخر بنفسه كخلاء ويصبح بذلك موضعا قارا ومحتويا على جسم ما هو جسمه الخاص, إذا لم يكن جسد العارض.
"سيكون رسام المستقبل الحقيقي شاعرا صامتا لا يكتب شيئا وإنما يروي بصمت وبلا ربط لوحة فائقة وبلا حدود12" ([هذا ما قاله كلاين] عن معرضهà envers ,"I"). إنها تصريحات حاسمة غير أنها لا تدرك إلا إذا عرضت في مكان ما. وكما أوضح دينيس ريوت (Denys Riout) بدقة كبيرة: "لا بد من أن يبلّغ مقصد الفنان إلى المتلقي أو الجمهور بطريقة أو بأخرى حتى وإن لم يمر عبر المرئي. فهيأة وجود الأعمال اللامرئية تتطلب إدراكا خارجيا. ولقد أصبحت ممكنة من خلال نظام دلالات: مواضع التسجيلات و صور الغياب و التصريحات والنصوص13."
يحتاج هذا الصوت الصامت وهذا اللاحضور إلى إخراج وإلى محيط يضم الغياب ويبرز قيمته. فإذا كانت سطوح مونوكرومات ماليفيتش (Malevitch) "الخالية" من الدلالات والمتخلصة في الواقع من هذه الظواهر العارضة (épiphénomènes) وهي التنويعات الملونة والأشكال، تعبر حسب رأيهم عن إمتلاء الماهية الرسمية، فإنه عليهم أيضا أن يوجدوا موضعا ملائما كي يدعوا تعبيرهم يعبر عن نفسه. يرفع المونوكروم سواء أكان أبيضا أو أسودا أو أزرقا الغياب (المكون من أشكال أو من تنويعات ملونة) إلى حضور ويبرزه كماهية للرسم، لروحه ولوجوده نفسه. فنكون بذلك قد إنتقلنا من إسترداد لنظام الفنون وإسترداد نستطيع وصفه بالإجتماعي وبالموضوعي وكذلك بالخارج عن الإبداع الفني إلى إثبات لروحيته كخاصية للرسم داخلية وشبه سرية لا بد من عرضها حتى تصبح معروفة. ينشأ نظام كامل من الإنقلابات ونفي النفي وتلعب إنعكاساته فيما بينها لعبة تخبئة لا تنتهي. فتبقى هذه الحساسية الرسمية اللامادية والقابلة للتحويل كنواة ممتلئة لفضاء خاو.
تلهى النقاد عبثا بالتنديد بشرائية هذا اللامادي: أفلا يباع كبضاعة مبتذلة؟ ولكنهم يخطؤون الموضوع وهم بصدد ذلك أو على الأقل لا يعيّنون في السوق جهة النقد الحقيقي الذي يجب صياغته. وذلك ليس لأن السوق بصفة عامة و التسليع هو السبب بقدر ما هو التناقض ـ غير المتجاوز لأنه يطرح بألفاظ متنافرة: يزول الفعل في حالة نفي (ne pas) ومع ذلك يولد أفعالا متلاحقة ـ في علاقة بإنعكاساتها. وبالكد في إثبات النقيضين يجانب فنانو المونوكروم والحساسيات الرسمية لاماديا وبصورة محضة ما يصنع قوة وأهمية اللاجسميات: تكافئها الكامل وقيامها المتبادل مقام بعضها البعض في وسط الخلاء. وبعبارات الحساسية اللامادية يكون هذا التكافؤ مستحيل التحقيق لأن العمل والفنان يتحركان في فضاء تميزات تخص أولوية المؤلف و العمل الأوحد والإسم. لا تستطيع حتى راديكالية ماليفيتش تعدي هذا الحاجز. فبصرية العمل، تلك التي أصبحت لامرئية، لا تتوقف أبدا عليها فهي تعود بتمامها إلى المحيط وتصير عندئذ منطقة حساسية فائقة البصرية وتصبح على السطح الأمامي متحولة إلى مركز العمل ذاته. و يكتسب الرواق مذاك بعدا فنيا فيصبح عملا يطالب بمكانة مؤلف خاصة به تعادل على الأقل وضع الفنان.
الصفر ـ شكل كمادة أولية
يساعد تغيير الهيئة إلى صفر أشكال، كما يريد مالفيتش، على نفي ما يوجد قبله أولا، وعلى محو ما وجد، غير أن ذلك يتضمن لزوما آخر، ليس أن نصنع من هذا الصفر ـ شكل شيئا لا شكليا وإنما منطلقا لتحديد التصورات المعهودة. إننا بصدد الصفرـ شكل، في فلك الخلاء. لقد محونا التمييزات الأسلوبية والشكلية والزمانية. فالتصنيفات التقليدية مماتة وغير متطابقة مع التوزيع الجديد.
إن صفر الأشكال هو المرحلة الأولى لما سيتمكن فيما بعد من إستقبال لاـ أشكال أخرى. و الصفر هو بالفعل شرط لوجود سلسلة الأعداد. وكذا الأمر في لعب المنفرد أين تمكن الخانة الفارغة البيادق من التحرك. فإن تكون المادة الأولية للرسم من الآن هي الصفرـ شكل فذلك حدث هام ينتج كل أنواع الإنعكاسات من زاوية نظر نفي مادية الفن "نحن كوكب جديد على القبة الزرقاء للشمس المنطفئة، نحن
تخوم عالم جديد تماما، نعلن كل الأشياء رخوة.14" نحن لم نعد إذن في عالم المواضع كالأروقة والسوق لا معها ولا ضدها، لا داخلها ولا خارجها، ولكن في فضاء محايد أين يكون إمحاء الأشكال مصدر أنماط فن غير مسبوقة.
لقد ركزت على المونوكروم وعلى الصفرـ شكل لأعتمد على مثالين محضورين وجد معروفين سلفا. درسا عُري: أحدها لتمجيد الروحي في الفن أو لتمجيد روحية الفن، و الآخر للتمهيد لتجديد الأطر القديمة وهو أكثر سياسية ولائكية. ومن المثير للإستغراب أن الأكثر سياسية بينهما (وهو درس ماليفيتش) يساند تعريفا رسميا للرسم، بينما يعود الآخر الذي يتناولها كماهية روحية ـ إلى موقف سياسي (لبرالي) من الفن.
المعرض الحديث العهد (« the big nothing ») نموذجي في هذا الشأن.
يتعلق الأمر بالنسبة لحوالي مائة فنان من كل الأجيال، ببيان أننا نستفرغ ونمارس ما يشبه محو وجود فن الماضي، يعرض الفراغ داخل ذات الموضع الذي زعمنا إخلاءه. وهكذا يفصّل كل اللوحة الفارغة، الرواق الفارغ، اللا ـ موقع واللوحة البيضاء واقع فن موجود (اللوحة، الرواق المشهد) لتدميره أو، أسوا، للتهديد بإخماده.
ولهذا فليست هذه هي كل الأشكال التي يأخذها الخلاء ليظهر وبخاصة، أشكاله التامة ـ لوحات أو فضاءات مواضع أو نصب أو مواقع ـ تبقى على كل حال أشياء رغم تصريح ماليفيتش، وبعامة، لا شيء لامادي فيها وهي لم تعد بعد لا جسمانية بالمعنى الرواقي.
ثالث اشكال الخلاء: الإنسحاب أو التحويل
تظهر حركة الرجّاحة (bascule) منذ منتزعي المادية الواحد مكان الآخر- الموضع مكان الخلاء- ولذلك عودة مستمرة في الفن المحدث. ولم يعد يوجد شيء أينما كان يوجد موضع العمل الفني أو موقعه تقليديا. غير أنه يعاد إستثمار هذا الموضع الذي هو الآن فارغ مجددا من طرف العمل الفني وليس من طرف مضاعفه. لقد ترك العمل أثره بإنسحابه أو أرسل نسخة (شبيها) من الحيز الذي يفترض أن يوجد فيه كعمل أصلي. أي أن العمل لا يوجد إلا منفصلا، منسحبا ولا مرئيا بمعنى ما.
يدخل التنويع على المضاعف، الاّ أصلي والنسخة في دائرة المفاهيم التي تتناول الامادية والإنسحاب والتضاعف والإمّحاء وفي كل حالات الهيئة مفهوما كنا إلتقيناه قبلا وهو مفهوم يبدوا أساسيا: تغيير المحل (التحويل) (le déplacement).
إن تغير المحل اللا منقطع هذا هو بلا شك المفتاح والمدار الذي تحوم حوله المحاولات الا مادية التي تحدثنا عنها. و لكن عندما يؤخذ في ذاته و لذاته يبدو عندها التغيير الأقرب إلى إنجاز مشروع نزع المادية المحدث في شكل معاصر. وهكذا، فعندما يعلن موريزيو كاتلان (Maurizio Cattelan) خبر تحليق عمل لامرئي (مكان العمل (الأثر) نفسه) أو يصرح روبار مورّيس (Robert Morris) أنه إنتزع الخاصيات الإستطيقية من العمل المعروض، Statement of esthtic with-drawal (1963)، نكون بلا أية طريقة تمكننا من التثبت في الأمر ـ فيما يخص الحالة الأولى ـ ولا نعرف إذا ما كان هذا العمل يوجد أم لا: إنهم يقولون لنا لقد سرق و آنتزع (نقل من محله) لكننا لا نعلم أين ومن الذي نقله، هذا إن لم يكن مؤلفه نفسه؛ لقد تبقى فقط إسم المؤلف تحديدا ومحل (أثر) العمل المحتل من طرف أمارة إنسحابه. وفي الحالة الثانية لا نعلم أي الخصوصيات ـ التي نرى بعامة أنها ممتزجة بالعمل ـ كان بمستطاعها أن "تنتزع" دون أن يدمر العمل ذاته. يبين الإنسحاب (الإنتزاع) معدومية (لاشيئية) العمل الذي يستطيع تصريح بسيط إلغاءه. فنحن نشك عندئذ لا فقط في إمكانية هكذا عملية ولكن فضلا عن ذلك أيضا في إمكانية وجود ما للأعمال فيما يتعدى هذا العمل الموجود فعليا والذي غابت خصوصياته.
يمكننا أيضا أن نلحق التوقيعات الوهمية التي تتقدم على أنها أعمال أو قائمات المواد التي ساعدت على رسم ما هو غير معد للرؤية على وجه التحديد15. بخانة تغيير المحل والإنسحاب. تستجيب كل هذه الإنعطفات والمخارج الوهمية لتذبذب الموضع والخلاء لترددهما ولإمكانية حلولهما المتبادل محل بعضهما.
لنتذكر هذه النقطة، لأن النقطة الأساسية لكل لاجسمية هو جاهزية فضاء ما و حياديته و كونه بلا خاصيات وتحمله لكل أنواع الأجسام التي تلجأ فيه لترحل في الحال. ولكي تصبح هكذا كان يلزمها عمليات إنسلاخ متعاقبة يعني خروجها من الوضعيات الثابتة واحدة تلو واحدة.
إن عملية الإنسلاخ تستهدف السوق أولا ـ لنقل نظام التعليق التقليدي ـ، ثم تنتقل من السوق إلى العمل الفني ومن العمل إلى حركة الإنسلاخ ذاتها؛ وهكذا يبدو الفن وكأنه محفور من الداخل بحثا عن تبديد أوهامه.
أليست أدنى مفارقة تخص هذه المسألة هو أن تدرك كمخادعة كبيرة في حين أن مخادعة الفن هي نفسها موضوع الدحض وموضوع الخلاف. وضمن هذه الشروط يحمل قول العديد من المتفرجين: "هذا ليس فنا" على أنه تهنئة كإعتراف محق بشرعية العملية بأسرها. في الواقع، ليس الفن بالمعنى المعطى لهذه الممارسة هو الذي لا يُرى وإنما بمعنى آخر لأنه بلا عمل وبلا مؤلف أو أنه يحاول في الأقل أن يكون كذلك مستعملا كل أنواع الإستعمالات والطفرات والإبتكارات.
تضفي لامرئية ما يشار إليه على أنه منسحب أو محول معناها العميق على اللاّ بصرية (anopticité) الديشمبية (duchampienne): حيث يصبح النشاط الفني ذهنيا فيما تعمل العين الآن، بما هي عضو موهوم، كمجرد حاجب (Portier) مناطق خيالية.
إن النظام الذي يخضع له الفن المعاصر في أغلبه الأعم هو هذا: عمليات ذهنية تستطيع بالتأكيد أن تجد ما ينسجم معها في مجال البصري تحت غطاء إستعارات ـ كالأبيض، الكوة (trou)، الصمت ـ تحيل كلها إلى الخلاء الذي هو نفسه إستعارة اللامرئي. وعلى هذا النحو ـ وبالإنتماء إلى نظام العمليات الذهنية ذات التأثير البصري الضعيف سيدخل لا ماديان رواقيان آخران, هما الزمان والما يعبر عنه لعبة الفن المعاصر كمفهومين مهيمنين.

1- Constaté et dénoncé non sans verve par Yves Michaud dans L’Art à l’état gazeux, Paris, Stock / Hachette Littératures, 2003.
2– Mis à part les ouvrages, un journal comme libération a publié quotidiennement en juillet et août 2005 un volumineux cahier sur le sexe.

5- Voir le catalogue de l’exposition « L’art biotech »(Nantes, filigranes Editions,2003). Voir aussi la revue ETC, n° 68, 2004-2005, « Portrait de soi », notamment l’article de Christine Palmieri, ainsi que la revue Cités, n° 21, « Refaire son corps ; corps sexué et identités »,Paris, PUF, 2005, et le dictionnaire du corps, PUF, 2006.

6 - Lucy Lippard, six years: the dematerialization of the Art object from 1966 to 1972, Londres, Studi Vista, 1973.

7- Lucy Hippard, Six years…, Op.cit., P.263.
- Même si est recommandé l’événement éphémère, incomplet ou non enregistré.

8-Paul Toner, “ Interview with Robert Smithson”, 1970, in Jack Flam(dir.), Robert Smithson. The collected writings, Berkeley, University of California Press, 1996. Voir aussi l’article de.

9 S. Paquet, “Une nouvelle topographie, L’art de la périphérie”, dans le n° 46 de la revue d’esthétique

10 - Paris, éditions Incertain Sens, 2000.

11- H. Melville Moby Dick, trad. Fr. L. Jacques, J.Giono,Paris, Gallimard,1996, P. 275-276.
- Ibid.

12-Yves klein, cité par Denys Riout dand Yves Klein. Manifester l’immatériel, Paris, Gallimard, 2004.

13- Denys Riout, Yves Klein…, op. cit.

14 -K. Malevitch, « Anarchie », dans le Miroir suprématiste, mars1918, trad. Fr. Jean-Claude et Valentine Marcadé, Lausanne, L’Âge d’homme, 1977.

15 -Je me permets de me renvoyer sur ces points à mon Petit Traité d’art contemporain, Paris, Le Seuil, 2° édi. , 2003.


الكتاب:
Fréquenter les incorporels. Contribution à une théorie de l’art contemporain Lignes d’art, PUF, Paris, 2006.



#صلاح_الداودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أعلى لكِ فأعلى
- Harpeعلى المدينة
- طوني ناغري، (تصحيح)
- جاك رُنْسْيَارْ:الاشتراك في المحسوس
- همّ أهمْ1
- أنا دونك ناقص نثرٍ وشعرْ
- اذهبْ إلى الشعرْ
- يوجد في قلبي ما لا يوجد في الشعر
- شتاتْ
- في الجميل
- بيان
- صَوْتْ
- في ما بعد المحدث
- شريط حبْ1
- في المسرح الكبير
- حقّ الشعر1
- نصف اللّيمونة البيضاء؛ ونصفها
- كالرّواية
- لحم الهويّة: رسالة إلى إسرائيلي من أصل كوني
- البكاء الحر من أجل الحب (تنضيد 2)


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- يروي ما رآه لحظة طعنه وما دار بذهنه وسط ...
- مصر.. سجال علاء مبارك ومصطفى بكري حول الاستيلاء على 75 طن ذه ...
- ابنة صدام حسين تنشر فيديو من زيارة لوالدها بذكرى -انتصار- ال ...
- -وول ستريت جورنال-: الأمريكيون يرمون نحو 68 مليون دولار في ا ...
- الثلوج تتساقط على مرتفعات صربيا والبوسنة
- محكمة تونسية تصدر حكمها على صحفي بارز (صورة)
- -بوليتيكو-: كبار ضباط الجيش الأوكراني يعتقدون أن الجبهة قد ت ...
- متطور وخفيف الوزن.. هواوي تكشف عن أحد أفضل الحواسب (فيديو)
- رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية -لا يعرف- من يقصف محطة زا ...
- أردوغان يحاول استعادة صورة المدافع عن الفلسطينيين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صلاح الداودي - آن كُكْلاَن : معاشرة اللامادّيات