أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد الحمّار - نحن نعيش خارج التاريخ بسبب الاحتباس التواصلي، والحلّ هو الاجتهاد الدائري















المزيد.....


نحن نعيش خارج التاريخ بسبب الاحتباس التواصلي، والحلّ هو الاجتهاد الدائري


محمد الحمّار

الحوار المتمدن-العدد: 2962 - 2010 / 4 / 1 - 15:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(1) المسلم المريض

لقد أخذت التخمة الحضارية مَأخَذها من الغرْب المُهيمن إلى حدّ أن تمّ الإعلان، من طرف بعض رموز الفكر السياسي الغربي عن "نهاية التاريخ". ومع هذا لم يلج العرب و المسلمون التاريخ بعدُ. فهل تكون هذه فرصتهم لكي تطأ أقدامهم يابسة التاريخ؟

فعلا لقد بدا لــ فرنسيس فوكوياما أنّ التاريخ انتهى. وقد أعلن ذلك في تقرير شهير نشر في أوائل التسعينات من القرن المنقضي، متّفقا في ما ذهب إليه من تصوّر مع نظرية "ما بعد الحداثة"، ومهنّئا ضمنيّا روح الفيلسوف الألماني هيجل بارتقاء نظريته المثالية إلى السنام. وبالرغم من هشاشة النظرية الفوكويامية، إلاّ أنّ الباحث الأمريكي قد يكون مُحقّا في أمرين اثنين، واحد يخدم مصلحة الغرب والآخر قد يخدم مصلحتنا من هنا فصاعدا.

أوّلا، قد يكون تاريخ الحضارة الغربية دون سواها هو الذي انتهى فعلا. إلاّ أنّ هذا لم يمنَعها من المواصلة في توليد أسباب الفعل التاريخي. فقد تمّ في الأثناء هدم جدار برلين إيحاءا ببدء التحوّلات الديمقراطية في شرق أوروبا لتشمل كافة شعوب المنطقة التي كانت تُعرف باسم "المعسكر الشرقي" وهي منطقة ذات أغلبية سكانية مسيحية.

ثانيا، إذا كان التاريخ في نسخته اليهودية المسيحية هو الذي انتهى آنذاك، أين نحن العرب والمسلمون في كل ذلك؟ من المدهش أنّ نسائم الحرية لم تحرّك ساكنا لدينا بخصوص إيجاد طريق معبّدة بما يكفي أن تؤدّي بشعوبنا إلى الديمقراطية أو ما شابهها من أساليب الإدارة التعددية لشؤون الحياة العامة. فهل هذا اختيار تاريخي للأمة الإسلامية بأن لن "تقلّد" الآخر (غير المسلم) وكأنّي بالأمّة قطعت العهد مع "التقليد" فإذا بها باقية على التقليد والإتباع في ما هو ديني فحسب؟ وإن كانت الحالة تلك، فهل أنّ الإبقاء على التقليد الديني هو الذي سيميّز الأمّة عن سواها من الأمم أم أنّ هذا الإبقاء يدلّ على اختلال في صحّة النفسية للمسلم ، ما يجعل الدين لديه نقمة أكثر منه نعمة موصّلة إلى ما وصل إليه العلم من تحرّر؟

لنرى أهمّ ما حصل في العالم العربي والإسلامي بًعيد التحوّلات الديمقراطية، أي ابتداء من 1989، لنفهم طبيعة ما يجري في الأنفاق، في أغوار الشخصية العربية الإسلامية. فإثر تلك التحوّلات اشتعلت نيران الفتنة على أرضية دينية في الجارة الجزائر بعد أن عرفت كل من تونس ومصر والأردن والسودان وتركيا وغيرها هزّات مماثلة في جوهرها (بسبب الصراع الديني / العلماني) ولكنّها ليست كارثية في مخلّفاتها الآنيّة. ثمّ انهال تحالف الثلاثين بلدا (قوّات التحالف الدولي) سخطا فضربا فتدميرا على ما كان يعدّ آخر حصون المقاومة الإيديولوجية والعسكرية للهيمنة الأمريكية : العراق، ذي الأغلبية السكانية المسلمة. وكأني بموضوع التحرّر من الحكم الاستبدادي عند العرب و المسلمين قد استبدل بمشروع استبدادي أكثر بطشا هذه المرّة طالما أنّه عالميّ الأبعاد.

جاءت أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 في نيويورك كتعبير أقصى لحالة التصادم بين مريضين (المسلم واليهومسيحي) وتوسّعت في السنوات التي تلتها ساحة الوغَى في العالم الإسلامي. وكان ذلك أوّلا بتقنين الاجتياح العسكري تمّ السياسي لأفغانستان وهو انتقاميّ النزعة، وبكلام الرئيس أوباما نفسه "ضرورة" (في خطاب القاهرة يوم 4 – 6 – 2009)، وثانيا بتدويل شرعية الضربة القادمة على العراق (ثانية) في 2003. فكان ذلك، برأينا، أكبر صفعة لمشروع التحرّر الديمقراطي للعرب والمسلمين. وهو بمثابة موعظة لمن أراد أن يتّعظ منهم : إنّ مشروع الخلاص معطّل بأوزار من الأمراض ولن تقوم لهم قائمة إلاّ إذا أصلحوا ما بأنفسهم.

إذ لا بدّ أن يكون المرء المؤمن منّا في غيبوبة لكي لا يلاحظ أمرين اثنين على غاية من الخطورة بخصوص تشخيص وباء المسلم المريض. أوّلا، إنّ التحوّلات الديمقراطية عند الآخرين (غير المسلمين) تزامنت مع اصطدامات عقدية عند العرب والمسلمين. وبالفعل،إن أفرزت عندهم دمقرطة الحياة العامة وتكسير الحواجز النفسية والإيديولوجية بين بلدانهم، ممّا سهّل حركات الهجرة المفيدة بينهم بما تعنيه سيولة التحرّك من بوادر لفرص لا تحصى ولا تعدّ، من تثاقف وتعاون و شغل ودراسة وغيرها من الخدمات التي كانت مستعصيا تحقيقها، فقد أفزت لدينا، لن أقول الدمار والخراب والهلاك والطائفية واستدامة التعصّب، بل سأكتفي بالقول إنّ تلكم التحولات لم تخلّف لدينا سوى الكبت. وهو كبت مجسّم للرلأي المتداول والقائل بأنّ العرب والمسلمين يعيشون خارج التاريخ.

ثانيا، إنّ أحداث 11 / 9 وما تلاها من استعمار"ضروري" لأفغانستان ومن استعمار "اختياري" (حسب تعبير الرئيس أوباما أيضا) ومن استدامة للاستيطان بفلسطين، مهما اختلفت أسبابها السياسية المعلنة و غير المعلنة، يمكن أن تعتبر انفجارا لورم أو تفتّت لزائدة ورميّة متعلّقة بالجسم العربي الإسلامي. فهي تمظهر لواحد من أعتى الأدواء للمسلم المريض : الكبت المتولّد عن استحالة (وقتية) للتعبير عن المضمون الإنساني لدين الإسلام. فالمسلم المعاصر ليس قادرا على أن يعبّر، أمام الملأ وبدون الاحتماء لا بالعلمانية ولا بالإسلامية ولا بأيّة طريقة سفسطائية مماثلة، أمام اليهود وأمام النصارى، أمام البوذيين والماجوس وأمام النفاتيين / الملحدين وغيرهم، بدون حرج ولا هرج، أنّ التوحيد عنده كدح وصيرورة نحو بلوغ الخير للجميع. ولقد تمخّضت عن هذا الكبت ما سنسمّيه في البدء "وضعية غير مريحة" إزاء الدّين (النصّ والسنّة).

ولئن بدأت بشائر الخلاص تتراءى حيال مأزق المسلم، فإنّها تقتصر فقط على المعسكر الإيديولوجي الآخر( ما جاء في خطاب الرئيس أوباما من طمأنة مهمّة للمسلمين) إذ لم نسجّل، في الفكر العربي والإسلامي أية بادرة في اتجاه الانفراج . لقد اشتدّت الأزمة ولم تنفرج بعد.وبقدر ما أنّ هذا الكبح شديد وخطير بقدر ما هو ليس بالغريب ولا بغير المتوقّع: إنّ التداوي من علّة المسلم المريض لا تتطلّب اجتهادا في السياسة أو في الدّين كما يذهب إليه معظم المسلمين، لا سيما أنّ العالم بأسره يعيش في بيئة فكرية وإيديولوجية شبه خالية من السياسة، وهو ما سمّاه فوكوياما بالذات "موت السياسة". فمن باب أولى وأحرى أن يكون الدواء رهين اجتهاد من نوع خاص وهو الاجتهاد في طبقة تقع "في الأنفاق"، في مستوى يوجد تحت السياسي، لم تمسسه يد الساسة إلى الآن (1)، لأنّها لا تطاله وهو ليس من مشمولات السياسة. وهذا الاجتهاد التحتي (أو "التحتجتحاد") من شأنه أن يساعد عقل المسلم المريض على إدماج نفسه بنفسه، وذلك باندماج مفصليه الاثنين (المنفصلين انفصال إكراه وليس انفصال اختيار) السلفي الديني واللائيكي / العلماني في عضو واحد، سليم ومعافى.

(2) المسلم ضحية الاحتباس التواصلي

إنّ ما أسفر عنه الشرخ بين الفكر الديني والفكر العلماني للمسلم المريض يتمثّل تباعا في نوعين من التمامية ("انتجريزم" باللغة الأجنبية) وما أنتج كلاهما من مواقف متحجّرة ومعطّلة لأيّ تقدّم فكري ومنه سياسي ثمّ اجتماعي. ولمّا لمست ما لهذا الثنائي الوقح والجبّار من سموم تنبعث منه فتكوّن حزاما سميكا حول أفضل هبة روحيّة من الله للإنسان، وأفضل ما يعتزّ به مسلم - دين الإسلام - فتعيق الإنسان المسلم بأن ينزع منه الكفاءة التي من المفروض أن يرى الدّين بفضلها ثمّ يتدبّر ويتساءل ويسائل ويختار ويبتّ، اقتادني ذلك إلى التشبيه التالي:

إنّ الثنائي الرهيب يفعل بالإسلام (الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة) وبالإنسان (المسلم) ما يفعله ثنائي بخار مياه البحار والمحيطات وثاني أوكسيد الكاربون (إثر الاحتكاك بينهما) بكوكب الأرض وبالإنسان لمّا تتراكم السموم المنبثقة منهما في أعلى طبقات الهواء لتنتصب في شكل حزام سميك حول أغلى هبة مادّية من الله للإنسان – الأرض.

وما فتأت أن توصّلت إلى فهم كاف للدور الخبيث الذي يلعبه ثاني أوكسيد الكاربون (بتفاعله مع بخار الماء) في منع حرارة الشمس من مغادرة الأرض، كما يتطلّبه ناموس الطبيعة، بعد أن قامت بتسخينها، حتى صرت مسكونا بهاجس غير مسبوق شبيه بالحلم. فقلت في نفسي، إذا كان "الخضر" يحلمون بإزالة الحزام الملوّث من مكان انتصابه حول كوكب الأرض لكي تتحرّر الحرارة المحتبسة، فتغادر البيئة وهي تضمحلّ نحو الأعالي، فتفتح أمام الإنسان مسلكا خال من أيّة شاشة عازلة، تسدّ الطريق أمامه وتبطل التّنفّس الصحّي لديه وتعرقل النموّ الطبيعي للمناخ، لماذا لا أحلم أنا بدوري بأن أساهم في أن تكون هذه الرؤيا الجميلة مطبّقة على حياة المسلم وعلاقته بالإسلام؟ وفي الواقع،لئن لم أكن قطّ من "الخضر"، فلقد توسّمت الخير، كلّ الخير، في تلك الصورة، لا فقط بصفتها حلما شاحذا للهمم، وإنّما أيضا بناءا على الصبغة العلميّة التي تكتسيها.

إنّ سحب صورة المأزق البيئي (الاحتباس الحراري) والخلاص منه (إماطة اللثام عن وجه الأرض) على واقع المأزق الذي تورّط فيه المسلم ( "وضعية غير مريحة" إزاء الدين) يفترض جدلا أن تسمّى هذه الوضعية غير المريحة "احتباسا تواصليّا" وأن يكون الخلاص منها بواسطة إماطة اللثام عن الدّين (النص والسنّة). وفي الأثناء سوف نتعرّض إلى أوجه الشبه التالية لكي نلمس إلى أيّ مدى يمكن أن تحملنا المقارنة والتجربة :

1. إنّ الاحتباس – كلّ احتباس- يعتبر أمرا غير طبيعيّ، إذن فهو غير مريح.
2. إنّ سبب الاحتباس خطأ إنسانيّ (فسح المجال للإفرازات الغازية بأن تتشكّل/ فسح المجال للضبابية في تناول الدين أن تتشكّل).
3. إنّ إزالة الحزام المسئول عن الاحتباس، في كلتا الحالتين – الطبيعية و"التديّنية"- تستلزم تسريح الفضاءات والقنوات والمسالك المنتصبة بين العون (الإنسان في الوضعية البيئية / المتديّن في الوضعية الدينية سنسمّي كلاهما "عونا مستعملا") والجسم المتضرّر، لا بسبب عاهة ولادية فيه بل بسبب إخلال العون بمهام الصيانة والمحافظة وحسن التعامل المناطة بعهدته.
4. إنّ القضاء على الاحتباس، بفضل إزالة النفايات وتسريح الممرّات، يهدف إلى تمكين الجسم الأصلي المتضرّر (الأرض / الدين - قرآن وسنّة) من العودة إلى سابق نشاطه من حيث قابليّته الأصلية والولادية للتكيّف مع متطلبات العون. وهذه الميزة تسمّى "التوازن البيئي" في علوم البيئة وتسمّى "الصلاحية لكلّ مكان وزمان" بخصوص الإسلام.

فالحذر، كلّ الحذر، من اعتبار الدّاء كامنا أساسا في الجسم أو مباشرة في العون المستعمل بينما هو واقع، كما بيّنته لنا المقارنة، في ذات البين، بين العون المستعمل والجسم. ولكن للأسف، يقدّم الداء نفسه على أنّه كامن في الجسم ( بخصوص المأزق الديني: حسب نظرية الكاتب التونسي الفرنسي عبد الوهاب المدّب "كيف يعالج الإسلام")، أو في العون المستعمل (حسب نظرية معظم السلفيين)، الأمر الذي قد يوقع الملاحظين من المسلمين الغيورين على دينهم في الخطأ المتمثّل في الخلط يين المساحة البينية (التديّن والتجربة الدينية والثقافة الدينية) والمساحة الأصلية (القرآن والسنّة في نظرية المدّب والمسلم كمستعمل ناقص للدين).

(3) المسلم ناقص عقل وليس ناقص دين

إذن، لا تجوز أن تترجم علّة المسلم المعاصر على أنّها نقص في الدين. وبقدر ما نزكّي أيّ عمل من شأنه أن يعيد الاعتبار للدّين الحنيف بقدر ما نأسف للمنحى التبريري الذي اتبعه الفكر السلفي ألإخواني، والذي بدأ بتقسيم العالم إلى "دار الإسلام" و "دار الكفر" ثمّ راحت رموزه تنادي بإعادة أسلمة المسلمين إلى أن أسفرت تجاربهم على الانفصام الذي بينّا حيثياته التاريخية إلى حدّ "انفجاره" في 11 /9 . وإذا أردنا إعادة استعمال رموز التشبيه الذي كنّا بصدده، يمكن القول إنّ "العون المستعمل" للدّين (المسلم المعاصر) سليم في ما يخصّ صحته الدّينية والعقائدية الأصلية و لا يتطلّب الدّعم، إذ كل دعم إعادة وتكرار وكل تكرار قد يؤدّي به إلى اللعب بالنار كما حصل في مدينة نيويورك في 2001.

ولكن يجوز، في المقابل، أن يتمّ تشخيص المكروه الذي أصاب المسلم على أنه نقص في العقل. فعلاقة "العون المستعمل" بالدين (قرآن وسنّة) تحكمها نواميس وسنن عقلية، لئن حثّ الدين الحنيف عليها وعلى اكتشافها فإنّها تبقى مرئية في حقل الواقع والتاريخ وليس في حقل الدين. وما وصفناه بتسريح للمسالك وبإزالة للنفايات يندرج بالضبط في هذا الإطار. فهي مقاربة ذاتية رامية إلى إعادة تهيئة البيئة الفكرية والروحية للمسلم، نفسه بنفسه، وإعادة تأهيل نفسه لكي يكون قادرا على أن يرى دينه (قرآن وسنّة ) بوضوح وبدون شوائب. وهذا البرنامج يتطلّب عقلا قادرا على النظر السديد والحكم الرشيد وتزوّدا بمهارات البناء، بناء "الثقافة الوسيطة" وهي سرابيل من الجسور والطرقات والمحوّلات تعيد الصلة المفقودة بين "العون المستعمل" والدين.

(4) "الحَوَل" في انتظار الحل

ولمّا ندرك افتقار المسلم المعاصر للمقاربة العقلية الذاتية سنفهم كيف أنّ الاحتباس التواصلي، بما أنّه انعدام لآليات وتقنيات الفهم و التفاهم، والفعل والتفاعل، والأخذ والعطاء بخصوص علاقة المسلم بالواقع من خلال رابطته بالدين، زجّ بـ"العون المستعمل" في وضع لا يحسد عليه: بينما تملي عليه غريزة البقاء التشبّث بالحقّ وبالأرض وبينما هو موجود بعد في وضع استحالة بخصوص افتقاره لمنهجية ناجعة للحفاظ على حقّه ولضمان مكان له في الأرض، في بلده ومجتمعه، سقط ضحية ما يسمّى في علم التشخيص السريري "مضاعفات". ومن أخطر مضاعفات مرض "الاحتباس التواصلي"، نذكر ما سمّيناه في فصول أخرى "الحول العقلي" وما يقترن به من "مرض رفض الآخر" (2). وهو ما يفسّر سلوكيات هجينة تتّسم بالتذبذب وبالانفعال و بالتهوّر وبالعنف تجاه الآخر- المواطن – غالبا ما تلوّح، في تحليل ظواهراتي (فينومينولوجي) إلى رغبة عميقة، ولكنّها شرسة، في الجري وراء حقّ مغتصب. وقد يكون "الحق" في استرجاع الأرض السليبة بفلسطين في صدارة قائمة الحقوق المغتصبة التي تفعل فعلتها في داخل وعي هذا المواطن ، "العون المستعمل" لمنظومة دينية (القرآن والسنة) لم يعد يفهمها، لا لأنّ لا أحد فسّرها له (فهي مفسّرة بعد)، بل لأنّه لم يعد قادرا على أن يعثر بنفسه، في الواقع المعاش، على ما يثبت أنّها مفسرة .

ولمّا كان ذلك كذلك، فإنك تفهم كيف أنّ المتديّن (والمتدينة المتحجّبة)، مثل غير المتديّن، يلجأ إلى أساليب لا علاقة لها بما يعلّمنا الإسلام ،بفضل قيم ومفاهيم مثل "الدين القيّم" و"الصراط المستقيم" و "القسطاس المستقيم"(3) وتحذير من الصدّ عن سواء السبيل كـ "الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا" (4)، من احترام للآخر ومن حسن تقدير للمواقف ومن انضباط في قياس المسافات. ومن بين تلك الأساليب المستحدثة افتكاك قائد عربة للأولوية (القانونية) فكّا من قائد عربة ثانية، صاحبة الأولوية في المرور، واختراق القائدة المتحجّبة لإشارة الضوء الأحمر أثناء السير الميكانيكي، ولهث المدرّس وراء الارتزاق من الدروس الخصوصية راميا عرض الحائط كلّ المعنى والمقصد من التحذير النبوي بأنّ "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار"، وطلب البنّاء المعماري مبلغا لأتعابه يضاهي أضعاف ما يجب طلبه بالموازاة مع رضا الزبون بدفع المبلغ رغم علمه بالغلوّ المشطّ لعملية البناء لا لشيء سوى لكونه متعطشا إلى البناء (الرمزي والفكري، بناء المستقبل) ولكونه فاقده وبالتالي لكونه مستجيبا لنيّة الاستغلال نكالا في نفسه، وتزويد بائع الأسماك الزبائن بالمادة المتعفّنة، وما إلى ذلك من مواقف يقال فيها "الإثم" ويؤكل فيها "السّحت" تعدّ انقلابا متهوّرا لكل معاني الآية الأشدّ توبيخا في القرآن (5) ولمعاني كثيرة أخرى، وصرف الجار نظره عن جاره بناءا على أن التواصل الطبيعي قد فقد معناه لدى "العون المستعمل" لأعظم جهاز تواصل في تاريخ البشرية - الإسلام- إلى أن صار المسلم مجرّد مستخدم لما اخترعه الإنسان من أجهزة للتواصل، مكبّلا بها وليس مستعملا لها لتكريس أهدافه السامية، حيث أنّ المرء أضحى يعقل جاره أو ابن عمّه أو خالته لمّا يصادف أن يراهم على جهاز التلفزيون أو يسمع صوتهم على الهاتف، بينما يغضّ من بصره أو يدير ظهره لهم إذا اعترضوا سبيله في الطريق وهو في أوج "كدحه" و"أدائه" للأمانة الإلهية ( هكذا ).

(5) الاجتهاد الدائري/الحزامي

في الختام يمكن القول إنّ أيّ اجتهاد يرمي إلى إعانة المسلم على الاهتداء عن طوعية إلى حرية منحها له القرآن ودعاه إلى اكتشاف نواميسها بالعقل وبآليات التحرر الإنساني ("وقل كلّ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا" (6) ). ولكي يتوصّل المؤمن إلى التخلّص من براثن الاحتباس التواصلي، محررا بذلك ذاته من التسلّط والاستبداد الخارج عنها، ثم ّ التوصّل إلى بناء ثقافة وسيطة مكرّسة لتطلعاته ومحققة لأحلامه ونابعة من تربته وبيئته النيرة والمستنيرة، لا بدّ له أن يتحلّى بمواصفات المأزق وطبيعته، وإلاّ فكأنّي به يقصد طبيبا لكي يبني له مسكنا أو يستعين بمهندس ليعالجه من الحمّى.إنّ مأزق المسلم إزاء الدين ذي مواصفات وطبيعة "دائرية" أو "حزامية" ( بالمقارنة مع طبيعة المأزق البيئي) ، لذا فمن الأجدر أن يكون الاجتهاد المطلوب كذلك.

وأعني بالاجتهاد الدائري/ الحزامي كل اجتهاد غايته اندماج المسلم في داخل المنظومة التواصلية بإزاء الدين (النّص والسنة) بدون أن يقع تركيعه من طرف رموز الاستبداد التفسيري أمام قراءة أو قراءات معينة دون سواها للمنظومة الإسلامية ( القرآن والسنة). فالمسلم المعاصر يتوق إلى الحرية أكثر من توقه إلى تفسير آخر للإسلام يضاف للتفاسير الموجودة تعقّد له حياته أكثر ممّا تسهّلها له لا قدّر الله.

والاجتهاد الثالث/ الاندماجي، بوجهه الدائري/ الحزامي، وأيضا في بعده التّحتي بسبب عنايته بما سيكوّن أرضية صلبة لطبقة العمل السياسي، لا يبتّ في مسائل الدين بصفة مباشرة.فهذه تبقى من مشمولات المفتي والمفسّر والفقيه والشيخ والإمام. وإن نلاحظ أنّ هنالك صعوبة في اندماج هؤلاء المجتهدين التقليديين في بيئة المسلم في العصر الحاضر، وكذلك صعوبة في اندماج المادّة التي ينتجونها في نفس البيئة فإننا نعتقد أنّ ذلك مردّه ليس الإسلام في حدّ ذاته كما ذهب إليه الفرنسي عبد الوهاب المؤدّب أو كلّ التفاسير التقليدية جملة وتفصيلا كما يعتقده السوري محمد شحرور، أو فساد العقائد كما ذهب إليه د. حسن حنفي، أو كفر المسلم بدينه كما كان يعتقد معظم السلفيين (6)، أو تغييب الإسلام عن السياسة كما يحلو لرموز الإسلام السياسي تفسيره. إنّما مردّ ذلك الفشل في مواكبة الإسلام للواقع المعاش هو غياب حلقة تتمثل في اعتزام أناس مثقفين مؤمنين إماطة اللثام عن قضايا وتساؤلات مطروحة على وعي المسلم عموما ولكنّها موجودة في وضع إقصاء من الوعي الديني دون سواه، ثم الاعتراف والتعريف بها أمام الملأ.

والقضايا والتساؤلات المقصودة هي ، بتعبير آخر، مسائل وقضايا لم تساعدها ظروف الحياة العصرية على الانصهار في الوعي الديني للمسلم المعاصر. وهي مسائل ومشاكل لم تطرح أبدا على المجتهدين التقليديين لأنّها ليست من مشمولاتهم، إنما هي من مشمولات "كلام العلم" (العبارة لأبي يعرب المرزوقي) وليست من مشمولات "علم الكلام" والاجتهاد السلفي؛ من مشمولات المعلّم والإعلامي والكاتب والمهندس والطبيب والفيزيائي والكيميائي وغيرهم من أهل الاختصاص المؤمنين (7). وقد شهد شاهد من أهل المحافظين، وهو شيخ الأزهر خالد الجندي، لمّا صرّح بأنّ " لا نحتاج مزيدا من الشيوخ، ولكن العالم يحتاج إلى دعاة دين مستنيرين يتقنون اللغات كي تستطيعوا الإطلاع والانفتاح على الثقافات الأخرى. فهذا أمر ملح ينقص التعليم الأزهري." (8)

فيوم تكتمل السلسلة بإدماج حلقة الاجتهاد الدائري المفقودة سوف يرتقي مستوى المسلم في السلّم الحضاري (من ما هو "تحتي" إلى ما هو "علوي") . ولمّا يثبت العقل العربي والإسلامي في مستوى الرقيّ فسوف تتبدّل حركته بأن تصبح عمودية (ومن الأعلى إلى الأسفل) مثلما حثّ عليه فيلسوف العرب مالك بن نبي لمّ تساءل :" هل ترون إلى أرض عطشى تنتظر الريّ من الماء؟ هل نستطيع ريّها بماء يجري تحت مستواها؟" ثمّ أجاب :" لن يسقي الأرض الماء بالصعود إليها، وإنّما بالانحدار وذلك بحكم السنن الإلهية عن طريق الجاذبية. سنّة الله تقضي أن ينحدر إلى هذه الأرض إذا كان مستواه يخوّل له ذلك." (9) وستكون مادة هذا الاجتهاد الاندماجي، بسبب كونها "صعودا" في الحضارة حسب صورة بن نبي، بمثابة الماء الذي سيسقي حقول الاجتهاد الديني التقليدي بصورة تضفي على الفقه والفتاوى والأحكام، الشرعية منها والوضعية ، مذاقا ليس كمثله مذاق؛مذاقا يكون في أسوء الحالات لذيذا من حيث أصالته وسلامته ومعافاته.

محمد الحمّار
*** "الاجتهاد الثالث"، تونس

المراجع:

(1) كتبنا مقالات سابقة باللغة الفرنسية في هذا الموضوع. على سبيل المثال :
« Ce qu’il faut aux musulmans par-delà le politique » sur :
http://islaminfrajtihad.canalblog.com
(2) مقال الكاتب على موقع "شفاف الشرق الأوسط" ، نشر بتاريخ 26-1-2009
Mohamed Hammar, « Inculture de Dialogue et d’Apprentissage, quand tu occultes les maux d’*Arabislamia ! »
Le S.R.A (Syndrome du Refus de l’Autre) . S.R.A (Syndrome of Refusing Alter) ."م.ر.ا" (مرض رفض الآخر)
http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=5336&lang=fr
(3) القرآن كريم، الإسراء 35.
(4) القرآن كريم، الأعراف 45.
(5) القرآن الكريم، المائدة 63، وهي بإجماع المفسرين الآية الأشدّ توبيخا (ذكره ابن كثير –المختصر- المجلّد الأوّل ص 531).والآية:" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبأس ما كانوا يصنعون".
(6) لعلّ فتوى مؤتمر ماردين (بتركيا) الأخيرة تساهم في تنقية أجواء الفكر الديني بما يسمح لاجتهاد مثل الاجتهاد الدائري أن يرى النور. وهي فتوى تلغي العمل بفتوى لابن تيمية " تقضي بالعنف المتشدد و... تقسيم المسلمين في القرون الوسطى للعالم إلى "دار إسلام" و"دار كفر" "؛ المصدر: موقع ميدل ايست اونلاين ، في مقال " علماء دين: لا دار إسلام و لا دار كفر اليوم"، بتاريخ 31- 3- 2010.

(7) للكاتب دراسة أكاديمية يمكن اعتبارها النواة الأولى لاجتهاد معلّم اللغات: محمد الحمّار، "الألسنيات لإحياء الكفاءة في فهم الإسلام والحياة: كيف يرتقي المسلمون من طور الجمود إلى طور الحركة"، مجلة "المستقبل العربي"، العدد 373، مارس/آذار 2010 ، ص 93. كما أنّ للكاتب مقالات أخرى توضح وتنفذ هذا النوع من الاجتهاد.
(8) حاورته أسما نصار ونشر في جريدة "الشرق الأوسط" العدد 11179 بتاريخ 7-7-2009
http://www.aawsat.com/details.asp?section=17&issueno=11179&article=526463&feature=1
(9) في كتاب "دور المسلم ورسالته"، دار الفكر، دمشق، 1989، ص 38.



#محمد_الحمّار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لكي تكون قمّة الوُجود العربيّ
- لا إسلامي ولا علماني، المواطن العربيّ سلوكُه إنساني وقانونُه ...
- لوحات من الفكر الديني المُجَدَّد: فهمُ الإسلام
- في تجديد الفكر الديني
- مقاومة التخلّف اللغوي بوّابة لانفتاح الحداثة على الإسلام
- الأُسُس النظرية للفهم المَيداني للإسلام*
- هل انقرض العرب ثقافيا من أجل أن يولدوا من جديد؟!
- المسلم المعاصر منارة علم ووَرَع وليس كوما من الإسمنت والهَلع
- أخي الإنسان العربي المسلم، تمهّل! الطريق من هنا...


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد الحمّار - نحن نعيش خارج التاريخ بسبب الاحتباس التواصلي، والحلّ هو الاجتهاد الدائري