أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد ضحية - رواية مارتجلو ..ذاكرة الحراز















المزيد.....



رواية مارتجلو ..ذاكرة الحراز


احمد ضحية

الحوار المتمدن-العدد: 900 - 2004 / 7 / 20 - 06:29
المحور: الادب والفن
    


....حلق الطائر محترقاً ، محترقاً حلق الطائر .. حلق وحلق . حلق حتى تضائل
تدريجياً إلى شراشف لهبية متقطعة ، آخذه فى التضاؤل وها هو( مارتجلو )*
تتبدى
تلافيفه الحية عن صوته ذاته الذى لم تهده السنين .. شهد كل فترات السلم
وكثيراً من الحروب ، السلاطين والممالك والناس ، ولم يحدث ثمة تغير ما فى
صوته
العميق الريان بالحنين واللوعة ..
فى منتصف كل شهر تتنفس رئة الكون الواسع رائحة مارتجلو الرحيبة فتستفيق
الأجرام السماوية ، ويسارع البدر منيراً ناصعاً ، بإلقاء ضؤه الوديع ،
الساحر
،على الوديان الرملية الرطبة .. ومن مكان ما خلف الوادى العميق الحزن
والوحشة ،
بالتحديد مكان ما لاشرق لاغرب لاشمال أو جنوب .. من ذلك المكان بالضبط
ينبعث
صوت جدتى وهى تحكى عن مارتجلو .. مارتجلو ، هكذا كان الصوت معبراً
ونافذاً ،
بلا صدى ، حيث تنهزم قوانين الصوت وأضاليل الفيزياء ، وحيث يسبح الصوت فى
الفراغ المهيب ، مليئاً بالاصوات السرية الساكنة .. الملأى بالهواجس
والظنون
والدلالات التى لا يفهمها سوى شعب الوادى ..
شيئاً فشيئاً تغيب ملامح ( المارتجلو ) وتتسرب اللوحة ( شهاب أبوعلى )
فيتلاشى
صوت جدته فى صوت الراديو : ( ...وقد ذكر مراسلونا أن ثمة جبل ضخم إنتصب
بشكل
مفاجىء فى منطقة القرن الافريقى ، و تؤكد مصادرنا أنه ربما للتحولات
الكونية
علاقة بما يحدث فى الشرق الاوسط، ووفقاً لتقرير المراصد أن ثمة ظاهرة
مماثلة فى
منطقة الخليج إذ بدأ يتكون جسم صخرى له بعض خصائص (اللافا) يشبه ذلك
الجسم
الذى سبق تناميه ( الاجتياح العراقى للكويت كما أفادتنا ..) أغلق (
شهاب
أبو على ) جهاز الراديو بتأفف وأخذ يقلب فى الصحف السودانية والعربية
المتراكمة
أمامه. عثر على لوحة نوار بين تلافيفها .. تمعنها وهو يضعها جانباً فى
عناية
فائقة . حاصرته رغبة ما غامضة لم يستكنه فحواها ، فأخذ يمر بعينيه
الكابيتين
على العناوين البارزة ، إستوقفه أحدً مانشيتات (الشارع السياسى /
25/6/1998م )
أكثرمن4000 طالباً يفقدون إستمارات التقديم للجامعات و المعاهد العليا -
مكتب
القبول ينفى وصول الاستمارات وخطاب عاجل من الوحدة العسكرية - الطلاب
بسم الله الرحمن الرحيم
القيادةالعامة للقوات المسلحة
الكتيبة الرابعة / لواء إدارة القيادة العامة
الرقم / ق ع / ل ك / 50 /ج /1 /206
التاريخ/ 27/صفر /1418هـ
السيد / منسق الشئون الاكاديمية
بوزارة التربية والتعليم
مرسل لسيادتكم كشوفة بأسماء مجندى الخدمة الوطنية الذين ينتسبون لهذا
الطرف
والذين فقدت استماراتهم لكريم عنايتكم بإجراء اللازم .
وجزاكم الله خيراً
مرفقات : كشوفة إدارة القيادة العامة
يرفضون التقديم للأماكن الشاغرة ويطالبون بإلحاقهم بالكليات فوراً !. :
هزّ ابوعلى رأسه وهو يلقى بالصحيفة التى فى يده على الأرض ، و (نوار)
تداهمه
بكل أشواق السنين الذائبة فى حضن المدى ، عايش جرحه الأزلى وهو يرتب
لذاكرته من
بريق الضوء الخافت ، المتسلل عبر النافذة سكة لفوضاه التى لاتلين لها قناة
، و
سحب لوحة (نوار) . . أدخلها فى الحقيبة (الهاندباك) بحرص ، حاصرته رغبة
ما ،
دون هدف محدد.. ذات الرغبة التى تغولته منذ الصباح الباكر .. كانت نوار
وحكاوى
(الجدّة) عن "المارتجلو" ، وكان المساء يلقى بخطواته المتسارعة على شٌرفة
القلب
... ورويداً ، رويداً تتسرب اللوحه (شهاب ابوعلى) ، تتداخل مع صوت
(الجّده)
المنسحب ، يحاصره (الكلّس) و(عتام) و(سلوى) .. قال صلاح : (فى الليلة التى
اختفى فيها "الكلس" فى الصحراء ، انجبت زوجته تؤام .. عتام و سلوى ...)
كان
عتام ، جميلاً ، أمرداً ، أقرب للجمال منه للوسامة ، وكانت سلوى خلاسية
مثله
وأقرب للوسامة منها الى الجمال ، لولا الخال الذى يتوسط نونتها فيضفى
عليها
أنوثة وسحراً... ذكرت القابلة التى أخرجتهما من غياهب رحم أمهما للنور ،
ان
عتام يخلو من أعضاء الذكورة ، لكن ليس ثمة علامات أنوثة ما ،، ولم تصرح
على
الاطلاق عن تفاصيل سلوى ، حتى وهىتغالب النزع الاخير "
منذ الطفوله الباكرة لعتام لم يبد إهتمام بشقاوة الاطفال ، كان ميالاً
للوحده،
ويهوى ألعاب الدفاع عن النفس بقبضة فارغة ، ولازمته هذه الهواية لزمن طويل
،
الى أن اجادها فى امريكا فترة دراسته للقانون . الاخبار التى تواترت من
هناك
تحكى عنه كمعلم فى عالم العصابات ..إذ كان الاخطر بين كل المقاتلين..
كان عتام منذ طفولته لا يحب رؤية الدماء ، حتى أنه لايذبح الكائنات
الاليفة
،مثل الحمام " إذا إقتضى الامر ، على الاطلاق " ولم يتنازل عن هذا المبدأ
، فلم
يتهم بجريمة قتل أبداً " ومع ذلك طلبت الجهات الفدرالية الامنية، فى
الولايات
المتحدة الامريكية (عتام ) حياً او ميتاً " فقد أقض مضجعها ، وأقلقها
بنشاطه
الدائم ، فهرب الى القاهرة ، مما أزعج المصريين الذين لاحقوة بشراسه ،
فهرب
إلى بلاده..
كان عتام يبتكر مختلف أنواع الحيل ، ويمارس النصب والإحتيال دون وجل
..وينفذ
عمليات خطيرة لصالح منظمات سرية ، تزعم الثورية والتحرر، عشقت شقيقته سلوى
منذ
طفولتها الفنون الجميله ، وبرعت فى الرسم .. كانت ساهمة دوماً، كانها
تترقب
المجهول ، وكلما هاجمتها لحظة من لحظات الغياب عن الشرود والولوج إلى
الذاكرة ،
تسافر إلى مدينة ما ، لتقيم معرضاً للوحاتها هنا او هناك .. كانت لكل
لوحاتها
علاقة بوالدها الذى إبتلعته الصحراء وبنوار التى تحاصر احلامها وبعتام
الذى
لايريدأن يحُط رحاله ويرتاح .. وبها وهى تنتظر( ابوعلى ) ، .. فترحل فى
فضاءات
الغياب والانتظار ؛؛
أكثرما كان يؤرقها ، الوحدة القاتلة ،التى تعيشها فى بيتها الفاره ، أعلا
المدينة ..
ثمة حنين جارف يحاصرها من حين الاخر، للأزقه والشوارع الضيقة ، وأمنية ما
،
مجهوله المثوى، بلحظة تذوب فيها مع حبات المطر ، مع شخص تراه فى حلم يتكرر
كل
ليلة، شخص ليس كحاج عباس ...

( * )






























مـداخـلــة :-














من رواية نوار اللوز/ص19
واسينى الاعراج ..







تردد (أبوعلى ) فى أن تكون هى فتاة اللوحة ذات الجسد الأبنوسى المنتصب
بشموخ..
المنحنى عند الرأس ذوالشعر الاجعد المتدلية ضفائره بغنج ؛ . كانت يدها
اليمنى
المتقوسة تسند جرة الفخار المتكئة على الكتف بدلال .. ملامح الوجة البرى (
الولوف ) رغم تمرده ، والنهدين المتوفزين بقلق ، بحلميتهما السمراوتين ،
والخصر
الدقيق ، المنتهى بعقد من الخرز الملون ، تتدلى منه ( سعفات ) متفرقات حتى
الفخذين الدائريين ، عنقها المرمرى ، المتحفز بقلادته العاجية بدأ
نافراً،
كأنه : يتوقع مقصلة تمتد اليه من شجرة ( الحراز )* " الناشفة "،
والتى
إلتفتت اليها الفتاة تواجهها، بصدرها النافر؛ وعنقها الكبرياء الحرون ؛
كانت
اللوحة تماماً ؛ كما توصف ( الكيرا )** وكما هى ذات حبيبته ؛ نوار ؛؛
( نوار ) الصغيرة التى وجدت فى زحمة السكة الحديد والقطار آلات من الغرب ،
يغادر محطتة الاخيرة ، ولا أحد يقترب منها ؛ (هذى مدينة تخلو من
المؤمنين!) كان
القطار ..يتحرك وعيناها ، كأنهما ثبتتا على السكة الحديد وعجلات القطار ..
يدها
التى تشير إلى نقطة مجهوله فى المحطة ؛ تصلبت على الهواء ؛ كأنها فارقت
الحياة
وبات من الصعب أن تعود سيرتها الاولى .. والقطاريتبدد فى المدى ..
كانت فى مثل سن شهاب أبو على .. أخذوها وعاشت معهم فى الحى وذات فيضان
للنيل
( حتل بها الجاسر)*** . . تأوه شهاب أبو على ورائحة نوار ، تتسرب
الذاكرة
وتملأ خياشيمه .. بعضهم أشاع أنها تاهت فى الصحراء تتبع ( غنم إبليس ) .،
ولم
(يحتل ) بها ( الجاسر ) .. كان يشتم فى نوار ، حكاوى جدته عن الكيرا
..
وحده الذى كان يعلم أن ( الجاسر ) لم (يحتل ) بها ‍‍‍.. وأنها لم تته
فى
الصحراء . قبل أن تختفى كالحلم بأيام ، قالت وعينيها ترحلان الى البعيد :
(
سأرحل ) ، وظنها تعبث ‍... كانت عينا أبو على لا تزالان تتشربان اللوحة .
تردد
ان تكون هى فتاة اللوحة ، بوجهها الطفولى .. العارية إِلا من ورقة التوت ،
التى
يتدلى الخرز من اطرافها . كانت فى اللوحة تتوسط أغصاناً خضراء ، تمتد
لحد
الصخور المتناثرة بين الاشجار ، التى تطل بعيداً عنها مساجد عرفها أهل (
سنار
القديمة) لأول مرة ...
عينيها ببريقهما الناشز والجمر الملتهب من سرتها حتى سرة الجدار ،
المستندة
عليه
نوع من الاشجار ، تتساقط أوراقه خريفاً ، ويخضره فى الفصول الاخرى ، ينمو
فى
غرب السودان ويعتبر فى
عدد من البلدان الافريقية شجرأ مقدساً
** الكيرا : زوجة احمد المعقور الفارس الذى أتى من شمال افريقيا ، ابنة
سلطان
الفور ، بزواج المعقور منها تكونت
شعبة الكنجاره
*** ترعة كبيرة ، كناية عن أنها غاصت فيها .
عليه ، فى الزاويه الاخرى للوحه ، بدأ أناس متحلقين حول النار ، معبأين
بها ،
يلقمونها ( الحراز ) .. يزداد أجيجها ، فيرتلون صلواتهم الحميميه ..
كان
يسمع التراتيل تتسرب من اللوحة فى إيقاع حميم .. تساءل (أترى نمت تلك
النطفة ،
المحملة بنداء البابور وإيقاع الجدول .. أم أن رحم نوار كان مقبرة للغازى
،
المحمل بالقلق و التوتر ، والالق الحار ؟؟ ) ..
تلمس أبوعلى تلافيف الذاكره يثير فى قاعها ملامح الوجه المنسى ؛ ليس
منسباً
تماماً- فقد علق بعنفوان الجُرح البرَي وإحتل ممالكاً بكاملها تمتد من
الذاكرة
حتى أقصى الوريد.. اللوحة الجسد الحى .. صوت ( الجدة ) المنسرب ، المسكون
بغبار
السنوات العجاف .. السنوات المقموعة . الآن .. نوار ، فى الواقع كانت طفله
،
تائهه ( كالقديسة بخيته )* التى باعها تجار الرقيق ، فى سوق الابيض )**
وأصبحت
( سانتا ماريا ) المبجلة فى إيطاليا ؛.. كانت تائهة مثلها تماماً ، لكن مع
سبق
الاصرار والترصد ؛ رحل عنها القطار حاملاً اهلها الى مدن تجيد الخوف ، ولا
تتميز بطعم أو لون أو رائحة ؛؛ وعلى اللوحة تتوسط بيرقاً وجرح وثلاث نجمات
ملونة ، ومثلثاً غائماً دون سواد ؛؛ ، كالمدخنة فى زاوية الجدار ..
آه ، نوار ، زرع ( تاج الدين البهارى )*** شفقه اللامتناهى ..إستنبت الحل
والترحال والحلول ، وتجلى إيقاع طبوله فى ( سنارالقديمه ) فصحى أهل (
تمبكتو
)**** البعيده ، تمدد .. تمدد .. تمدد ولم يتبق من المدد سوى طعم الغبار،
ورائحة العرق الحار، الناشز فى تلك الامسية البعيدة ، المحفوفة بالجمر
واللهيب.. النخلة ، المناظرة للحراز ، المطل على الجدول أعلا الرابيه ..
حين راها أبوعلى فى تلك السنوات ،أحس بأوصال اللوحة التى لم تتخلق - حينها
-
تسرى فى دمه ، بكل عنف تلك الرائحة ، ووجد ذلك الحب المثير النافذ ..
إختزنتها
خلاياه شهيقاً زفيراً... تتنفس ملامحها ، ملتفة برائحة حرازه فى القلب
،عجز (
البهارى ) عن تدجينها تماماً .. (إتكأ عندها المهدى ، عاندته ) هكذا قالت
جدتى
.. ( وهويغوى فكرة ما.) أضافت دون أن تغير ملامحها...ملامح لجسد ممزق
الاشلاء
تتمترس على نوار .. ( أه ، نوار .. صديقة العصافير والطيور المهاجرة .
التى
لاتفتأ تبحث عن وطن جميل ، وفحل لايمل شقوق قدميه المتورمتين ؛ من أى لوزة
قطن
تفتقت ذلك المساء الحنين ؟؛ ومن أى ( شق ) فى الارض ، إنبعثت لتحاصرك -
هذه
الروائح ( بالصندل والخٌمرة وبوخة الطلح والشاف) *****
القديسة بخيتة : إحدى فتيات الفور سرقها تجار الرقيق إبان العهد التركى ـ
المصرى
** الأبيض : إحدى المراكز الأساسية لتجارة الرقيق فى ذلك الزمان ( كردفان
)
*** تاج الدين البهارى : ساهم فى نشر الدين الإسلامى وإدخل التصوف فى سنار
القديمة
**** تمبكًتو : إحدى مراكز الإشعاع الدينى فى حضارات غرب أفريقيا
***** تستخدم نساء السودان حطب أشجار الطلح والشاف لتدخين أجسادهن ( شبيه
بالساونا ) لما له من تأثير جمالى
والخمرة عطر شعبى نفاذ ومثير يستخدم بعد عملية التدخين غالباً ومجملاً
تسمى كل
هذه العملية بالكبريت
لايزال القوادين يبحثون عن أراض لم تغزها روائحك.. لا يزالون يبحثون
يانوار
عن أرحام ، يعبأونها بالشفق ،حرازة فى القلب أنت يانوار ، وليست ثمة وجوه
ملساء
تخرج عن غياهبك لتمارس عهرها العلنى! ) ..
كان الهواء بارداً ذلك المساء وظل الحرازة يتمدد داخلنا ، نراقب الغنم
المبعثره
أسفل الرابيه على مبعده من (قيف)* البحر ، والهواء البارد .. ذلك المساء
ونوار
فى ثوبها الفضفاض، تلتاع الريح ولاتلتاع ! ،ينحسر عن سروالها ( التكة) خطط
أبوعلى الارض أمامه : ( لا، لست امرؤ القيس ، ولا أحب لعبات الملوك وحريم
القصر
! ..)
ـ من منا يبدا اولاً يانوار ؟!..
.. وتلاقت أيدينا فى ذات اللحظة ، ونحن نضع أحجار ( السيجة) فى مربعاتها
الصغيرة ..تشابكت اصابعنا وظللنا صامتين .. كانت الريح تشعل ذرات الجمرفى
الارض
الرطبة ..
تتوغل الخلايا وتمتد الى الخاطر .. و صوتك يرتخى ، يأتى متنهداً ومنهداً
كقلوع
الشاطىء الغربى للنيل .. لم يبارح ( عبدالقيوم )** بوابته أبداً ، كان (
يحملق
) فينا يانوار .. أه ، لم تعد طوابى أم درمان كماهى !..
ـ لتتزوج !..
ولم أكن بأقل وهجا منك أو إنصهار ، حقاً كنا ننتشر على الهواء البارد
المزكوم
بالثغاء والبلل و صوت البابور و خرير الجدول المجنون على ( القيف ) ..
تلمس أبوعلى عطسه المخملى ، توشحت دواخله بمهرجان من الدم و مطر من الرصاص
..
خرج . مشى ، مشى .. تاه بعيداً عن سنار القديمة ، فى الصحراء الموشحة
بالغابات
وآلهة الغنوص.. سخرمن ( محمد عبد الحى وعلى المك )*** وأمدرمان ، وعلى
منعرج
اللوى تناجى و( محمد الواثق )****، وأطل مع الصحراء على البحر .. ليس ثمة
فارس
يقطع الفيافى و الغفار ، براحلته .. ليجدد أكاذيب ألف ليله ، و
تداعيات (ذى
يزن) !..
إنتظر ليكون آخر الراكبين .. كان كل الناس إثنين ، إثنين .. إلاهو ونوار
..

( * )


* قيف : ساحل البحر ** عبد القيوم : أحد حراس بوابات أم درمان فى دولة
المهدية
*** محمد عبد الحى : أحد الشعراء السودانيين الذين أسسوا لمدرسة الغابة
والصحراء ـ على المك : أحد قصاصى هذه المدرسة الذين تركوا بصماتهم واضحة
على
القصة السودانية
**** محمد الواثق : من الشعراء المجيدين الذين إشتهروا بهجاء المدن
السودانية
..لن يقترب ! ، هكذا قرر شهاب أبوعلى . غيَّرَّ رأيه . إقترب . كانت قد
إختفت
خلف شجرة الحراز ، تداعب قطة ، لايهم أمرها أحد ! بعضهم أشاع أنها لصاحب
الكافتريا ، فتقدم منه : (أهى لك ؟! ) ، ولم يشأ صاحب الكافتريا أن يرد ..
إعتقده كحال الطلبة ، يبحث عن مدخل خبيث للحوار ! .. يفاوض بشكل ما لأجل
وجبة ،
تئد حدة الجوع .. (آه ، نوار ، ندير الحوار لأجل ( لٌقمة ) ؟! .. الكوليرا
لاترحم و الجوع كافر ، والدوله لا تستحى ! ..) ..( سنستمر فى مشروعنا حتى
ولوكلفنا ذلك موت ثلٌثى الشعب ..) تلوث الجو بصوت الراديو الوقح ، الذى
أنبعثت
منه روائح الجيف البشرية النافقة .. ولم تجدى المفاوضات .. ( اللعنة
على هذه
العتمه يانوار . . اللعنة ..) ، حينها تلمس شهاب أبوعلى أنفه ، فلم يجده
!! ..
*
غرفة الداخلية الكئيبة ، يتقطر منهاالحزن .. الصرصور الصغيرعلى الأرض
الخربة
، برطوبتها الموحشه ، يبحث عن فتات يوارى به سوأه الأيام ، كما نملة
سٌليمان !
.. ناله الجوع والارهاق ، أضناه البحث تمدد منكفئاً وهو يلفظ أنفاسه
الآخيرة
.. ( القَّمَّرة) التى بداخل شهاب أبوعلى ( خنّقَّت )* طرق أهل سنار
القديمة
الطبول و هم يحرقون وجوه الشعراء المجاذيب ، فى حديقة تنفس اللوحة ،
إستلقت
اللوحه و نامت ( القمرة ) حيث الحرازة التى تطل على الجدول .. تطل على كل
المكان الفارغ من نوار .. تركت الجرذان و الصراصير مواقعها لترحل فى دمه
!
تلمَّسَ أبو على أطرافه ، لم يجدها .. ترك ظله علىالحائط ، أصبح عارياً !
ومضى
زاحفاً !! ...
*
(سلوى ) ياجٌرح دمى ، ياشبه نوار .. " سلوى " ياقلب النار .. أٌغنيك ،
لا..
أٌغنيك ،آه .. الآن .. ) ...
كان الطريق ينكفئ فى شرايين شهاب و الأسفلت ينام على السراب الليلى ، و
صوت
العربات التى تعبر شارع الجامعة لم تتمكن من إبتلاع صوت المغنىالبعيد رفع
حزام
بنطاله بأسنانه وشده أكثر على البطن ! كان المغنى قد أنهى فاصله الأول ،
و
المدعوين لم يتركوا شيئاً ، ليس ثمة كلب ينظف المكان غيرك ياأبوعلى ! و
المكان
نظيف تماماً ! بدأ المغنى فاصله الثانى ، لم يكن شهاب أبوعلى يسمع شيئاً ،
كان
قد فقد أذنيه ! ...
( *)
*تعبير عن ظاهرة خسوف القمر

اللوحة / الجسد الحى اللذين رآهما يتقاطعان فى ذاكرته على إيقاع الحراز
حين تمر
عبره الريح ، ظله ، يتهيجان الآن فى داخله وظله لايزال معلقاً على مشجب
الملابس ! تساّل : ( أغياب عن الذاكرة ، أم ذاكرة للغياب ؟!) حاول أن
يعد
لنفسه حلماً بديلاً ، حيث هو ليس هو .. هو الحلم الذى يتقاطع بعيداً على
اللوحة
التى أرتسمت فى الذاكرة وتبدت بعد سنوات عن أنثى تحمل قسماتها .. تلك سلوى
تتوغل الدم وترحل بعيداً فى الوريد .. حاول ان يأخذ حصته من اللوحة ،
استدراراً
، فكانت نوار تتبدى عن مدينة ساحرة ( برواكيبها )* وأسواقها الشعبية
التاريخية
، بباعتها المتجولين ولصوصها الرائعين ! مدينه غامضه بقطاع طرقها وشفتتها
،
الذين بوعى ( الهمباته )** قال عادل : ( أعطنى وطن لأعطيه الضريبه !..) ثم
أضاف
( حيث أننا فى أى مكان هنا ، فاِننا فى القاع ...) .. وحمل عادل دفاتره
ومضى
كالمهاجر . سالت ذاكرة شهاب ابو على تملأ فراغات المكان المخبأ فى تفاصيل
الوجوه الملساء ، الناعمه والشاحبه ، المتكومه ، المتعثره والمبعثره ..
إمتلأ
الفراغ بصوت صامت غير مسموع ..كان هتافاً سرياً ، محزوماً من سرته بحزام
البنطال المهترئ .. وفم شهاب مختبئ فى مكان ما .. لم يستطيع ان يسأل : (
هل رأى
احدكم فمى ؟!!)…
( * )
سأل الفنانه التشكيليه :- ما إسم هذه اللوحه؟!
-نوار .. نوار ذاكرة الحراز البّرى ..
- لماذا لا تكون ذاكرة للحراز المقدس ؟!
- اتريدها كذلك يا ابو على ..
- ابو على ؟! كيف عرفت اسمى ؟!..
- انت تعيش فى دمى ، انت دائماُ معى يا حبيبى .
كان ابو على ينتظر متاّكلاً بالفضول والصدأ يتفتت عن وجه نوار .. العرب (
طلقو)*** البهائم فى ( الجروف )**** .. البحر ( نزل )***** .. نوار تجلس
قربه
( سارحل !) ولم يهتم .. فاض النيل بعدها بشكل مفاجئ ، مخترقاً قوانين المد
و
الجذر ! . قالوا ( البحر بشيل عواموا !..)****** (حَتّلَ بها الجاسر ..(
عِرق
البحر)******* مافى زولاً يقاومو، خلّها المرّه ..الجاسر غدار!...) وسلوى
كانت
تعلم الحقيقه.. ( "الشاف" ******** تباريح الطلح فى النار شافنى مرقت من
عندك
ضرير أرجينى يانوار ..) ،
*الرواكيب تعبير يطلق على العشش (عشه) : Shelter
**الهمباته هم الفرسان الذين ينهبون عنوه
*** اطلقوا **** الاراضى التى تروى فيضياً ***** انحسر
****** كناية عن ان : ( لايقع إلا الشاطر ) ******* الدوامه ********
نوع
من الاشجار
******** الذى رآنى
( سأرحل ! ) وبحث عنها رجال الانقاذ البحرى ، و ( السمَّاكه ) كثيراً ،
كان
ابوعلى يدرك أن ليس ثمة أمل ،قالت سترحل ، ولم يعر الامر إهتمام .. لم
يصدق أن
تتركه للوحده و الشوق والعذاب ! ..غاص ابوعلى فى تفاصيل اللوحه
ومضى ..
أصبح منذها غير موجود ، إلا فى الخاطر !..
******
لم تكن ( كيرا) مثل (نوار) أو سلوى ، فى كل شىء .. كانت كيرا سليله
للسلاطين
والملوك . عندما تتكلم يحلق (الوِّزين ) و (الغارنوق)* مظللا أرض الوادى
وعندما
ترقص فى الاحتفالات التى تؤمها كل الشعوب ، تسلب اولاد القبائل لبهم ،
وتنشب
الحروب ويموت فى ذلك اليوم الف فارس . جمالها البّرى ، البرئ ، حطم افئدة
شباب
الوادى . لم تكن كيرا تبالى بالاعجاب الذى تراه فى عيونهم ، كانت كنوار ،
كأنها
تنتظر عاشقاً ما ، من بلاد ما ، لاشئ فيها غير العشق والعشاق . الى ان اتى
ذلك
الفتى ذو الساق الواحده على ظهر ناقته الشهباء ، من شمال افريقيا ،
متقدماً
الزحف الكسوفرى بثلاث ليال ونهار ، حينها لم يكن الغسق بعد قد القى بظلاله
التفاحيه على اهداب الوادى المحاصر بجوارى كيرا والتى توستطهم وهى تستحم ،
اناخ
الفارس المعقور ناقته الشهباء خلف قوز "الدخن "** ومستنداً على رمحه مضى
فى
قفزات صغيره .. اختبأ عند دغل فى شفة الوادى ، واخذ يرقب جسد كيرا ، فى
اندياح
المياه ... كان مسحوراً ، هو الذى خبرته صحارى شمال افريقيا بسباسبها و
وهادها
، وادمن حب الهلاليات والعامريات ، وخاض لاجلهن المعارك الطوال ، والحروب
الضروسه،حتى عقرت ساقه ! لكن لم يسحر كما الان ! كان جمال الكيرا نبوياً ،
برياً ، بريئاً وساحراً ..وناعماً مثل الحرير ..بدأ جسدها الملفوف معبراً
عن
تمرد لذيذ وعنفوان كشلالات المياه .. ارتدت الكيرا وصوحيباتها حليهم
الخرزيه
والعاجيه وسوين من " السعف " و "الودع" و "الاصداف " حول خصورهن وتعطرن
بالريحان البّرى ومضين بين "الجناين " ميممات شطر " الحله" ، وفى منتصف
الدرب
المحاصر على ضفتيه بالأشجار و الزروع ، برز ذلك الفارس المعقور للكيرا ،
دهشت و
صويحباتها للحظه كأنهن شاهدن نفراً من الجن ، ومن ثم جرى الحديث متسائلاً
، ثم
مستفسراً ، فمستجياً وتحول الى وجد ملتهب ،سار بصيته الركبان
! ومع ذلك لم يجرؤ الركبان ولم تجرؤ جوارى (الكيرا) على اذاعته؟! فظل
سريا،
حميما…
ولم تجرؤ تلك العرافه (الحيزبون) (الميرم)*** على مجرد التلميح به، الا
اذا
شاءت الكيرا نفسها.. كان سرا شائعا ، لكنه سريا تماما !الجميع يعرفونه ،
ولايجرؤن على مجرد الهمس به ! فلا أحد يستطيع القول (أن بنت السلطان
عزباء).
*طائر
**نوع من الذرة الرفيعة
*** تعني أميرة في لغة الفور
تلاشى صوت (الجدة ) فى فضاء الاحداث ، وابو على لايقوى على استرداد بصره
من
الشارع الذى يغلى كمرجل ..تتناثر الاقاويل عن الاتين شرقا،عفونة القائم
ونتانته
يزكمان الانوف !! وشبح رهن القرار ماثلا.. القرار المرهون منذ الغزو
التركى
المصرى ...
الذين يهيئون انفسهم لبحث عن وطن بديل يتلمظون شفاههم اليابسه .. بائعات
الشاى
،(الفول
المدمس)* و (التسالى)** واشياء اخرى ؟!!.. المتسولين ، صبية الورنيش ،
باعة
الماء
والمشردون يملأون الطرقات !.. كل يحمل فى دواخله جرحاً عميق الغور ،يزكيه
عواء
البطن الخاويه الا من مرارة الايام . الشباب المتجهين جنوبًا وشرقاً ،
ببدلاتهم (الكاكية) يحدقون فى شارع النيل بنظرات كابيه ، والمجروس الذى
يقلهم
يبتعد . المسافه تثوى داخلهم كل املٍ آت ، او حلم جميل مرتقب !.. شارع
الجامعه
مكتظ بالذين يرتدون طاقيات الاخفاء ، يتتبعون النبض منذ مطلع الغد المخبـأ
بين
تلافيف (الجلابيب) حتى غياب الامس الملتحى ! و الذين فى (بيوت
الاشباح)***
وغرف التوقيف السريه ، لايزالون يعانون عذابات الدرك الأسفل ، الجماجم
اسيجه
للأجساد المكتنزه وصهيد افخاذ الارامل ،المترع بالأسى ،يغذى الوجع
الخرافى.
والعمارات التى لاتزال تسمق والهاربين من الأرياف البعيده ، تزداد أعدادهم
،
ينافسون اهل المدن على بيوت (الشوالات) والقش والصفيح ! المخدرات والخمر
فوق
سن العاشره حتى القبر ! ...
ردت سلوى بصرها من شارع النيل الى الداخل ، بدت لها مبان الجامعه كأشباح
تلتهم
كل شئ ، فالداخل اليها مفقود والخارج منها مولود ! الحرائق الروتين ،الذى
يقوم
به الطلاب و معارك السيخ والملتوف والاعداد التى تتناقص بعد كل معركه !
كافتريا اقتصاد امتلأت بالمهووسين وقراصنة الاخلاق !.. الجداريات السياسيه
التى
تحمل سطورها رنة الغضب العارم ، والأخرى الصفراء الباهته ..
شبح والدى يتسلل من الفراغ المحيط ، من بين سطور الجداريات يحاصرنى صوته
المهيب
(..وبنيت بلدة فى الصحراء ، واصبح الناس يدعوننى بالكلس ، لانتمائى لهذه
الصحراء ..فى هذه الصحراء تعرفت على امك التى قدمت تتبع ضوء إلاهها
(دينج)****
و تحلم بمجد شعب (اللَّوَّة العظيم )***** ! وتزوجنا بعد حب عنيف ،أنا
(المندكور الكلس)****** و(هيلدا) سليلة اللوة ، التى قبلتنى حبيباً وبعلاً
..
لم ارحل الى الصحراء ياسلوى الا بعد ان ضاقت المدينه بى ،واحالت حياتى
وحياة
الناس ، كل الناس شقاءً وضجر
*الفول المحمص ** حب البطيخ المقلى فى النار *** كناية عن غرف التعذيب
**** من آلهة القبائل الجنوبية ***** اللوه هو الشعب الأم الذى إنحدرت
منه
قبائل الجنوب
****** كناية عن الرجل الشجاع المقدام

.. كنت اول من قطن الصحراء ولم اكن اتوقع أن ثمة من يحذو حذوى ، وأن بلدة
ستنهض
هنا تبعث من ركام التاريخ البائد ، لكن لم تستمر هذه البلده ياسلوى ،
فوجئنا
بليل أليل ، أنفق الناس والبهايم ، وازال بلدتك ، بلدة عتام ، بلدة
الكلَّس عن
سطح الوجود .. ولم يتم العثور علَّى ، ولا على هيلدا .. كانت الإذاعات
والصحف
اليومية ، تتصدرها اخبارنا ، التى تختم بمكافئات مغرية لمن يعثر علينا
..
وكان ذاك موسم العسس والمخبرين العاطلين عن العمل ، سعوا للقبض علينا
احياء
أوأموات .. الكلَّس ياسلوى لم يكن ارهابياً يقود الاف المتمردين كما زعمت
وسائل
الاعلام ، وليس ثمة علاقة ما لبلدتى التى كونها النازحين من السل و
الكوليرا و
الجفاف و التصحر و الحروب -بمخابرات أجنبية .. ومع ذلك يؤكدون حصولهم على
معلومات تؤكد انتماء زوجتى للمنظمات سريه مخربه ، تشرف عليها إحدى
السفارات
؟!.. أختفيت .. وأختصت هيلدا إختفيت فى تلك الصحراء الممتده وتلاشيت فى
زاكراتها البائده ...)
- سلوى ، سلوى .. قلت لكل أجلسى و لم أقل أصمتى ..
_ ماذا بك ؟!..
إنتفضت كالملدوغه :
- آسفه ياأبوعلى .. لاأدرى لماذا يحدث لى ذلك ؟!
- ماالذى يحدث
رمقته بنظره غامضه ، إحتوته لبرهه ، ثم تراجعت ..
لاشئ ، لاتهتم .. ماذا بعد أن جلسنا ؟! ..
همس أبوعلى وهو يسترد بصره :
- هذا الخريف ولادًة قسرية !
فضحكت :- ربما تكون له علاقه بالعاهات النفسية ...
لم يقل لها أن سلمى زميله فى ألGROUB لاتتبدل حالها إلاخريفاً ، ولم
يحدثها
عن نساء الحى فى مدينته أولئك المصابات بالانفصام خريفاً ! .. ولا كيف
أيقظه
عادل فى الثالثة
صباحاً فقط ليقول له ( صباح الخير !) ثم تسلق سريره ألـ DUBLE BED مرة
أخرى
وأستلقى دون أن يضيف شيئاً! من غيرالعادى أن تكون طبيعياً فى الداخليه ،
ملأ
عينيه بوجهها الصافى ، شعرها الأسود ، شفتيها المعبأتين بالندى و الغسق ،
ساقيها الملفوفتين ـ اللتين تبدتا من “ شِق ” الإسكيرت الجينز ـ
الممتلئتين
طلحاً و مرمر ! صدرهاالعامر بحطام قياثير المدن الولهى ، الملتهبة ،
واّخرالعاشقين من ؟!.. وليس ثمة نيرون .. شعر بها تحاول اخفاء الاثواءات
التى
خلفتها ايحاءاته. تهدج صوته :
المراهقات ايضاً تزداد مفازاتهن ظمأ حين تهطل اول مطرة ، هكذا تزوجنا انا
ونوار
...
اسبلت عينيها فى حياء انثوى ، شقى ، مُلهِب ولم تنظر الى وجهه مباشرة ...
ثمة
حريق يعم أعماقه ، كان يؤمن ان اجمل ما فى الشعر العربى ، جاهله ..
ـ اصبح العرب عباقره لأنهم وعوا سلطة الجسد يا سلوى وعصر النهضه الاوروبيه
،
كذلك بدأ من هناك ...
ـ لاأعرف كيف هى هكذا المقارنه ؟ !
حدثها عن الحراز و علاقته بالمطر ...
ـ لماذا تجف أغصانه و يصاب باليباس خريفاً ! هل “ يعاف “ المطر ، أم هو
ثقب
الأوزون ! ؟ …
. . للأمر علاقه بالجغرافيا . و للجغرافيا علاقه بالجسد ياسلوى ، علاقه
بالأساطير والأديان ، ولكل ذلك علاقه “ بالابستيم “ ليست المسأله عولمة
مجردة ،
أو إعادة إنتاج لمقولات الدفاع عن العالم الحروماهى طبيعة إنعتاقنا ، و
كيف ،
ولماذا ؟
***
احس ابوعلى انه يشارف على القاء قصيده ثوريه ، كعادته ..شاهد فى عينيها
شيئا
هجينا ما بين امرؤ القيس و محمد عبدالحى ..لم تنكفى نظراتها ..تمعنت وجهه
المكدود حاولت ان ترى فيه تنبؤات الوداعيات ،عن غدٍ ليس بناظره قريب ،وليس
كالامس المرتقب!..
تسللت كلماته إلى قلبهاالمشروخ ، تعالج فيه الحزن .. زوجتها أمها لأول
قادم
التهمت السنون عمره ،لكن فى جيبه تتناسل الدنانير ، محتضنة (أب صلعة)*..
الفقر
لا يرحم والايام موجعة ، والذكريات أليمه (وقعاد البت بعد البلوغ ، يوورث
الفقر
الابدى ) هكذا حسمت امها الامر .. (الدنانير فتوه وشباب ، والعريس هرم ،
أيام
قليلة ويغيب فى الضباب السماوى الاخير .. ! ) ، فتزوجت سلوى من الحاج عباس
،
يومها ولجت عليهم نوار الدار ، وكانت تلك هى المره الثانيه التى تلتقيها
..
رقصت نوار مع العروس كما لم ترقص فتاة من قبل ! كانت تدور حول نفسها ..
تبسط
يديها ، تثينها .. تثنى ساقيها وتمد عجيزتها ، ثم تحسرها وعلى الأرض تنتظم
دقات
قدميها فى إيقاع مقلق ، موتر .كان رقصاً غريباً لدرجة الجنون ، بدائياً
ومتوحشاً سافراً .. وكانت سلوى تردعلى الايقاع بايقاع منتظم .يملئوها
الاحساس
بأنها مقبله على حياه بردها موجع وفراشها موحش ! .. وهى تطأ باب دارها
الجديده
ودعتها نوار بعد أن أعطتها وصيتها الاخيره للذى تركته عند (مفرق البحر
والجاسر)
لحظتها عرفت نوار اكثر ، وحفظت حكايتها عن ظهر قلب ، وتعرفت شهاب أبوعلى
كانها
تراه أمامها !.. ولم يتحقق لها الدفء مع الزوج الهشيم .. كان الفراش
كئيباً
كليال
* الدولار الذى يحمل صورة جورج واشنطن


الخبز الحاف ، وجافاً كوجه حاج عباس الشائخ ! ..والنساء اللائى سباهن (بنى
جرار
)*
كن مأزومات من مداعبات العبيد الخصيان ، مستثارات .. يقول (طنير)* * :
حليل البنيه ( أم أحمد ) العديله قومتها
كيف شارك اللحاية شابله ضفيرتها
ناس فسيخه وناس فسيخه مامن جماعتها
عيل زولايوقد النار ويدفأ حارتها***
بحجم إثارة الكشج والمأكمة لمشاعر أبوعلى توغل صوته المنفعل متداعياً
كطوابى
الشاطىء
الغربى ـ أمدرمان .. وهو يستفز دواخل سلوى لتحكى عن تلك السنوات .. فى تلك
اللحظة دفق والق .. أستردت الخرطوم . إنها سلطة الجسد ككتائب الجيش المحنك
..
ـ أترين تلك العصفورة ؟ أنها تبحث عن عصفور . .
ـ الطيور تتكاثر خريفاً !
ـ حكمته بالغة ‍‍‍‍‍‍!
ـ ماذا لو أصبحنا عصافير ؟‍‍‍
ـ الناس ؟!
ـ قالت نوار ، سيدها الشيخ ..
ـ لا ، الانسان سيد كل شىء فى الكون ..
ـ صعب أن تتسيد على الاخرين . .
ـ لانهم سادة انفسهم ‍
(مسته فى هاجسه الاساس ) ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
ـ انظرى ، القرامطة ، كلفتهم سيادة أنفسهم عشرين عاماً من الحصار!
ـ ماذا تعنى ؟
ـ أقصد أنهم ،فعلوا مثل الكلس ، والدك ، تماماً .. لم يتنازلوا عن تصورهم
للعالم والحياة والناس ، قاوموا التصورات البديلة ..
ـ وهل كان تصورهم صحيح ؟
ـ إنه السؤال مرة أخرى ،هل كان الكلس على حق ،ليس لذلك أهميه ، المهم أن
ثمة
رؤية خاصه ..اّه ، تباً‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍..


* احدى القبائل العربية التى تنتمى الى فزاره وذبيان ، تسكن فى كردفان
والنيل
الابي ** طنير : أحد فرسانهم الاشاوس فى زمن الاتراك
*** كنى محبوبته بأم أحمد كدلالاة عن حسن المعتد والشرف وتحدث عن كونها
لاتصادق
سوى اللائى يماثانها فى شرفها الرفيع وجمالها وقال أنها لاتحب إلا الفرسان
المغاور
بلهفة :
ـ مابك ؟
ـ صداع ؟
مسدت علىجبينه برفق ، إنه الارهاق .. عادل قال إنك ترهق نفسك كثيراً...
بارتياح :
ـ لقد شفيت ، أناملك الرقيقه بلسم لكل جراحات العمر ياسلوى..
تخضب وجهها كمراهقة صغيره ،
ـ العمر فقط ؟
قالت بهمس ، فاجاب فى إقتضاب :
ـ بل حتى جراحات التاريخ والذكرى الاليمه .. ونوار والاشياء ...
كان الحديث وعراً . ينحسر ويفيض عن ليل أليل وقمر لا يغيب ونافذة واحده
للعشق
و الجنون ، وأخرى للرماد و الغبار و الصدأ ..
هبط عادل فجأه :
ـ ألازلتما تجلسان ؟
ـ أيضايقك هذا ! ..
وألتفت عادل إلى سلوى :
ـ صديقى رائع أليس كذلك ؟ !
ـ هو كذلك ..
كانت سلوى قد بدأت تتماسك فى دواخلها .. أهدابها المرتخية ، تشبثت بالجفن
تماماً .. نظر عادل باتجاه شهاب ، أبوعلى ، فقال الآخير :
ـ نعرف بعضنا منذ زمن طويل ياعادل ، كم هو رائع .
الوقت حين تنتزع لحظاته الجميلة من بين أفواه الذئاب .. أولاد الأفاعى !!
.
لم يفهم عادل شيئاً ، أطل خبث خفى من عينيه العميقتين ، اللتين أصرتا على
أن
تعيدان أبوعلى إلى تلك اللحظات المشحونه بالتوتر و القلق و السٌهاد ، ..
عندما
عاد إلى مدينته فى إحدى تلك الاجازات البعيده ، نهض ليلاً و نزوة حاده
تتحكم فى
كيانه ، كادت تلقيه خلف حائط الجيران ، فىاللحظة الآخيرة ، تماسك . و تأكد
أنهم
سيعتقدونه لصاً و ستضحك فيه إبنتهم العاهره سعاد ذات الثمانيه عشر ربيعاً
، بكل
ما تخبىء من شماتة ، فهى الوحيده التى كانت تدرك حقيقة الأمر.. اللعينة
أثارته
نهاراً و مضت . كانت تدرك انه ينام قرب الجدار الفاصل بين بيتيهما من
الداخل ،
وهو يعلم أنها تنام فى المكان المقابل له تماماً ، لكم تمنى مراراً أن
تقفزإليه
بعد أن ينام الجميع ! . لكنها لم تفعل ذلك أبداً ، بل ظلت ترفع صوتها ،
ضاحكة ،
ذالك المساء . ثم نامت بعد أن أعتقدت أنه لا يسمع ضحكها وتحرشاتها
الموحية
والادعى للخلاعة ، فى حديثها الذى تتجاذبه و أسرتها ..( كيف أنام أيتها
اللعينه
، وقد اطلقت شياطين الجحيم فى دمى ! ) أنه يعلم مدى ظمأها وهى تعانى وحشة
الفراش الخاوى ، وبوح الخريف، بل يكاد يسمع تقلبها كأنها على السجيل !
إنتظرها
صباح اليوم التالى على الباب .. و تعمدت اللعينه الإكثار من الخروج و
الدخول و
هى تنظر إليه بخبث دون أن تعطيه فرصه للبوح ! فى تلك اليله تبول على
الجدار .
رأى فتات القلب و النخاع الشوكى يتكوم ، لزجاً و البول لايقوى على فت
تماسكه
الصلصال .. تنهد بحرقه .. ( كان ذلك سيبلل غياهبك ، أيتها الشبقه الصغيره
! ) و
تراجع عن التغوط ، لكنه رمى ( بسفة تمباك )* وهو يتخيل موضع سريرها ، أحس
بها
تقصد تعميق الحرمان داخله و تقتل فيه حلم أن يكون رحالاً ، كل
الأوطان ، وطناً له ، يستند عليها وتتكئ داخله ، جرجر شهاب أذيال خيبته
ميمماً
وجهه شطر " النجار " الذى يقابل دكانه ، بيتهم ، حيث يجلس عم "محمد أحمد "
العجوز المتقاعد تحت ظل " النيمه "** منذ سنوات ، كانت حياة "محمد أحمد "
فى
شبابه حافله بليال الأنس الحمراء و الخضراء والبنفسجيه ، ألخ .. ليس ثمة
شئ
يتعين عليه فعله ، كفحل زنديق و لم يفعله ، وها هو الآن وحيداً ، معبأ
بالنسيان
وأمراض الشيخوخة ،يهتاج أحياناً عندما تغمز اليه سعاد بعينيها ، لوكان
متزوجاً
لكانت صغرى حفيداته فى سن سعاد تأوه محمد أحمد و هو يرد على تحية ابوعلى
الفاتره ..
إنتشله عادل :
ـ أين أنت ياأبوعلى
إنتفض شهاب :
ـ ها !! .. ماذا هناك !! ؟ ..
ـ كنت أقول أن سلوى تعرفك قبل أن تلتقيك .. أين كٌنت ؟ ! ..
ـ أنا هنا .هذا صحيح ، إنها رائعه ، رائعه .. أعرفها منذ زمن بعيد .. قبل
أن
يستسلم المقدوم مسلم** لخيول الترك ، بزمن بعيد
وأردف أبوعلى : ـ أين نهى خطيبتك ؟ !
لم يكن ثمة شئ يعنيه . . ولم يشأ أن يقول له " حبيبتك " .
ـ تركتها سلوى فى البيت " معرفه قديمه "
ـ ألاتٌسمعنا قصيدتك الآخيرة ..
خدر شفيف سرى فى جسدها ، ووجهها يتلوّن بلون التفاح ..
*سفة تمباك : عجين نبات العمارى المخدر توضع أسفل الشة السفلى، أشبه
بالقات
اليمنى
* النيم : من أوائل الأشجار الظلية التى أدخلها الإنجليز من الهند للسودان
** المقدوم مسلم : حاكم كردفان قبل الغزو التركى ـ المصرى
ـ اننى " شاعر بالأزمة " ! ..
ـ ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ـ مفجوع ! ..
ـ السياسه اللعينه ، الأزمه هنا ! لايهم احداث إنقلاب سياسى بقدر مايهم
أن
يسبقه إنقلاب على مستوى الفكر و المفاهيم ، ألخ .. هأ
،
هاى ...
أضاف بحزن :
ـ سأحاول قتل الشعر و الفجيعه داخلى ..
إستردت سلوى نفسها من براثن لوعتها ، خلصت تماسكها :
ـ لماذا ؟ !
لم يجب ..
ـ لن تستطيع !
ـ لماذا ؟ ! ..
ـ لأنهما قدرك الذى أفقدك نوار .. إنها مرض مزمن ، وجميل لحد الوجع ..
كالحب تماماً !..
هتف عادل :
ـ لم تقولا تفضل !
ردت سلوى بهدوء:
ـ كيف ونحن ضيوفك!
كان أبوعلى قد إنسرب مرة أخرى ، بعيداً عنهما ..غزته مدينته و هى تسحب
شريط
الزمن للخلف .. توقف مرة أخرى فى إجازته الأخيرة ، بعد آخر اعتقال .. أيام
الثانوى: الوقوف دون قيود تحت المظلات وعلى الكبارى ، الجلوس عند بائعات
الشاى
فى سوق (الملجة)* والذهاب المستمر فى تفاصيل نوار ،حيث الدفء والألق
والمظاهرات
المرتجلة.. تأوه أبوعلى بعمق ينم عن حسرة حرون: ليس ثمة وطن حنون وإمرأه
رائعة
،إلاك .. برغم تغير الزمن .. الى ان أصبح للمدينة طعم مركب.. حسام الأعرج
جارهم
فى الحي ، أستطاع آخيراً إقتناص اللص الذى قض مضجع الأهالى لسنوات عديدة ،
بتوصيلة الكهرباء (الارضى) ، الى الشباك .. لكن هذا الحادث لم يثر اهتمامه
بقدر
ما أثارته حادثة الشاب عابدين ، الذى غزا آحد الاحياء ، المنزويه فى قاع
المدينه ، وسبى ( زينة) على طريقة بنى جرار التاريخية و هو يهتف :
* الملجة : سوق شعبى كبير للخضر والفاكهة واللحوم
بِنْشْلْ الليل عَلَّى كُرعَيَّا *
شراب الأمريكان حَمَّرْ قُدودْ عِينَّياَّ
مارِيَقَة أَمْ كَّيفِّه للآخرْا فى إِيديَّا
كَسْرْ الكْسَفرِيْتْ قَلَّع مَضَافْرْ إِيديَّا**
(زينه ) المراهقه ، التى لم تبلغ السادسة عشره بعد ! أطلقت الشرطه سراحه
بعد أن
أقرت المراهقه ، أنها ذهبت معه بمحض إرادتها !؟ .. مضت عشره أيام من
الاجازه ،
فشارك فىدفن سبعه ممن ماتوا بسؤ التغذيه ! .. كان الحى رمادياً ، كئيبا ،
لم
يعرف طعم الحفلات البهيجه منذ أعوام عدة ، الجميع يعيشون ليأكلوا ، لاأحد
ياكل
ليعيش ! !!.. القطارات المتوكئه لاتزال تئن ،و المسافرون بلا أشواق أو
أحلام
.. لا أحد يشتاق لاأحد فى زمن مصادرة الحلم ( هذه المدينه تخلو من
المؤمنين !!
تفوعليك زمن !) .. الشجيرات صبأت ، والطريق أختفى خلف الحفر ، والبحر الذى
يحيط
المدينه كإسورة ، دون معصم ،
بلا نافذه ، تٌهئ للبواخر أن تطل، لتندفق شحنات المشاعر أو حفنات الأحلام
..
البواخر نسيت طريقها نحو الجنوب ! الجميع هنا يسافرون فقط و لاأحد يعود
!..الشوارع نفسها ما عادت تتذكر سوى الصراصيروالفئران والجراد..الأزقة
والحوارى
(تغابت العرفة فىساكنيها)*** وجحافل الغرباء تعلق شارات الانتماء لبلدة
عاهرة
،كعلامات المرور ، والمرابون يملأون الطرقات ، يشرعون ألسنة الإرهاب
الفكرى!..
إنه زقاق التاريخ ‍‍?‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! الصينيون الذين يعملون فى إعمار
الجامعات المزعومة ، يتكلمون العربية بطلاقة ، ولا تستطيع الاساءه
لامهاتهم "
بالدارجة " دون ان يفهموا ! !.. أشياء مريبة يقتل الصمت ، من لا يرغبون
إثارتها!.. سألت سلوى :
ـ ألم يحن موعد الثورة بعد؟ !
هى الارض، تسأل والجميع أضعف من أن يصنعوا ثورة .. منهمكون فى مناقشة
وضعياتهم
، والغنائم والاسلاب .. لايزال الأفق الاقطاعى فاعلاً ، والعالم قرية
صغيرة
وتاج الدين البهارى
يراقب المعارك المسلحه باللحى والظلام والجنون .. قال عادل مداعباً ،بأسى
:
ـ أسألى الاستاذ ..
( كانت نظراتها يملؤهما الحزن لم أشأ أن أكرر ذلك الكلام الممجوج عن جدل
الذاتى
والموضوعى وعلم الثورة ، لم أشأ أن أكرر هذا الهراء ..)
* للشاعر طنير ** كناية عن السهر والتوتر والقلق الذى يجعله يمشى فى الليل
محمر
العينين ، أثر الخمر . . عندما يشعل عود الثقاب للتدخين يشعله من أظافره
حتى
تخلعتا *** كناية عن عدم الإهتمام
ـ الثورة بأى مكان ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍
نظرا إليه واجمين ، وتذكر هو كيف كان يتكلم يملؤه الحماس فى الذكرى
العاشره (
لثوره أبريل المجيد) * والطلاب بعضهم مشدود معه ، والبعض الاخر كان
منداحاً مع
حبيبته ،
التى تجالسه ، انوثتها ، هتأفاً ، تظاهرة عرمرم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ لم
يأبه
لشىء .. عندما أنهى خطابه بصق على منصة (النشاط) ** فهو لا يستطيع أن
يتبول
هنا‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍ لكنه قذف (بسفة) تمباك ، كانت تختبىء اسفل شفته العليا ،
رحل
بعدها لقضاء (حاجته) وقضاء الاجازه ، بعيداً عن هنا‍‍. . أشتاق لتداعيات
الماضى
، ودفء نوار البعيده والجدول والبابور
ـ منذ خرجت من المعتقل وأنت لست أنت يأ آبوعلى ‍‍‍‍؟
ـ كانت نوار معى دائماً ، تلقمنى الدفء والصمود ..
ـ إنك وفى للتنظيم ..
ـ لم أصمد لأجل التنظيم .. فقط قيم الرجولة
ـ ماذا تعنى ؟ ..
ـ أعنى أننى كنت أميناً مع نفسى ، وهكذا سأظل .. هل تريد أن تحللنى
(بالكوانتم)
أم (التشظى) ها .. أم الجدل التاريخى ؟...
ـ يبدو انك مرهق ياابوعلى ...
( آه ،عادل .. أيها المتأبلس ، لماذا تنظر إلى هكذا ...كانك تعرفنى لاول
مره
إذهب كما أنت وجهك يلعن قفاك)*** .. كانت الكافتيريا قد خلت تقريباً إلا
من
ثلاثتهم نظر عادل إلى ساعته ..
ـ المحاضره الثانيه ، سأدخل .. لوأتت نهى ياسلوى قولى لها أننى بإنتظارها
قرب
شجرة (الاركان )****.. وأنت يأ أبوعلى ، الذى فاتك كثير ، يجب أن تلتفت
(لأكاديمياتك) قليلا ، إنها السنة الاخيرة يارجل ..
رد أبوعلى بجفاء :
ـ لست بحاجه لان يقرر لى الاخرون الامور
انصرف عادل لا مبالياً و احتدت سلوى بتلقائيه :
ـ لماذا كنت جافاً معه ..
* إنتفاضة 6 أبريل المجيدة 1985 م ** المكان الذى يمارس فيه الطلاب
أنشطتهم
الثقافية والسياسية والفكرية والإبداعية
*** كناية عن " خالى الوفاض "
**** مكان الخطاب السياسى ,, الركن ,,


ـ ربما أن أعصابى تعبانه .. آسف ، لاتزال نوار تلاحقنى .. انه لا يشعر
بذلك
.. لا أحد يشعر .. ثمة أسوار عاليه تفصلنى عن الجميع ، و فى ذات الوقت
تصهرنى
فيهم ..
ـ ...
ـ لا أدرى ! ؟ ! .. لا أدرى ..
ـ هذا لايبرر جفافَك تجاهه ..
بحده :
ـ أعرفه أكثر منك ..
ـ أنا ..
هدأ قليلاً ، همس :
ـ أنت نوار ، تلك الآتيه من فلاة الكلَّس ! .. من شقوق الأرض وبيوت الصفيح
..
لاتشغلى نفسك بعادل ، فقد أعادت له نهى توازنه .. ليس ثمة من يستطيع
ازعاجه
غيرها ، مهما
كان جافاً و قاسياً معه ..
ـ ماذا تعنى " بأعادت له توازنه " ؟ !
ـ خدعته احدى الفتيات اللائى ينتمين لمن يمشون خلف الآخرين منذ مطلع
الأمس حتى
.. أحبها بجنون ، كانت " ملظلظة " مثل تلك التى خدعت "بيريا" بعد وفاة
"ستالين
" ومثلما كانت تلك من ضواحى موسكو كانت هذه ، من ضواحى أمدرمان .. عندما
أكتشفها عادل ، كان قد بدأ الدخول فىمرحلةالأزمه وبدأنا فى مرحلة تغيير
هيكله و
مؤسسات التنظيم فى الجامعة .. لم تخرجه من أزمته سوى نٌهى .. هى نفسها
لاتعلم
بأمر خديعته ، كالعادة العقائديه فى التكتم .. لاأحد يعلم سوى من يهمهم
الأمر !
ـ لماذا تخبرنى ذلك ؟ !
ـ لأنك أولاً نوار ، ثانياً أنت التى سألت و ثالثاً ..
قاطعته :
ـ لديك طريقه غريبه فى الاقناع ..
ـ . . . . . . . . .
ـ سلوى ...
( و رحل أبوعلى كعادته فى شروده الازلى .. كل لحظة دفء يختلسها ، يٌطل
عليه من
فجاج اللهب و الحريق وجه خالد الزاوى فى النار .. تأوه .. )
ـ هاأنت مرة أخرى تتذكر خالد .. إنها صدمه ..
ـ أنا لم أنسه لأتذكره ، ثم ماذا تعنين "بصدمة" !..
ـ لاأعنى شيئاً ..
قال بصوت عميق :
ـ كان يقسو على خالد كثيراً ..
وسحبته الدوامه العميقه للصوت ..سحبته الى ذلك المساء الذى تلى خروجه من
مدينة
العسس بأيام ،قال عبدالله متوتراً :
ـ كان خالد الفتى القزحى .. يشكل فى دواخلى وطن بكل عذابات الغربة
والنفى..
فى ذلك المساء ،المشعث بالحرارة ولج عبدالله ، عادل و محمود .. غرفتى
،التى
كانت لى و خالد .. كانت كما هى منذ فارقتها بجدرانها التى تزينت بعبارات
على
نسق " احذر اللمس، كل شئ قابل للانفجار ! " كان عبدالله بذات حقيبته
البنيه
العطنه " أو ميغا " ، تحدثنا كثيراً عن المعتقل والمعتقلين ، وايقاع
الحياه
الذى يلتهم الاحساس بالاشياء كما هى !.. كان كلٌ يبحث عن شئ ما فى داخله ،
يود
لويوصله للاخر ويستريح ... شئ ما يلمع فى ثمانية عيون ، لا تميز فيها سوى
الحزن
، شئ غير المجهول ، كتمت احساسى ولم أستكنه عبدالله ليكون liberty of
indifference كما كان يحب الفتى القزحى ان يٌعبر لو كان موجوداً .. أحسست
بشئ
ما محدق قبل أن ينطق عبدالله، قفز خالد الى خاطرى ، عندما رحل فى غموض آخر
مره
قبل أن أٌعتقل ... كان كابياً بنظراته التى خبأ بريقها . .
ـ "ألا زلت غاضباً من عادل و محمود " ؟!
ـ لقد نسيت الأمر ياصديقي ..
كان واهنا .. أخذت أنفاس عبدالله تتسارع .. تلهث . .
ـ الفتى القزحى عاش أوروبا بكل خلجاتها ..
كان نصل ينغرز فى دواخلى ، فأنزف كل رعاف السنوات المقمقمة ، وعبدالله
يطرق على
القمقم بعنف وتردد .. محمود و عادل ، ساكنين سكون الموتى ، لا أحد فيهما
يود لو
يساعده ..وأنا أشعر بما لا أعرفه ، أحس بما سيقوله ..
ـ تتراءى له أرصفة أوروبا التى وطأها بامتداد تاريخه العائلى و تاريخ
بلاده
.. الأرصفه النظيفه ، الأحذيه النظيفه ، ناطحات السحاب ، التكنلوجيا ،
الأداب
والفنون ، اللغه .. وكثيراً ما كان يكرر أن سر نهضه أوروبا يكمن فى
اسيتعابهم
للغتهم ، عرفوااسرارها فعرفوا أسرار الانجيل و التوراة ، ألخ .. ألخ ...
فكر
كثيراً ثم قرر أن يكون liberty victim فأختار خاتمته على نحومخيف ،
قالباً
التاريخ على قفاه ..
أخيراً تكلم محمود:
- الصحيح دائما هو الخطأ ، هكذا اكتشف خالد بشكل سرى فقرر أن يكون free
will
كما كان يشير مرمزاً خوطره الكثيفه .. اتحدت روحه مع الفضاء اللامتناهى
( * )
( الشباب الذين يموتون هناك ، ترى أوجدوا الحور العين ، أم اتضح أن جوارى
الميتافيزيك من خدع الكاميرا الخفية ؟! .. لا أصدق أنهم ذهبوا لأجل شئ آخر
،لا
يتعلق بحساسية بنية وعيهم التناسلى ، العالية ! .. مثل التطلع فى وجه الحق
،
الكريم ! أوصحبة الخاتم !.. هى المرأه اذن ، و الجوع .. أهم عوامل قيام
الحضارات وسقوطها .. حتى المهدويين لم يسلموا من إسارها .. قال
"ودتورشين"*
لفكتوريا .. أسلمى ،تسلمى ، ولئن أسلمت لختناك وزوجناك " يونس الدكيم "**
إن
رضىّ ذلك ؟!!.. لم تكثر حوادث الطلاق والزنا و التصفيات التى بلا حدود ،
أكثر
مما هى الحال فى تلك الفترة .. لم يكن ثمة إتفاق إلا على شئ واحد : أن
قائد
الثورة ، هو المنتظر شخصياً !! والأن على ذات الدرب ،ثمة منتظراً آخر ،
ببدله
رمادية يجدد الاعتقاد ،فى إطار إعادة إنتاج مقولات عصر المماليك ، و
مفاهيم
زمن الانحطاط ، و اجتهادات آخر الملوك الأمويين .. ونتفق على ألا نتفق
!..) ..
ـ ثمة تشوّه طبقى !
قالت سلوى وهى تجلس .. فرد أبوعلى وهو يعد لنفسه مقعداً :
ـ لا يا سلوى إنها تشوهات فى الوعى ..
ـ ماذا تعنى ؟! ..
ـ هناك مقوله لمارى ستيوارت عن أن الذين يملكون بصيرة إلهيه هم غالباً
بحاله عمى عندما يتعلق الامر بشئون الحياة اليومية
الاجتماعيه ..
ـ لكنهم يموتون لأجل قضيه يؤمنون بها ..
ـ منذ 1956 م ونحن نقتل أو تستشهد أو نموت .. اختارى الاسم
الذىتفضلين لفعل مصادرة حق الحياة ، ومع ذلك لم ننجز شيئاً ، فقط
تعمقت
الأزمة .. ثمة مشاريع دول منجزه نظرياً فى بلادنا .. نمضى نحو
التفتت
إلى
دويلات ..
ـ إن تداول السلطه ...
ـ لا أحب الشعارات ياسلوى ، فلاتزعجينى بها .. الجميع يدعون
الديمقراطيه و السلم على سبيل التكتيك الليبرالى ...
*ود تور شين : هو الخليفة عبد الله التعايشى
** يونس الدكيم : أحد القيادات العسكرية المبدعة فى ثورة المهدية

رفَّ هدبها فى قلق ، أحسَّ بالعِقد الذى " ينضٌم " دواخلها " يتفلَّت "
تتبعثر
و تتناثر أشياؤها .. تعثرت يمامة على شجرة الحراز ، المغطاة بأغصان شجرة
الجميز الضخمة ، المتمددة على سقف الكافتيريا والفراغ ! لون هديل اليمامة
المكان ، مظللاً شجرة الجميز .. مهرت الاغصان الشائخه بخريف أخر ، يجرح
الجدب
ويختزن فى ذاكرته كل الاحلام السرية
، المسربة من وراء ظهر زوار الفجر ! قرأ فى عينيها سفراً حالماً ، يختبئ
خلفه
امر الحراز والضعف الانثوى اللذيذ .. هاهى" بهجتك الحرش " تشرع نواجزها
مرة
اخرى والمدينه صامته إلا من الطلقات المتباعدة ، مجهولة المصدر .. ( من
يراك يا
سلوى يظنك لم تتجاوزى العشرين ..أكثرمن عشر سنوات تذوب فى حيويتك ولا يبين
لها
اثر ، السنوات تستحى من نضجك ! هذا النضج ، القلق ، المتوتر ، الذى لم
يقوى
عليه حاج عباس !..) ارخت اهدابها على صورته ، التى ملأت عينيها ، تنقب
جراحاتها
بلهفه ..
ـ حذرتنى نوار منك !..
ـ ماذا قالت ؟!
ـ بدوى ، بزاكرة المدينه.. لايكل ولايمل الترحال فى ديار العامريه ، جلف
لا
يزال يعتقد فى الرمح اداته الاّخيره ، فى البحث عن كنز أبى الجرهم .. لم
تكن
تدرى انها تدفعنى دفعاً اليك ..
ـ وربما كانت تدرى ..
ـ اذن كانت تمارس لىَ عواطفى نحوك ،
بحنو وخضوع شقيين ، تسللت ساقاه . .
ـ مشرد انا يا سلوى !..
ـ لا تخشى شيئاً
ـ اعنى ..
ـ... ... ...
هكذا ، قالت نوار مرة ثم رحلت ‍‍‍‍..كان العواء بداخله يزداد ، وكانت
تعلم انه
يود لو يضع حداً للحراز الذى " يعاف " المطر ... غيمه تتخلى عن زخاتها ..
تمتزج
والتراب .. يتسلل الطين ، برائحته المميزه انفيهما ، بحياء " دعاشى "*
مخدر ..
يزداد الرزاز ، يتحول الى خيوط مطر ، تلامس سطح المنضده الدائرية ، تسيل
على
الارض .. وأخرى تطمن مانشيتات الجداريات السياسية .. يتشكل بين الالوان
المطموسة وجه "نينا "** .." شبه الكيرا الخالق الناطق " الآن اللحظة ذاتها
ياسلوى ..اللحظة تلك التى كان "آدمو" يتشرب فيها ملامح
* الدعاش : هو نسيم البحر الرطب
** نينا : تعنى فى لغة الفور فاطمة
"نينا" ويتخيل الكيرا جدتها ،السادسة والعشرين ، مثلها تماماً‍‍‍ ناعمة
الملمس
،عطرة الأنفاس .. كانت نينا مسكونه بجدتها البعيدة ، مثلما يسكنك الكلس ،
وكان
آدمو حانقاً على ذلك الفارس المعقور الذى أتى من الشمال الأفريقي على ظهر
ناقة
شهباء هرمة ..أحب آدمو نينا بكل العنفوان وبادلته عشقه النارى ، الذى لم
يتوج
بتوحد إلا فى أحلام القيلولات ، حيث يأتى طيفه إثر إرهاق العمل المضن فى
الحقول
كان كلما حادثها فى أمر الزواج ، ترد أن مارتجلو لم يأذن
بالعرس بعد ، فيصمت آدمو على مضض ، ثم تنسيه إبتسامات نينا " القمرية "
مارتجلو
وهموم الكون وعلامات آخر الزمان .. لم تكن قصه آدمو ونينا تختلف كثيراً عن
قصة
جدتها الكيرا ، وذلك الفارس المعقور الذى أتى على ظهر ناقة شهباء من شمال
أفريقا ،متقدماً جيش (كسوفرو )* بثلاث ليالٍ ونهار ..
ـ انها لا تختلف عن قصتك مع نوار ياأبوعلى ..
ـ لابل ، قولى انها لاتختلف عن قصة خالد ...
ـ الامر سيان ..
ـ أتظنين ذلك ؟!
ـ لاأظن شيئاً ...
-(*)-
شرب أبو على كثيراً حتى أستحال قدح عينيه للون الدم ، وهو يحاول التخلص من
خاطر
خالد الذى يسيطر عليه ..أطفأ عشرات الأعقاب ،و أفرغ كيسين من " التمباك"
أطل
الصبح وأنتهى الليل بقلقه وتوتره وسهاده المضنى .. و" الحناء " التى تخضب
يديه
والزغاريد والمغنى يتلاشيان فى المدى ، الظليل بالحلم ...
-(*)-
رائحة الكبريت والدخان والخمرة ليلة الدخله ، والتتفاصيل النسوية الاخرى
تتسلل
خياشيمه ،تخدره حتى النخاع ، وتفقده الوعى .. تهدج صوته :
ـ آخيراً نوار ..
ـ لن أقبل بعد اليوم ان تنادينى نوار .. أنا سلوى .. قالت بدلال وهى تعجن
حبات
"الدلكه"** وتسحلها على جسمه الفارع ، كجسد موسى ودجلى ...
-(*)-
* هو سلطان الداجو أصحاب السلطة فى دارفور قبل سيطرة الفور ** عجين الدخن
الذى
يصنع بطريقة معينة تستخدمه النساء فى عرك أجسادهن وأجساد أزواجهن لمفعوله
المنشط
*** النداء السياسى للطلاب فى الجامعات ليتجمهروا لسماع الخطاب وعادة يكون
قصيدة تعبوية**** 21 أكتوبر
1964م
إنتهى عادل من إلقاء قصيدته الثورية اليتيمة ، التى يلقبها للـCalling
***
فى كل مناسبة ، و نزل عن المنصه ، كان أبوعلى يتكلم عى شرف الزكرى
الثلاثين
لثورة "إكتوبر الشعبيه المجيده )**** ، وسلوى تجلس فى الصفوف الأولى ،
عينيها
تحتويان وجهه
تماماً ، تأخذانه إلى البعيد .. كان يخاطبها وحدها . . . يخاطب فيها عتام
، و
الكلَّس ، وخالد الفتى القزحى ... يخاطب .. لم يكن ثمة وطن اّخر غيرها
يحسه فى
هذه اللحظة ...
- ( * ) -
وتلاشت الفنانه التشكيليه بين دوامات الطلاب المتزاحمين ، تلمس ابو على
رأسه ،
لم تكن به عينان ، تحسس جموع الطلاب امامه ، لم يكن ثمة شئ ! بعثر محتويات
مخابئه . لم يكن هناك شيئ سوى السراب الليلى والصدى والصدأ ! . . إصطدم
جسمه
الزاحف بشيئ ما ! كان غصن حرازة تقف عنده ممتشقة فتاة من سنار القديمة ،
بجرأتها وجرتها . . أحس بنفسه يبعث من جديد ، تماماً كطائر مارتجلو . . لم
تكن
هناك نوار . . فقط سلوى ، مارتجلو والسراب الليلى والصدأ . .
( * )


















مـداخـلـة :-












من مسرحية سباق الملوك / تييرى مونيه








الفـتى القـزحى وتفاصيل أخـرى . . .
توقفت الأمطار أخيراً . . .
تنهد أبو على وهو يشعر بالإختناق منذ الظهيرة ، والأمطار تهطل ‍‍!! . .
نظر إلى
الساعة التى تزين معصمه النحيل ، كانت تشير إلى السادسة مساء . . محمد
شقيقه
الأصغر لم يأت حتى الآن . . " خرج بكارو المياه " منذ الصباح الباكر ،
ليوفر
لقمة الخبز للأفواه الصغيرة المشرعة ، فى البيت . . تنهد أبو على " ملعون
أبوك
زمن ! " كرر من هم فى مثل سن محمد يتمتعون بحقهم فى التعليم ، لكم هو مخيف
الأمر ، كلما أفكر فيه . . لكن العين بصيرة واليد قصيرة !!. . يومان مضيا
على
إجازة أبوعلى العارضة فى المدينة ، إثر رسالة مبهمة وحاسمة من أمه : " لو
أكلت
هناك ، تشرب هنا ! "* . .
كالعادة ، وعلى حين غرة داهمه وجه جدته ، تسرب صوتها العميق الأجش لاوعيه
. . (
مارتجلو هو أول ما يطالعك ، بجباله الأربعة " المترادفة " . . كالسينما
تقرأ
على أعصابه ونتؤآته وعروقه النابضة كل أحوال التاريخ الشعبى ، ملامحاً
للناس
والأشياء ! حياة كاملة عبر حقب طويلة ، تتسارع على مخيلتك ، مرتبطة بذلك
الطائر
الضخم الذى كلما إحترق وتحول إلى رماد بعث من جديد ، أشد عنفواناً ، ذلك
الطائر
كان ينبعث من فجاج مارتجلو ويحلق حتى قمته فارداً جناحيه ليظلل الوادى . .
كل
الخطوط التى تمتد على صخر مارتجلو تحكى قصة الحياة وصراع ششعب الوادى مع
الطبيعة والغزاة ! لحقب طويلة ، بقيت فى تلافيف اللاوعى ركاماً غامضاً . .
وينسحب صوت الجدة رويداً ، رويداً . . ليحل هم الرسالة التى حمله إياها
خالد
القزحى ليسلمها لأخيه سامى ( لابد بد أن أذهب وأسلمه الرسالة وإلا سيموت
الفتى
القزحى جوعاً ! لكن الوقت غير مناسب . . ليس مهماً لماذا يحس دائماً
بالإختناق
. . دائماً عند هطول الأمطار ، كالحراز ! لابد أن لذلك علاقة بطرق المدينة
الترابية ، الملتوية . . الخالية إلا من الأوبئة !! . .
أتى صوت أمه من الداخل :
ـ ( بتفتتش لشنو يا ولد ؟!! )
ـ الكبك القديم بتاعى كان هنا وينو ؟!
ـ طالع ولا شنو ؟!
ـ أيوا . .
ـ تلقاه جوا المطبخ تحت النملية . .
كان الشارع طافحاً بالماء ، والناس كالظلال فى ثيابهم المشمرة أعلا
الركبتين ،
إحساس

* كناية عن : أن تعجل المجيئ
كالإنزلاق الغضروفى ! . . بدت كارو برميل مغروسة فى أحد الخيران وبدأ
الحمار
متعباً ومتألماً . . هتف الصبى صاحب الكارو :
ـ المساعدة يا شباب . . " أبو مروة "*
عرج عليه شهاب أبو على . . سبقه أحدهم ، وتبعهما آخرون ، شعر شهاب بلسانه
يتمدد
طويلاً ، كأن يعانى لسعات صيف حارق وهو يحاول مع الآخرين رفع العربة من
مؤخرتها
. . . تبلل بنطاله تماماً . . .
ـ المساعدة يا شباب . .
ـ هيلا ، هيلاهوب
تمكنوا أخيراً من إنقاذ الحمار المتصبب عرقاً ، برغم برودة الجو ، وقف أبو
على
على مبعدة ، يحدج العربة كالمنتصر . . أحس بنفسه فى تلك اللحظة كأنه التوم
فضل
الله سالم ، بعد أن قتل رسل " الخليفة ود تور شين " . . كلب لعين فى تلك
اللحظة
نفسها مر راكضاً فتطاير رزاز الماء وأذهب ما تبقى من شكله المعقول تماماً
!
تنهد : ( أيقتلك عسس الخليفة ككلب أجرب يا شيخ رفاعة الهوى )** فكر أبو
على فى
الرجوع ونسيان قصة الرسالة إلا أن خاطراً ألح عليه ، بأن الفتى القزحى
سيموت
جوعاً ، حفزه على المضى قدماً . . دائماً عندما يكون فى طريقه الى بيت "
ناس "
خالد ، تتعقد الأمور . . فى المرة السابق كانت المدينة لاترحم ، لم يكن
الوقت
خريفاً مثل الآن !! . . .وفى تلك المرة ـ أى السابقة ـ تلقى جالد صدمته
العاطفية الصالثة : كانت حبيبته قد عبرت عن رأيها فى فقر للمرة الأخيرة
والى
الأبد !. . هكذا وجد نفسه مسئولاً عن تفريغ تأزمات الفتى القزحى ( يحبون
هم ..
ونتأزم نحن معهم !)
لم يكن أبو على يستطيع الكف عن التورط فى تفاصيل خالد . . الدروب المؤدية
الى
بيت ناس خالد ، كالدروب المؤدية الى مضارب المسلمية . . محفوفة بالمخاطر ،
وأبناء الإنجليز لايرحمون ، وخالد سيموت جوعاً ، الكلاب ربما تمزق بنطاله
(
فتتم الناقصة !) " يا بنت الكلب ، هذه الشوارع !كثيراً ما مررت بها ونوار
،
لتقودنى الى داخلها أو أقودها ، حتفك الآن يا أبو على ، تحس به يأتيك
حثيثاً ،
صديقك المبجل يعتقد أنك تدبر جريمة إغتيالك ! وهذا الشعور لايفارقك ، كأن
هناك
من يتتبع خطاك النبض ! " إبتسم أبو على فى سخرية وقرف وهو يلتفت خلفه ،
أليس
ثمة عسس بعد . . لايعلمون أننى وصلت وصلت هذه المدينة الداعرة ! . . الطين
اللازب مثل العسس يجعل الوصول صعباً ! وشائكاً هو الطريق ودون الهدف " لبن
الطير " خالد الفتى القزحى حساس ، وأسى دفين ، يشع من عينيه اللتين لاقاع
لهما
، وخالدة مكابرة ، إستلبتها العولمة ، قبل أن يسافر خالد الى بلاد لاتشرق
الشمس
فيها إلا
*كناية عن : ذو المروءة
** رفاعة ( الجزيرة )
عفو الخاطر ، فى منحة دراسية ، كان قلبه مشرعاً للفرح والغد الجميل الآت .
.
الغد الذى لايحمل من ملامح الأمس سوى سمرة الناس وقلوبهم الناصعة الطيبة .
.
إلى أن أعادته دولة "
السجم والرماد "* مع كثيرين ممن كانوا يدرسون خارجها فأصيب بالحزن المقيم
. .
إتكأ على خالدة فتعمق الحزن أكثر ! لم يكن لدى أخوته المقيمين فى دول
النفط
الإستعداد لمساعدته على إكمال دراسته . . الغربة صعبة و " الفلس " حار و"
دولة
السجم " تؤسس نفسها على تجهيل الآخرين ! ولقمة الخبز دونها شوك القتاد
والسباسب والوهاد وطلاسم سام بن نوح . . دونها . . "والسيف مشرع
والرؤوس
يانعة . . اللهم ألا هل ظلمنا !" دبر خالد مصاريف السنةالأولى بعد أن عمل
جرسوناً فى مطعم لمدة عام ووالده الذى يحاصره بفتاوى الطفيليين والخصخصة "
السوق أبق من العلم يا خالد . . أسمع كلامى وتعال أقعد ، حا أفتح ليك
دكان ،
تفيد وتستفيد ، أفضل من قرايتك الماليها طعم دى ! " وأمه المطلقة لاتلوى
على
شيئ . . يأكلها الهم والحزن على مصير الشاب المتعلم والمصروف القليل ،
والأب
الذى يصر على إثبات فحولته للموامس ، ويقضى جل يومه فى الخمارات والبيوت
التى
لاتدخلها الشمس إلا وتتعفن ! الأب الثرى ، يعتصم بحبل الصغار ليأتوا إليه
صاغرين :
ـ لك السمع والطاعة يامولاى ! . .
ـ القراية إستثمار خاسر . .
ـ نعم يا مولاى !
ـ ليس صحيحاً أن العمل مفهومه قد تغير ، ليس ثمة مجهود ذهنى يحل محله .
.
ـ هذا صحيح يا مولاى ! . .
الأستاذ سامى شقيقه يحاول تعزيته :
ـ أصبر يا خالد يا أخوى . . أنا باكر حا أمسك دروس خصوصية ومع المرتب
حيكون
الحال ماشى تمام ! . . سامى يعانى ضيق الحال الذى يغنى عن السؤال والذى
بين
فخذيه يتعفن ، شاب . . شايب . . عابد ، زاهد ، لم يغز إمرأة قط ،
يستحى
منهن حتى فى الأحلام ، ومشروع الزواج اللعين يبتعد كلما إقتربت نهاية
العمر ،
الذى يمضى دون ثمر ! . .
طرق أبو على الباب ، برهة وأطل وجه الأستاذ سامى ، تعانقا على الرغم من
فارق
السن ، كانا صديقين قديمين ، حميمين . . ولجا الديوان وفى منتصف المسافة
إنبثقت ، لابل تدفقت كانت جميلة ليست كنوار ، عصفورة البساتين والحقول .
. لم
تكن ملامحها الرائعة تتجاوز سن العشرين . تقدمت من أبو على بخطوات آلية
مسرعة
. .
ـ أهلاً . . أهلاً . . مرحباً بالضيف ! . .
* كناية عن : الخراب واللاشيئ
سلم عليها شهاب مأخوذاً ، حاول معالجة دهشته . . لم يكن قد رآها فى
زياراته
السابقة أبداً ، دهش أكثر وهو يلاحظ أنها لاترتدى سوى فستان النوم البيتى
،
الشفاف ؟! على غير عادة أسرة خالد المحافظة ، حاول ألا يهتم كثيراً ،
فتحاشى
النظر ، شعر بالقلق والحرج يحاصرانه
تماماً ! . . " ليت الأمر ينتهى عند هذا الحد ! "
خيبت الفتاة ظنه عندما دلفت معهما إلى الديوان . . جلس أبو على على أقرب
كرسي
، فجلست في الكرسي المجاور ، تأكد تماماً من أن هناك شئ غير طبيعي و أنه
على
أعتاب كارثة ستحدث ، لا تبقي و لا تزر !.. أحس بالحيرة و التوتر و القلق
يملآن
أخاديد وجه سامي المتغضن .. أخذت تثرثر :
ـ أنت جيت من عمي خالد ؟ صحي إستشهد !
تقلص الإحساس بداخله و شعر بإنقباض حاد ، لم يكن خالد الفتي القزحي من ذلك
النوع الذي يكرر مواسم هجرة الشلك من شاطئ النيل الأبيض الغربي من بحيرة
نو
جنوباً إلى فشودة ، ليست ثمة مبرر للإستشهاد و مزاعم الفردوس المفقود . .
وحلم
دولة المنفى . . تدخل الأستاذ سامى :
ـ إيمان ده ضيف ، خليك عندك دم . . أمى بتناديك قومى أمشى عليها . .
ـ ضيف ولا ما ضيف ، أنا ستين مرة قلت ما عاوزة حد يزعجنى ، مفهوم ولا ما
مفهوم يا أستاذ يا فاهم . .
ثم أخذت تضحك بشكل هستيرى . . وصمتت فجأة . .
ـ لو إستشهد كلمنى يا ضيف ، بالمناسبة إسمك منو ؟ !
تنرفز الأستاذ سامى :
ـ إستشهد ، إستشهد ، إستشهد . . فلقتينا بإستشهد ، أخير ليك تقومى تطلعى
من
هنا
! . .
ولم تعر ثورته إهتماماً . .
ـ ماوريتنى لسع يا ضيف ؟! . .
ـ خليتو كويس فى الجامعة يا آنسة !
ـ آنسة ؟ يآنسك الشيطان قول آمين . .
وهى تنفجر فى ضحك هستيرى . .
ـ أنا مجنونة يا دكتور موش كدة ؟
صمتت فجأة وملامحها ترتخى فى حزن بالغ . . كان أبو على فى وضع لايحسد
عليه ،
فكر فى طريقة للخروج ، لاتجرح أو تؤذى مشاعر سامى وأسرته . . فكر ملياً ،
فلم
يجد . . لم يكن ثمة طريقة للخلاص . . بدأ له جو البيت الخانق أرحم
كثيراً من
هذه الورطة . . ما الذى جعله يصر على الحضور ، فكر قليلاً ، لكن خالد كان
سيموت جوعاً . . كان سيصبح شهيداً للعلم والوجبات المستحيلة ، فالداخلية
أقسى
من مناطق العمليات . . لايعنى الموت فى " سراييفو " شيئاً فهو يأتى
سريعاً
وحاسماً ، ولكنه هنا فى الداخلية يأتى بطيئاً وجافاً ، يستلذ بتعذيب ضحيته
. .
كل الأشياء فى داخلية الطلاب لاطعم لا لون لارائحة لها ولاهوية مطلقاً ! .
. "
لو كان الفقر رجلاً . . " وإمام الجامع يصر على فلسفة الفقر " إن الله
يحب
عباده الفقراء . . و . . " وفى ذات الوقت يتمتع هو بالمآدب العامرة !
ويحرض
الناس على ربط البطون ، هكذا تتم فلسفة الأشياء ، حنى الصلح مع إسرائيل
سيقولون
أن الرسول الكريم ، صالح اليهود فى الحديبية !!! كل شيئ هنا يمكن توظيفه
آيديولوجياً . . يمكن فلسفته بالدين والتاريخ ؟! . . نظرت الفتاة إلى
سامى
بقسماته التى إتسمت بالحزن والإحباط والحرج التام والحيرة ، بدأ مسقطاً فى
يده
، لم يدرى ماذا يفعل على حين غرة ، فاجأت أبو على . .
ـ تتزوجنى . .
تكهرب الجو تماماً وإرتبك أبو على ودواخله ترتعش . .
ـ الحقيقة أنت أى زول بتمناك . . بس أنا . .
ـ إنت كضاب . . أوعك تكون صدقت أنى ممكن أتزوجك ! . .
ـ طبعاً ما مصدق . .
وعلى نحو مفاجئ إنفجرت . .
ـ عبد الرحيم الحقير غشانى ، قال حيعرسنى وهرب ، لكن لقى المصير
البيستاهلو ،
كتلوه فى الحرب . .
وأخذت تنتحب ، تدخل سامى فى يأس :
ـ يا إيمان عليك الله خلى عندك ذوق . . أمشى بغادى . . ومواعيد "
البخرة
"*
والمحاية** جات . .
هتفت فى حنق وهى تشيح ببصرها :
ـ محاية ؟! محاية يامتخلفين ، ياظلمة . . أنا حقى خليتو لى الله . . "
بخرة
" ؟! إنتو قايلنى مجنونة ؟! يبخروك بالشطة إنشاء الله . . دايرنى أمشى
بغادى
عشان إنت وأمك تربطونى فى " الشعبة "*** زى كل مرة وتجلدونى !! الليلة
أنا ما
ماشة والبقرب منى بخسرو ؟! . .

* البخرة : أسرار من القرآن تكتب فى ورقة ، تثنى عدة ثنيات ، تحرق فى
المبخرة
لعلاج حالة ما
** المحاية : أسرار من القرآن تكتب على اللوح الخشبى بحبر معين قوامه
السناج
والصمغ ثم تغسل عن اللوح وتشرب لعلاج حالة ما *** الشعبة : عود نهايته شكل
الحرف " V " تستخدم فى تثبيت أعمدة الرواكيب وماشابه

كان الزبد قد تسايل من شدقيها ، أصبحت كالناقة التى ترغى ، نمرودة ، شرسة
،
هكذا بدت وهى تلتفت نحو أبو على . .
ـ إنت كمان يا زفت ما عاوز تتكلم ، قلت ليك خالد عمى حيجى متين ، حيجى
هسع
ولا ما حيجى ؟! . .
وأخذت تغنى إحدى أغنيات التجييش ، كان أبو على قد وصل قمة إرتباكه وأخذ
العرق
يتقاطر من كل مسام فى جسمه ، ومن كل فج عميق . . لم يكن الباب قريباً
منه
ليلوذ بالفرار ! . .
دخلت أم سامى :
ـ كيف حالك يا ولدى . . آسفين على الإزعاج ! . . تقول شنو على البت
مقطوعة
الطارى دى ؟! عيانة والزمن " دهوار " ياولدى . .
وإلتفتت على إبنة إبنها :
ـ قومى معاى بغادى يا بت . . قومى قامت قيامتك !
ـ ياأستاذ يا فاهم ، إتكلم مع أمك المجنونة دى ، قول ليها بلاش إساءات .
.
ـ قومى يا بت الجن اليركبك ، أكتر مما هو راكبك ، قومى يا مصروفة دى
حبوبتك‍‍‍‍‍‍‍‍
!! . .
ـ خلاص خليها تطير منى كدى ولاكدى ، خليها تنقشر من قدامى
حاول أبو على تغيير مجرى الحديث :
ـ يا جماعة أصلو أنا جايى من خالد ، وإنتو عارفين طبعاً ظروف الجامعة
والداخلية
كانت إيمان تحدق فى الشاى الذى وضعته جدتها على المائدة ، بنظرة يصعب
تحديد
هويتها { . . مدت يدها فجأة :
ـ عاوزين تشربوا شاى .! والله عال تشهوا " الهبوب "* إنشاء الله . .
وأفرغت أحد الأكواب فى جك الماء البلاستيكى الكبير . .
ـ أنا عاوزة أشرب الشاى كده ، مزاجى كدة ، حرة ولا ما حرة ! . .
ـ لكن ده شاى الضيف يا إيمان ؟!! . .
قال سامى بحنق ، سادت فترة من الصمت . . كان كا يبحث عن مخرج خلالها ،
شعر أبو
على أن اللحظة مناسبة للهرب ، حتى لاتهب العاصفة مرة أخرى . . تنحنح .
.
ـ الحقيقة يا سامى عندى إلتزامات لازم أقضيها باقى الليل ده ، طبعاً عارف
حال
الطلبة لمن الواحد يجى مسافر . . يدوه ستين وصية لأهلهم وبعدين بكرة زى
ماتقول كدة الواحد مسافر . .
ـ مافى مشكلة يا زول . .
الهبوب : هى الريح وتشهو الهبوب كناية عن قبض الريح
محمد لم يعد بعد حتى الأن ، ترى أين ذهب ؟ المسكين لايزال يمارس فوضاه
اللعينة حتى وقت متاخر من الليل ؟!. . . قالت أمى :
ـ بعد ما إنت طلعت جا ( تكل)* الكارو ، قال كاسرة بلى ، وطلع تانى ما
بان!! ..
المسكين محمد تحمل المسؤلية وهو بعد صغير ، ناعم العود ، كان قدره أن يحمل
هموماً أكبر من عمره وتجربته ، فكان من الطبيعى أن يتمرد على قدره . . .
ترى ما
الذى يدور فى رأسه ؟! . . . لا أدرى كيف أنتشله من هذه الوهدة . . . لا بد
أن
أنتشله !! لابد . . .
كانت أجفانى قد بدأت تثاقل ، فترتخى . . . وخدر شفيف يحيط بى كهالة من
الرزاز
ويتبدى وجه نوار . . . أغيب فى دوائرحمراء خضراء . . ليلكية . . . أدور
وأدور . . . ونوار تركض فى مسارات حلزونية ، وهى تنثر الندى والرزاز وأنا
أغيب
هناك حيث البابور والنخلة والرابية والجدول . . .

_ ( * ) _















تكل : سند








*مداخلة :
















*****




* فى فلسفة الحراز . . .
نوار زهرة البساتين والحقول ، أول أنثى أحببت وتفتحت عليها فحولتى . . .
نوار
سليلة أرض الحراز . . . يحدها جنوباً خط العرض " إتناشر " قالت ذات مساء :
ميلاد الحراز تزامن مع الزحف النخيلى ، لافى القرن " الإتناشر " الميلادى
، كما
يزعم بعض المؤرخين الذين يتعيشون من موائد السلاطين وتجار الرقيق ومستثمرى
سن
الفيل وريش النعام ! ولاأبان الغزو النخيلى الثانى فى القرن السابع من
الميلاد
، فالحراز ولد متدفقاً . . وفى كل مكان عندما توالت حركات المد والجذر
خارقة
حركة الشمس والقمر وكل قوانين الطبيعة . هكذا ولد الحراز والبحر الأحمر
يفيض
وبحيرات أثيوبيا تفيض قبل ألف عام أو يزيد ، قبل الميلاد المسيحى . .
هكذا
كان ميلاد الحراز يا أبو على شيئاً ما ، بين النخيل والتيك ، ولد هاهنا
أصيلاً
لامهاجراً يبحث عن متكأ مهجور فى طرقات القرى الناعسة أو الخائفة من هجوم
مباغت
. . ولد الحراز فى زمن تمردت فيه قوانين الطبيعة على الطبيعة ، فأخذت وضع
الشد
والجذب ، فإندغمت الفصول . . وكان الحراز نمروداً يشكل المواسم كما يشتهى
وتركع تحت أغصانه الفصول دون حاجة لتفاصيلها الطقسية . . ومثل الحراز
لكثير من
ممالك أفريقيا القديمة العناية المقدسة ، التى تعاقب السلطات بقسوة كل من
يقترب
ليمسها . كان الحراز مقدساً فى أفريقيا يا أبو على . . إننى أحبك يا أبو
على
فأنت تحمل شيئاً من ملامح الحراز . . لكنك أنت أنت فى كل الفصول وهو مثلى
يظمأ
فى الخريف لعاشق لا يجهل هويته على العناوين الحقيقية ، هو مثلى يعشق
المطر ،
لكن لايسلبه المطر رائحته المميزة ، رائحة الطين "والجروف"* المندية و"
الدعاش
"** المشرب برائحة البحر وإيقاع البابور " كل الإناث يظمئن صيفاً يا أبو
على
إلا أنا لأننى ونوار والحراز صنوى . . أبو على يا شبيه الحراز. .
أسبلت نوار جفنيها على الرابية ، إرتحل الغيم ليظل البحر بفوضاه . .
تنهدت :
يقال ياحبيبى أن أول من إكتشف الحراز هم بنى جرار ، المنحدرين من سلالة
فزارة
وذبيان ، أثناء غزواتهم المتكررة لديار " البقارة " والكبابيش . . حتى
أقاصى
دارفور . . نشأت بين فارسهم ( موسى ود جلى ) والحراز ألفة بالغة المودة .
كان
موسى لا يتكئ فى رحلاته الشاقة إلا عند ظل الحراز . . وكان الحراز
لاينحنى إلا
لموسى !! . . . نام موسى ذات نهار تحت ظل حرازة . .
فغدر به أحد " الجهنية " . . قذفه " بسمندية " *** حادة ، مشرشرة ، فتدلت
أغصان الحرازة التى يستظلها محاولة حمايته . . لكن السمندية الحادة كانت
قد
أخذت موقعها على فخذ موسى
* الجروف : هى الأراضى الزراعية التى على البحر وتروى رى فيضى
**الدعاش : هوالهواء البارد المشبع برائحة البحر *** رمح ترسى

شعر بها ود جلى وأدرك أن أحدهم قد غدر به وهرب . .
فلم يعر الأمر إلتفاتة بل قال : ( قرصة ضبان الخلا* صبحت حارة بالحيل !) .
.
ثم أكمل نومه . . وبعد أن صحى أخرج السمندية وقطف حزمة من وريقات الحراز ،
ودعكها على الجرح فإلتأم فى الحال . . وأصبح موسى بعدها لاينام إلا تحت
ظل
الحراز . . وحدثتنى جدتى يانوار أن جدها ( محمد نوباوى ) الذى قطع رأس
غردون
باشا ، لم يشأ أن يعلق رأسه على سارية القصر كما أمر المهدى ، بل علقه على
شجرة
حراز ، لاتزال هناك قرب بوابة عبد القيوم ! . . علاقة الحراز " ببنى جرار
" يا
نوار علاقة دم ، كان شهماً وكانواً شجعان ، كان يحارب المطر ، النزيف ،
الزيف ،
وكانوا يحاربون الصلف الزائف لكل قبائل البدو الأجلاف . . لم يكن يحتمل
غدر
المواسم ولم يكونوا يحتملون أحد ! ومات موسى ود جلى بذات هذا الغدر الذى
حاربه
مغدوراً ( ككليب ) . . وكانت اليمامة فى كل نساء القبايل يغنين فيه الفخر
والحماسة والإعزاز ، وطيفه يتجلى مبشراً فيهم . . ممتطياً النوق العصافير
حيناً
والجياد الأصيلة البيضاء كقلبه حيناً آخر . . ومسيرة الغدر والخيانة التى
تغتال
الشرفاء لاحقت بنى جرار فإغتالت فارسهم ( جانو ) حفيد موسى ود جلى . . سيف
جانو
ودرعه وضفائر أختيه اللتين يتحلى بهما مقبض السيف يقعيان ككلبان فى المتحف
الوطنى ! هكذا كان مصير السيف والدرع الذى أذاق أبناء الإنجليز معنى الشرف
والكرامة ! ، يقعى كالكلب فى زاوية الجدار . . السيف والدرع وضفائر " أم
بريمة
" ( الخريسة ) و" جادينة " ( الغليسة ) ، ولاتزال الضفائر محناة كما
البارحة
برغم مضى التاريخ وإنصرام الزمن . . كانت (جادينة ) و (أم بريمة )
تقاتلان كما
الفوارس ، عرفت سنابك خيلهما ديار لم يعرفهما الجغرافيون الذين عشقوا
المكاتب "
المكندشة " وكراسى الجلوس الدوارة الفاخرة ! ( جادينة وأم بريمة ) شبهى (
اليمامة ) إبنة كليب ! . . لكن اليمامة لم تكن فارسة مثلهما ، لم تعرف حمل
السيف وهما قد عركتهما الحروب وعركن الأيام . . رجلاً كجانو تحدى (
الجهادية
السود ) ** لم يكن الخليفة عبد الله التعايشى ليستطيع مراسه ولاكل قبائل
البقارة . . إنه حفيد موسى ود جلى يا نوار وأنت ( الخريسة ) . . تزهرين
على
ضفائرها كل يوم فيتفتح النور فى أروقة المتحف القومى الشاحب ! إلا من
رائحة
التاريخ العطنة تجددين الهواء وتملأينه " بحمامات " يحملن تباشير الشمس
والحراز
أنت ( الخريسة ) وأنا لست بأقل من جدى جانو حفيد موسى ود جلى .
عندما أقتيد جانو للمرة الأولى بعد " كمين " محكم إلى المدير الإنجليزى ،
لم
يكن قلقاً أن يأتى مرسوم إعدامه على ذات الورق الذى يصنع من أخشاب بلاده
المصدرة إلى
* ضبان : ذباب
** فرقة من الجنود السودانيين كونها الأتراك ، تمردت عدة مرات

(لانكشير) فى الأمبراطورية التى لاتغيب عنها الشمس ، حبسوه فى جب ضيق ،
وهو
العربى الذى عشق الأرض المتجردة وغنى صوت حوافر الخيل ، وإعتاد شرب لبن
الإبل
وحب
النساء الشريفات ! . . لكن لم يكن قلقاً ، تآمر عليه أبناء الإنجليز
فحبسوه
دون ماء أو طعام . . فى اليوم الأول الذى إقتادوه فيه بعد هزيمته لكتيبة
من
الجهادية السود ، كان معه إبنه حمد فهتف فيه ( إن أمسن فى عناقرهن ، وإن
صبحن
فى مناخرهن )* فصاح الإنجليزى ( بتقول شنو يا متهلف!) (ما بقصد شى ياود
المرة
)** لم يكن الإنجليزى ليدرك أن كلام جانو لإبنه بمثابة أمر بتهريب المواشى
حتى
إذا جاء المساء يكون قد قطع مسافة طويلة ، وما أن يصبح الصبح إلا ويكون فى
أرض
بعيدة لايستطيع أحد أن يجده فيها ، وبالفعل نجح " حمد " فى مهمته وهو
الخبير
بالصحراء والقيزان ودروبها الوعرة ، الملتوية التى لايقوى " السادة "
أبناء
الإنجليز على معرفتها ومعرفة مخابئها و " بواجيها " *** وكانت تلك أول
ليلة
تمر على جانو منذ تعلم الفروسية فى نعومة أظافره ، يبيت جائعاً حتى مساء
اليوم
التالى . . لكن لم يستمر حنينه للبن والسمن إذ ( إنفج ) جانباُ من الجب
الضيق
فى الظلام وأتى صوت حمد الهامس (جانو .. جانو ) وتدلت قربتان محملتان
بالسمن
واللبن . . . أربعون يوماً وجانو منسى بالجب ، دون أن يطل عليه وجه ،
أربعون
يوماً وجانو يتدفأ ( بالكتر )**** ويشرب اللبن والسمن . . . ظنه الإنجليز
مات
لكن ليس ثمة رائحة تنبئ بجيفة ما . . وقرروا أن يفتحوا الجب ، ففوجئوا
بجانوأصغر عمراً مما كان ، ناعماً أبيض كفتى من الحور . . طويل الشعر
أسوده ،
زادته اللحية وقاراً لم يخلو من فتوة شباب . . خاف الإنجليز ، دهشوا ،
تحطمت
نظرياتهم عن H2O والبروتين والأكسجين ألخ . . لايفهمون كيف يعيش رجلاً
أربعين
يوماً دون مقومات الحياة ولايموت ، كيف حطم هذا الرجل قوانين الجسم البشرى
. .
أشار أحد أبناء الإنجليز بإستدعاء أحد البدو المتميزين بالفراسة ليحل
اللغز،بحثوا حتى وجدوا(كباسة*****) الخبير بشؤون البدو ، توقف فى متنصف
الجب ،
وتلمس جسد جانو ، لحظتها كان حمد فى ثنية دهليز ما مؤد الى الجب ، يرقب
الموقف
. . كان حمد قلقاً تحدثه نفسه أن كباسة حتماً سيكشف اللعبة . . إنسحب حمد
وأتى
من المدخل . . كان قد قرر شيئاً ، فوجئ به أبناء الإنجليز فحاصروه . .
* كناية عن الهروب بسرعة .. حتى ليصبح عليه الصباح فى أرض أخرى
** لا أعنى شيئاً يا إبن الأنثى ( كناية عن التحقير ) أى أنه ليس
تربية
رجال
*** الباجة : هى الوادى البعيد ، المعشوشب . . **** نوع من الأشجار
***** الأعمى


كان حمد قد قرر مغامرة أخيرة ، تحدث (كباسة ) أخيراً وأنفه يتشمم كالكلب ،
متحسساً المكان: (شرابو بكر بت بكر . . ودفوه كتر ) هتف حمد : ( كباسة بت
لبون
تقطع قلبك ! ) فإستدرك كباسة : ( فكوا الراجل ده ، صالح حيجيب ليكم مصيبة
! )
وتحطم صلف الإمبراطورية التى لاتغرب عنها الشمس ، لم يكونوا يفهموا ان (
بت
لبون ) ليست سوى بكر
الناقة ، وهى ثمن سكوت كباسة ! وهكذا إنتصرت إرادة الحراز الذى ألجمهم
الصمت
. . الحراز يانوار هو ما تدفأ به جانو . . إنه قدرنا نحن . . هو ، والأرض
التى
تتمحور علينا .
. أغنية لا تعرف الإنتظار الممض . . فقط تعرف كيف تغنى الحب . . كل (
الحكامات
)* غنين الحراز والناس (العزاز)** وكل الأشجار غنت الحراز والناس العزاز .
.
وظلت الحرازة مناظرة للنخلة التى على الجدول تطل من الرابية . . على
البابور .
. حيث نجلس يا نوار . . برغم أن زمن الناس العزاز قد إنتهى ! . .
شهران مرا على هروب أخى الأصغر ، والكارو لاتزال بعد متكئة على الجدار
والأفواه الصغيرة مشرعة . . الجوع كافر وكسرة الخبز طعام مستحيل . .
ـ يكون عامل كيف هسع الولد ده ؟!. .
تنهدت أمى فقلت بأسى :
ـ لم يعد صغيراً ، ومع ذلك سأبحث عنه . . فقط أصمدوا قليلاً . . تماسكوا .
.
قالت أختى ، التى تكبره :
ـ تركنا فى ظروف صعبة ، لم يقل أبناء أختى صغار يعتمدون على، وأختى مطلقة
بلا
سند . .لم يتذكر شيئاً فلا تبحثوا عنه . .
قالت أختى الكبيرة بحزن
ـ تلاتة سنوات ماسك الأسرة يا شهاب ، والمسئولية كبيرة عليهو و( لِسع )***
هو
جاهل . . شال همو وهم غيرو . .صبر لكن ما قدر يستمر . .
ـ لاتحزنوا سيعود إن شاء الله . . إننى أفكر فى حلول لكل هذه المشاكل ،
حتى هو
يجب أن يرجع المدرسة
إهتاجت التى تكبره :
ـ ده فاشل هو فى حد قال ليهو خليها ؟!
ـ الظروف كانت زى الزفت ؟
ـ كان المفروض يتحمل . . الظروف دى على الناس كلها !
* الحكامة : تقوم مقام آلة الإعلام فى الحماسة والفخر والتعبئة عند
القبائل
العربية فى السودان . . وهو ذات الدور الذى كان يقوم به الشاعر الجاهلى .
** العزاز : الأعزاء .
*** لسع : لازال
قالت أمى من أعماقها بحرقة :
ـ الدراسة !
فقلت بحزم :
ـ سأجمد هذا العام
ـ لن تجمد ولا غيرو ! إنت ناقص ؟! كم مرة جمدت . .
ـ لن أترككم هكذا وأسافر ، سأعمل فى الكارو مؤقتاً حتى أدبر أمر البيت
ـ لن تعمل فى الكارو . . البيت له رب . .
قالت أختى وأضافت أمى :
ـ لو تركت الجامعة سآخذ أختك وأطفالها ونرحل الى القرية ، أخوانى ...
ـ خيلانى ما بتحملوك ، ولن نتركهم يقولون إنى عاجز عن تحمل مسئوليتكم . .
ـ ـ
أرجو ألا يناقشنى أحد فى هذا الموضوع مرة أخرى . ..
كان أثر السهر والتعب والإرهاق بادي عليهما ، كانتا تنظران للأمور من
زاوية
تختلف تماماً وأبو على يفهم شيئاً واحداً فقط . . إن ( الصقر إن وقع كُتر
البتابِت عيب )* وكانا يفكران فى محمد بشكل مختلف . . قلب الأم والأخت
الكبيرة
يلح فى السؤال : ترى هل أكل ، هل شرب . . حي هو أم ميت ؟! وعشرات الأسئلة
الأخرى تدور بخاطرهما !! وفى ذات الوقت لايفهمان أن الطالب الجامعى
إستثمار
فاشل فى ظل القوانين التى تصادر حتى حق الحياة ، وأدنى الشروط الإنسانية !
. .
لم تكونان تستوعبان أنه سيتخرج بشهادة عطالة عن العمل..وربما يموت فى
الخدمة
الإلزامية ، فيحتسبونه عند الله شهيداً ، وربما لايحتسبونه !!..
ـ ستبقيان ، وسأبقى . . لأريد ان يناقشنى أحد فى هذا الأمر . .
تأوه الحمار بعمق وشهاب أبو على يشد (اللجام ) ويلكزه بقسوة تشرخ الأعماق
، كان
يود معاملته على نحو لائق ، لكنه كان أحمقاً . . حين يحرن لاتنجح قوة فى
الأرض
على إقناعه بخطأ موقفه ، أحس أبو على أن الحمار يود أن يقول ( أن حمارين
فى بلد
واحد ليس منهما نفع ! ) . . ها أنت تمضى الآن ياأبوعلى ، ياآخر سلالات
ذبيان
وفزاره ،ولكن ليس على صهوة جواد عربى أصيل كموسى ود جلى.. بل على صهوة
حمار
أشهب كغراب، كابى ..كئيب ..منكفئ النظرات !..طرق "باغات " الماء " بخرطوشه
"
الأسود ! ليسمع الناس فى بيوتهم نداءه .. وينادوا عليه طلباً للماء ! ..
حمارين فى بلد واحد ..نساء الأحياء الشعبية يتنادين عليه ، يطلبن الرى
للغياهب
البعيدة المظلمة قبل " الأزيار "** و"براميل" الماء ، هكذا يغذى غروره
الذكورى
.. يفترض
* كناية عن أن الرجل الشجاع يجب أن يتحمل قدره دون تذمر أو خوف أو جزع
** جمع زير .. وهو إناء الفخار الذى يوضع فيه الماء
فى نفسه الوسامة الساحرة ، ويتخيلهن ينظرن إليه بشغف وهو يصب الماء من
"الباغات
" ، مشرعاً عن فحولته وبداوته ، فاتحاً أبواب الصفيح بقدميه المتشققتين ،
نساء
البدو الأقحاح هكذا كن يفتحن أفخاذهن لموسى ودجلى وهو يجندل فرسان القبايل
("
كحل العيون " ، و"عشا البايتات " "وكحل السرارى ")*** ألخ .. مشرعاً سيفه
فى
قلب الأرض لتتفطر عن مزيد من الحراز .. وها أنت ياأبوعلى تشرع خرطوش ماء
أسود
الآن ..تتحين الفرص فى الأحياء العشوائية ،وليس ثمة شنبليات تقدهن سبايا !
..
تأمل أبو على نفسه فى زى "العربجى " فتأوه أكثر ..أفكار حارقة تعتمل فى
دخيلته
،يزكى أجيجها الهمس الذى يدور فى الحى : " الشول بت زهرا " وجدت فى
الخرابة مع
أحد الكماسرة ،مستلقين على حفنة دينارات وأمامهم قطع من السمك المحَّمر
والمشهيات والخبز الطازج مع فرخة مشوية .. "محمود ود حسين باشرى " ترك
المدرسة
وأشتغل ببيع الجرايد ، فوالده الموظف لم يقوى على دفع الرسوم الباهظة ..!
عم
محمد أحمد " بتاع المعاش المتقاعد إنتقل الى رحمة مولاه بطريقة تراجيدية
مؤلمة
! .."سعاد " بنت الجيران الفارعة البيضاء ،حبلت ،ولم يعرف صاحب الفعلة حتى
الآن
!..لكن المرشحون لهذا الأمر ثلاثة ، بينهم المرحوم محمد أحمد !! .. عم
حامد
بناته الثلاثة يدخلن الرجال إلى بيته على مرأى ومسمع منه ومن جماهير شعبنا
!
وفمه المملؤ بالخضروات واللحوم والفواكه يجعل خروج الكلام عسيراً ! يقال و
العهدة على الراوى أن ثلاثتهن إعتدن الحمل سفاحاً لأكثر من مرة ! ولا أحد
يستطيع الحديث وهو يلوك الطعام ؟!! . . ( حليمة ) ذات الأربعة عشر ربيعاً
بجسدها الفائر المتمرد ، ( حليمة ) المراهقة الجميلة ، كثيراً ما داعبت
خيال
شيخ عمران إمام المسجد . . كانت تحمل اللبن من البقالة فتمر بحلقة العلم
التى
يقيمها أمام داره وهو يتحدث عن ( الغرانيق العلى ) ويكرر أن النساء فتنة
والشيطان خبيث ، تقدم الى أهلها ، ليزيد عدد نساؤه الى خمسة بعد ان طلق
إحداهن
! فالرجل على حبله ثلاثة ويشتهى حليمة رابعة ! . . حاول شراؤها عدة مرات
وفى
المرة الأخيرة قذفته أمها بحلة العجين وهى تدعوه بالعجوز المتصابى ! حليمة
الرائعة هذه ، ملكة جمال الحى قبض عليها مع صبى ورنيش فى مرحاض الجامع
!!..
تزوج عمار أخيراً بعد أن جمع له أبناء الحلة وأصدقاؤه الأوفياء والأدعياء
ما
يكفى لإتمام العرس . . .قيل انه إستطاع القبض على لص فى اليوم الثالث
لزواجه ،
كشفوا عنه النقاب ، فإتضح أنه أحد الأصدقاء الذين كانوا من أكثر المهمومين
بقضية عرسه ! فتم تجاهل الأمر حتى لاينسحب على بقية الأصدقاء الذين حفيت
أرجلهم وراء جمع التبرعات !! . .
بالرغم من الحرص على ألا تصل القضية للرأى العام ، تصعدت بالفعل وتم
تدويلها !
. . ( عثمان ) صاحب الطاحونة لاتزال مغامراته مع الغلمان تتوالى ، قيل
أنه
يستغل فقرهم
*** كلها كنايات عن أخ البنات ذو المروءة فهو الذى يحرص على عشاء الجائعات
،
وهو الذى يغمر كرمه غيره
فيشتريهم بالدقيق والذرة ، الجدير بالذكر أن أحداً لم يعد يصلى معه فى "
الضرا
"* أمام المنزل ! . . زوجته الصغيرة الجميلة تخلت عن الحجاب والعباءة
السوداء
التى تغطى جسمها الأبيض فجأة ولم يدر أحد سر تغيرها المفاجئ هذا ولم تدلى
هى
بأى تصريحات ، لكن نساء الحلة (النسناسات) لازلن يجرين البحث ، ولازال
التحقيق
مستمراً ولربما يتجاوز فى المرحلة القادمة " قعدات " الجبنة إلى حد تكوين
لجان
تنبثق عنها أخرى لتقصى الحقائق !!؟!. . مسعود ترك الجيش وأصبح تاجر حشيش
لتأمين كسرة الطعام للأفواه الجائعة التى تركها والده وهرب مع إحدى
العاهرات
دون حياء !! يقال أنه يخبي الحشيش فى سطوح الغرف وتقديراً من عملاء
المكافحة
لوضعه البائس يكتفون بأخذ بعض سيجارات حشيش منه مع بعض الأوراق الملونة
التى
يتهامس البعض مشككين حول قيمتها النقدية !. . . ( عم أب شيبة )
رحمه الله ، العربيد ، السكير ، توفى أثر علة لم تمهله طويلاً ! فى تقرير
الطبيب الشرعى أنه مات بسوء التغذية ، بينما ملأت شائعة الأجواء ، مفادها
أن
الكحول هى السبب ، إستغل عم محمد هذه الشائعة فتوقف عن شرب الخمر زاعماً
انه
إعتبر ( والبشوف فى غيرو أخير من البشوف فى نفسو )** فهو لايريد أن يلاقى
مصير
أب شيبة بهذه الميتة رغم أن الجميع يعلمون أن كل ما فى الأمر أن عم محمد
المدمن
أصبح لايستطيع أن يوفر ثمن كوب من الخمر ناهيك عن زجاجة كاملة هى متوسط
سعته
الرسمية . . هذا كل ما فى الأمر بإختصار ، لذلك توقف عن تدخين السجائر
الذى
إرتفع سعره أيضاً ولجأ الى التمباك ، بحجة أن التدخين ضار بالصحة وهذا
يؤكد ما
أوردنا من مزاعم !! " صفية بت حاجة ختمة " لم تستطع ان تقنع إبنتها
الصغيرة
شاهيناز تلك التى يؤكد كل المراقبين انها مشروع إمرأة لعوب . . لم تستطع
إقناعها بعدم الخروج من البيت وفى ذات الوقت رفضت تزويجها من إبن عمها
الفقير "
الكحيان " إلى أن حدثت الكارثة ، وكان إبن العم قد تزوج وبإنتظار المولود
الثانى ! . . " حاتم " العسكرى ، أرجع زوجته التى طلقها منذ عام بسبب
الأوضاع
الإقتصادية المتردية ، لم يقتنع بكلام زوجته حسناء الحى ، بأنها ستصبر وإن
الله
سيفرجها ، لأن قناعته كانت ( تزوجوا فقراء تشحدوا سوا !! ) وعلى الرغم
من
مزاعمه بأنه طلقها لأسباب إستراتيجية تتعلق بخلافاتها المستمرة مع أمه
العجوز
وأختيه العانستين إلا أن التاريخ الشعبى الذى يتأكد صدقه غالباً وتناقضه
التام
مع التصريحات الرسمية ، سجل المسألة على نحو ما ذكرنا ! والحق لله أن
الجميع
يؤكدون أن زوجته أميرة وبت أمراء . .
توقف الحمار بغتة فضربه أبو على بقسوة . . .
* الضرا أو الضرى : هى خلوة الرجال حيث ياكلون ويستقبلون الضيوف
** كناية عن الذى يرى الشر فى غيره أفضل من أن يراه فى نفسه
هنا على هذه الرابية كنا نلتقى أنا ونوار ، فنتناجى كعاشقين بعد أن سلبنا
الوجد
الإحساس بالزمان والمكان أو . . ويأخذنا التعب والإرهاق ونحن نركض خلف
العصافير
. . كان لهواً طفولياً ، وما بالقلب أكبر من شقاوة الأطفال . . . أصبحنا
نكتفى
بالجلوس تحت الحرازة ، نلعب السيجة والبحر يسبح فينا . . يسبح حتى يغرق
فننتشله
ضاحكين ‍‍‍‍‍! .. كبرت يانوار وتفتق الجسد عن إمتلاءات شدت تجاوب الحراز
إليها
. . لم تعد تقوى على الركض فالصدر الذى إستوى بإرتجاجه يؤلم الجسد الممشوق
فى
كبرياء حرون ، والعجيزة تثـقل على الجسم . .وصارت الطفولة بذكرياتها
الحميمة
دافعاً للركض فى الدم ، ومطاردة لعصافير لاتبارح القلب !! . .
نوار ، الصبية التى قدمت من مكان ما ، فى زمن ما ، حلت فى داخلى بشكل غريب
نوار
أنثى الحراز والأبنوس ، إحتواها شيخ بابكر " لكنها كانت بت الحلة كلها "
وبدرها
المنير ، حين يسلب الغيم السماء نجومها وقمرها الضاوى . . خلفها القطار
وراءه
ورحل ، مثلما خلفت جهينة الكبرى أشتات البدو الأقحاح ! ومثلما طوى التاريخ
سلالات بنى ذبيان وفزارة
. أطوارها الغريبة كانت تهزمه : شيخ بابكر ممثل التاريخ الرسمى لدولة
البحر
والغابة واللحى ! كان أيضاً غريب الأطوار إلى حد الفجيعة وهما نقيضان .
فهو قد
يمم وجهه شطر إبن تيمية وهى تخبئ بين أستارها سبحة لاتفارق صدرها المتمرد
أبداً
حيث تكمن سنار القديمة وكل الإسقاطات الطقوسية لمانى وومزدك وزرادشت فى
تعاليم
البهارى !! لم يكن لأحداً أن يدرك عنها شيئاً سواى ، لأنها لاتسبح إلا
أمامى .
. وجهها يضيئ جميلاً ، حين تهتف بسيدها القوس أو قطب الأقطاب ، قوت الزمن.
.
هالة خضراء تحيطها حينها كالملائكة الكروبيين هى " كالحنة " والحنين
وجلابيب
وطواقى سيدى عبد القادر الجيلانى كما كانت تقول !! لم يكن شيخ بابكر ليعلم
عنها
شيئاً ، ولا كل من فى الحلة يعرفون نوار سواى . . شيئ واحد كانت تشترك
فيه
نوار مع شيخ بابكر والآخرين : هو أن الجميع ينتمون إلى ملوك الطوائف ، لم
يدافعوا عن دويلات المدن وهى تسقط .. واحدة تلو الأخرى ! تماماً إختبأوا
والمدن
الإسلامية تسقط تباعاً على أيدى الصليبيين .. كانوا يلوكون حسرتهم فى
بيوتهم
ينتظرون الفرح ومجد " الزلاقة " يتضائل ، يتلاشى . . . وكان الغزالى حينها
يكتب
تهافت الفلاسفة ، مغلقاً أذنيه بالكتاب ! لم يصمد سوى المعتزلة ، تصدوا
لزيف
الصليبيين وقاتلوا عن مدن هرب عنها فلاسفتها وشعرائها ، ملوكها السفهاء
وحاشياتهم ! . . . وتماماً مثلما سقطت سنار . . . كان إدعاءاً كاذباً ،
فليس
ثمة " . . رجال صابرون على القتال بكرة وعشية . . "* بل همج يتقاتلون على
الدولة وإقطاعيات الملك وحريم وجوارى القصر. كرر التاريخ نفسه
* وثيقة التهديد التى أرسلها ود عدلان الى إسماعيل باشا . . .
فى اللحظة التى دكت فيها سنابك الخيل بغداد . . . كان عقلاً جباراً يخطط
لإسقاط
سنار ، لينهار الحراز ويهطل الدم مطر وتتحول المدن وبيوت الصفيح والقش
والطين
اللبن الى رماد وتجعل الطريق مشرعاً ، لتؤسس للظلام ممالك تجيد الإنحناء
لسفهاء
أوربا . . .
ـ الدين الرقائق* يا أبو على
ياااه تنبثق نوار من قلب الفجيعة والرماد ، حاملة فى دواخلها أثراً
لبشاعة
الترك والأنجليز والمصريين الغزاة ، وليالى الرعب عند مقتل ( سير لى ستاك
) . .
تنبثق نوار مهشمة الحنين يستلبها التاريخ ، فتبنى عند البابور دولة
للقرامطة ،
يفشل كل عسس السلطان فى إكتشافها . . يفشل كل أبناء الإنجليز الذين تربوا
بين
أحضان التاج البريطانى فى الكشف عنها . . يااااه ، هذه النمرة ، النمرودة
أكبر
من سنها بكثير ، كالحراز مجهولة العمر ، تتفتق عن دفق وألق لايستطيع
السياف "
مسرور "** إيقافه أبداً
ـ من أين لك كل هذا العلم يا نوار ؟ ‍‍‍‍‍‍‍!. .
ـ من الفجيعة ! سنار القديمة . . الشيوخ ال ...
ـ لكنك كنت صغيرة عندما أتيت إلى هنا فكيف ؟!. .
ـ لا بل منذورة للزمن ، فكرة فى خاطر كيرا ، ( نينا ) . .أنا نوار.
رحل القطار بداخلى ولم يرحل عنها ، الزمن ثابت والسكة الحديد كشوكة
الساعة
والقطار لازال يتكئ فى محطته الأخيرة . . نوار أنثى الشفق والدم والدمع
والجنون
! . .كنا طفلين نرعى الغنم معاً ، كانت تمضى باكراً نحو البحر وأذهب أنا
فى
الدوام المدرسى . . ألحق بها عند نهايته . . وكان البحر حينها يسعنى ويسع
أحلامنا . . ونوار مع الأيام تتفتق عن أشياؤها وأتفتق عن أشيائى ، أشياؤها
السرية ، القصوى تضرب جذورها فى الأعماق وتكون تضاريسها المتمردة على
أجسادنا ،
ملامحاً تعبر عن نفسها ، تغزو ممالكاً ليخرج الضوء شفيفاً كالجرح يتفتق
جسد
نوار عن بداوته وبدائيته القحة وبدايات التيار . .
ـ رأيت سمح الشمايل سيدى قوس الزمان ! . . بشرنى بعلى كما بشر المعقور
بسلالات
حبيبته الكيرا. .
ـ لا أفهم ؟!!. .
ـ أمرنى بأن أتزوجك وأنجب منك على . . تطلقنى ويذهب كل منا الى حال سبيله
.
لن يذهب الزبد جفاء يا نوار ياأخت القمر ، سليلة أرض الحراز وبدرها المنير
. .


** الرقائق : الأدعية المأثورة وأوردة المتصوفة
*** سياف هارون الرشيد
ليذهب " سمح الشمايل " ونبقى نحن على الحب والساقية والباجور . . كنت
دهشاً لا
لأن الجميع ينظرون لنوار كخادمة ولا لأنها بلا أهل سوى " حب المصطفى عليه
السلام " كما كانت تؤكد بإستمرار! . . ولكن لأنه لم يخطر ببالى أبداً إننى
سأتزوج ذات يوم ! ويكون لى أولاد !! . .
كان الحلم بعيداً لمن فى مثل سنى ونوار . .لكننى لم أكن أطيق خيول
الإنجليز
تأتى و بواخرهم النيلية تسقط القرى والمدن ومدافعهم تهدم الطوابى . . لم
اكن
أطيق صلف الدفتردار وعنجهية إسماعيل باشا . . لم أكن جباناً وأقل من مستوى
الحلم الجميل !
ـ نتزوج !
وخطرت على البال تحذيرات أمى . .
ـ أبعد عن نوار يا ود . . أنت كبرت ، والبت كبرت إنتو ما شفع زى زمان !
وسربت لى أمى من مخاوفها التى تراها فى الحلم . .
ـ شفتك إنت ونوار وبينكما دغل من الحراز الأحمر . . الله يكضب الشينة !! .
وفى مرات أخرى
ـ كان بينكما بحر وفى منتصفه عجوز تمشى عليه كالصرح الممرد وكأنها لا تمشى
،
فلا هى إقتربت من الضفة التى أنت عليها ولا إقتربت من ضفة نوار !! . .
أهى جدتى يا أمى ؟!. .
وتنظر إلى بتمعن :
ـ ربما يا ولدى . . ربما !! . .
لم يكن ثمة شاهد على زواجنا سوى الله . . ذاك المساء قالت والعصافير تسبح
فى
دمها ، وتسيل على شعرها الأسود الطويل ، وعينيها تزقزقان . . وعطر خفى
يحتضن
المكان فيضفى عليه بهجة الجنون والسحر والحنين . . ذاك المساء تبدت كإمرأة
عركتها الأيام . . قالت بحذر . . وإرتباك . .
ـ لنتزوج . .
فأجبت :
ـ لنتزوج !
كنا على الرابية وأمامنا البابور يضخ الماء على " السرابات "* عبر عملية
معقدة
تتكون من شبكة من الجداول المتفاوتة العرض والعمق والطول ، قرأنا كثيراً
من
القرآن وصلينا ركعتين لله . . وكان الله شاهداً ، كل ما تم من أمر كنت
أنظر له
ببساطة ! . .
*جمع سرابة وهى مجرى ضيق ينقل الماء للأرض المزروعة

ذاك اليوم لم نبارح الرابية وشجرة الحراز حتى مغيب الشمس ، كانت نوار
قبالتى ،
أمامنا
البابور وتحتنا الرابية وشجرة الحراز مشربين بالوجد . .
قالت نوار :
ـ هذه الحرازة !
ـ ما بها ؟!. .
ـ أحفر عليها إسمك وسلوى وعلى . .
ـ من تكون سلوى ؟
ـ إنها خاتمتك . .
نظرت إليها فى تساؤل عميق . . كانت قد لاذت بصمت أعمق
. . . . . . . . .
ـ هذه الحرازة نمت بعد أن نزح " الشلك والنوير " جنوباً وصار يؤرخ
بها للمدينة ، يقال لك سنة الحراز فتفهم ما يعنون . . .
ـ وما علاقة ذلك بسلوى ؟
ـ الآن ستؤرخ بها لهجرتك نحو مواسم لايغيب عنها الوجد والأحاسيس المخملية
.
وعميقاً ينسحب الصوت ليلوِّن الحراز بمواسمه المموسقة مع إيقاع البابور
والجدول
ـ لنتزوج . .
ـ لنتزوج . .
كان الخدر يسرى يملأ فراغات المكان ويفيض . . دوائر ملونة مشحونة بالشجن
الملتهب اللاهب تدنو لتلتقى وخرير الجدول . . يتسرب النفس مشعلاً فيها
رائحة
الجروف والأرض والتراب والطين والحرائق المثمرة . .
ـ ما بك يا أبو على ؟؟!
ـ لاشيئ
ـ سيدى قطب الزمان يحجبنا
ما من جسم له لدونة ، كجسم نوار وما من ثغر له عذوبتها وما من جسد متفجر
بالأحاسيس العارمة مثل جسدها التظاهر ، الهتاف ، الجنون ، والجحيم الممتع
،
وليست ثمة شفاه شهية كشفاها العسل المصفى . . نوار لم تكن مثل جنيات البحر
أو
حبيبات عمر بن ربيعة أو عاهرات الشام ! ولم تكن مثل اليمامة ، أو ولادة
بنت
المستكفى ، تخون إبن زيدون وتعطى قبلتها لمن يشتهيها وتطفئ مصابيح الغوطة
،
ليعم الظلام إشبيليه وقشتالة وقرطبة وقرطاجة ، فيهرب العرب من الأندلس
مذعورين
ويتحطم حلم دولة المنفى بين أحضان عاهرة إسبانية . .
نوار كانت دولة المنفى ذاتها والصدى للقادم من مجاهيل الحراز يبحث عن
هويته بين
أسداف الذاكرة ، ذاكرته الملحقة بالبحر والصحراء والنخيل والغابات . .
نوار حملت فى رحمها ملامحاً للذى فى الغيب يحمل سيف موسى ود جلى من المتحف
الوطنى عندما يكبر ويحارب جيوش الظلام فيعلق ضفيرتى ( الغليسة ) و(
الخريسة )
بديلاً للعلم ورايات القصر الجمهورى !. . . كان على يكبر ، وليس ثمة نطفة
فى
أرض الحراز فى تلك اللحظة تنمو إلا وإستقت ملامحها منه . . .
ـ حان وقت الرحيل يا أبو على
ـ إلى أين ؟!
ـ هكذا أنتم الرجال ، تنسون العهد وتخونون المواثيق !!!
ـ كيف يا نوار ؟!
ـ ظننتك لست كشعبك . .
ـ وما له شعبى يا نوار ؟!
ـ ضعيف الذاكرة !
ـ بل هو بلا ذاكرة !. .
ورحلت نوار ، كنت . . . لا أدرى ماذا كنت ؟ ، فقط لحظتها أدركت أننى
لست كموسى ود جلى . . .
ـ هذه الحرازة عندما تخضر خريفاً تزوج من سلوى . . هى شبهى . .
ـ من تكون سلوى يا نوار ؟!
ـ لاتتعجل الأمور ، فكرة فى خاطرها انا . . إنها أم على . . .
ـ الحراز لايخضر خريفاً يا نوار !
ـ الخريف بداخل الحراز يا أبو على ، كل الفصول بداخلنا نحن . .
ـ للطبيعة قوانينها يا نوار !
ـ أيضاً هذه القوانين بداخلنا . .
ـ لم أعد أستطيع فهم شيئ !
ـ بل تفهم كل شيئ !
ـ نوار ؟!
ـ عندما يخضر الحراز خريفاً سيكون أحدنا قد مات ، إن لم تكن أنت فتزوج من
سلوى
. .
الحراز إرتبط بالنصر والهزيمة ، بالقتل والدم والثورة ، هكذا كان هكس
مختبئاً
أعلى حرازة فى شيكان ، قتلوه فيها وعلقوه على مشارف الرياح والصباح !! . .
.

ـ أحدنا سيموت يانوار ؟!
ـ لست أنت على أى حال ، سلوى ، تنتظرك لتزرع فى رحمها العصافير والأطفال ـ
ـ
والحلوى . . إنها الأرض وباطل كل ما قاله علماء الفلك والفيزياء.
ـ نوار ؟!
ـ ستجدنى قربك دائماً عندما تحل بك الكروب ويضيق بك الزمان والأهل والوطن
.
أحبك . . .
وكانت تلك أول وآخر مرة تقول فيها أحبك . . رحلت . . وكان الجميع سواى
لايعلمون
وظل الأمر سراً كحياتنا التى لايجرؤ تاريخ الدولة على تجاوزها ، كما إعتاد
تجاوز كل الحقائق والأشياء الجميلة!. .
لم يكن سواى يعلم عن نوار وعوالمها الميتافيزيقية ، المخملية ، الساحرة
شيئاً !
الجميع يعاملونها كجاهلة رحل عنها القطار والأهل وتغولها آخر المساء !
وحدى كنت
أعلم أن القطار كان بداخلى والسكة الحديد تتكئ علىَ ونوار ، . . . لم
يكونوا
يعرفونها جيداً ، الجميع ، حتى شيخ بابكر نفسه ، كلهم يعاملونها على أساس
فهمهم
لها بإفتراضاتهم فيها ، ووحدى الذى كان يعرفها جيداً . . كثيراً ما
تساءلت :
لماذا إختارتنى أنا بالذات ؟! ولم أصل لجواب أبداً. . . فأنا لم أكن أحمل
ملامح
ود جلى ، الذى حزن لموته الأعداء قبل الأصدقاء ، وبكته نساء القبائل كلها
. . .
كن ينتظرن موسى ود جلى غازياً ديارهن ، هازماً فرسانهن ليأخذهن سبايا لو
تقاسمن
تقاسيمه لتمدد الوهج وغنت الحكامات مثلما غنين بعد ذلك بوقت طويل :
( حليل موسى ياحليل موسى
حليل موسى الأمو جاموسة... )*








* من مناحة طويلة تبكى موسى تعتبر ملك التراث العام فكل القبائل تنسب موسى
إليها











أخذت نوار تحكى عن تلك الليلة التى إنتقلت فيها إلى خاطر نينا الجميلة . .
. (
لم تكن مثل تلك الليالى التى يعطف فيها مارتجلو على شعب الوادى فيحفهم
بصوته
العميق الآسر ، ولا أحد غيره ، فكل الناس ناموا على غير عادتهم ، كانوا
ينتظرون
مثل هذااليوم بفارق الصبر ، لكن مر اليوم فى ذلك الشهر عادياً تماماً . .
. فلم
تقام الإحتفالات البهيجة تحت ضوء القمر الفضى ولم يهتم أحد " بدلالينق
البقو "*
ولم يرقصوا " الكسوك وأبيرة ودَّت "** . . . لم يغنوا للنسوة الفاتنات ولم
يستحموا فى الوادى أو يتعطروا كعادتهم ! ولم تلبس ذوات الصدور العارية تلك
"
الكنافس " المميزة والأستار المحلاة بالسعف وجلد النمر والأصلة وخرز العاج
.
مرَ اليوم عادياً تماماً ، كأن إتفاقاً مسبقاً ، غير معلن قد جرى بينهم .
. .
كان يوماً مشبعاً بالغموض ، هكذا أحس به الجميع . . . أخذت الأصوات تخفت
شيئأ
فشيئأ ، سكنت الحركة تماماً فى حلة شعب الوادى أسفل المارتجلو ذو الطائر
الضخم
. . . تململت نينا لحظتها فى نومها العميق . . . لم تكن تدرى ، أننى أولد
فيها
. . . فى تلك اللحظة بالذات!! )
تنهدت ، وصوت نوار ينسحب لتملأ سلوى تجاويف الذاكرة
ـ آه ، تقصد تلك اللوحة . . . نوار ذاكرة الحراز البرى رسمتها فى جبال
النوبة ،
فى الرحلة السنوية للكلية . . .
آه يانوار . . لاتزال غامضة هى عوالمك ، كلما ظننت أننى إقتربت تزدادين
بعداً !
. . . أهى أمك تلك النوباوية ( الصَّمَة )*** التى رأت موسى ود جلى يهزم
فرسان
قبيلتها ويسوقهم أمامه حتى " سودرى " **** ثم يرجع بهن مرة أخرى . . .
فغنت له
الفحولة والموت والإقدام . . . غنت له الشجاعة ، والموت . . . الموت الذى
يشفق
على الحياة ويرفض أن تكون ذليلة ، كما غنت من قبل ومن بعد نساء القبايل ،
فأهداه ملك النوبة هذه المغنية العاشقة المتدلهة ، هذه المغنية التى لم
يمض يوم
إلا وتحكى له عن شهريار وشهرزاد . . بلغنى أنها انجبت له نوباوى الذى قطع
رأس
غردون باشا وعلقه على شجرة الحراز المتكئ على النيل ، تنظر إلى القصر
الجمهورى
. . . دار الحاكم العام ونظرتها تخبئ رحلة السلالة الهاربة من الإستسلام
للترك
يانوار فمن أنت ؟ !! . . .
سألت الفنانة التشكيلية :
ـ وإبنها على ؟!!. . .
ـ مثل تلك الفكرة . . Deliverer التى عاشت فى عقائد الناس طويلاً . . .
* دلالينق : جمع دلنق وهو قلة من الفخار يوضع فيها الخمر البلدى المصنوع
من
الدخن "البقو"
** من الرقصات المرتبطة بالأفراح ، وهى رقصات حسية ذات دلالات جنسية فى
تراث
قبيلة الفور
*** الصمة : هى البكر ذات الجسد المشدود
**** إحدى مناطق كردفان
وحكت وحكيت .. كانت نوار تعيش بيننا ، تدير الحوار ، تتنفس هواءنا ونتنسم
رائحتها ، ثم قالت سلوى . . .
ـ أخشى أن أكون فى حلم !
وكانت نوار ماثلة كالمجد الزاوى فى نفق التاريخ لاتزال هالة خضراء من
الضوء. .
كالهالة التى تحيط بالأربعة الكروبيين .. أنه شيخ تاج الدين البهارى يا
أبو على
، لايزال يلاحقك . . .يفصم ذاكرتك ، يعبئك بالميتافيزيقيا ، لتظل حائراً
على
مفترق الأنثربولوجيا الدينية ونوار !! . . . أنت لست موسى ود جلى الذي رفض
أجمل
النساء لأنها قالت له (راقب لى العيش ده)تعوَد أن يحرس قبيلته وكل القبايل
فكيف
تطالبه إمرأة بأن يحرس الذرة!. تركها وقال ( حرمانة علىَ ) ولم يستطع
جمالها
الدفاق ، و حسنها ثنى قراره . . وها أنت الآن . . . نظرة من نوار تحيل
الثلج
الذى بداخلك الى نار حمراء لافحة . . . تصارع البهارى لأجل أن تنفك منه ،
و
تصارع لأجل البقاء ، خاض معك معارك المسلمية والبقارة وبنى جرار وسلالات
ذبيان
وبنى وفزارة المنقرضة . . دخل مع الغزو التركى المصرى ولم يبارح بمجيئ
الإتجليز
الأمصار ، إنه البهارى يا أبو على ، وأنت لست المأمون ، وليست ثمة دار
حكمة
تختط للضوء طريقاً !
ـ المأمون ذاته لم يكن بريئاً !
ـ هذا صحيح ، كان يريد الإحتفاظ بالسلطة . . .
السلطة يا أبو على ، هذه اللعنة التى تلاحقك . . تلاحق دمك لاتهتم يا أبو
على
بفارق الزمن فالنتيجة واحدة والعدو واحد كن كإبن رشد الذى كره الظلام . .
. كان
يريد أن يخرج من الظلمات نور رغم أنف إبن سينا المتكئ بين عرصات حران ،
بين
تلافيف الغنوص والظلام فى خدمة البهارىوالذين يهيئون كل أجهزة الدولة
الأيديولوجية التوظيف ، لقرون قادمة ! . . .آه يا أبو على نوار تهاجمك ،
تتوغلك .. كأن فوقك الستار و تحتك الستار و خلفك الستار و بين بين ..
البحر
أمامك و العدو خلفك .. نفض أبو علي الغبار عن اللوحة ، تتطلع إليه مليئاً
..
كانت تجسد نوار بواكير القطن و لعنة " الشرافة و الهجرة " .. نفض أبو علي
خيوط
العنكبوت عن اللوحة ، إكتشف لأول مرة أن الطقس كان خريفاً و الحراز
نخيل!...
وضع أبو على اللوحة جانباً و محمد أخوه الصغير يدخل ، يلج دائرة وحدته و
تداعيه
، نهض .. إقترب منه ، إحتضنه ...
ـ سأنسى قصة هربك بشرط أن تكون الأخيرة .. لم يتبق سوى القليل و ينتهي كل
شئ
ـ إنني آسف ..
ـ ألا تهتم ، يجب ألا تتهور ..
ـ سأعود إلى المدرسة ..
إحتضنه .. عانقه .. أبو على بشدة .. أكثر..و أربعة دمعات ، تتعانقان في
فراغ
الغرفة ..

..... ..... ..... .....
..... ..... ..... .....
..... ..... ..... .....
..... ..... ..... .....
..... ..... ..... .....






مــداخـلـة :-
















فاضل العزاوى










تفاصيل الذي كان .
توسط البدر المنير بضوءه الساحر ، مارتجلو . . وأحاط به تماماً ، آدمو هو
الوحيد الذى لم تخبأ نار وجده أو داره . . لم تسكن حركة دواخله المضطربة ،
بشوق
ملتهب لنينا الجميلة ذات الألق البرى المميز. . رغم إنشغال آدمو بحبه
العميق
إلا أن إحساساً داهماً هاجمه ، إقترن بالحلة الوادعة أسفل الجبال الأربعة
لمارتجلو . . لم يكن يدرى كنه هذا الإحساس ، فقط شعور بعدم الإرتياح
والترقب أو
. . فتتسارع أنفاس آدمو وتصطرع فى داخله مدينة مشتعلة بركامات اللاوعى
السحيق .
. تناسى آدمو أمر الإحتفال البهيج الذى لم يقام وإنشغل بمناجاته لطيف
الفتاة
المنعمة " نينا " سليلة " الكيرا " التى سار بصيتها الركبان ! ملأت عليه
نينا
كل دنيته ودنياه ، فلم يعد يرى شيئاً إلا عبرها . . ملأت عليه قسماته
التى
خددتها تجاريب الجغرافيا الملأى " بالتقاقيب "* والحروب . . والطبول
العالية
فأكسبتها خبرة ودفق وقسوة . . لم تستطع أنثى أن تتسربها سوى نينا وحدها
بصدرها
العارى ، العالى ذوالحلمتين السمراويتين . . ذلك النور الذى يشع من
البلاد
التى تقمصتها الحرب ونيران التقاقيب كان ينبثق من جسدها الملفوف متحدياً ،
متسرباً رقائق السعف وخرز العاج وجلد الأصلة المتدلى بين فخذيها الدائريين
،
كان جمالها برياً ، متوحشاً ، قاسياً ، ومع ذلك ناعماً كالحرير . . إنه
ذلك
النوع من الجمال الغامض الذى لاتعرف من أين ينبع بالتحديد ويشع !! . .
ولا
إلى أين ينتهى وليس ثمة أحد يستطيع إحتماله !. . كان جمالها كجمال الكيرا
،
مدوياً مثل مارتجلو . . . صداه فى كل مكان ولم يكن ثمة من يستطيع إحتواء
هذا
الدوى سوى دوامات صوت مارتجلو التى تشعل فى قلب آدمو مقاومة للحصار
المتجدد . .
مارتجلووووه . . ووو. .



( * )



التقاقيب : جمع تقابة وهى نار القران.


هو الخطاب السياسى اللعين ، يهاجر فى مكان نحسبه وطن ، ثم نكتشف فجأة بعد
إنقضاء عهد ما أن الأمر ليس سوى ثمة دولة أخرى كالتى إنقضت ، حينها ،
نبكيها
على الجدارات وطن !! بلا ذاكرة ، بلا ضمير ، كالنصل ينغرس فى القلب . .
.دولة
من العسس ! أين هو الوطن يا نوار ونحن نهتف بعودة من خرجنا لإقصائهم
بالأمس !؟!
. . أين هو . . ولا تزال البدائية والخواء وفوضى رأس المال العطنة تملأ
خياشيم
الأماكن والناس !!؟!! ذاكرة الغبى الأخطل لا تزال تسيطر على القطيع . .
والذى
يأتى هو الذى مضى ! لاقيمة لأركان النقاش السياسى العقيمة ، لاقيمة
للمناظرات
التى جندلتنا فى اليوم ألف مرة ! إذ لانزال نعيد إنتاج تاريخنا القبلى بكل
تناقضاته ، قالت سلوى :
ـ بنية الوعى الأسطورى كما تقول . . .
وتلحظ ان إسماعيل بادي قطع الفيافى منها إلىَ . . . لم يسترح أبداً ولم
تنهكه
القفار فى دائرة النقاش . . ألح فى السير وهو يتقصى سوء معاملة المسلمية
لقبيلته الجمع . . زار حامد السعيد فى هذه الكافتيريا " فلمَح " له حامد
السعيد
أن ما ورد إليه عن إهانته للجمع لاتشوبها شائبة كذب . . هى الحقيقة وأردف
مضمناً كلماته وعيد وهو يقدم " المريسة "* لإسماعيل بادى ( أشرب يا أبو
قصيصة
باكر لابد نخرب " بريسة "** ) ويشرب إسماعيل ثم يضمن غناءه وعيداً أشد (
أشرب
لاتتعب قوز العافية*** باكر يخرب ! ) وتقع حرب البسوس بين البقارة
والمسلمية
ذات التاريخ يعيد إنتاج نفسه الآن . . . فى دهاليز البرلمان . . ردهات
الكافتيريات . . على ورق الجرايد وأروقة القاعات ، ثم تتحول الجامعة الى
بقعة
من النار والفحم . . قال عادل :
ـ سلوى بتسأل عنك ؟!
لم تكن تخطر على بال أبو على سوى سلوى واحدة . . تلك الفنانة التى إلتقاها
قبل
خمسة سنوات وتلاشت فى الفراغ ، يبحث عنها فى دواخله ، يجدها مختبأة كالسر
،
سلوى سره الذى لايعرفه أحد . . سره المختبئ كنوار . .
ـ لاأعرف واحدة بهذا الإسم !
ـ أنا أدرى أنك لاتعرفها . . إنها قريبة نهى . . أو قل انها صديقتى . .
ـ نهى ؟! . .
ـ نهى خطيبنى ! . . ماذا حدث لك ؟!
ـ آه تذكرتها ، هل سلوى هذه ..لم أرها ، أذكر أن نهى حدثتنى عنها أيضاً .
.
* خمر بلدى يصنع من الذرة الرفيعة
** بريسة: موضع
*** قوز العافية : موضع
ـ جميل أنها رائعة بحق ، حلوة ومدهشة . . أنت محظوظ يا صديقى . .
ـ محظوظ ؟! ليس ثمة شيئ بيننا !!
ـ يكفى أن تسأل عنك من هى مثلها !
ـ لابد أن عقلك قد حدث له شيئ !
لم يكن عادل يدرى ان القلب محجوز لأفواج نوار التى إرتحلت ذات يوم غائم
معبأ
بالدهشة والغموض . .
ـ نهى كيف كانت هى الآن . . هل تأقلمت على الشباب ؟! تبدو لى بسيطة
ورائعة
ـ إننى أذوب فيها حباً !!
ـ وهى !!
ـ تعشقنى بجنون . . تتلاشى فىَ!
إبتسم أبو على
ـ لاتدع محموداً يراها ، أجعل تأمينك عالياً حتى لايسلبك إياها !
ـ لن يستطيع أحد إنتزاعها منى ، فهى التى بادرتنى الحب !
ـ وأنت ؟1
ـ ألم أقل لك إننى احبها
ـ لاتتعجل يا عادل ، كفاك تجربتك التى أدخلتك فى الأزمة السابقة . .
تريث
وأبن على أساس قوى !!
ـ تلك اللعينة أحببتها بصدق ، لكنها خائنة . . خدعتنى . . لكن نهى
صادقة
ونقية!!
ـ المرأة كائن غريب فى كل الأحوال . . خذ حذرك وعش تجربتك بصدق. . أنت
كالفراش
تنتقل كلما كان هناك زهر أجمل وأكثر رحيقاً وعبقأً . . حاول أن تجعل نهى
فقط
محوراً لعالمك . .
ـ دائماً تهاجمنى يا أبو على ، الى الحد الذى أشعر فيه أحياناً بأننى
تلميذ
مشاغب فى مدرسة أنت ناظرها ! . .
ـ أنا ؟! يبدو أنك أسأت فهمى كالمعتاد . .
ـ لم أقصد قل لى متى تستقر أنت ؟!
ـ عندما أجد المرأة الحلم !
ـ إنك ترجو خيراً من سراب قاتل ! . . الآمال والرغبات لاتتحقق أبداً
طالما كل
ما نفعله هو مجرد إنتظارها . . إنتظارها فقط ! . .
ـ ماذا تقترح أنت ؟!
ـ سلوى تسأل عنك فى إهتمام ! . .
ـ إننى لم أراها ولا أعرفها !! . .
ـ أحبتك من حديث نهى عنك . . . وماذا تعرف نهى عنى ؟! . . .
ـ أسأل سلمى ، فلا حديث لها سوى الحكى عنك ؟! . . .
ـ تكاد تحفظ حتى تاريخ ميلادك ، أحياناً أشعر بالغيرة منك . . .
ـ ولماذا تحكى عنى بهذه الصورة لنهى ! . . .
ـ لا أدرى ما الذى يعجبها فيك . . . إنه أمر محير ! . . .
هز عادل رأسه ومضى ، مكث أبو على قليلاً ، شعر بالوحدة والوحشة ، لأول مرة
يهاجمه هذا الشعور ، نهض من مكانه وتوجه الى كافتيريا النشاط . . . يعرف
أين
يجد بقية الشباب . . . كعادته دائماً ، نادراً ما ينضم الى جلساتهم المرحة
والمثقلة بالهموم . . . كانوا متحلقين حول المائدة ، خالدة ، خالدة ، عبد
الله
، آمنة ، عادل ، نهى ومحمود . . . فكر أن يغير مساره ويذهب الى بيت أخته
فقد
إشتاق إليها كثيراً والى إبنها الصغير . . . كما أنه منذ أيام لم يذهب
إليها .
. . يعلم أنها ستكون قلقة عليه جداً . . . غير رأيه وإستقر على الجلوس
معهم .
. . شعور بالحنين الى أخته وصغيرها لم يفارقه . . . مسه شيئ من الضيق . .
.
همس خالد:
ـ ما بك يا أبو على ؟!
ـ هل تكلم معك عبد الله ؟!
ـ بخصوص ؟!
ـ. . . . . . . . .
ـ عموماً لم أره منذ الصباح ، وأراه الآن مشغولاً بآمنة
ـ حديثه على كل حال لايسعدنى . . .
ـ أنا أعرفك جيداً دواخلك شفافة . . . البصمة تؤثر فيها ! . . . كيف حال
خالدة
ـ ـ معك؟!
ـ والله يا أبو على الأمور كلها فى طريقها للتأزم . . . هكذا أنا ما أن
تطل
لحظة فرح حتى تسلبنى إياها الغيوم دون رحمة !!
ـ ماذا هناك بالضبط ؟!
ـ أسرتها لاتريد لها شاباً فقيراً ، كالعادة ذات السبب فى كل تجربة . . .
ـ لاتحزن يا صديقى . . . ربما لم يحالفك الحظ حتى الآن !
ـ نحن بحاجة لجمعية للدفاع عن حقوق الرجل !
كنت أشعر بضيق عظيم ، لم أستطع أن أقول لخالد سوى " لاتحزن ياصديقى "
كررتها
حتى مللتها . . . قررت الذهاب الى بيت أختى هكذا فجأة . . . قمت وأنا مثقل
بالحزن { توقفت عند مخرج الجامعة مشتت الذهن ، لا أدرى هل أذهب عن طريق
الشهداء
أم السوق العربى. . ." حتى هذه المسألة الصغيرة ، لم تعد تستطيع حسمها يا
أبو
على ؟! " تنهدت وأنا أتجه نحو حافلات الخرطوم . .
* * *
رأيته فجأة فى المحطة الوسطى الخرطوم ، كان الرقم الثانى فى شلتنا العجيبة
تلك
! مر شريط الشلة على ذاكرتى سريعاً فقد كانت فرقه ذات نشاطات متعددة ..
فهى
الجهة الوحيده المسئوله رسمياً عن اى كارثه تحدث فى المدرسه وهى التى تقوم
باحتيال ادارة البوفيه فتشرب الكركدى والشاى ( ملحاً) دون ان تدفع مليماً
واحداً ..وهى التى تجد ذات اعضائها فى كل الجمعيات ، وهى الوحيده التى
تعود الى
مواقعها فى الداخليات فى وقت متأخر من الليل بعد ان تكون قد غزت الاحياء
المجاوره خاصة الحى العشوائى البعيد وهى تترنح ( انا اصلى يا عقد النجوم
فى
الريده ذى ساقية جحا والكفة فى ميزان هواى صعبان عليَّ ارجحا ) ... كانت
شلتنا
حقاً ذات نشاطات متعددة ، فهى التى تدبر المكائد لارهاب الطلاب (الجناير )
حتى
لا ينضموا لهذا الاتجاه السياسى او ذاك .. فارضه حمايتها على من تشاء من
عباد
الله الطلاب وهى التى تنتدب نفسها قيمه على الاخرين ، حاسمة الشواذ
اخلاقياً
والذين ( يدكون ) المذاكره .. كنا اداره داخل اداره وهو الناطق الرسمى
باسمنا
فى المحافل الطلابيه .. كانت ادارة المدرسة تنظر الينا بحذر وترقب ،
خوفاً من
تساؤلاتنا المريبه عن كمية السكر المستحقة لدى الداخلية او اشياء من هذا
القبيل .. وقد كنا ندرك تماماً اين هى مواقع الخطوط الحمراء ! من الالوان
الاخرى !!! فنستكين الى شعرة معاويه ! الطلاب جميعهم يرضخون لسلطاننا
الواسع ،
والاتحاد يسشيرنا بغية اتقاء كيدنا ، بعد ان تفشل مؤامراته التى تستهدف
امن
الشله ! فيلجأ الى ترغيبنا باستمرار ، لادراكه التام ضخامة شعبيتنا واننا
لو
اردنا ان نكون مكانه لرشحنا انفسنا بعد ان نطيح به ! فرغم افاعيلنا التى
لم
ينجح احد فى اثباتها علينا ، حافظنا على هيبتنا ... وكنا محبوبين من
الجميع ،
لم يكن الاتحاد يخشى ان نتحول الى هيئة رسمية ، إذ أن دستور الشلة غير
المدون
يمنع ذلك لئلا نعجز عن تطبيق العداله على طريقتنا التى لا تعجب احداً ،
لعدم
ثقتنا فى القوانين ، واعتقادنا انها كتبت اصلاً لتخرق ! لكن لم يكن بيد
الجميع
حيله ! ذات مرة قرر وكيل المدرسة التصدى لنا فوجد فى اليوم التالى اسم
ابنته
مكتوباً على السبورة بالخط الديوانى ، تحت عنوان عريض بالرسم الفارسى :(
الحمله
الفرنسيه !) وفى الاسفل كثيراً اسم لفتاة تناثرت حولها الاقاويل كانت
تتردد على
مكتبه فى فترات متفاوته ، فاضطر الوكيل لرفع الرايه البيضاء ! كانت شلتنا
تعلم
كل ما يدور فى و حول المدرسه من اقصى الخاص حتى اكثر الاشياء عموميه
وتمارس
الكرم الحاتمى على طريقتها بتحطيم اقفال الدواليب الخاصه بالطلاب الاثرياء
وتوزيع مكتنزاتها سراً على الطلاب الفقراء والمعدمين .. لم يكن احد من
الطلاب
الذين (إبطهم والنجم )* يشكو من عدم دفع الرسوم ! كل المحاولات لاختراقها
فشلت
، فشلتنا ذات عضويه محدوده وكل منا عندما يكون بمفرده فى مؤتمرما ، يمثل
رئيس
الشله ويؤدى الواجب ! اذ ان الكل تكليفه معه ، والكل رئيس ! لم يكن هناك
من
يجرؤ على تجاوز القوانين التى كنا نضعها باستثناء عتام .. بل كان هو
المدير
الفعلى لكل عمليات الشلة وعقلها المفكر .. وبالفعل لم يكن ثمة من الطلاب
من
يتحدانا سوى عاصم الاعرج ، فقد كنا نتضامن معه فى سرنا لاعاقته وحتىلا
يشعر
بالنقص ، كما ان بنود دستورنا لا تسمح بايذاء المعوقين وقد استقل اللعين
هذه
الثغرة .....
استرديت ذاكرتى التى طافت بعيداً وهتفت ( صلاح ..صلاح !..) كان يدافع مع
المدافعين ..لم يسمع ندائى فكررت النداء .. التفت صلاح ، كان وجهه مكدوداً
،
متعباً ..! افتقد ذلك التحفز والعنفوان ايام المدرسه الثانويه والشله ،
لمح
وجهى ، فنضح وجهه بفرح طفولى .. نفض عن ملامحه المرهقه تباريح التعب
والغياب (
شهاب أبوعلى .. ) والتقينا في عناق حميم .. شربنا شيئاً من بارد الباعه
المتجولين “بباغاتهم” البيضاء و “كيزانهم” اللامعة وجلسنا متقاربين ،
سألته :
ـ زمن ياصديقى ولم نلتقى .
هكذا حال الدنيا .. كل من عليها مصلوب على نبض المعاناه ، من اصبح عاطلاً
منا
ومن لا زال يبحث عن عمل ومن قضى نحبه ومن لازال ينتظر بعد ومن هاجر طلباً
للمال
أو مزيداً من العلم ، هاجر ...
ثم توقف وعينيه تلمعان ببريق حاد ، كأنه سيفجر قنبله :
ـ عثمان .. عثمان عبدالله !!..
ـ عثمان ؟!.. عثمان من ؟!.
ـ ذلك الفتى النحيل أول الدفعه دائماً ..
فتشت فى ذاكرتي عن عثمان ، قلَّبت بجهد ، بحثت بعسر إلى أن عثرت عليه
مختبئاً
فى مكان قصى بين تلافيفها .. بوجهه النحيل ، كان من النوع الذى يمر بحياتك
دون
أن يخلف وراءه
أثراً .. بسحنته العاديه التى لاتنبئ عن عبقريه ما ... ومع ذلك كان
عبقرياً ..
دائماً غير موجود إلا فى إطار ذاته فى مقعده بالفصل أو السرير فى الغرفه ،
مرَّ
طيفه سريعاً بخاطرى
ـ عثمان ، مالو!
ـ وجدته قرب الجامع الكبير يسأل الناس .. شحاد يعنى !..
* كناية عن الفقر المدقع
إرتفع حاجباى بدهشه :
ـ لا ياخ أكيد شبهتو !!..
ـ أبداً والله سلَّم على باسمى ، وسألنى عن الدفعه كلها !..
ـ أصلو ما ممكن !
ـ والله ده الحاصل !.. تمنيت لو أن عتام الكلس سمع به !..
وأخذتنا لهفة اللقاء الى الذكريات البعيده ، متنقله من محطه إلى أخرى ،
فجأه
خطر لى خاطر:-
ـ أتذكر ما فعلته أنت وعتام بعاصم ؟!..
ـ آه عاصم .. ذلك الأعرج اللعين !
.. كان عاصم يمتلك عصا أبنوسيه ،لا يستطيع المشى بدونها .. كان معنا في
عنبر
واحد .. جباناً إلى حدٍ مخيف للدرجة التى كنا ندعوه فيها بO -Neg. فقد
كانت
لفظه خصصناها لجبناء الداخلية ، رغم ذلك كان هو الوحيد الذى وطد علاقته
بالشَّله .. اذا ان لاأحد فى شلتنا يحب “الرياضيات" و الوغد كان يدرك
أسرارها
جيداً فدماغه المفلطح كان يتعامل مع الأرقام بذات السهوله التى يلوك بها
فمه
المنتن عدس الداخلية المرعب ! ..
لكن اللعين برغم ثراء أهله ، كان يحاول استغلالنا لحمايته لقاء مسألة او
مسألتين .. ذات مرة تآمر عليه عتام وصلاح و الشلَّه ما كانت لترضى بأى
تآمر ضده
مهماً كانت الأسباب ، ثم لم يجرؤ أحد سوى عتام على تنفيذ المؤآمرة ، إذ
انسحب
صلاح فى اللحظة الآخيرة .. وكان عتام غاضباً منه غضباً شديداً لأنه غشه فى
حساب
المثلثات ، فقرر تنفيذ المخطط وحده بعد تراجع صلاح .. و فى منتصف الليل
تماماً
قام بغارة أسفرت عن سحب العصا الأبنوسيه من تحت السرير ، ورجع عتام الى
سريره
سالماً دون ان يشعربه عاصم فى الصباح اخذ عاصم الاعرج يصيح و يصرخ :-
ـ يا حرامية ياأولاد الكلب .. أربعه و عشرين دقيقة بس إذا العصاية ما ظهرت
حايكون شغّل تانى ..
إنقسم العنبر إثر ذلك الى معسكرين ، حلف أعلن مناصرته لقضية عاصم علناً و
هو
الحلف الأقل تضرراً من لسان عاصم البذئ اللاذع أما الحلف الأكثر تضرراً
فقد
أبدى إرتياحه لتطورات الأوضاع في عنبر سته ! .. وحقيقة ما يدور خلف
الكواليس ،
أن العصا الأبنوس كادت ان تؤدى إلى كارثه اذ فجرت صراعاً حاداً بين مراكز
قوى
الاتحاد فى الداخلية و التى اخذت تطفو على السطح مستغلةً و موظفة حادثة
العصا
و فى اطار توظيفها لهذه الحادثة اخذت تعرى الشلة .. فى خضم تلك الاحداث
بدوت
متعاطفا مع عاصم :
ـ كدى اهدا يا عاصم لابد اننا سنجد العصاة
ـ تلاقيها..تلاقيها وين؟! ما شلتوها انتو ذاتكم !
كانت الدعاية المضادة قد أتت ثمارها عاصم نفسه بدأ كالواثق ان الشلة هى
المسؤولة ،لكن كالعادة لم يجد الجميع امامهم سوى ان ينددوا و يستنكروا و
يدينوا
ثم يرفعوا توصياتهم ضد مجهول .. لم يستطع عاصم فى ذلك اليوم الذي اسميناه
بيوم
العصاية تخليدا لذكراه !.. لم يستطع الذهاب الى الفصل إلا بعصا من شجرة
النيم
العجوز فى باحه الداخليه ! قطعها له أحد أعضاء الشَّله !.. وأخذ هدير عاصم
يخفت
يوماً بعد آخر .. إلى أن أسطاع أن يخلق علاقه عاطفية حميمة مع عصاة النيم
التى
أخذ يخفيها بعنايه تحت فرشه عندما ينام .. وعندما شارفت الامتحانات على
الابواب
قرر صلاح إعادة العصا الأبنوس لعاصم مع رساله فى سوء السير والسلوك ، ولم
تكن
هناك طريقه مٌثلى أكثر من أن يفاجأ بها عاصم و هى منتصبة على الأرض فى قلب
الساحه التى تتوسط العنابر ... تذكرت وصلاح تلك الحادثه فأخذنا نضحك على
شقاوة
زمان ، سألته :
ـ مالاقيت عاصم ده ، او اى واحد من الدفعه ؟!..
ـ لاقيت عبدالعاطى وعنقره قبل فتره ..
ـ عاملين كيف ؟!
ـ عبدالعاطى مهاجر الى امريكا ، جاهُ lotery (لوترى) الحظ ضرب معاه
وعنقره
اصبح معلم فى مدرسة خاصه .. وإنت ؟!..
ـ لم أتخرج بعد !..
ـ كيف ذلك ؟! موش المفروض تكون إتخرجت قبل أربعه سنه ؟! ..
إبتسمت :
ـ ده الحاصل .. لحدى هسع ماإتخرجت .. بعدين مابراى ، معاى من الدفعه خالد
و
عادل .. نفس المشكلة
ـ اخبار خالد .. شنو ، كنت مفتكرو بدرس برا !
ـ كان فى اوربا ، الدوله اعادته مع من اعادت من منكودى الحظ ، ما سألتك
اخبار
الكلس شنو ؟
ـ عتام ؟
قال صلاح وهو يضيف :
ـ ليست ثمة اخبار كافيه عنه .. لكن يبدو انه يؤرق الأجهزة الرسميه ، آخر
شئ
سمعته عنه انه تنكر فى زى ضابط بوليس وزور اوراق خاصة بنقله الى كنانه بعد
هروبه من كوبر ....
ـ و هل كان فى كوبر ؟
ـ نعم لقد خدعهم ، إدعى التوبة وزعم انه سيذهب الى الجهاد فى الجنوب او
الشرق ...
ـ لماذا اودعوه كوبر ؟
ـ هناك عشرات الاسباب اهمها اصابته لاحد التجار بعاهات مستديمه لرفضه
اخراج
الزكاة من ماله ..............
ـ حتى هذه يريد ان يتدخل فيها !
ـ لاتزال ذاكرة الشله تسيطر عليه .. اعتاد اقحام انفه فى كل شئ !
ـ هااا .. ماذا حدث له فى كنانه ؟
ـ اعتمدت الجهات الرسمية اوراق نقله دون ادنى شك .. الخبيث كان يخطط
للاستيلاء
على السكر و بالفعل استطاع بيعه بمبالغ طائله تحت سمع وبصر الاجهزه
الامنية
التى جن جنونها عندما اكتشفت الخدعه . وعند القبض عليه لم يجدوا معه ما
يساوى
قيمة طن واحد من السكر .. ولم يستطيعوا إثبات شى ضده ، فقيدت قضية السكر
ضد
مجهول .. يحكى لى أحد العساكر الذين شاركوا فى كمين القبض عليه .. (سرنا
فى
قافله من عربات الشرطه المسلحه ، حاصرنا الفندق ، تقدم النقيب برفقة عشره
من
الرتب الادنى المختلفه ، إعتليت معهم جناح عتام الكلس ، صوت جهاز التسجيل
ينبعث
من الحمام و فيروز تغنى عناقيد العنب .. هتف النقيب ..
ـ إخرج ياعتام .. البوليس يحاصر المكان ..
فأتى صوت عتام هادئاً وعميقاً ومؤثراً..
ـ توقفوا عن إزعاجى ، وتفضلوا الى الغرفه حتى أنهي حمامى ..
كأن الأمر لا يعنيه شخصياً وهو يواصل الحمام و ترديد النغمات خلف فيروز ..
بعد
زمن ليس بالقصير خرج ، جفف جسمه .. نظر حوله باستياء ، ثم حدج النقيب
بنظره
نافذه :
ـ آمر رجالك بالخروج .. إبق أنت فقط ..
تردد النقيب قليلاً ، ثم أشار لرجاله أن إنصرفوا، وإخذُ يعمر سلاحه
بتوترملحوظ
..
ـ أنت مقبوض عليك !
ـ أعرف ، فهذا ليس تكريم على مايبدو .. على فكرة أنا لم أزور أو أنتحل
شخصية
أحد ولم أحتال فلاتحاولو إزعاجى بهذه التهم المألوفه.. أرجو أن تكون
مدركاً
أنك تقبض على الآن بتهمة واحدة فقط .. هى الهروب من سجن كوبر العريق ..
كان لسان الضابط قد إنعقد ، وتجمد ، كأن مطره صبت فيه .. حاول إسترداد
نفسه
من أسر عتام :
ـ تفضل معى اولاً ولنرى بعد ذلك مايكون ..
حسناً إستدر الى الحائط حتى أكمل إرتداء ثيابى .. لاتريد أن تفعل ؟! ..
أنت حر
،
ـ يبدو انهم حذروك منى لايهم ، حاول الا تنظر الى وأنا البس ثيابى
وارتدى عتام الكلس ثيابه بعنايه فائقه .. سرح شعره وتعطر ، نظر فى المرآة
للمرة
الاخيرة .
ـ الاّن يمكنك ان تتقدم ..
ـ لا ، تقدم انت ..
قال الضابط وهويشير لعتام بمقدمة (الطبنجه ) :
ـ حسناً ، لكن من يحمل حقائبى ؟ !..
ـ أحملها انت ..
ـ ماذا تقول يا رجل .. هل جننت .. استدع احد رجالك
قال عتام بحده ونفاد صبر .. ،
ـ حسناً تقدم ، امامى ..
وامام الفندق رفض عتام الركوب فى اى من عربات الشرطه..
ـ أنا صحيح مجرم ، ولكن مجرم محترم .. لن اركب هذه العربات المشبوهه !
تعتقدون
انكم قبضتم على لكفاءتكم وهذا ليس صحيحاً ، بل بمزاجى انا .. ولو اردت
الهروب
الان لن تستطيعون منعى ..
تدخل احد العساكر بنرفزه :
ـ حاول لأفرغ هذا ( الكلاش ) فى ظهرك ..
إلتفت عتام نحوه بحدة :
ـ حقاً ؟!..
ـ كما سمعت !..
ـ اننى لا أخشى الموت يا رجل !..
كانت التعليمات الصادرة للنقيب ألا يتم تعرض عنيف لعتام الكلس فهو يعرف
جيداً
كيف يتعامل مع العنف ، كما ان ثمة توجيه خاص بالحذر منه واطباق الحصار
عليه فهو
فنان فى الهروب واستاذ فى المراوغه ..
صاح النقيب فى احد العساكر :
ـ اذهب وآتى بتاكسي أجرة !..
اضاف عتام : *
ـ تاكسي محترم يا عسكرى !!
ووصلت عربات الشرطه التى تحاصر التاكسي الى رئاسة الشرطه ووسط دهشة الجميع
استقبل المدير شخصياً عتام بالاحضان وهو يضحك :
ـ عتمه .. ازى الحال يا راجل يا مجنون انت !..
ـ كده برضو يا جنابو ترسل لى عصابة اوباش ..
ـ كدى اهدأ يا عتام واتفضل .. واضح انك كملتها فى الخرطوم وقلت تتمها هنا
..
انت ما ناوى تجيبها البر ، الجابك هنا شنو يا عتام .. ما كنت فى كوبر كويس
وعليك نور..
ـ جابنى شنو ؟!.. جابونى رجلينى .. هاهاهاهاى .. ودخلا المكتب تحت
الحراسة
المشددة
ـ عرفت انو مدير الشرطة عرض عليك التوبة ورتبة ملازم فى المباحث !؟!..
ـ ورفضت !
ـ ليه يا عتام ؟!! .. عاوز شنو انت ؟!..
ـ كل شئ وسخ فى البلد دى .. العداله .. عاوز العداله ..
ـ العداله بيحققها مشروع متكامل بتقدمه الدوله .. انت كده ما قاعد تخدم
العداله
، انت بتقنن الاجرام ..
ـ كل المشاريع فشلت ، وليس مهماً ان اكون جزءً من هذا الفشل العام ان ذلك
على
الأقل يبرر المقولات الذرائعية لعلم الاجتماع والجريمة .. موش كده !؟!..
ـ عموماً ستواجه بعض التهم .. الاحتيال والنصب والتزوير وانتحال الشخصيه
وبعدها سنقوم بترحيلك الى الخرطوم لمواجهة تهمتك الاساسية وبالمناسبة ،
جبت
بطاقة الضابط المزورة من وين ؟!..
ـ خليها بطاقة الضابط .. البلد دى لو عاوز بطاقة رئيس جمهورية ممكن تطلعها
!!
ـ يعنى انت معترف بانك انتحلت وزورت ..
ـ حاولوا اثبات ذلك .. يبدو ان التجارب لا تعلمكم شيئاً مثلكم مثل بقية
الشعب
..
ـ يبدو ان النقاش معك غير مجدى يا عتام ..ماذا تظن نفسك منقذ لامة محمد
؟!..
ـ لم تخطر على بالى هذه الفكرة على الاطلاق .. ربما ادرسها ذات يوم !..
كان المكتب ممتلئاً عن اخره برتب مختلفه ، اخذ احد العساكر المنكفئين على
ملزمة
اوراق يقلب فيها بين يديه فى حيره..
ـ حنفتح بلاغات بالتهم الموجهه ليهو سيادتك والمبالغ القبضناها عندو
نسجلها
كمعروضات .. ؟
تقلبت نظرات المدير بين العسكرى وعتام فى نظرة ما ، ليس لها هدف محدد ،
قال عتام بحسم :
ـ سجلها امانات يا عسكرى .. ما فى زول اشتكى ليكم منى وقال انا شلت منو
قروش
!..
ارتبك العسكرى فأومأ له المدير .. سحب عتام جزء من المبلغ ووضعه فى جيبه
..
ـ لزوم مصاريف ..
تعالت ضوضاء فى الخارج بشكل مفاجئ ، صوت امرأة تبكى فى حرقه وعسكرى
ينتهرها ،
قام عتام فى فضول ، فتبعه البقيه بشكل مدروس ، توقف عند المرأة المنتحبه :
ـ ماذا بك يا خاله ؟!
ـ ولدى عشان يفكوه عاوزين ضمانه خمسين الف والله خمسين قرش ما عندنا يا
ولدى ..
اولادو ليهم ثلاثه يوم ما اكلوا ..
قال عتام وعضلات وجهه تتقلص فى حزن بليغ :
ـ خلاص معليش يا خاله ..
ادخل يده فى جيبه ..
ـ هاك ادفعى ليهو الضمانه والباقى خليهو عشانك وعشان اولادو ...
فوجئت المرأه ، كانت تتوقع كل شئ الا ان يحدث معها هذا
ـ انت بتتكلم صح ياجنابو ؟!!
قال وهو يبتسم فى أسى :
ـ أولاً أنا ماجنابو .. وبتكلم صح ..
مدت يدها فى تردد.. لم يزل عنها التردد حتى والنقود تقعى فى حضن كفها
..بكت
بحرقة وهى تهرول نحو مكتب البلاغات وتدعو بكلمات مبهمه لعتام ..إنسحبت
نظراته
عنها وهى تغيب داخل المكتب ..تنهد المدير :
ـ ومع ذلك ستعدم ذات يوم ياعتام .. ولن يذكرك أحد !..
ـ سأكون قد إرتحت حينها !..
ـ سيجهزون لك زنزانه تليق بمجرم خطير مثلك لاتكن مزعجاً حتى لا يهذبوك
ـ سأحاول التحلى بضبط النفس !
وتم إقتياد عتام الى بوابة السجن ،عند المدخل ثمة رجل مقيد يقف بين أثنين
من
العساكر فى إنكسار ..توقف عتام وهو يسأله فى فضول :
ـ مابك ؟!
نظر الى عتام فى حزن ثم كفى نظراته على التراب ..
ـ سرقت غنمايه ..سيد الغنمايه إتنازل عن البلاغ : لكن الغرامه ...
انفعل عتام وهو ينقض عليه :
ـ غنمايه ؟!.. غنمايه يا حيوان !!.. غنمايه ؟!..
واخذ يصفع الرجل بجنون ... امسك عسكريين بتلابيب عتام وقيده اّخرين من
يديه الى
الخلف وهم يصرخون :
ـ لماذا تقحم انفك فيما لا يعنيك ؟!..لماذا ..
كان توترهما قد بلغ ذروته ، هدأ عتام قليلاً ونظر الى شخص يقف على مبعده :
ـ تعال وخذ من جيبى لدفع غرامة هذا المأفون .. حاجة غريبه !ناس بتسرق دول
..
وناس تقول ليك غنمايه !..
وانصرف مع العساكر وهو يردد : قال غنمايه ، قال !!.. ولم يلتفت مرة اخرى
..
فى الليله الاولى التى قضاها عتام داخل السجن ، استفز السجانين وتعارك
معهم ولم
تتم السيطره عليه الا بعد جهد جهيد وعندما اعلن الديك صباحاً مولد يوم
جديد
تصالح عتام مع العساكر واعطاهم بعض النقود : امشوا افطروا ليكم فطور زى
الناس
!.. عارف ظروفكم ذى الزفت وطين زيكم .. لكن تستاهلوا اذا شغالين الشغلانيه
دى
!!..
ومع ذلك لم يرفض العساكر طرح الفطور ( المدنكل ) ... بعد ذلك مباشره تم
استدعاء
عتام الى مكتب المدير وفى طريقه الى الذهاب لم يخلو الامر من ممارسة
هوايته
المحببه ، التى وجدت براحاً عندما نادت على العسكرى احدى ستات الشاى ..
ـ عليكم الله ، خلوه يشرب ليهو شاى !..
التفت عتام الى العسكرى :
ـ لازم تشرب عندها شاى ..(نحن ناس حياتنا جبر خواطر )
وشرب عتام الشاى السئ الصنع فى رضا تام ومنحها اكثر مما تستحق ، قال احد
الخفراء ان ست الشاى لملمت عفشها بعد ذلك مباشرة ولم تعد الا بعد اسبوع :*
اشتريت مؤنة البيت وشوال فتريته من قروش الراجل الصالح داك ..
ـ صالح شنو يا وليه ، ده مجرم خطير ..
ـ اجرام السرور يا بابا .. جيد لأمو000
وفوجى عتام أنهم على إصرارهم فى فتح بلاغات ضده تحت مواد مختلفة ،وعندما
تم
عرضه على القاضى ، اسقط كل التهم المزعومة 00 كان عتام متنرفزاً ، مما دفع
القاضى لاستفزازه..شعر عتام بالغضب من محاولات القاضى المستمره لاذلاله
فغلى
الدم فى عروقه
ـ اعدك انك ستندم على كل اهاناتك لى ..
ثم صمت وعضلات وجهه تنقبض ، ووجه القاضى يتقلص وهو يكيل مزيداً من التهم
والسباب لعتام ، الذى رغم توتره ، لاذ بصمت مهيب ، كأنه محاصراً بجبال
بعضها
فوق بعض !
ولحظة خروجه من قاعه المحكمه الى السجن ، وجه حديثه للقاضى فى حزم .
ـ موعدنا الليله ايها القاضى ..
فكال له القاضى سيلاً من الشتائم !..
وفى صبيحة اليوم التالى لم يحضر القاضى الى مكتبه وفى اليوم الذى يليه ذهب
زملاؤه الى منزله ليطمئنوا عليه فوجدوه فى حاله يرثى لها .. اتى صوته
ضعيفاً ،
واهناً ، منهداً ..( دخل تلاتة مجرمين ليلاً ، تلبوا من الجدار .. هجموا
على
وضربونى ضرباً مبرحاً ، لم يتركوا جزءً من جسدي دون ان يتركوا عليه
بصماتهم
...)
استرد صلاح نفسه من عالم عتام .. وسأل ابو على :
ـ ماذا تنوى ان تفعل ؟!
ـ لا شئ .. ماذا عنك انت ؟!
ـ اهى دى تذاكرى ..
واخرج من جيبه اوراق ملونه ..
ـ بعد بكره بس حاكون خارج الحدود ..
امسكت بالتذاكر ..
ـ الى اين ان شاء الله ؟!
ـ بريطانيا ، دون عودة ان شاء الله .. قوللى كدى انت عامل شنو ؟!
ـ لازلت ابحث عن نفسى ، اراقب الحياه والناس والزمن وكل شئ !!
ـ ما تطلع يا اخى ؟!
ـ ما لاقى طريقه ..
ـ لولقيت طريقه حتطلع ؟!
ـ والله ما عارف !..
كانت حركة الناس فى المحطة قد قلت ، وقع بصرى على حافله يتيمه ، منزويه فى
الطريق المؤدى الى المحطه .. اخذ الركاب ينزلون .. ساله بعجاله ..
ـ انت ماشى وين هسع يا صلاح ؟!
ـ الشعبيه !..
ـ حلو .. انا ماشى بيت اختى ، تقوم تنزل معاى فى الديوم ، نقضى باقى
النهار ده
وبعدين تتكل على الله !!!
ـ بس انا ..
ـ بس انت بعد بكره مسافر !..
حدجنى بنظره حزينه!
ـ ماتضيف أى حجة ماشى معاك ..
كان الموقف وجدانى ،حزين ...جاورتنا فى الحافله حسناء رقيقة كالفراشة
..كنت فى
الوسط بينها وبين صلاح ..مضت بنا الحافلة خجوله ،متعبه ..مهمومه بقبحها
وسط
الحافلات الفارهه المتسلله غابات الاسمنت ، منتشره على الشوراع بتحفز ..
كان
صلاح يحدج فى العربات ذات الالوان المتباينة بحزن وغضب : لا أفهم كيف
يجوع هذا
الشعب !؟ ! و ألقى على الاسفلت بقايا أشجانه وفتات تساؤله المرير .. قلت :
ـ يجب ان لاتسأل مثل هذا السؤال بخاصة أنت !
ـ لماذا ؟ ! ... ... ...
ـ ليس مهماً ان ترد ، أعرف ماذا تريد ان تقول ! ..
ـ لن أعود مطلقاً ، ياسيدى البركة فيكم ! ..
ـ لن تستطيع البقاء بعيداً عن الوطن .. لازلت داخله ، لذلك تعتقد أنك لن
تعود
لو طلعت ! .. هذا النيل خطير ، لااحد يستطيع مقاومة نداءه السحرى ! ...
ـ الوطن جزء من تكويننا البايولوجى والاجتماعى وكل مانحملة فى العقل و
الوجدان
من تراكمات .. الآن ، هنا لا أحد يشعر بأنه إنسان .. أريد أن اشعر
بأنسانيتى
..
بدأ لى غريباً ، كما انه ليس بصلاح الذى كان يقود التظاهرات و يتحدث عن
البناء
و التعمير و الثورة و التغيير الجذرى و يبكى عندما يغيب عن امه الشهور
،ويسعد
حين تقترب الاجازه لانه سيترك الداخليه ويلتقيها ويرتوي بحنانها !..كأنه
ليس
بذاك الفتى ذو القميص الابيض والبنطلون البني ..
ـ يبدو انك احبطت تماماياصلاح !.
ـ انت نفسك محبط لكنك تكابر كشجر الحراز . او ربما جبان لاتريد ان تواجه
احباطك
،هذا زمان كله ورم ولقد ضيعت زمنا طويلا في الاورام ،النتيجه انك لم تتخرج
حتى
الان !...
ـ ........ ....... ......... ..........
ـ عليك ان تقرر ياصديقي ،الزمن لاينتظر احدا ،لم نعطى فرصتنا ،فيجب ان
نخلق
لانفسنا فرصه في مكان آخر ..عليك ان تقرر يا ابو على ..
اخذت عبارته (عليك ان تقرر .!!) ترن في دماغي بعنف كالمطرقه مددت رأسى من
النافذة كنا نقطع الجسر ،مرت عربة لاندكروزر جديدة ،فارهــه يقودها ملتحي
كالبالون ،ظللت اردد في نفسي.. علي ان اقرر..على ان اقرر...
( * )

كان الجميع مثقلين بالهموم ،عبثا يحاولون مداراتها بالمرح ،كانوا اثنين
،اثنين
..يحادثون بعضهم حول المائدة .. الاحاديث تبدو متداخلة في اصواتهم العاليه
والمنخفضه والاخرى الهامسه ..لااحد ينتبه لحديث الاخر ..تدخل بهمس :
قلت له يا ابو على انك مستلب عولميا ..
ـ ليست لكل الامور صله بالصراع الاجتماعي ..هناك اشياْء لامنطق لها
ولاقانون
يحكمها ..
قال خالدغاضبا :
ـ انت موسوس ، فالحب لاحدود او مبرر له ..
ـ التاريخ يثبت بالتجربة العملية ان الحالات الشبيهه بوضعك كانت تعاني من
مركب
نقص محدد!.
قال محمود فتنفرز عادل وشعر ابو على ان الامور ستمضي عكس ماتوقع ، فتدخل :
ـ النقاش لايكون هكذا يا محمود .. انت تبدو قاسيا ،لاادري لماذا تسعى
لاستفزاز
خالد ..خالد ارجوك اهدا ودعني انا وحدي اتكلم .استمع الي يا محمود ،انك
مخطىْ
،ولو كانت تلك قناعاتك بصرف النظر عن راينا فيها فلا يحق لاحد توصيل رأيه
وقناعاته بطريقه مؤذيه للآخرين ..ومن جهة اخرى فلتعلم ان التاريخ والتجربه
العلميه يؤكدان ان هناك ملكات تزوجن من عبيدهن راجع ألف ليلة وليلة ،
عمادها
الأساس علاقه عبد بزوجة الملك الكلمه الاولى كانت دوماً للرجل فلا داعى
للمماطلات !!
نهض محمود وهو يقول ساخراً :
ـ لكن الكلمه الاخيره كانت دوماً للمرأه ، منذ حواء وحتى الأن ..
حدجاه بنظره ساخطه وهما يلحظان للمره الاولى ان الجميع كانوا منتبهين ،
شعر
خالد بالحرج ، فنهض منزعجاً ، تبعه ابو على وهو ليس اقل حرجاً او ضيقاً
منه ..
كان همه فى هذه اللحظه يتلخص فى شئ واحد : هو كيف يعيد خالد الى طبيعته ،
فلا
شك ان محمود ازمه تماماً وخالد حساس لدرجه مدهشه .. تأوه ابو على وهو
يتتبع خطى
خالد .. لا يدرى ابو على ماذا اصاب محمود فهو طيب وود ناس .. يعرفه جيداً
عنيد
ومشاكس وبسيط لحد الدهشه والحياه برمتها لا تعنى له شيئاً ، تنطوى دواخله
على
حقد مقيت للمرأه ، منذ دخل الجامعه والفتيات يركضن خلفه ، لكن لم يبال
ابداً
باحداهن ولم يلتفت للخلف مطلقاً ، كان دوماً يفاخر( انا الوحيد بينكم الذي
لم
يفلح صدر انثى ابدا في تركيعه !.) تلك الليلة كان ابوعلي يبيت في منزل
محمود
الذي نادرا مايذهب اليه ،فمحمود يحب الداخلية بكل جنونها ..وشرب كثيرا من
الخمر
ومع نسائم الليل في الساحة التي امام الصالون - على سريريهما اللذان
لايبعدان
كثيرا عن شجرة الليمون المتكئة على الباب الكبير- المطل على الشارع
الرئيسي
لمدينة الثورة ،في هذا الجو المشحون والنسائم اليانعة ،كانت الخمر قد اتت
على
محمود ..تنهد بحرقه ،سأله ابو علي بصوت هامس :
ـ مابك ؟!..
ـ لاشئ...لاشئ
ـ منذ فتره وانت لست كعادتك ، ما الذى يشغل بالك ؟!..
ـ قلت لك لاشئ ..
ـ بل اشياء كثيره !!
تنهد محمود بشكل يوحى بالتردد :
ـ لقد سقط الجنرال آخيراً ياابوعلى !..
ـ أى جنرال تعنى ، فلا شئ فى هذه البلاد أكثر من الجنرالات ..
ـ أعنى نفسى ..
ـ ما بك ؟!
ـ لقد وقعت فى الحب ، للاسف !..
ـ هذا شئ جميل ..
ـ لكنها مخطوبه!!..
ـ ماذا !؟! هل أعرفها ؟
بعد تردد:
ـ إنها آمنة !..
ـ آمنة ؟!.. يالك من منكود الحظ ، لقد سبقك عبدالله عليها !..
ـ لقد تأخرت قليلاً ياعزيزى !!..
ـ لم أكن أعرف يا أبوعلى ..
ـ إنها ، الجامعه مليئه، بكل اللائى ينتظرن إشارة منك ..
ـ لكنهن . لسن مثلها .
بحق كانت آمنه مدهشه ، ربما لأنها فنانه بمعنى الكلمه ،ليس ذاك لأنها تدرس
فى
المعهد العالى للموسيقى والمسرح .. بل بساطتها ، مرحها، شقاوتها التى
كشقاوة
الاطفال وحكاياتها التى لا يتحكم فيها أى منطق ، انها من ذلك النوع الغريب
الذى
من الممكن أن يقول لك بشكل جاد :( إذا كانت الزاويه القائمه 45ْ وكنا خمسه
والمسافه بين ثلاثتنا ،أنت .. كم تكون الزاويه الحاده 90ْ ؟! ) كان واضحاً
أنها
تفكر فى دعاباتها بطريقه " الأرأيتيين" .. اعتدنا عليها هكذا وحين تغيب
كنا
تشعر بالحنين ...
محمود يقول انه يحبها لأنها ليست إمرأه :
ـ كيف ذلك ؟!..
ـ لأنها شجاعه وقويه ، الوحيده التى تتكلم فى أركان النقاش ولا أحد يشتكى
منها
.. وهى لاتشارك فى الثرثره التى تمارسها " حريم " الشّله لاأذكر ان ثمة
تقرير
رفع عنها لمخالفة ما منذ انتسبت .. اضف الى ذلك انها لا تخاف العسس ابداً
،
كثيراً ماتعرضت للاستدعاءات و الضرب ..
ـ أى انثى جنون هذه ياأبوعلى ، انها تستحق عبدالله فهوصنديد و لايقل عنها
غرابه اطوار ، شكله غير محبب ، لكن قلبه دافئ و يتسع لكل احزان الارض ،
إنه رجل
من طراز خاص !!
ـ يبدو انك تريد ان تحرر لهما قسيمتا إنتقال ..
ـ إنها رائعه وهو رائع ، لايكل و لايمل يكرس همه كله للنضال ، ينفذ كل
تكليفاته بدقه متناهية ، دون ان يسأل ، لماذا ومتى و كيف ؟ ! اويقول لا !
...
ـ ربما لهذا السبب بالذات أحبته آمنه !..

*
كان أبوعلى لايزال يتتبع خطى خالد بينما أحس بأنامل ناعمة تطرق
على
كتفه :
ـ أبوعلى .. شهاب !! .
ـ أهلاً سلمى .. كيف حالك ؟ ! .. لم أراك منذ الصباح !
ـ فضلت الاعتزال اليوم .. لم أرغب المجئ إليكم !
ـ مابك ؟!
ـ لقد تقدمت باستقالتى .. أقصد سأتقدم بها ! ..
ـ لماذا ؟!
إستدرك انه مارس سلوكاً غير نظامياً ، فهو ليس مسئولها المباشر .. أدار
الأمر
فى رأسه وتنهد ..
ـ ألم يناقشك مسئولك المباشر ؟!
ـ فضلت أن أخبرك أولاً .. أنت الأقرب إلىَّ 000 استطيع ان اكون صريحة معك
اكثر000 لا ياابوعلي ،ارجوك اسمعنى للآخر..اعلم تماما النظم واللوائح التى
تحكم
التنظيم وكل شئ…
كان أبوعلى يعى ، إن هناك ضرورة أحياناً لخرق هذه النظم واللوائح… .
ـ أهدئى ياسلمي و أخبريني ما الذي حدث بالضبط ؟!
ـ الأمر يتعلق بمحمود !
ـ ماذا أفعل ؟!
ـ أهانني أمام صديقاتى في المدرج …
غاصت الدنيا في عينيه…
ـ لاتهتمي يا سلمي ..اعلم انه لامر محزن ألا نحترم مشاعر بعضنا .. لكن هذه
ليست
هى القاعدة الاساسية التى تحكمنا … انها حالة فردية سنعالجها فى اطارها
ياسلمي.. فأرجوك اعطينى الفرصة لمعالجة الامر .. ولا تحاولى ان تخلطى بين
استمرارك والسلوك الذى مارسه تجاهك..
ـ كنت واثقة انك ستقول لى ذلك !.
ـ وأرجو أن تكونى قد تراجعت عن قرارك!.
ـ لا استطيع ان أرفض لك أنت بالذات طلباً ،يا شهاب..أنت . . .
قالت فى صوت هامس، قبل أن تكمل:
ـ لا مكان للعواطف فى عملنا يا سلمى ..إننا مناضلون وتربطنا ببعضنا علاقات
موضوعية .. يجب أن يكون دافعك الاساس لاتخاذ أى قرار هو قناعاتك ومبادئك..
الانفعال يجعل الانسان عاجزاً حتى عن مجرد تأمين نفسه ياسلمى ، وعاجزاً عن
توقع
الخطوة القادمة للخصم و الاستعداد لمواجهته .. العسس لا ينتظرون المناضل
حتى
يهدأ ويفكر ماذا يفعل .. هل تفهمين ما أعنى ياسلمى ؟..
قال ذلك وهو يشعر بنفسه قاسياً الى حدٍ لم يكن يتصوره ، كان حزيناً وهو
يقول
لها ذلك ، لكنه لم يكن يريد لها أن تتعلق بأمل كاذب .. ابتعدت وهى تخفى
وجهها
براحتيها شعر بقلبه يتمزق ، فواصل طريقه مترنحاً ، غائم الرؤية …
*
عندما أخبر أبوعلى عبدالله قال الآخير بهدؤه المعتاد:
ـ هكذا هم المبتدئون دائماً ، لا يستطيعون تحمل أمراض الواقع وتجاوزها !..
ـ انها ظاهرة ليست محصورة فى سلمى !.
ـ كل المؤسسات تعانى من هذه الأمراض ،قليل من الصبر و العناء …
قاطعه ابوعلي
ـ لاادري لماذا تسمونها امراض ؟!.. لماذا تصرون على ذلك؟!.
ـ وماذا نسميها؟!
ـ اننا بشر قبل كل شئ قلت لها نفس كلامك بطريقة اخرى ، لكننى لم اكن
مقتنعا
بما اقول..
ـ ماذا تريد ان تقول ؟!…
تمعن فيه ابوعلي بنظرة عميقة لا تحمل معنى محدداً .. ثم زفر …
ـ دعنا من ذلك الآن ، هل ستتكلم مع محمود ؟!
ـ افضل أن أترك لك هذه المهمة ، نزعة القيادى فيه طافحة هذه الايام ، وهو
لايطيقنى أصلاً.
أبتسم أبوعلى فى سخرية
ـ حقه الطبيعى ، فالجميع يؤدون دور الكاريزما ، لم لا يؤديه هو الاخر !..
ـ ماذا تعنى ؟!
ـ أنت تعرف مانعنى ، و ليست لدى الرغبة فى سماع محاضره عن كون النضال
السلبى
سبب اساسى فى عدم قيام المؤتمرات منذ 1976م .. فقد أصبح الحديث عن ذلك
ممجوجاً
! .
ـ يبدو أنك ..
قاطعه :
ـ يبدو أننى أصبت بأمراض الواقع ، أليس كذلك ..حسناً هل هناك تعليمات أخرى
؟!
قال عبدالله بهدوء حزين :
ـ لماذا تعاملنى بهذه الطريقة ؟!
ـ عذراً ياعبدالله ، لكنك تصر دائماً على ترديد نفس المقولات دون ان تملها
..
انك تعلم الحقيقية ، أو ربما تشعر بها .. لكنك لاتريد مواجهتها ، لايوجد
شئ
اسمه أمراض الواقع .. مايحدث هو باختصار انعكاس للأزمة الحقيقة ،
فالنتائج
لاتنفصل عن المقدمات ، لايمكننا تصور أى شئ خارج نظام تفكيرنا .. لماذا
أربكنا
انهيار الاتحاد السوفيتى ، تداعى المنظومة الشرقية والغزو العراقى للكويت
..
لماذا حدث أصلاً و كيف ؟! .. ثمة تناقضات لما نحمل من مفاهيم ، نحن لانزال
نقرأ
الفكر الانسانى العالمى المعاصر بذات الطريقة التراثية التى نقرأ بها
التراث
اليونانى مثلاً وهى ذات الطريقة التى نقرأ بها تاريخنا الخاص .. باستمرار
نعيد
أنتاج الماضى بأخطاؤه ومؤامراته وقرفه ! ندرس الاشياء على أساس ما نريده
منها
لاعلى أساس ما الذى كان يريده من أسس لها ، أياً كانت هذه الأشياء ..
وهكذا نصف
كل ما لايعجنبا بأنه أمراض واقع !! لذلك لن نستطيع مبارحة هذا المكان ،
الضيق ،
العطن .. هذا الزقاق ، المتاهة .. زقاق التاريخ الذى نعيش فيه .. يجب أن
نعترف
أننا بحاجة لأن نتصالح مع مايحدث حولنا ، دون تصور مسبق .. لنحاول اكتشاف
أنفسنا ، واكتشاف ماحولنا .. يجب ان نعيد قراءة ماحولنا من تفاصيل
عبدالله ،
كل التفاصيل .. لايعنى شيئاً الحديث مع محمود ان لم يكن ذلك فى اطار
التناقضات
المتراكمة فى وعيه وجدانه ، لاوعية .. هذا هو السؤال ، المتعلق بكل
اشكالات
الراهن ، وما نصر على وصفه " بأمراض الواقع ! " …
ـ هل أنت مدرك لما تقول ياابوعلى ؟!
ـ تمام الادراك .. لأننى أشعر بالمتاهة التى أقعى فيها كالكلب .. أوربا
التى
نكيل لها "الشتائم " دخلت التاريخ عندما خرجت من دائرة الفلسفة اليونانية
،
بعكسنا تماماً يوم دخلنا الدائرة التى خرجت منها أوربا ، دون ان نهتم
بمحاولة
الخروج .. مجرد محاولة الخروج من هذا النسق المغلق .. لم نتعلم الدرس من
الاوربيين ، بل قمنا بتقنين الانغلاق ! ..
ـ اسمع ياأبوعلى .. أنا اعلم ان هناك كثير من الازمات التى حاصرتنا مؤخراً
على
المستوى الخاص والعام و هى تؤثر فينا وفى طريقة تفكيرنا ، فكل شئ حولنا
يتغير
لكن المعالجات لن تكون خارج اطار المؤتمرات ، ، وإشاعة المزيد من
الديمقراطيه..
ـ هذا كلام جميل لكن الاعتراف بالتحولات العميقة التى تتم .. ليس مجرد
تضمين فى
منشور أو اصداره بل هو سلوك بشكل أساسى والسلوك لايتطور إلا وفق تشكيل
وعى
حقيقى لا كما تريد العقلية الستالينية ومنظمتها السرية التى جعلت من
التنظميم
تنظيم مركب .. قل لى ماذا تم ياعبدالله حتى الان ، لاشى مجرد تلميحات
مذعورة
وخائفة .. البوليس الذى يعيش داخلنا و يتحكم فى التنظيم وفى الواقع ، الخ
.. لا
شئ ياعبدالله ، لاشئ …
ـ يجب أن نستعيد قوانا أولاً ياابوعلى .. يجب ان نتماسك حتى نستطيع ان
نفعل كل
شى .
ـ لكن هناك مداخل للحلول نستطيع ممارستها منذ الان !
ـ ماذا تعنى بمداخل للحلول ؟ !
ـ ان ندير الحوار داخلياً ، حول " الجدوى " من طروحاتنا ..
ارتفع حاجباً عبدالله . . .
ـ يجب ان نكون اكثر جرأة وشجاعة ، عندما نسأل أنفسنا عن " الجدوى " ليس
بالضرورة أن ذلك يعنى أنها لم تعد مجدية كلها .. إنه سؤال مشروع : لقد
أختبرنا
طروحاتنا ، جزء منها على الأقل ، لنقم بتقييم هذا الجزء ..
ـ بل أنها مهمة كل فرد فى التنظيم ، وإلا فكيف يكون التنظيم وعى جماعى
منظم .
آراءنا لها قيمتها !.
ـ أنت لست مجرد مجند جديد ياأبوعلى ، مابك ؟ ! هذا جنون ؟ !
كان صبر عبدالله قد نفد تماماً فإحتد أبوعلى :
ـ طبعاً ستصفنى كحالة مرضية .. عفواً لست بصدد سماع ما قرأته عن تفتيت
الحركات
الثورية ، لا ياصديقى .. كل مافى الامر أننى أكثر وضوحاً و شجاعة .. هاتين
الصفتين الغائبتين هنا و أبداً ..
ـ سأرفع وجهة نظرك ..
ـ ليست هى المرة الاولى التى ترفع فيها وجهة نظرى .. وعلى كلٍ أنا أؤمن
ان اى
تغيير فاعل يتم من الداخل اولاً .. هل تعلم لماذا تقدم حسام باستقالته ؟
لانه
يشعر بالمتاهة .. هذه المتاهة التى لن نخرج منها مالم نحفر ذاكرتنا ..
ننبشها
.. نصدمها .. حسام إصطدم بالخيط الفاصل بين ماهو معرفى و ماهو آيدلوجى ..
أكتشف
ان المعرفى يموت فى زمن غير زمنه ، لكن الايدولجى يحيا فى الحاضر ، يعيش
مستقبله فى حاضره ، فلم يحتمل .. أنها عملية تمزق تام ياعبدالله ويجب ان
نحتملها … سمه أى شئ .. فلن تغير من الواقع شيئاً !
ـ إنك تصور الأمور بصورة غريبة ياشهاب !!
ـ إنها الحقيقه يا عبد الله .. أنظر المفكرين المسلمين اسسوا فلسفاتهم
على
طبيعيات أرسطو .. تماماً مثلما فعل فلاسفة القرون الاوسطى .. لكن المحتوى
المعرفى لطبيعيات أرسطو مات بميلاد العلم الحديث وبذات الطريقة ماتت
المنظومة
الديكارتية أعنى المحتوى المعرفى لها ، ففيزياء نيوتن تموضعت فى فيزياء
غاليلو
ولم يكن ثمة مبرر لحياة الديكارتية إلا كتجلى .. كروح مثلما سيطرت الروح
التجريبيه على بريطانيا .. و نحن أول شئ فعلناه ، قوضنا إبن رشد .. يجب ان
نعيه
، ان نعيشه .. انه الروح التى كان بالامكان أن تخرجنا من المأزق لو بعثت …
كنا قد لاحظنا ثمه حركة دائبة حولنا .. همس عبدالله بحسه الأمنى العالى ،
فى
محاولة أخيرة لهروب نهائى من فضاء الحوار :
ـ يبدو أن وراء الأكمة ماوراءها !
ـ سمعت أن ثمة إعتقالات طالت حتى الاقاليم !!
ـ لذلك صدر تعميم موخراً من القيادة أن تتم الاجتماعات فى البيوت .. هل
تستطيع
إستضافتنا فى بيت أختك ..
ـ على الرحب والسعة ..
ـ أنا أيضاً هاجمنى نفس الشعور،لكن خشيت أن يكون ذاك مجرد هاجس لذلك لم
أبح به!
ـ خذ حذرك !
ـ أين أجد خالد ؟!
ـ لقد سافر .. يبدو أن أزمته مع خالدة قد وصلت حدودها القصوى !!
ـ لم يخبرنى : أول مرة يفعلها .. لكن هل أنت متأكد من أنه سافر ؟!

*














قلت لسلوى ذاك المساء : ( أنجزنا الغرباء مالايعدون ! ) ، فشهرت حنجرتها
،
ليطلع بوحها مالئاً فجوات الشتاء المريب .. المسام الضوئى فى زندها يتسربه
المساء ، تتحدو الغسق ، ليصبح الاحساس متوحداً فى أغنيتها المتوتره ..
كان الظل يقترب من الضحى والضحى ينأى عن الليل.. يتماهى الخيط الفاصل
بينهما
فتنبثق ملامح عتام إذا الوقت سجى .. رغبة صارخة فى أن أحرق أى شىء ،
هاجمتنى
تلك اللحظة ، عندما رفعت شقيقتى صوتها على ، إحتجاجاً على أقترابى أكثر من
أصدقائى الأقرب منى الىَّ.. حينها شعرت بنفسى أنتمى قسراً لسلالات
الصراصير
والجرذان ، فأبتلعت زبد الكلام لأحقن مزيداً من تشدق مرتقب.. كنت مسكونا
ًبالرحيل المفاجى لخالد ، والأب الضال وسبيل العودة والمستقبل المظلم
والجامعة
الخاوية على عروشها والخدمة الالزامية اللا إنتماء ‍‍‍‍‍‍
حينها كنت مسكوناً بنوار والوطن الفضيحة واصحابى الرائعين يتقلصون فى
شكلهم
الدائرى ويشغل مكانى الفراغ .. حينها كنت أبحث عن نفسى بين تلافيف الكلام
..
وعينيها الحمراوين المتطايرتين بالشرر ،تحرقاننى .. إكتشفتها لاول مرة (
شريرة!
) .. يتقلصون أكثرعلى صدى نبرات صوتها .. أخذت تبكى ، لم تكن تدرى أننى
أحمل
روحى على راحتى وأن الأمر عادياً تماماً .. لكنها كانت تقرر شئياً واحداً
فقط ،
سيطر على ذاكرتها تماماً .. رأتنى أموت فى تلك اللحظة بلسعات الكهرباء
والضرب
المبرح والحروق فإرتفع صوتها أكثر ، وأخذت تتحدث عن أمى المريضة بالضغط :
(
ستقتلها !..) ( ستقتيلنى أنت ..أصبحت صغيراً بنظرهم !) ، كان عبدالله
ورفاقى
حريصين بألا يشعروننى بأنهم سمعوا شئياً !! وكنت واثقاً أنهم سمعوا كل
شىء!!..
كانت ملامح الطريق بينى وبينها قد بدت واضحة ..شقيقان يفترقان على الوطن
..
وطريق العودة يبدأ من حيث نهاجر ويغترب الوطن عنا . أحسست بنفسى ضائعاً
مشرداً
وأنا أودع بيت أختى للمرة الأخيرة ، دون نية للرجوع أوالتراجع .. وسلوى فى
داخلى تغنى للنوار.. تتسلل الخرطوم الأغنية ، تتبدى واسعة والملجاُ
الآمن
ينحسر مع شقيقتى والتشرد يفتح ذراعيه ، مزيداً من الوجع والحرمان.. تتبدى
الأشياء مستلبة والطريق موحشة وعرة والذئاب ينتشرون فى كل مكان .. إتكأت
على
نفسى ورغبة أخيرة فى البكاء تشهر إنعتاقها وسلوى تعالجنى بصوتها الدافىء
..
قيدت حدقتيه عينى وتلمست أجفانى بشجاعة ، حرمتها الإرتجاف جاهداً !!
الخرطوم تضيىء شوارعها من دمنا .. تنزف ملء بوحنا ، تنطفئ أنوارها
أمامى
وخلفى أين المفر ؟! وهى تطأنى كعقب سيجارة يستميت فى الصمود ؛؛ حلمت يقظا
بمستقبل جميل فتبدد الخوف من الآتِ قليلا ، طردت اليقظة وتداعيت ..ركضت
على
قلبى ،مليون جرح ، كل جرح بميل مربع ،حاولت أن أنبت فى كل ميل فألاً
حميماً ينث
مربع الجرح !!..تسلل صوت سلوى من داخلي ..
عتام رجل فقد ظله ذات مسـاء ،فتشوهت بقعة ما في قلبه المضيئ ، أصبح قبل
يوماً
منسي مواجهاً بتناقضات الواقع كفارس قادم من القرون الوسطى ، وأضحى بعد
يوم
موغل في النسيان مريباً ، مهيباً ، وغامضا ، تشير تفاصيله الى المجهول
،كان
عتام رغم كل شىْ يحافظ على شيئ ما ، نبيل في جوهره ، لكن بطريقة مشكوك
فيها !
ويشكك في طهر الاخرين ، ويدعي ان لاشْئ يربطه بهذه البلاد سوى حذاْءه
الشعبي
،المصنوع من جلد البقر النييْ ،كأسطورة مخيفة ومحببة في آن فهو يعرف
الكثير عن
الشعوذة والإستخبار والآداب والفنون والعلوم ولايفهم في التاريخ سوى
المفهوم
التآمرى ..يدرس الجانب المظلم من الاقتصاد و يخرج نفسه من داخله ، يضعها
بعيداً
عنه ويأخذ بمراقبتها لأيام ربما تمتد الشهور ! ثم يأتى ليتحدث عن الأقسام
المختلفة لعلم النفس والباراسيكولوجى ، الخ … تنهدت سلوى .
ـ هذا عتام ياشهاب .. رجل من العتمة ، يمكن تقسيمه إلى شخصيات متباينة و
متنوعة
ومتعددة لاتخلو من التعقيدات الحضارية !
ـ لم يكن هكذا عندما كنا فى الثانوى !
ـ بل هو هكذا منذ شبَّ عن الطوق .. إنه توأمى ! ..
ـ لم يكن يحترم الوسائل المشروعة ، يقحم انفه فى تفاصيل الآخرين على طريقة
جيمس
بوند الشهيرة ! ..
ذات مرة فى فترة الثانوى أحب إحداهن ، لم تكن تحبه … و لقربها من مكان
عتام
يستشيرنى فى كل مايختص بها ولم يحاول أبداً ان يصارحنى بأنه يحبها ، بل
كان
يبرر إهتمامه بها دائماً بالعبارة التاريخية الشهيرة ( بت الحله !) سألنى
:
لماذا لم تصارحنى بأنك كنت تعرف بأننى أحبها ؟!
ـ لأنك لم تعاملنى بشرف كنت تحدثنى عنها بإعتبارى أنا الذى أحبها لا أنت
ـ أنت خبيث . . .
ـ وأنت وغد
كنا حينها نمشى على الرصيف ، تعثرت فإتكأت على ظلى ، تعثر ولم يكن له ظل
يجنبه
السقوط عبر ثقب الليل ، فجذبته نحوى ، لم يشكرنى كعادته !. . .
قبل أن أتعرف على سلوى قلت لخالد :
ـ هناك أنثى فى خاطرى ، أنثى رائعة ، لو وجدتها سأحفظ بها التوازنات غير
المستتقرة بهذا البلد !
ضحك خالد . . . إختفى عتام فجأة لم نسمع به إلا وهو خارج البلاد . .
.
ـ كان ذلك بعد الإمتحانات . . . إستخرجت له شهادته وأرسلتها له وحتى
الآن
لاأدرى كيف خرج ، لكننى فرحت . . قلت ربما تغير أمريكا فى طباعه . . . لقد
تعذبنا طويلاً يا أبو على . . .
نأى صوت سلوى بعيداً حاملاً أنغامه الى جوف الصدى . . . وبعد رغبة فى
الإحتراق
تهاجمنى كلما تذكرت إحتداد أختى فى الكلام معى . . .
*
قال عادل :
ـ أختك لازالت تسأل عنك . . . لازم ترجع ! ، لا أحد لك هنا غيرها ، بيت
أختك هو
القاعدة التى تنطلق منها الى الأمام ثم إنك لن تجد أحد يحتملك مثلها !
ـ لن أعود . . . ثم من سمح لك بالتدخل فى شؤونى الخاصة ..هل
شكوت لك
؟ !
كنت مصراً ومتوتراً ونفسى تعاف نفسى ، أمهلها قليلاً ، أتوتر كثيراً أصبح
ضد
وضد ضد . . .
ـ سلوى تبحث عنك . . إلتقت بأختك عندما حضرت الى الجامعة تسأل عنك . .
ـ وبعدين ؟
ـ لاتنظر لأختك كشخص مؤذى . . ، بل كشخص يخاف عليك . . .إنها علاقة دم
ـ كفاااااية . . .
الوطن بوابة مشرعة للقادمين والخارجين والتائهين ، الوطن مظلة للائى
ينتظرن
عشاقهن ملء الأشواق والباحثين عن الدفء والذين يتقون المطر والبرد
والأشواق
حيناً من الدهر ؟! الوطن هاجس وجريمة وإستفهام ؟! صفا ، إنتباه !! ووقعت
من
الهدهد بلد وإنقسام على النقيض وحدود مغلقة ، تآكلت ساحاتها صفا ، إنتباه
!!
والوطن حقيبة ، ومدخل للخروج ونقيض للآخر . . . توقفت الخطوات وسكنت حركة
الطابور الصباحى وبدأ جدول الحصص . . .
إبن الأخت الصغير ، " يبرى " قلم الرصاص ، لاملامح للحضور . . تضيع
المعالم
وتنطمس بين رنين الجرس وإحتضان الخال . . .
ودعته عند البوابة ومشيت ، كان شيئ ما يشدنى نحو طريق معتاد ، وسؤاله
المألوف
يتكرر فى الذاكرة
ـ حتمشى البيت ياخالو ؟
ـ نعم ياخالو . . . حأمشى من دربى ده !
وقدماى تتمددان على الطريق ، كدمعتين تلامسان القلب !! . . .


مـدخــل :
















غناء العزلة ضد العزلة
الصادق الرضى










إفــادات مـبـاشـرة
( 1 )




















آدمو ، مارتجلو
كسوفرو . . .
زفر آدمو زفرة حارة خالها تذوب فى الصوت الآتى من مكان ما : آه ، ووه . .
مارتجلوووه ‍‍‍‍‍‍!! فى تلك الليلة وعلى غير عادة أهل القرية الذين خرجوا
من
حرب لتوهم ، لم يكن محور أحلامهم ذلك الفارس الملتحى الذى أتى من شمال
أفريقيا
بساق واحدة ورمح ، كما هى العادة ! فمنذ الحرب الأهلية الأخيرة مع " بنى
جلول "
وحلفائهم من أعراب لم يعد هذا الحلم سوى ذكرى بغيضة لكابوس تافه ! . . .
ولم
يعد أحد يطيق سيرة ذلك الفارس فى زمنه البعيد ، الملقى بظلاله على راهن
شعب
الوادى ولم يعد ثمة من يتذكر كيرا بشكل مقدس وعندما يمر أحد الغرباء الذين
تحمل
سماتهم ملامح " دار صباح "* يتهامس شعب الوادى " صلندون كوَى **"
كتعبير
عن رفض كل الغرباء الذين يرتبطون بذكرى ذلك الفارس البعيد! .
صار محور أحلامهم الآن مبهماً ! مثل ذلك الشعور الذى طوَق آدمو موغلاً فى
الغموض وهم يسمعون عن طرق الأسفلت والجسور المعلقة على النيل ودور السينما
والثياب الفاخرة والمصانع والبنايات العالية والمشافى والمدارس والكهرباء
والمياه التى تجرى عبر الأنابيب و. . . و. . . ويشتعل هذا الإحساس خريفاً
بصفة
خاصة ، عندما يعزل شعب الوادى تماماًعن الشعوب التى حوله فالوديان تمتلئ
عن
آخرها بالمياه الهادرة ويصبح الطريق مخاطرة غير مأمونة العواقب إذ تنتشر
الأوبئة والأمراض التاريخية التى إنقرضت !! والناموس والأمراض الجنسية ،
ويفقد
الأطفال السوائل فلا تجدى أملاح التروية التى وهبتها اليونسيف للحكومة
نفعاً !
. . حتى هذه الأملاح كانوا يشترونها من موظفى الحكومة ! لكن ذات هذا
الإحساس
يشتعل بشكل يومى فى درجات متفاوتة عندما تأتى اللوارى والشاحنات الكبيرة
لتحمل
خيرات شعب الوادى من " الأسواق الدائرية "*** إلى تلك المستعمرة البعيدة ،
المحاطة بالجبال ! . . ورغم كل ذلك لم يكن شعب الوادى قادراً على تحديد
التفاصيل الأساسية التى تثير هذا الشعور ! لكن همومه الغامضة ظلت تدور حول
مثل
هذه الأشياء التى لايستطيع أن يعبر عنها بقدر مايحسها ، لكن أبداً يبقى
مارتجلو
وطائره الذى يحترق فيموت فيحيا ، أكثر عنفواناً متنامياً فى داخلهم
وشاهقاً
يغطى قرص الشمس . . يحدقون فيه كأنهم يلتمسون تحقيق أحلامهم الخفية التى
لايعرفها أحد سواه . . مارتجلو . . " مارتجلو سيد بيت كل ناس هنا "****
هكذا
*دار صباح : يعنى بها الفور الشمال**صلندون كوَى : يعنى بها الفور ،
التساؤل عن
لماذا أتى هذا الغريب
*** بلغة الفور ( أم دورور ) : حيث تتنقل اللوارى بين الأسواق الإسبوعية
المتناثرة فى القرى **** رب الأسرة أو المسئول
يطالعونك وهم يحكون لك عن مارتجلو " بخصيته الثالثة مكان القلب تماماً "*
وكيف
أصبح جزءاً من جغرافيا وواقع المكان قبل أن يبدأ زحف كسوفرو من بلاده
القاحلة
حاملاً فى ركابه ذلك الفارس المعقور الذى تقدمه بثلاث ليالى ونهار !! . .
أدهشت
المعارف الميتافيزيقية الواسعة لشعب الوادى ، كسوفرو . . ووقعت بلادهم
الخصبة
منه موقع القلب ، فقرر أن يبسط سلطانه عليها .. هكذا مثل كل الذين ليس لهم
آباء
وأكثر شهرة عبر التاريخ !) لكن تمرد شعب الوادى أقلق كسوفرو وقض مضجعه الى
أن
أشار له ذلك الفارس القادم من شمال أفريقيا ، أن يأمر شعبه بإنتزاع
مارتجلو من
جذوره لأنه الفحل الرمز الذى يستمد شعب الوادى من عروقه الصمود والمقاومة
! لم
تكن هذه الفكرة الخبيثة نتاج ذكاء ذلك الفارس المعقور ، فقد أخبرته حبيبته
الكيرا بذلك بعد أن إستشارت العرافة الحيزبون الميرم ، الأشد خبثاً
ودهاءاً من
إبن آوى ، وأمر كوسوفرو شعبه الغازى بنقل الجبل الفحل مارتجلو وضمه الى
أخوته
من الجبال التى تحيط بالقصر الذى إبتناه على بعد ليلة من جبل " مرة "***
ربما
خطر لكوسوفرو أنه بذلك سيستمد القوة من مارتجلو وسيهابه شعبه أكثر . .
وبدأ
شعب كسوفرو ينبش فى جذور مارتجلو وإثر كل نبشة ينطلق طائر النار من فجاج
مارتجلو فيساقط الحمم والصخور الملتهبة . . وأخذ شعب كسوفرو آلات من
الأراضى
القاحلة يتناقص ويتململ ويتذمر حتى أعلت تمرده صراحة فأسقط فى يد كسوفرو .
.
عندها سربت العرافة الحيزبون للفارس المعقور عبر حبيبته الكيرا أن على
السلطان
كى يفرض سطوته على جنده المتمردين لأن يعلن أنه لن يمتطى الجياد مثل
العوام
ويأمر بإحضار " تيتل "*** ليكون مطيته وإعتقد كسوفرو أن ذلك سيعيد له
هيبته
ويجعل تنفيذ أمر نقل الجبل مارتجلو إلى جوار " مرة " ليستمد منه قوته
الملكية
أمراً قاطعاً مطاعاً ! ورغم إحساس كسوفرو بخطورة ما سيقدم عليه قرر أن
يغامر ،
لم يكن هناك سوى خيارين : ( أن يتولى قيادة شعب الوادى وشعبه شخص غيره ،
أو أن
يخوض المغامرة مثل أى قائد متهور ليموت ! ) وكأن الأمر سيان ، حياً كالميت
أوميتاً بشكل بطولى مجيد ، يتلائم وتاريخ الذين لا آباء لهم ، وركب كسوفرو
"
التيتل " الذى يرعى أسفل الجبل الثانى لمارتجلو ذو الجبال الأربعة
المترادفة !
وبعد أت ربط خصيان القصر وقنانه ، كسوفرو على ظهر لتيتل بجلد البقر النيئ
،
عزفت الجوارى الطبول وشرب شعب الوادى من " دلالينق البقو " كما لم يشرب من
قبل
ورقص الجميع " الكسوك وإبيرة ودرَّت "**** وصار هذا اليوم إحتفالاً شهرياً
عند
كل قمر . . لم
* ماركيز ـ خريف البطريق ـ بتصرف ** هو أحد أهم جبال دارفور *** التيتل
هو
االماعز الجبلى
**** الكسوق : رقصة إحتفالية لاتخلو من الإشارات الحسية و إبيرة ودرت :
تعنى
ألإبرة الضائعة ، يمثلون البحث عنها بشكل حسى حميم يلتصق فيه الرجال
بالنساء


يتوقف إلا هذه المرة ! منذ إنطلاق التيتل المشبع بالعشب المروى من عروق
مارتجلو
. . ركض التيتل فى إحتفال بهيج ، منسرباً فى الوديان والغابات الممتدة
بأحراشها الشوكية ، القاسية وتمزق جسد كسوفرو على الأشجار إلى أشلاء
وتحققت تلك
النبوءة الخفية ، التى أسرت بها الحيزبون " ميرم " لكيرا ذات صفاء عارم لم
يخلو
من " البقو "ورائحة الغرام التى لاتزال تتضوع من حروف كلمة " كيرا " كلما
ذكر
إسمها ! تماماً كما فى ذلك المساء الغسقى قبل أن تطأ قدميها دار الحيزبون
الميرم . . وكرست تلك الحادثة فى أعماق شعب الوادى أن أسرة كيرا سليلة
للوجد
الإلهى وتنتمى لروح ذلك النبى السرى " مارتجلو " الذى يرعى إرث الأجداد ..
كانت
العرافة قد أخذت فى ذلك اليوم ، تحكى ذات حكايتها - اليوم الذى تمزق فيه
جسد
كسوفرو - القديمة ، المألوفة عن مارتجلو الذى فوجئ به الأجداد منتصباً
ذات
صباح قزحى على شفة الوادى ، محيطاً برسخ القرية الوادعة ، كإسورة . وكانوا
يسمعون لها بذات اللهفة ، مثل كل مرة ، كأنهم يسمعون لأول مرة وهى تستلذ
الحكاية ، فتتعجن فى صوت مولع بالايحاء والغموض عن ذلك الفارس والنبى
السرى
الذى يعرف سر الأفلاك وحركة الأجرام وسرائر النفوس ومواقيت المطر واتجاهات
الطريق الى دار صباح ، مارتجلو !.. لم يكن عرافاً ، بل نبياً ، سحرياً ،
آسراً
.. يغوص بعينيه النفاذتين إلى أقصى تفاصيل شعبه ، يحيطهم بسحره المخملى ،
المنبعث أقصى تفاصيل الوعى !!.. كان مارتجلو برائحة الأعشاب البرية التى
تحاصره
كهالة ، وجسمه الأسمر المديد ، المحلى بجلد النمر والأسد والأصلّة وريش
النعام
وأياقين العاج والحجر وعظام الجماجم والقرع .. كان مارتجلو الأشهر، لكن لا
أحد
يستطيع الجزم بأن لاأباً له ! فقد أتى طفلاً من مكان ما ومُنذ أتى أخذ
مكانه
كقديس أو محارب ، بل مضى به الحال إلى أن صار يؤدى مهام " الشرتايات و
الدماليج"* و العمد وكان يصطاد الأرانب دون " سفروك " ** ويهزم بنى جلول
فى
المعارك الضارية دون أن يستخدم " حربته " العاجيه اللامعة ! وكان رسول شعب
الوادى للشعوب المجاورة ومهندس علاقات الجوار والتجارة والمصاهرة السياسية
، بل
لم تكن الكساوى حتى وقف متأخر ترسل الى البيت المقدس البعيد عبر درب
الأربعين
إلا بعد أن يقدم السلطان قرباناً لمارتجلو الجبل ! وفوق ذلك كان مارتجلو
محباً
للسلام ، كونى الرؤية ، لكن لم يكن ثمه من يستوعيه تماماً فقد سلبت الدهشة
،
شعب الوادى علاقات التفاصيل وكيفية التفكير وتحديد الهدف ! ومنذ طفولة
مارتجلو
لم يستطع أحد أن يحدد أن كان ذكراً أم أنثى أم الاثنين معاً !؟ أم كان
طائراً
ملوناً ! لكن الجميع إتفق فى ذلك الوقت على تسميته ( بالقديس ذوالخصية
الثالثة
مكان القلب تماماً ، الطائرمارتجلو ) ولكن لم يستطع أحد أن كان يحدد كيف
ومتى
تحول مارتجلو الى جبل !؟
* من مناصب النظام الإدارى الموروث الخاص بالفور ** بشبه الخزروف فى
وظيفته
إلى حد ما يكون معقوفاً ، يقطع من الشجر بشكل مسطح معين ، يستخدم فى الصيد
لكن بعض الروايات التى لم تروها الحيزبون أكدت أنه فى الليالى الموغلة فى
الظلمة كان يرى كطائرضخم يحتوى الجبل بجناحيه ومشتعلاً برفرف ، متطايرة
منه
ألسنة اللهب الى أن يزوى شيئاً فشيئاً متحولاً الى رماد يملأ الوادى
والجنائن
والحقول ، ويبقى الجبل شاهقاً يغطى قرص الشمس عند مشارف الصبح ! كما يطيب
للميرم أن تكرر أن الفتيات اللائى يصحين من النوم فيجدون أنهن فقدن
عذريتهن على
نحو غامض ومريب أنما أختارهن مارتجلو قرباناً للخصب والنماء…
























شهاب أبوعلى .. تداعيات ..
آه ياأبوعلى ، لاتزال تحمل جراحاتك .. داخلك وحدك .. سرك الوحيد نوار ..
آخر
سلالات الكيرا .. سرك الذى لم تٌطلع عليه أحد أبداً ، حتى خالد الأقرب منك
إليك
، لا يعرفه سرك الذى تخبئه حتى عن نفسك .. أنت وسلوى .. وحدك ولا أحد غيرك
يفهم
معنى أن يعشق الانسان نوار .. أن يرتاح كل مساء بين ضنفتى عينيها ، ان
يصطليه
لهيبها فيستند على جرح الحراز وأغنيات الجدول و البابور ليرحل حتى آخر
الدنيا
.. آه نوار .. فى هذا الزمان الحذاء ، هى الاشياء تتبدى عن الغموض ، حتى
الإحساس ! لا أدرى الآن كيف أحس بك ، هو الحزن يشعل الاحساس ويشل الخاطر
ويجدد
الشعور بالقهر والاحباط ، أم هى مطرقة التيه على هذا الرأس ، المتوتر
القلق ،
الحالم ، حرب إستنزاف هى .. كل التفاصيل تتجرد عن ماهيتها و تصبح الأشياء
دون
هوية ! ياله من شعور مائى و تمزق عميق كالهواء ! ما الذى يعنيه الهتافَات
و
التصفيق والعيون الدَهِشَة التى زغللها القمع ، لاأحد يفهم ان تتقمصك نوار
و
تحاول الفكاك منها ! دون جدوى تهتف فى داخلك فتقابلها بالشعارات ، حباً
لوطن
لايستوعبك ، ضيق .. أضيق من " خرم إلابرة "* .. وطن تتوسده اللافتات وتمشى
عليه
الهياكل حد الحزن تبحث لنفسها عن نوار تملأ المدينة فرحاً ونوارس وخضرة ،
تخرج
من بؤرة الشمس لتتناثر عصافيراً و أنجم .. ولدت أنا ونوار طى الجبل
الرابع من
مارتجلو .. لم يكن احد يدرى ان مارتجلو بجباله الأربع يطوى نينا وآدمو
مثلما
طوى الكيرا والمعقور ! .. نوار ذاكرة الحراز البرى ، المقدس وأخت القمر
وفاتحة
الوجود فى لحظة التكوين الاولى ، لا لا أحد يدرى بالبشارات تجوب الشوارع
حين
تصدح نوار بمدائح " قوت الزمان " فى البنى العدنانى ! تجوبالشوارع الحالمة
،
الضيقة فى مرزوق ، واقماير ودار السلام ، تقف لتواسى " المجذومين " الذين
يقعون كالكلاب أمام الجامع الكبير فى قلب السوق العربى وتوزع الهبات على
"
شحادى " أبوجنزير و الشهداء و سوق الخضار بحرى ! … انها نوار تبعث من
الأزقة
الخائرة لتلقمها الخلاص ، تداعب الصدور التى نخرها السل والاجساد التى
هرأتها
الكوليرا والجوع والتهاب السحايا ، وكالمسيح تماماً تملأ الاجساد المنهكة
والمنهوبة صحة وعافية.. هى نوار تستصحبك الآن يا أبو على مع سبق الاصرار
والترصد ولا يزال ( يهوذا الأسخريوطى ) ينكرك فى اليوم ثلاث مرات ، يغرز
فى
داخلك الحزن كنصل صدئ .. يسمم شرايينك ، يعذبك ولا تموت ، يهوذا فى كل
زمان احد
ابناء القاع ، الوافدين من دماء الشركس وغرب افريقيا ، سلالات الذين باعوا
تراب
الاجداد ، لا ينتمون لهذه الارض ومع ذلك يحكمونها ! لم تقل فكتوريا ان سيف
المهدى ملك شعب كامل ! فقط رفضته لانه قطع
* ثقب الإبرة
رأس غردون ! يهوذا وقف مع الاتراك وهم يقتلون الجعليين ، ليفنوهم عن اخرهم
ويشردونهم
حتى اقصى جنوب النيل الأزرق ، فى أرض الحبش !.. يهوذا الآن .. يهوذا .. لم
يكن
الشلالى وحده ،.. ونوار ياأبوعلى .. أين هى ؟! كلهم شاركوا فى حرق جثة
المهدى ،
ونثروا رمادها فى النيل ، كان يهوذا يتوسطهم .. ومنذها ظل يتوسطهم !..
أشعر بالخطر .. بالعسس .. أرجينى يانوار .. سأتقدم لو أستطيع لألتقيك عند
بوابة
عبدالقيوم ، أتكى على صدرك المذبوح قليلاً ، وأصرخ ، أنا الآن الرهينة !..
وأمسح غبار الأيام عن جفنى المجهد وأحملك حتى آخر الدنيا على صهوة جواد لم
يركب
مثله موسى ودجلى .. فأنا الآن الرهينة ، وأنت الآن يانوار إحترافى ..
أغنية
ليست مثل أغنيات " التروبادور " بل كالسيل ، الفيضان .. تزيح أنت التاريخ
المتعفن ، المقعى ككلب مشرد ضال على حافة الحلم ، مهجس بعظمه!..
هدب نوار يرف وأبوعلى يدنو والجلباب الواسع الذى ترتديه ينحسر عن الغيب
والمجاهيل والجو بارد ، وللهواء طعم الشهيق ، الزفير ولون النيازك والشهب
،
احساس حاد حد الفجيعة والحزن والجنون ورائحة الدمع والغروب وملامح الطفلة
التى
رحل عنها القطار وتغولها آخرالمساء الفاتن وشقوق الأرض الزراعية الشيقة
للمطر
..
الأرض ونوار نسجتا أغنية حارة كالصهيد ، أزيح صدرها المثقل .. ليس ثمة
ذكريات
وهموم شقية ، ليس ثمة قلق وتوتر يلمان بالذاكرة فتسهد ، فقط تقض مضجع
القلب ،
الظامئ لرحلة إبن بطوطة ..
ليس ثمة "حُوًار "* دنئ لامام دعى وشيخ سافل ، تبيت زوجته موحشة فى الليل
البارد والفراش الخاوى من صهيد ، رغم جسده المتمدد جوارها .. يوحى ثمة
أسرار ما
! تماماً ليس من شئ ينقص على هذا لتكتمل الدوائر الشقية !!..
كم هو شقى هذا العالم يانوار !.. لزج وبارد كالحذاء المتعفن ! كم هو شقى
ألا
تنساب فى لحظة دفق دافئ :ـ ( لنتزوج ! ) ..
ـ ( لنتزوج !) ..
وغابت دوائر النور فى الظلام "الجروف" تحرق رائحة خضرواتها فى القلب، تشعل
الدم
، تصهر الشرايين .. الكحل المتسايل على العينين وصوت البابور والجدول
يتضائل ..
يتلاشى .. تتسع الفجوات والفراغات والدوائر ، تنقبض ، تفيض .. يا بحر ..
يا دم
.. لم تكن ثمة نهايات ، تماماً كرحلة " جلجامش " الطويلة فى البحث عن قيم
الحق
والجمال يا نوار !..

* الحوار: جمعها حيران ، وهم المريدين للشيخ ( طلبة العلم )

ليس ثمة نهايات اذ لم أكن آخر الغازين ، لديار لم تعرف الشقوق بين ضفتى
انثى "
تشم " للمره الاولى رائحة العرق الذكورى ..تتفتق بها عن افوافها المختبئه
خارج
الغمد او القلب الذى يتوشح بالسباسب والوهاد ..
هو الظمأ الذى يقتل هامش المدن وسكان الارياف والصحارى البعيده ، لنبحث فى
دواخلنا عن وطن يوحدنا يا نوار ..
ادرى جيداً طعم تلك اللحظه الانصهار ،لم أكن ثقيلاً وكنت تُطيقين الخروج
عن نفق
قصور الامويين والعبابسة وقباب بنى حمدان !!…
الجسر متكأنا يا نوار ، لا الرصافة ، فما بينهما جسدين لقلب واحد !!…
( لنرحل ..) (لنرحل ..لا سأبقى !..) .. لم تكن نوار وهماً ،
قالت أمى :
ـ الولد ركبتو جنية !..
ولم يدر أحد بسر (الذى فى القلب أغمد نصله ) … رحلت نوار ولم يكن ثمة حلم
بديل
،مداراً للوطن الذى يرحل فى داخلنا دولة ! نزرعه فى دواخلنا فيحصده
الآخرون ،
الجحيم !..
هنا كان يعمل الأجداد أقناناً ، يزرعون القمح والقطن وأشجار الفواكة ،
لترتفع
أرقام أرصدة المالك الوحيد فى لندن !.. سيدى الكبير كان يوصيهم يانوار
بزراعة
اشجار النيم !لانه من أشجار الجنة كما زعم ! فظلوا يأكلون النيم !.. كانوا
يتركون له أسواق المانجو والموز والبرتقال ، لا شريك له ! ولامنافس ، فقط
وحده
! يقطعون له الأشجار لتتغذى مصانع لانكشير بالخشب الذى تصدر منه الورق
إلينا
.. الورق الذى تكتب عليه مراسم اعدامنا !.. كانوا على ثقة تامة أن أى شجرة
يقطعونها له ، سيأخذون مقابلها متراً فى الجنة ، لذلك لم يكن أى واحد منهم
يحلم
بأقل من عشرات الفدادين فى الجنة الموعودة ! إنهم أهلى .. أهلك يانوار !!…
كانوا يهربون أبنائهم من الانجليز ، عندما يجيى موعد دخولهم المدارس ،لأن
المالك المبجل أوصاهم بالخلاوى خيراً ، وخطب فيهم أن "مدارس النصارى ستخرب
عليكم الاولاد!" بينما يدرس أولاده شخصياً فى أوروبا !!..
هى لحظة دفء ، تنسى القلب عذاباته وحزن عشرات السنين ، هى المتاهة ما
يبتدى عنه
لوز القطن الذى تأخذه القطارات الى لندن ، ليكتمل إزهاره هناك و لندخل نحن
فى
مزيد من الحنين إلى الحنين إلى شفق !! ..

مبارك من فى الارض يحمل حزنك ياابوعلى ، طوبى له وهو يحمل وطنك كالحقيبه و
العار يلاحقه أينما ذهب ، يسافر خلاله ظللاً لفانلة داخلية وسروال ممزق !
وذلك
الجلباب الذى حسرته تلك الامسية المجنونة على البابور .. لتقذف شيئاً من
وطنك
فى الظلام الجميل .. هذه الأرض تنمو شيئاً فشيئاً فى الغياهب !.. تسبل
نوار
أهدابها الطويلة … ترتخى رموشها على الحضن .. ترتعش .. ( لاأحد يخاف
الوطن
يانوار ! .. ) .. وبرغم كل شئ لم يكن مابرحم نوار لك ياآخر سلالات بنى
ذبيان
وفزاره ، لم يكن لك كما الوطن .. نافذتين لقلبين يبتعدان ومهاجر من حيث
كان الى
حيث يكون .. بعيداً ، بعيداً ..
أواه .. وهذه الطحالب و الفطريات التى نبتت فى كل مكان ، اختبأت خلف كل شئ
فأين
الملاذ !..
لاترفع المصحف على أسنة الرماح ياأبوعلى ، فلست متهماً وقميص عثمان فرية
،
وأبداً لم تكن يوماً اليمامة ، حبيبتك .. وكل المرابين الذين يتكئون على
العمارات السامقة " جساس " وليس ثمة أقوال أخرى عن القادم من خط الاستواء
كمدينة من الحلم تشرع أبوابها دون حرس .. .. أنا باب المدينة يانوار ..
فأين
المدينة ؟! وهذا البرد يصلب جسدك للدفء ليتقطر الحب ندى شفيف و خرير
ورابية تطل
على الجدول ….




*

سلوى : الحنين إلى الحٌلم ..
بلغنى أيها الشهاب السعيد ، أن الكلس بينما هو يمشى متفقداً بلدته التى
شمخت
فى قلب " الصى " أبصر " هيلدا " أمى .. كانت صبية كالبدر عند تمامه لم يرى
فى
عمره مثلها ، فصاح بخ ، بخ .. فيا سعد من تكونين حليلته ..
وتزوج الكلس من أمى ياشهاب فى ذلك الصى القاحل ، وعاشا فى سعادة وسرورالى
أن
جاءت الحكومه بخدمها وحشمها ووقعت المعارك الطوال ، وتلاشى الكلس فى
الصحراء
الممتده وأبتلعته وديانها التى جاءها غازياً ، ولاذا اليها هارباً ..
لم يستقر المقام بأمى .. اذ كان هاجس القبض عليها يملؤها بالخوف والهلع ،
الذى
كان يزيده الاحساس بفقدان الكلس ، مرارة وحرقه .. كان خوفها علينا أكثر من
خوفها على نفسها .. هذا الخوف كان دافعه الاساس إنتقالنا فى سرية تامة من
مدينة
لأخرى ولم نستقر فى مدينتكم الا وقد بلغنا سن المدارس ..
أذكر أن أمى فى الليالى المقمره،كانت تجلسنا عن يمينها وشمالها ، وتحكى
لنا عن
شعب اللوة العظيم ورحلته الشاقه من أوروبا إلى السودان إثر إنهيار الجليد
..
كانت تحكى عن الحرب التى دفعتها وأسرتها للهجره الى أسفل النيل ،تجدد
مشوار
اللوة العظيم ..
لم تكن تحمل بغضاً للمنكور ولم يكن الكلس مجرد بعلاً لها ، كان هو دينج .
وكل
دنيتها و دنياها لذلك ظلت وفية للعهد ، وفية لذكرى الكلس هذا الوفاء
النادر
الذى عبأنى بالحنين إليك .. كافحت لأجلنا طويلا دون أن تمد يدها لأحد ،
لأننا
أبنا الكلس..
وكان لها جنوح نحو الصحراء ، علها ترمى لها بالكلس ليعوضها عن كل ما ضاع
من
عمرجميل .. وكلنا كان يداعبنا هذا الامل .. وذاك زمن مرير ، وله طعم خاص
..
عندما اذكره يشتد على الحذن وتدلهم الحياه فى وجهى وابقى بين حاضره وغايبه
عن
الوعى .. انتقلت امى .. انتقلت الى حيث لا يستطيع احد اتهامها بالتخابر مع
دوله
اجنبية ، أو العمل مع منظمه سرية ..انتقلت الى هناك حيث الشفق المخملى
والانهار
( المسكرة) لانها كانت طيبه .. والى هناك لا يمضى سوى الطيبين .. الم
يقولوا ان
الجنه لا يدخلها سوى الطيبون يا شهاب ؟!
ليتك تشعر معى بكيف هو الاحساس بالمطارده ، الاحساس بالغياب الابدى ،
الاحساس
بكل من حولك ، أي واحد منهم .. لو علم من انت ، قد تختفى إلى الابد ..
تحملت
أمى عبء هذا الاحساس لسنوات طويلة ، إلى أن أخذها الضباب السماوى الأخير !
..
تحملته دون ان تشكو فعروقها التى تجرى فيها دماء (دينج ) تجدد فيها
الاحساس
بالصمود والمقاومه ! .. لكننا كنا نشعر بمدى ثقل العبء عليها !..
كانت أمى فى الأوقات التى يحاصرها فيها الصفاء ترقص وتغنى ( بالرطانة )
أغنيات
الصيد والحرب والحصاد .. ترقص حتى يتقطر العرق من جبينها ولا تتوقف الا
بعد ان
نحاصرها بالاشفاق ، وسواعدنا تحاول تقييد حركتها ، فتستجيب على مضض ...
كانت امى على دين اسلافها .. ومع ذلك حرصت ان ننشأ كما يليق بأبناء الكلس
وعلى
دينه .. لم تحاول التأثير على عقيدتنا .. عقيدة الكلس ، أبداً .. كانت قدر
الإمكان ، في طفولتنا ، تحاول تأدية صلواتها الطقوسية خفية منا ، إلى أن
إشتد
منا العود..
لكأني أسمع ترانيمها الدينية ، المتسامحة لأنها تملؤني بالصفاء و الصفح !
..
بلغني يا شهاب أن والدي يكون في أوج سعادته وهو يسترق إلى " ترانيمها "
المقدسة
السمع ، وهي تصلي .. كان يحبها و يحب كل شئ تحبه ، هكذا كان يا شهاب ،
الكلس
الذي غمرنا ، الذي عَمَّرَ الصحراء ، و بنى فيها بلدة شمخت تباهي المدن !!
..
إننا أولاده ، أولاد الكلس الذي قرر ذات يوم السكنى في حَّى قاحل ، و شمخت
بلدته في قلب الفلاة ! .. الكلس يا شهاب سيحمل رايته على ، يعمر الأرض ، و
يآلف
القلوب ، وبالناس المسرة وعلى الجميع السلام !!..
ـ حيطلع على خالو عتام !..
ـ ومالو خالو ؟ .. زينة الرجال!...
ـ إنت متعلمة ومثقفة يا سلوى !..
كانت أمي تقول لعتام عندما تراه يلعب (ستحمل الراية التي سقطت من أبوك يا
ولد
.. قوم ، إنت ما عندك وقت للهو ) .. و كان يترك كل شئ عندما سمع صوتها ..
لا
توجد قوة في الأرض تسطيع التأثير عليه كما تفعل هي !..
ظل التاريخ يطاردنا يا أبو علي ، ما إن إشتممنا رائحة مؤامرة ما ! هربنا !
كنت
و عتام حينها خلصنا الثانوي .. هربنا إلى بلاد يموت فقيرها جوعاً ،
فالخرطوم
مدينة تخلو من المؤمنين ، منها خرج الكلس و إليها يعود أبناءه!!..
لا زلت أذكر الكلمات الأخيرة لأمي و هي في النزع الأخير ( أغفرى لي يا
بنيتي أن
زوجتك حاج عباس ، لا تبقى أرملة تزوجي ليطلع من رحمك الكلس !.. و لو أخذ
صاحب
الأمانة أمانتو فلا تزعجي عتام أخوك في بلاد الغربة ).. و ماتت أمي يا
شهاب ،
بكيت عليها كما لم تبكي فتاة أمها من قبل و لا من بعد .. و إلتزمت البيت
حزناً
لسنوات ، و كاتبت عتام حول كل شئ سوى الحزن الكبير .. إلى أن جاء و عرف
بالأمر
، إحتضنني بحرقة و ألم يذوب فيها شوق سنوات أعجف من سابقاتها و بكى كما
تبكي
النساء ..
ـ لماذا لم تخبريني ؟!
ـ لم أود إزعاجك في بلاد الغربة !
ـ لكنها أمي ! ..
ـ وأمي أنا أيضاً .. لقد نفذت وصيتها .. قالت ألا أزعجك !!..
و ظل يبكي لسبعة شهور كاملة ، مرّت كلمح البصر!..
على يا شهاب سيحمل ملامحك أكثر من ملامح خاله ، هذه الأرض هي لنا ، لنا
نحن فقط
، لا يشاركنا فيها أحد ، نحن أولئك الذين جاءوا من أقصى مجاهيل البلاد
شرقاً و
غرباً و جنوباً و شمالاًو تمازجوا في الحَّي ، حتى الكلس الذي ينتمي
للصحراء ،
و سُمي عليها !!..
ـ و هل يستطيع على فعل شئ ، سيحاربونه مثلما حاربوا جده ، سيحاصره الإعلام
المسكون بالوساوس القهرية و عصاب الدين.. وتتهمه الدوله بالطابور الخامس و
تطلق
خلفه آلاف المخبرين ياسلوى ... و لن تطيقي صبراً، فأنت لست هيلدا !..
لهكذا ياشهاب ولد .. عليه يحيا وعليه يموت !.. لن يموت ياسلوى من تشكل
وعليه
بفلاة الكلس ! ...
لاتزال متردداً تجاهى ياشهاب .. بين .. بين نوار وسلوى بين الفنانه
التشكيليه
التى زارت مدينتكم فى وقت ما وأقامت معرضاً للوحات بينها لوحه للنوار ..
كما
أوصتها نوار وبين أنا .. و مع ذلك سنتماهى يوماً فى المارتجلو .. ليولد
على
فارس القبيله الحامى ..
ـ أنك تصرين على كاريزما الفرد فى الزمن ...
قاطعته :
ـ من قال أن زمن “ الكايزمات “ قد إنتهى ، لا تزال قدرات الفرد الشخصية
و
مواهبه الفرديه تلعب دوراً حاسماً فى ...
قاطعها :
ـ لا ، لاأستطيع فهمك ياسلوى ! ...
ـ وهل كنت تفهم نوار ؟ !
ـ أحياناً تبدين بسيطه ، بروح الفنانه التشكيليه الشفافه ، واحياناً تبدين
طاغيه ..
ـ فى كل شئ ؟ !
همس :
ـ حتى فى جمالك ..
ـ و نوار ..
ـ ألم تقولى أنها أوصتك بى خيراً أمرتك باقامة معرض فى مدينتى فى وقت ما
،...
ـ لنلتقى ! .. كل ذلك لنلتقى كما تريد نوار ! ..
ـ ومع ذلك أحبك ياسلوى ... أحبك ... .















إفادات عن دفتر الاحوال
( 2 )
شعب الوادى :
يشير التاريخ المرسوم على عروق مارتجلو ان شعب الوادى بدأ يفقد تدريجياً
مقوماته وخصائصه التى توارثها عبر الاف السنين .. ومنذ توالى ( دورة ،
كورو ،
قرط ، دالى ، بوش ، دود بنقا ، ابو الخيرات ، على دينار ، سليمان ، "
صولونج "*
، ايفا وتوسام ..) اخذت ملامح هذا الشعب تأخذ فى التغيير .. والى حد ما
كان
محافظاً حتى مجئ سلالة الكيرا ، بدءً بالسلطان كورى والد سليمان العربى
(1640-1667 ) وبنهاية حكم دينار فى 1916 ، كانوا قد فقدوا ماتبقى من نفوذ
مارتجلو !.. لكن لم يكن من السهل ان يرتد التاريخ على قفاه من السلطان
دوره
والى الخلف !! ومع ذلك بقى الحنين حتى ليكاد يتجلى فى حلم دينار بدوله
مستقله
عن الفرنسيين والانجليز والمهديه !..
نوار : أبو على :-
كانت امى وابى ينادياننى ( بنينا ) لكن شيخ بابكر هو الذى اسمانى نوار ..
جدى
لأبى من سلالة تاج الدين البهارى ، تلميذ الشيخ عبد القادر الجيلانى ..
كان
شيخاً ورعاً وتقياً ولزواجه من جدتى فى سنار قصة طويلة ، فقد زعم كما
أخبرتنى
امى عن ابى ، أنه رأى جدتى فى رؤيا وهى تضع ابى تحت شجرة حراز ! كان
المكان
صحراوياً ، قاحلاً ! خالى من كل حى ، إلا شجرة الحراز .. ومع الصرخة
الاولى
لميلاد أبى وعينيه تريان النور،اخضرت الارض القاحلة واثمرت شجرة الحراز
شيئاً
ما لا هو باللحم لا هو بالنبات ، يزعم جدى انهما المن والسلوى ! فاخذ يبحث
عن
المرأة التى أنجبت له فى الرؤيا هذا الجنين الذى يحمل الخير الوفير ، حتى
وجد
إمى بعد بحث مضنى ... زفرت نوار ، زفرة حاره ! و تنهدت و هى تضيف و (لقصتى
فى
جبال النوبه شأن كبير ، فقد سبيت أمى ذات خريف يانع ، إثر هجوم البدو
الأقحاح
على سنار ... قطع بها الغزاه الفيافى و القفار إلى أن نال منهم التعب و
اخذ
منهم كل مأخذ ! فاستراحوا عند جبال “ كترى “ عندما سنحت الفرصة وهربت ..
ولم
أجد نفسى ( هكذا تقول ! ) ! إلا ومحاربين اشداء من النوبه يحيطون بى احاطه
السوار بالمعصم ، و أخذونى إلى احد جبالهم ... كانوا يتبعون لاحد سلالات
نوبة
الشمال فجدهم اسمه (حسن صاى ) ترك هو و" خشم"** بيته النوبه الشماليه حين
ادرك
ان الاتراك قاضين عليه وعلى أهله لأنه لم يسلم كما سلم بعض مشايخ الشمال!!
..
فدخل إلى هذه الجبال و صاهر أهلها .. قالت أمى ( وكانت إمرأة صالحة ) أن
جدوى
كان حواراً للشيخ الهميم و كان يعرف الكثير
* فى لغة الفور تعنى العربى
** تعنى أهل بيته
عن لغة الطير و الحيوان و عنده أسرار الأنس و الجان ، كان يدنو أو يبعد
من
النبى سليمان و تضيف أمى عن أبى عن جدى .. كيف أن جدى أصبح “ حوار “ للشيخ
الهميم هذا أمر تطول قصته ، ويتسع شرحه ! إذ كان دون أهل بيته جميعاً
كالوثنيين ، يبعد عن السماء عنوةً ! ... للحد الذى تكاد تجزم فيه أن "
سمعته "*
هناك لا سيئة فحسب ، بل لا سمعة له إطلاقاً .. لايعرف سوى " أنداية "**
وردة
" بطرف " الحلة ، ولايجيد سوى الامساء فى " المريسه " والاصباح عليها ،
الى ان
سمع هاتفاً ذات ليله فأصابه الخوف و الهلع ومنذها تغير حاله ! .. وهكذا
كان ..
أصبح “ حواراً " للشيخ الهميم "***، ويطيب له مثل الهميم ، التجلى فى
حضرة (
منانة ) " ضاربة الدلوكة "**** .
كان قليل الكلام بطبعه و لايفضى بسريرته لأحد لم يحكى سر رؤياه ابداً و
لايتكلم
عن تفاصيل الهاتف الذى ألم به وهو فى طريقه من بيت ( ورده ) الى بيته ،
فظل ذلك
الأمر سراً حميماً ، الى ( ان اخذ صاحب الامانه امانته ) .. هناك بعض
الروايات
التى تزعم ان الشيخ هدد جدى لانه اكتشف ان هناك من زرع شيئاً فى رحم ابنته

ولم يكن ثمة متهم اخر !..
نسب ابى غريب ، فجده الذى اشتراه العمده الكبير من الزبير باشا ود رحمه او
ولد
احدى جوارى العمده بنتاً ترعرعت البنت ونمت وكبرت ولم تكن ثمة اجمل منها
فى
الديار والديار المجاوره ووقع بينها وبين " المانجلك "***** الاصغر هوى ،
فجرى
بينهما المسطر ، وانجبت ولداً كالقمر الازهر ، لم يعترف به احد ، فظل بلا
اسم
.. هذا الولد هو ابى .. هكذا كانت تحكى لى امى عن ابى وانا بعد صغيره ،
تشربت
ذاكرتى بكل حكاية عن سلالتى التىإنحدرت منها ، تحكى لى أمى ، منذ نعومة
اظافرى
حتى بلغت الثانية عشرة من من عمرى ، حفظت كل حكايتها عن ظهر قلب وعلمتنى
الكثير
من معرفتها .. كانت أمى تدهش كل سكان الجبال وأورثتنى هذا الاندهاش ،
فأسمونى
" الكجورية "****** لاازال اذكر امى فى تلك الليله التى وشع
"
فيها البرق و أدلهمت السماء : ( ستعيشين غريبة وتموتين غريبة فطوبى
للغرباء ..
هذه الجبال منها تخرجى وإليها تعودين لنلتقي بسلوى ترسمك كالطقس ، وتعبئ
الرسم
بك ، لتدخرين الى زمن و مكان ما .. ) .
كانت السنوات عجاف و الجفاف يضرب كل شئ لم تكن ثمة سنبلات تتلامسها اصابع
الكف
الحرشاء “ المتورمه فى حزمة واحده ... صدأت الفؤوس وقحلت الارض وغطت
" السفاية "****** كل شئ اخضر وجمر القيزان و بردها القر انفق
البهائم و
الناس و اصبح
* الصيت ** بيت الخمر *** التى تضرب على الطبل **** مانجل إلا إياك ،
لقب
يطلق على زعماء الفونج ***** من الكجور وهو ما يماثل الساحر ويقوم بوظيفته
وهو
شخصية دينية مقدسة ****** الرمال الناعمة التى تحملها الريح
الزمن ظلمات بعضها فوق بعض كالبحر و حوت يونس ، و الطريق بعد طويل ..
الجميع
.. كل منهم ، يعتقد انه المسافر الوحيد فى الطريق الذى من نار والماضين
عليه من
نار والمحطات نار فى نار و النهب المسلح . يتلقف من ينجو من وعثاء النار
!! ..
وحدها أمك يا (نينا) كانت بشراً .. تنهدت .. كان القرار كافياً لاجد نفسى
فى
قلب الأتون ابوك قال : ( ستظلين والحراز صنوين ! ترعين الغنم كما رعى موسى
.
وتتزوجين كما تزوجت العذراء ، و تطلقين كما طلق فرعون ويكون علياً كالخضر
،
يخضر كلما يمشى عليه ولاتقف بوجهة السدود و لايموت مثل ذو القرنين !! ...
كل الحكايا ياابوعلى فى ذاكرتى كأنها الامس القريب ! .. مسبقاً كنت اعرفك
، كان
طيفك يلازمنى ، لا كطيف عاشق عابر ، بل حبيب مقيم ! تلتقيه مرة واحدة فحسب
فتترك عينيه النافذيتين أثراً على القلب و الذاكرة لايمنحى ابد الدهر ! ..
كنت
كالملهمة ابحث عنك .. عن هاتين العينين النافذتين .. أبحث عن الحبيب
المجهول ،
فتعمدت التسلل من القطار ، ليعبر دونى بعد أن هلك الأهل و الاحباب فى
الجبال
البعيده علنى اجد حبيبى ها هنا ! ...
لكن لم تكن ذلك الحلم الذى يبقى فى الذاكره ليلهمها الحكايا الأزلية ! ..
هذا
ماأحسسته قبل أن تفترق .. أنت الآن .. ربما بمسافات لا تقاس بالجغرافيا ،
تبعد
عنى .. ذلك البعد المستحيل .. وبرغم كل شئ أحن إليك و أشعر بأنفاسى قربك ،
الآن
! فانت تزفر لتملأ كل الاشياء الحميمة التى تجاورنى ولاأعيشها ! أحس بك !
تسمعنى ؟ ! وأعلم تماماً أنك ربما اخترت خاتمتك جيد أ .. هذا هو البابور
باأبوعلى و خرير الجدول .. هذا هو موسى و د جلى الذى تحتفى به يقعى كالكلب
تحت
قدمى ! ينتظر ان امنحه بسمة ، ليحس الدفْء ويطرد البرد القر الذى يسوس
عظامه
الآن يحت عن اعصابه تعب الصحراء و رائحة الخطر الدائم ! إنه الان يبحث
بين
احضانى عن لحظة امانى مستحيله ، فانا لست لسواك ، مع ذلك ، ياآخر سلالات
فزارة
وذبيان ! ؟ انت لست لى .. شرقاً وغرباً ، لايلتقان كثيراً ماحاولت احتواءك
بعوالمى و تخديرك بحاكاياى والتسامى بك اقصى تفاصيل الشجن البرزخى البعيد
،
لكنك لم تكن لى كنت احس ذلك فى نظراتك النافذه ، فحولتك القاتلة ، التى
تتهاوى
امامها كل الصبايا ، حتى أنا !! ..
وسطوتك التى تقهر امامها جحافل الترك ، ينهزمون و تغوض تحتهم البحر كأنك
تحمل
عصا موسى ! ...
كان ابوعلى يحس صوت نوار يتلمسه فىهذه اللحظه ، كأنه يتسرب شقوق الجدار
ومسام
جسده الواهن .. كان يشعر بها فى تنفسه .. تأوه ... تأوه ... لاتزالين
يانوار
تستنزفين خاطرى ، تشلين الرؤيا ، فلاتنطلق انطلاقها الحميم !! يجب ان
تختفى ،
لم يتبق شئ لنفعله ،
لم يتبق شئ لنتعلمه ، كل شئ تعلمناه : حداء العصافير وغناء الشجر و كيف
هىابتسامات البحر و ضحكته الدافئة .. البحر يانوار .. البحر الذى بداخلنا
مدَّ
الافق ، لاموانئ له لا منارات لا سواحل .. مثلنا غرباء نرحل دون متكأ ، شئ
واحد
فقط لم نبت بأمره معنى ان تكويين فى إلتحاف الفلاحين للهجير والبرد القر
ومعنى
ان تكونين فى كل ملامح تعبر عن نفسها يانوار ..
ها أنا الآن مشرداً كبيراً ، له وزنه الاجتماعى بين أبناء الأرصفة ، حفظت
الدروب ملامحى لم تعد تتغابى العرفة فىَّ ، وانا احاول تضليل العسس ...
الآن
يأتى طيفك ينكأ فى داخلى الجرح والحنين ، ويتسرب بتنفسه القطيفة مسامى ،
يطبع
ملامحى الداخلية على سريرته ولايرحل .. أهذا عذابات رجل قادم من قعر
الرصيف !
هكذاكان يقول درب ، الشارع مسفلت عندما تطأ أقدامى شارع الجامعة ، أننى
ملامح
لاغنيات كبيره حطمها الشجن يانوار ، كالفراشه المحنطة .. أقعى هنا مهجساً
بخالد
الأقرب منى إلي .. أذكر اننى كثيراً ما حدثتك عنه .. لكن أبداً لم احدثه
عنك ،
خالد الآن ، ترك الجامعة ، سافر لايلوى على شئ !!..
ظللت أخشاك بقدر ما احبك ، انتظر التحرر من هذا الاسر اللذيذ .. الآن هو
مفترق
الطرق ، كلها إتجاه واحد تؤدى إلى سلوى .. الدروب ضيقه يانوار ، ممزقه و
تؤدى
الى المجهول وربما للخلف.. على بالطرق يانوار .. سلوى ولا مفر !! . .
اسمعك
ياابوعلى .. تماماً كالذى يمشى عند رئة البحر يغنى شارع النيل و الحزن و
الفجيعة ، أنت ذاتك لم تتغير .. انى اسمعك ... شارع النيل الذى كنت تحلم
ان
تمشى على رصيفه و انت تراقب أضواء جزيرة توتى وهى تنعكس على صفحة الماء .
شارع
النيل الذى تم شراؤه من المتحف القومى ، لمستثرين مجهولين الهوية ،
أموالهم
مغسولة ... يريدون تنظيفها تماما على شفاه النيل يا ابوعلى ، شارع النيل
لا
تستطيع ان تمشى عليه الان مع حبيبتك سلوى خشية النظام العام .. وان حدث
سيقتادونك للسجن كحمار اجرب فى حظيرة الهوامل ! هيئتك تغرى حتى العناكب !
.. هل
هى لحظة انعتاق الآن .. لا أدرى !! ومن منا ينعتق من الآخر؟ انا قدرك ام
انت
قدرى ، ام هذى البلاد قدرنا معاً ؟ ! عسيراً علينا إستيعاب الاشياء الآن
فى
بلاد ليس لنا فيها شئ ! ..
يخبئ ابو على اللوحه التى لا تفارق حقيبته الهاندباك ابداً ، يخرجها ..
يخبئها
اسفل درج فى الدولاب الجدارى .. لم تفارق اللوحة حقيبته منذ زمن طويل ! ..
هذا المساء يحس بانه مقبل على عالم غريب ، لا حدود له ، متناهى فى البعد
والمجاهيل ، يخرج اللوحه مرة اخرى ، يتمعنها .. يهمس فى ذاته الانعتاق ..
يغمض
عينيه عن سحر اللوحه .. يخرج عود ثقاب بالتحسس واللمس من العلبة الورقية ،
التى
يخرجها من جيبه ، يفتح عينيه ، ويدير وجهه بعيداً عن اللوحة . يشعل عود
الثقاب
.. يقربه من اللوحة ..
يبعده عنها ، يرفعه ، حتى مستوى فمه وينفث فيه دفقه من الهواء ... يلقى
اللوحة بإهمال ويتوسد يده .. يتبدى له سقف الغرفة .. غرفه الداخلية ،
بعيداً ،
بعيداً ..بعيداً .
قصر السلطان :-
بعد ان فشل الغزو الكسوفرى ووافق السلطان على تزويج كيرا من ذو الساق
الواحدة -
لم تذكر أسباب محددة فى حيثيات الموافقة ! - فى الليلة التى دخل فيها
الفارس
المعقور بكيرا ،احترق جزء من القصر الملكى وبيوت كل اعضاء مجلسه المبنية
من
القش والآجر والطين اللبن وانتفض طائر النار على قمة مارتجلو فى رابعة
النهار
وصرحت العرافة ان نحساً سيحل بشعب الوادى اشد كارثه من الزحف الكسوفرى ،
مالم
يطلق السلطان كيرا من ذو الساق الواحده ، رغم علم الحيزبون التام ان الشئ
الذى
ينمو فى احشاء الكيرا شارف على الخروج ؟! ولكن تراجعت العرافة إثر كثير
من
الاغراءات السرية المقدمة من أطراف مجهولين و حرفت فتواها ، فساهمت فى
اقناع
السلطان و أعضاء مجلسه أن الحرائق ناتجة عن برد الشتاء القارس الذى جعل
أعواد
الاندراب الجافة سهلة الاحتراق ، وهذا بالفعل ماكان يحدث كل عام فى عز
البرد ..
تحترق الاشجار برداً دون ان يستطيع أحد تفسير تلك الظاهرة التى تسند
لمارتجلو
الذى يريد تجديد شباب الاشجار و أخصاب الارض ، لكن لم يحدث ابداَ أن
إحترقت
بيوت ومع ذلك لم تكن ثمة أصابع إتهام لطابور خامس محتمل ؟ ! وإزاء إصرار
العرافة و تأثير الكيرا اقتنع السلطان و اقنع مجلسه على مضض بأنها بشارة
بحلول
خصب لا ينتهى على مقر السلطان و حاشيته ! وأعاد الفارس القادم من شمال
افريقيا
الكر والفر على ميادين كيرا ، لهث و لهثت ، تصبب العرق و تورمت العيون
ولثلاثين
خريفاً متتالياً أنجبا ثلاثين تؤاماً !! ...
المطاردة :-
ذبح صدرى بنظراته الموغلتان فى الصمت ، كان الوقت أصيلاً عندما خرجت وحدى
من
الجامعة ، شقفت دروب المدينة المكفهرة لا ألوى على شئ .. كانت نظراته
لاتزالان
تتبعانى ،خطواته المثقلة بالخبث و الرداءة تمعنان فى السؤال عنى .. دفعتنى
اشجانى الموبؤة بنوار للدخول فى حلقات الازدحام البشرى و ان أشارف بدايات
السوق
ببناياته الغبية ، فشلت فى الاختباء بين الاجساد المرهفة كنت أدرك اننى
واقع فى
أبديهم لا محالة ، لكن لأقاوم و عند اول منعطف جانبى : ( لتتكئ على صدرك
المذبوح قليلاً ياشهاب ! ) اخترقت طرق وعرة المسالك ، تناثرت على اهدابها
العجفاء ماعزات كجذوع ممسوخة لشجيرات جميز هرمه ، احترقت حوافها ، تنهدت
بارتياح و قدماى تطئآن عتبة الدار ... لم اكن واثقاً من
معرفتهم لبيت أختى ، لكننى كنت واثفا من اننى ضللتهم .. ولجت الحمام ..
نمت
... صحوت فى الواحدة صباحاً على صوت موتوسيكلات وعرباتهم القميئة و هى
تمزق
طفولة الليل و تهشم الهدوء تماماً ! قفزوا من جدران المنزل الخارجى
مشهرين
اسحلتهم القصيرة ، كنت قد سارعت بالإختباء خلف جوال فحم متهالك ، تتكى
أضلاعه
على الجدار الخلفى للبيت ، سمعتهم يسألون أختى ..
ـ أين شهاب ؟!
ـ فى الداخلية ....
ـ بل رأيناه يدخل هنا ، فى تمام الحادية عشرة مساء اليوم ! ..
ـ خرج بعدها ! ..
ـ أنت كاذبة ...
صرخ طفل أختى و عيناه تفارقان النوم من الفزع :
ـ اين زوجك ؟
ـ مسافر ..
صفعها أحدهم
ـ اين شهاب ؟! .. تكلمى …
ردت باصرار لا يشوبه خوف :
ـ لا أدرى ..
كحلزون على سطح أملس ، انزلقت من الجدران الخربة بهدوء ، احتضنت الشارع
الفسيح
ركضت الكلاب تجاهى . كادت تمزق دقات قلبى المندفع .. عند منعطف جانبى هدأت
من
ركضى واخذت أسوى من وضع ثيابى المتهدلة .. توقفت عند منفرج بدأ لى كهيكل
متوحش
لحيوان خرافى يمارس الجنس بينما يلفظ انفاسه الاخيرة ، لبثت انفاسى لبـرهة
فى
طريقها للهدوء ثم تصاعدت مرة اخرى .. لم يكن ود حبوبة .. تصاعدت انفاسى
أكثر
وأضواء كاشفة تطوف الدرب الوعر تماماً ! همست لنفسى ( يبدو أنك ستعتقل
ثانية
ياأبوعلى ! ) كانت صوت مستر ريد و أبناء الانجليز يأتى كالفحيح .. ثابت ..
ثابت
...
مارتجلو..
عندما تشتعل الحرب الاهلية ، كان الأهالى يلوذون بمارتجلو .. يدخلون
ردهاتهم
الواسعة وكراكيره السرية المتعرجة ، يجدون كل شئ : الكساء ، الغذاء والماء
ذو
النكهة البرية الرائعة ، لا أحد يسأل من أين تجئ هذه الاشياء ، فى ذلك
الحين لم
تكن كيرا قد تزوجت بعد منذلك الفارس ولم تبتدع مفرده كنجار لتعبر عن الذى
يتكلم
العربية ولا يعرف
الرطانة ، فذلك الفارس بعد لم يكن قد اتى بعد ولم تكن عبارة
(صَلَّنْدُّونْ
كَوَىْ) ايضاً قد شاعت !...
التحقيق :-
ـ اعترف ..
ـ بماذا اعترف ؟!
ـ من هى نوار ؟
ـ انثى خلاسيه التقيتها حدا البابور وتوحدنا فى كيان الحراز ..
ـ ماذا تقصد !؟ اعترف !..
ـ بماذا اعترف !.. باننى لم اكن ضمن كتيبة يونس الدكيم التى قامت بتركيع
عساكر
ابو كلام ؟! ام اعترف بالعكس ! عفواً سيدى الجنرال .. الشعوب سيده مواقفها
وكل
ما فى الامر اننى جزء من الحراز ونوار جزء منى .. فهل هذا ينافى القانون
فى شئ
؟!...
ـ اعترف احسن لك ؟!
لم اشهد اغتيال يونس الدكيم للفكى عرقوب !. ولم اكن شاهداً على سبي النساء
وأسر
أفراد القبيله .. لم أكن شيئاً من ذلك ولا تعنينى قط أطماع اسماعيل ود
مريمى
زعيم دار محارب فى اراضى الاحامده . ماذا تريدون منى ، فليس لدى سيف كى
تهدوه
لتاتشر ، ولا اعرف محتويات المتحف الوطنى !!..
وتوالى لسع السياط على ظهر ابو على ولم يكن ثمة شئ غير الصمود والانصهار
فى
الكبرياء
نسل الكيرا:
برغم ان العرافة ومجلس السلطان قد بذلا جهوداً مقدره فى تهدئة خاطر شعب
الوادى
اثر تلك الحادثه ، ليلة الدخول على كيرا ، إلا أن شعب الوادى أخذ ينظر
بتوحش
للكيرا ونسلها الذى يتكاثر بشكل مخيف وبعد مضى كل هذا الزمن أخذوا يرون فى
نينا
من خلال أحسيسهم الغامضة ، الناتجة عن ركامات الماضى السحيق ملامحاً لشئ
ما بقى
فى الذاكرة ولا يدرى كنهه بالضبط !!..


الزنزانه:
الزنزانه ، ضيقة ، باهتة .. تخترق الباب الصاج أصوات ضئيلة ، كابية كالضوء
المرتسم كأنشوطه عند فتحة السقف اليتيمه .. ذات الاصوات المسحوبه منذ
أعتقلت ،
تفيض ،
تنحسر وتتلاشى مع بقايا همهمات الجندى النبطشى .. تصطدم بتأوهات مهذوذه ،
مبعثره ..رأسى المسكون بنوار يصرخ كعجلات قطار على سكك حديديه تمتد فى
خفقات
القلب : نوار .. نوار .. نوار .. بدأ لى راسى صغيراً فى هذا الهدوء
القاتم
الممتد اقصى شرايين المكان ، محتوياً كل شئ .. ذات اللحظه ، ربما .. التى
عاشها
الحلاج ، قبل أن يدنو منه النطع والسيف :
ـ الحلاج ذاك ، كان رجل يانوار .. أعنى ياسلوى ...
ـ لماذا ..ألانه عمم الخاص ..
ـ لا ، لأنه كان مسكوناً بالمجتمع .. انه صاحب تصور للعالم والناس
والاشياء ..
ـ كلهم هكذا !!..
ـ لكنهم ليسوا مثله .. لم يخرجوا من أبراجهم الشفافه ليلامسوا أحزاننا
،الاهو
ـ هل تحبه مثلما أحبته نوار ؟!
بل أحب تلك اللحظه .. لحظه الارتباك تلك التى حاصر بهما قضاته ….لازلت
أضحك
عليهم مثل ضحك الحلاج على أبوبكر الحمادى و إبن سريج ....
وضحكت ... ضحكت ، حتى انزوت جدران الزنزانه على نفسها ! ، ثم انتبهت لنفسى
فانزويت انا الآخر فى ركن ....... إنغلقت بعيداً عن رائحة العطن و الفضلات
و
تخيلت أننى لاأشم شيئاً !! .. حاولت ان اغمض عينى ، نفضت عينى ، نفضت بيدى
فجأه
عند إحساسى بشئ بارد يتسلق عنقى ! ..الجرذان المتراكمة فى هذه العتمة و
حركات
الخفافيش المباغته تبعثان فى نفسى الاحساس بالغثيان الذى لاينتهى عند حد !
حركةّ الباب و الحوار المتقطع يتقاطان على سمعى ..
ـ هل سأنام هنا ؟ !
ـ لا ، سنحجز لك فى الهيلتون ! ... و الله عجايب آخر زمن !!! ...
ـ ..... .... ..... ....
ـ من ؟ ! !
ـ ..... .... ...... ......
تعالى صوت الكرباج و ملأ الأنين و التأوه فضاء المكان ... إرتفع صوت خطوات
الجندى النبطشى ، وهى تبتعد ، وهو يطنطن لاعناً الدين و العتقلين و السلطه
و
المكان ! ... ثم أخذ وقع خطواته ينخفض تدريجياً إلى ان تلاشى مخلفاً وراءه
الصراخ اليائس ! ...
أرخص شئ فى هذه البلاد هو إلانسان ! ، لايساوى شيئاً مطلقاً ! ... بصقت
بقرف !
....
الزنزانه تبدو موحشه ، سمجه و بارده ، تافهه ... تمر بى الصور شريط من
الحزن ،
أمى ، اختى ، خالد ، الاصدقاء ، الكارو ... و ما أشبه الليل بالبارحه !
هكذا
الحال منذ زمن موغل فى البعد .. قالت نوار :-
ـ لنتزوج ... ولم يكن ثمة شاهد سوى الله ، ترى كم هى المعاناة التى سببتها
لأسرتى ؟ وهل ستكون شقيقتى حكيمة وتخفى عنهم خبر إعتقالى ! فتسكت على
الحزن !
تطفو على الذاكره أمى بوجهها المتعب المكدود ، وشفاهها المتشققه كالأرض
تمتد
على المساحات وتدور وابقى في ذات النقطة التي انطلقت منها ..ليس ثمة فرز
لأضاءات تتحقق ..الاشياء تتبعثر فاتششت فيها..اشجاني المجبرة على الانتظار
قهرا،
اللامبالاه ،النهايات القصوى للقسر ،عفوا لاقيمة للوقت هنا ،حيث احتراف
الفراغ
،والترقب !.
الليل .النهار فالمساء ، الصباح ،الظهر والعصر !وكل شيْ لاقيمة له في هذه
العتمة الدائمة.
من ينتظر جبيبته ، ليس كمن ينتظر فجرا لايطل !في هذا الظلام المستمر يشتاق
الانسان لأي كائن يحادثه ويغني معه الاغنيات الصامته للصمت !.. ان تغني
لاتموت
هو الحب مقاومه للرصاص والدم !!.. احاطت بوجهي عشبات اكثر كثافة من ذي قبل
،
واكثر شعثاً ، عناء الرحيل الدائم الى زمان الضوء ..ازدادت قامتي طولاً
وجسمي
نحولاً والتروبادور لايزالون يغنون الدوبيت في الريف البعيد ، مع
الكوليرا
والاسهال !!.. صارت العينان ضيقتان تماماً ،مزرورتين كالمصوبتان الى رماد
..غائرتين على بؤبؤيهما ويجئ الليل ممتزجاً بنباح الكلاب. .
تزداد كثافة الظلام ويزداد الطرق على باب الزنزانه ،وتأت الاصوات الغليظه
،الفاجعه ،المهدده:
ـ خير لك ان تعترف !؟..
ـ ماذا ؟انا لم اكن ضمن الجهاديه السود بكسلا ،ولم اخنهم ،لم اقدمهم لقمه
سائغه
للانجليز لقاء مزيداً من الاقطاعيات والتسهيلات.
أنا عبد فقير يحق له التعامل مع ديوان الزكاة.. نصيبي في هذه المليون ميل
الشاسعة ثمانون كيلومتراً مربعاً فقط.. تماماً !.. هل احسبها لكل عدد
السكان
على المساحة..أم .ومع ذلك لاأملك حتى منزلاً بالايجار !ماذا تريدون مني
؟!.
ـ اعترف احسن لك ؟.
ـ هل اعترف بأنني اقاتل لاجل ثمانون كيلومتراً مربعاً فقط ، أم بماذا ؟!.

ـ اعترف ...
ـ لقد تعبت .. توقفوا عن ضربي ايها السادة ،انها نوار ..
ـ مابها ..من هي ..ها، قـــل ...
ـ نور عيني ، حبيبتي ، مأساتى ..ربما ..
كرياح والم وتأوه ...
ـ اعترف يابن الكلب ...
ـ لم اتاجر بعقائد الناس ولا احلامهم ، لم ازنى بقضاياهم ..فقط احب نوار
كما
أحب (المحلق تاجوج)*.. أنتم تدفعونى للجنون ..
ـ أعترف ياسليل الموامس ، يا ابن الكلبة ..اعترف ..
الاستلذاذ بالتعذيب يطل من عيونهم الشرسة التى يتجلى عليها مركب النقص
والعقد
النفسية والهزيمة ..
ـ سنأخذك (للعمارة ) وهناك لن ترى الضوء أبداً ،مرة أخرى .. امك نفسها لن
تعرفك
..
ـ أنتم مرضى !...
ـ ماذا تقول يابن الزانية !سترى الآن ..
مزيداًمن الصبر والسلوان يا اله ..مزيداً من الحزن والصمود ..
التهديدات ذاتها ،لاتتغير أبداً في محتواها أو شكلها .. ذات الكلام الذى
قالوه
لادم بك العريفى ، ذات الكلام ..والزمن ثابت لايتغير ، لايتقدم .. منذ عصر
الانحطاط وذاكرة المماليك ترهن تطلعاتنا .. لم يسلم منهم خلق الله حتى فى
سنار
القديمه والمقرة وعلوة والنوبات !.. لم يعوا الدرس من تآمر الوزراء الهمج
على
سنار !.. ربما ..
لن ترى الضؤ ابداً ..
لم يرى الضؤ احد منذ قتل هابيل اخاه ، منذها نحلم وما اشبه الليله
بالبارحه !..
ولا ازال احلم وسأظل أحلم ، بعصفور من خلال السيخ ، يخترق شرفة الحلم ،
يلج
فضاؤه ، يمارس التحليق مبتعداً عن الزنزانه !.. عصفوريخرج من القلب ويرحل
بعيداً فى الوريد ، هناك فى مركز الشمس ! عشمى ، بعد ، لمحة ضؤ ( زوال ) ،
( ضل
ضحى ) .. او امتداد الظل برغم انف قوانين الطبيعه وعلماء الفلك ، برغم انف
(
مستر ريد )** و( سلاطين )***وكل
كتاب التاريخ والمتاّمرين والطبالين وحاشية الامير والوزراء الهمج !..
ـ سنقتلك .. اعترف .. ألا تحرص على حياتك ؟!..
* المحلق يقابل فى تراث شرق السودان روميو وتاجوج تقابل جولييت ** آخر
مأمور
إنجليزى للنيل الأبيض *** سلاطين باشا صاحب كتاب السيف والنار
حياتى ؟!! .. تلك حكايه طويله ، ومؤلمه .. آه مؤلمه هى اعقاب السجاير
وصعقات
الكهرباء .. آه ، النار تلسع جسدى ، لكن التعذيب الحقيقى هو ان تتقاعد عن
شم
النسيم ، ان يستقيل
العقل والوجدان ، ونتقاعد عن الحب والغناء ونوار.. الشوارع المترفه
بالمعاناه
والمساله اكبر.. هى الانفصال عن دائرة التاريخ ، عن محيط دائرة التاريخ
والعوده
اليها !.. تلك هى المسأله ، ان نكون فى زمننا الحقيقى او لا نكون ! ان
نسمع ما
نرغب فى سماعه ، ان ناكل ما نشتهى ، ونشم الرائحه التى تعجبنا ، ولا يفرض
علينا
التلفزيون سخافاته ؟! ان نعبد الله كما نعرفه ، لا كما يراد لنا ان نعرفه
!! ..
البابور .. شجرة الحراز .. الرابية .. الشارع الممتد بضؤه القرمزى فى
نهايات
الدرب كإشارات المرور ، الأغانى الثورية ، المتخمة برائحة البارود وطعم
المقاصل
!.. ترى كم من الزمن مكثت هنا ؟!! يوماً ام بعض يوم !.. حتماً سيقولون ،
اثنين
، انا ونوار وثالثنا الحزن المقيم او خمسة ، ستة بالبرد والريح ونباح
الكلاب
والكرباج .. الكرباج هو العلم الرسمى للدولة !.. ويكفى الانغلاق بعيداً عن
الحزن ، دون فلسفة له !.. يكفى الاحساس به لنتعذب طويلاً ، لا حاجه لرؤيته
مطلقاً !..
اللغه مهزومه فى هذا المكان الصامت ، الصامت .. تتداعى الاشياء ، تنغمس فى
قطعة
الخبز الملقاة على البلاط المتهرئ لتبل الريق بالاغنيه الوحيده التى لها
معنى ،
هذا الريق اليابس ، تبله هذه القطعه الصغيره الملقاه ، اغنية الكاوبوى ،
اغنية
السيد الكبير ، اغنية السيخ ، اغنية الكوة ، البلاط ، الجدران ، الجرزان ،
النمل والبعوض والجندى النبطشى .. اعقاب السجاير واغنيات كثيره لا حصر لها
ولا
معنى الا عندما ترتبط ببعضها ..
معنى واحد فقط يظل ماثل ابداً وهى منفرده ! : القهر .. اغنيات مهزومه
ابداً
ميته ، عدا قطعة الخبز الجافه !!..
هذه الكف بخطوطها العريضه ، المعروقه ، كجذور شجرة نيم معمره ، عفى عليها
الزمن
واضناها الحنين ، انكفأت على نفسها بقسوه.. جميعهم ينتظرون العائد من
الضباب ،
بتشوقات مجروحه اصداها الحنين .. تتحول نفسى الى كتله من الحزن الكلى
الشامل ..
اتمزق بين قرصات النمل والحشرات ولسعات الهوام الضاله والعزله !.. الهموم
التى
تركتها خلفى تأكلنى .. اتشرد بين الامل وكثافة الحلم المستحيل واللغه
القاصره ،
المهزومه ونباح الكلاب ، اتشرد بين مدارات الوحشه ونداء الدواخل لقطع
الطريق
امام كل امل مخضوضر هوية تحمل اسم نوار ..
ـ سلوى تسأل عنك يا ابو على!..
ـ من تكون سلوى ؟!..
ـ قريبة نهى ..
ـ لا اعرفها !..
على ارض الزنزانه القذره تناثرت اشياء ، كانت تبدو له ثمينه وقيمه ،
نادره ..
قطعة كرتون عتيقه فرشت على البلاط ذوات النتؤات والتجاعيد ، مجله بتاريخ
قديم
تركها معتقل سابق وكتب عليها : ( أذكرونى ) .. من يذكرك يا صديقى ؟! انت
تعبث
ولا شك !.. ابريق قديم للشرب وقضاء الحاجه . . . خلعت البنطال المتشقق
كالارض
الزراعيه ، والقميص المهترئ .. جففت العرق .. لملمت اطراف ثيابى القديمه
على
جسمى مرة اخرى لاحتمى ‍‍‍‍من سرب البعوض .. طرقت باب الزنزانه عالياً ،
أكثر
من المعتاد .. فتح .. أطل وجه كريه
ـ الطعام ..
كنت متشوقاً لرؤيه أى وجه من الوجوه البشريه عدا هذه الوجوه الكريهه ،
تلمست
قطعة الخبز اليتيمه وجدتها محشوة بالملح و العطرون ، حاولت تنظيفها ، يئست
فقذفتها و لعنت كل شئ ، قرصنى الجوع فتأسفت .. هنا يشتهى الانسان أتفه
المأكولات ! فتح باب الزنزانه بقسوه واطل ذات الوجه الكريه :
ـ لماذا لم تأكل ؟ !
ـ لاأستطيع هضم الملح و العطرون .. إهترأت معائى يارجل ! …..
قلت بلهجه لاذعة فرد بحنق :
ـ هذا إعتصام ! همم … مم … ستأكل عندما تجوع .!
أغلق الباب خلفه بشدة و أبتعدت خطواته القاسيه .. أمسكت بنواجز الزنزانه
الفاسقه ، وكتلة من القرف الثقيل تستقر بأعماقى ، ترهقنى كثافة الليل ،
أنفاسه
الرماديه ، الخنثى ! .. تبعث على المراره و الاسى ! مره أخرى طرق باب
الزنزانه
بصوره مفاجئه و متقطعه دون ان يفتح الباب ! استمر الطرق .. إذن هو شكل آخر
للتعذيب ؟ …
في المرات الاولى كنت أنتفض متوجعاً ، وطبلتى أذنى تكادان تثقبان .. كنت
كفرخ
طائر ذبيح بللته مياه المطر ! لكن لم تعد هذه المشاعر تستثار في الآن ! …
فقط
أحس بشعور ما ، شعور مائى. . يجمع عواطفى كلها ويصبها في قوالب من
الاغنيات
ذات اللغات المكبوته إلى درجة الجفاف خلايا مخى وأوداجى المزرقة المنتفخة
تهترئ
لحرمانها الراحة في أيام السهر الطويل .. تعانى إهتزاز الرؤى و الرؤيا !
..
احساس مفعم بالنهوض ، يجعلنى أشعر بأننى فقدت أشياء عزيزه علىَّ ، لاأدرى
لماذا
يهاجمنى هذا الاحساس ، كلما ذكرت نوار ؟ ! ويتمدد بداخلى مالئاً كل
الفراغات ..
الأشياء أمامى تصير أجسام بلا عناوين ، تفقد صفاتها ، مميزاتها أفعالها ،
ردود
.. ترى أيكون إفتقادى للحريه هو الباعث لهذا الاحساس ؟!… أم هى لحظة
المواجهة …
مواجهة الذات التى تفرجت على الحياه ليس كما ينبغى ، لم تعشها
كماينبغى ! …. الاحسايس المتضاربة تبدو عميقه حين يفتقد الانسان الاحساس
بالكيانات التى حوله : حيث لا تمثل سوى ذوات جامده لاحياه فيها .. قلت
لنوار
مره :
ـ لماذا أنا بالذات ؟! …
فردت بحنو :
ـ لماذا أنا بالذات ؟ !!
ثم كأنها تستفيق :
ـ ربما لأن عينيك لا قرار لهما .. وربما لاننى احب الاطفال .. لا لأنهم
أطفال
.. ولكن لمعنى الطفوله ذاته .. الطفوله المحض ! ..
أرتقى إلى الفراغ أم الفراغ يرتقى إلى .. آه ، هو الرفض إذن ، لايموت
كالآيديولوجيا ، بكل عسفها ! .. إنه المستقبل الذى تحياه الآن ، الامل
بريق
محفوف بالمخاطر ، لكنه قد بكسر طوق العزلة والعتمة والحصار عند إنفجار
القمقم
..
إستضافوا شخصاً جديداً ، إمتلأت كل الزنازين عن آخرها .. لم يجدو لسياده
المعقتل الجديد مكاناً ملائماً لاستضافته كما يبدو ! فقرروا إستضافته فى
زنزانتى الفاخره ، حتى دون أن يهتموا لرأيى ! .. رأيى ؟ !! .. لم تسعنى
الفرحة
بالطبع ! و القدر يهئ لى فرصة سماع صوت بشرى حقيقى مرة واحده هكذا! تسلل
صوته
الرقيق من بين أسداف الظلام :
ـ السلام عليكم ..
احسست بأننى لم أسمع صوتاً أليفاً منذ ولدت كدت أنسى اللغة نفسها ، كنت
مشتاقاً
لتجاذب أطراف الحديث مع أى كائن كان .. سألته عن الناس بالخارج عن اليوم و
الشهر و السنه .. هل لاتزال الارض تدور ؟!! وجهه النحيل الاسمر يحمل خطوط
حزن
عميقه .. هم كثيف يغطى خطوط أخاديده الغائرة ، حاولت أن أكرمه بالتخفيف
عنه ،
سألته بصوت حاولت أن أجعله ودوداً ، حانياً . .
ـ لماذا أتوبك ؟ !
فرد بأسى :
ـ وجدوا عندى رطل لبن ! ..
ـ هل هذه جريمة ؟ ! ..
ـ كانوا قد منعوا شرب اللبن لأنهم بحاجه لتصديره مجففاً .. أصبح
اللبن
لا يوجد إلا
مهرباً طفلتى الصغيره " مفطومه " و لم يكن أمامى سوى المخاطره حتى
لاتموت
الطفله ! ..
ـ همم .. م م م .. يهتمون الآن بأمر اللبن والأغذية المصرية الملوثة
بالاشعاع
تتسرب عن طريق حلايب .. التهريب عن طريق حلايب يملأ الشوارع .. الناس تموت
بسببها والأطباء الفاشلون يسجلون حلات المرض المجهول ..
أين تجد وطنك ياأبوعلى مختبئاً فى هذه الزنزانة الضيقة ، أين تجد وطنك
مختبئاً
فى هذه الساعة الفاجعة ! ؟ ! إنه أضيق من الزنزانة ! ..
ـ من أين أنت ؟ !
ـ من كل مكان ..
ـ لا أفهم !
ـ ولاأنا ! ..
ـ هو كذلك ..
ـ ماذا فعلت
ـ لاشئ
دعك أنفه بتقرز :
ـ ماهذه الرائحة ؟ هل تقضى حاجتك هنا ؟ !
ـ الحمد لله لن أكون وحدى بعد الآن الذى يفعلها !
ـ ماالذى تعنيه ؟ !
ـ إنس هذا الامر الآن .. ستعتاده ! .. لاتهتم ! ..
كنت أود لو أزيل عنه هذا الاحساس المملوء باليأس و الحزن والألم لكننى
أحسست به
منصرفاً ، كان يعيش داخل نفسه ، راغباً عن أى حديث ، تركته لتوحده وتوغلت
بعيداً فى نظراته الشارده ، أحسست ان عليها خيولاً تركض فى محطات محدود به
الهواء و الضوء .. وحدهما يستقيمان ظهورنا تقاوم الانحناء ! …
تختفى كل الخيالات حتى النائية منها تتضائل مع نباح الكلاب ويذوب كل شئ فى
الفراغ مع لهاثها …. كان الطرق المسرف على الباب يتواصل ، تنزف دواخلى
المأسوره
.. الشعور الحقيقى لانسان أعتقل زمن ما من داخله !!.. حانت منى إلتفاته فى
الظلام ، فأصطدم بصرى بجسم ممدود على انزواء الركن ظهره للأرض وساقية على
زاويه
الجدار لأعلا فى وضع غريب ، يشبه الوطواط عندما ينام ! .. هاجمنى شئ من
توقعات
حزينة .. إستمديتها من احساسى بالذين فى الخارج تذكرت فجأة ان الجسم
المنزوى هو
للسجين الذى ضبطت بحوزته " حلة اللبن " زفرت بشئ من الارتياح .. أمعنت
النظر فى
الجسم المتكور ، تخليته لامنزوياً على الجدار ، بل على حزنه وخيبته من
الآخرين
الذين صمتوا حين رأوه يقاد كالكلب إلى
هنا. . الأخرين الذين كانوا يراقبون إغتيالات الطلاب وهى تتم لأجل وطن
يحلمون
به يتناثرون كالشظايا وتملأ دمائهم شوارع الخرطوم !
والطفوله تدهس تحت سمعهم وبصرهم ! الآخرون هم الجحيم " .. لايزالون صامتين
كالموتى لايجيدون سوى التنظير فى المواصلات العامه وقعدات السكر والانحناء
للريح … هنا تتبتدى العلاقات بين السجناء فائضة بالإحساس الأخوى والمشاركة
فى
الفجيعة تقتسم معهم كل شئ .. أحلامك أحزانك بل وحتى التغوط والبول فى مكان
واحد
‍! نعم تقتسم معهم حتى المكان لايزال المعتقل متمسكاً بعوالم تخصه وحده ..
متكوراً عليها ، لايريد أقتسام شئ مع السجناء ! .. فتح باب الزنزانه عند
منتصف
الليل تماماً كما قدرت ، واتى صوت ذو نبرات غليظة ، أجشة :
ـ حيدر ..
إنتفض السجين فى ركنه المنزوى بغته كمن لدغة ثعبان سام ..عندما أقترب منى
أحسست
به يزيح عن صدره كل أحزان وهموم العالم و يضعها على ظهرى بكل ثقلها ..
ربت على كتفى ومضى …
" لنتزوج " قالت نوار .. فإكتشفت فحولتى لأول مره ! .. كنت أحيا فى تلك
اللحظه
، كما هى الحياة !! …

( * )







مداخلة:-







على لسان و نستون
فى
مسرحية الجزيرة لأوثول فوقارد
ترجمة / أحمد طه أمفريب






















إنبثق
عن سقف الزنزانه بشكل مفاجئ وجه نوار ذات الوجه الطفولى لإمرأة ناضجه كان
السقف قد إنفرج عن مصراعين و سبحت نوار فى الفراغ .. لم تتفوه ببنت شفه
عدا :
ـ الطريق أطول مما يتصور حفيد موسى ود جلى بكثير !!..
وأرتفعت بى خارج الزنزانه ، التى عاد سقفها إلى مكانه .. وضعتنى على الارض
و
تلاشت فى الهواء .. عندما أستوعبت ذهولى و دهشتى إنتبهت إلى اننى لم اغادر
مكاتب زنازين العسس بعد لازلت فى جغرافيتهم … دهشتى وذهولى لم يجعلانى
أسمع سوى
كلمات نوار الآخيره :
ـ ….. سلوى …
بدت ذاكرتى كخليه من النحل وجيبى يتقطر عنه العرق و نوار تغيب فى
اللانهاية مثل
طائر مارتجلو .. لم تكن المكاتب ذاتها تلك ! فوجئت بمدينه ممتده تحتوى على
الزنازين و المكاتب وبيوت الأشباح ومساكن العسس وعائلاتهم .. كان كل شئ
يشير
إلى اننى فى مدينة كاملة للعسس بكل مؤامراته وزيفه وصلفه ومكائده مدينة
بأزقتها
و حواريها فقرائها و أثريائها ، كازينوهاتها ومعابدها ! .. أنديتها ..
كانت
مدينة بكاملها ..شئ واحد فقط بقى ! كما هو : شجرة الحراز … ( شجرة الحراز
هذه
أصلاً كانت شجرة نيم .. أول شجرة نيم أدخلها الانجليز .. زرعوها فتحولت
الى
شجرة حراز !) تلك كانت رواية السجان .. فهل كانت هذه المدينة موجوده قبل
دخولى
؟ ! كل الأشياء تبدو مألوفه ، حتى الشجره ، رغم أننى أرها للمره الأولى !
كان
المكان رهيباً و الدواخل يمشى عليها النمل ! .. غابت الشمس ، هذه الشمس
التى لم
أراها منذ زمن طويل … أرأها الآن … كان واضحاً أن الفصل خريفاً ، إذ
اقتحمت
أنفى " دعاشه " لذيذه بارده ! … أخذت السماء تبرق وتتكاثف غيومها .. قلت
فى
نفسى ستمطر بعد قليل ، وفكرت كيف يلتقينى الأهل و الاحباب بعد كل هذا
الغياب
..سألتقى الليله أهلى … إنتبهت على نباح كلب مزعور ، يطارده أطفال عسس ،
شيعت
شجرة الحراز بملامحها الحاده ، بنظره آخيره وأبتعدت للخروج من مدينة العسس
..
نساء من العسس ، أطفال من العسس ، صبية ورنيش من العسس ، شواذ من العسس
هذه
المدينة التى خرجت من قلب التاريخ ، كل شئ فيها من العسس ! .. حتى المبان
تتخذ
شكل العسس و لابد ان كل من يلتقينى سيعتقد اننى من العسس ! الفرق بين
العسس
وغير العسس هنا ، فقط فى من بداخل الزنازن ومن خارجها ! فرق مكان فحسب !
،لافرق
آخر البته ! . دخلت زقاقاً ملتوياً فإذا بالكلب المزعوم ينزلق من أحشائه
المتشابكه الأطراف . ركضت أمامه و المسافه التى تفصلنى عنه تتضأل ، أخذت
أزيد
من سرعتى حتى واجهنى نفق فى نهاية الدرب تدليت منه سريعاً ، لم اشعر
بدرجاته و
أنا أتجاوزها فى سرعتى حتى واجهنى نفق فى نهاية المسافة
تدليت منه سريعاً ، لم أشعر بدرجاته وأنا أتجاوزها فى سرعة .. إلتصثت
بحائط
متدنى فى نهاية النفق الذى تتبدى عن مساحة واسعه ، كنت مملوءه بالحنق
متشوقاً
لأهلى وسلوى و الاحباب .. أحسست بالكلب ينفلت كالسهم خلفى متجاوزاً كل
الدرجات
… سكنت حركتى برهه ، مترقباً المجهول يتوفز … دهشت حين أرتد الكلب راجعاً
الى
حيث أقف ، حدَّق فىَّ بلا مبالاه ثم واصل ركضه الى حيث أتخذ مكانه على دكه
خشبية متكئة على الجدار .. تراصت قربها دكك خشبية متشابهة تماماً … ثمة
أشياء
عديده ، لبرهه لم أتبين ملامحها ، ثم أكتشفتها بعد ذلك .. كانت أرضية
النفق
تبدو متبعجه ، ذات لون بنى داكن مشرشراً ببقع ورسيه ، اكثر غموضاً ! ثمة
صور
مشوهة على الجدران للمسيح وهو يقف بانكسار أمام مئذنة مسجد تهدم برجها
فأرتمت
على الأرض المبتعجه .. بل تتوسطها تماماً مائده صفراء ، متهالكه ! ورغماً
ذلك
تناثرت عليها تمايثل تاريخيه لوجوه آسيويه وافريقيه وعربيه و أوربيه وأخرى
خلاسيه ضاربة فى إفتقاد الهويه ، ثمة مخطوطه حائله اللون مهترئه على
الجدار ،
أقتربت منها ، تبينت فيها خطاب " نهرو فى باندونج ! " لفت نظرى وجه سامى
بدت
عليه ملامح الثقه بالنفس فى وضوح … ثمة أشياء تبدو غريبه ، لم أرها من قبل
..
القبو بفضاءه المزحوم برائحة البهار الأفريقى و الطلح و العنبر الهندى ..
تبدو
عليه التماثيل ممسوخه المعالم متجرده من كل الملامح .. كان المكان أشبه
بمعبد
وثنى .. أضيفت إليه تفاصيل كثيره من كل الديانات .. نبتت علاقه مبهمه و
كثيفة
بين أبوعلى وتمثال يجسد المسيح مصلوباً أمام نار مشتعله " يلتف حولها
أربعين
رأس بشرى دون أجساد .. غمرت الدماء المتجمده ما تبقى من اعناقهم المقطوعة
..
عيونهم مفقؤه وانوفهم واذونهم ولحيهم ، كلها مقطوعة !!.. حاولت ان افك
علاقتى
المعقده بهذا التمثال !!..
ترى كيف يكون الجو خارج النفق.. هزيم الرعد يعطى الاحساس بأن امطاراً
غزيرة
بدأت فى الهطول .. كنت قد تحولت الى مخرج آخر فى أقصى النفق .. عصفور صغير
يبدو
مشرباً بالتعب ، يرتعش فى البرد مقعياً ككلب وهو ينتفض .. رفعته من تحت
قدمى ،
دعكت يدي ليسخنا .. ادفأته وأدخلته فى جيبى .. كانت الادراج بعضها مخلوع
وبعضها
مكسور ، ادراج قليلة هى المثبتة على مخرج القبو .. هذا المخرج الوحيد
المدرج ،
الذى يؤدى الى الارضية المتبعجة للقبو .. مادونه من مخارج بلا درج !..
حاولت ان
أعتليها . لم استطع ، كنت اسير ببطء وحذر ، كاتماً انفاسى قدر الامكان ..
الدكك
المتناثره على ارضية القبو إمتلأت فجأه بأنواع مختلفه من الحيوانات غير
الاليفه
، يتوسطها الكلب المسعور ! لم اكن خائفاً ، لكن كان المكان رهيباً ! كنت
احاول
الصعود لأعلا وبعد كل درج اتمكن من تجاوزه اتنفس الصعداء .. بدأت المياه
تغمر
المكان ، تسيل عبر فجوات القبو ، وبدأ على الحيوانات الذعر !.. لابد أنها
ستمطر
بشده ، تزايد منسوب المياه شيئاً فشيئاً ، حتى خاصرة القبو ، ولازلت اتقدم
بحذر
.. كان الشوق الى الجميع يملأ اعماقى ، ويستحث في الاسراع .. المياه ، صرت
ألمسها فى
ركبتى واصوات الحيوانات المزعورة تأتى واهنه!.. أخيراً ،فتحة القبو !
اطللت
برأسى وزفرت بإرتياح ! كانت المدينة غارقة والارض تفيض .. السماء تمطر ..
الابنيه تتبول وتحيض !.. كل شىء كان يسيل ! وقفت مرتعشاً عند إحدى الزوايا
و
أنا احتمى من المطر الذى بدأ يتوقف الآن إرتعاشات فى الهواء ، يتولد عنها
رزاز
.. توقف المطر .. احس العصفور الذى فى جيبى بطقس هذه المدينه !.. توقفت
الامطار
فجأه تماماً !! وبدأ الجو صحواً ، كانت الشمس مشرقه ، جميله وزاهيه فى
أشعتها
الحانيه .. اخرجت العصفور .. أدفأته قليلاً ثم اطلقته بإتجاه الشمس !!
( * )
لقد إنتحر خالد !!
دارت الدنيا برأسى ، تحول كل شىء امامى الى دوائر وهالات ملونه ، شعرت بكل
الدم
الذى بشرايينى يتجمع فى الدماغ ، فيبدو ثقيلاً .. يختل توازن جسمى الخائر
على
الجدران ..
ـ كيف ذلك ؟! .. كيف ؟!!..
ـ إنها قصة طويله ، قل لى كيف انت الان ؟!.. عسى ان تكون قد جددت دمائك فى
هذه
الاجازه القسريه ؟!!..
ـ كنت بحاجه لقليل من الراحه ! اردت ان انفض عن نفسى اثر الزنزانه ! لماذا
إنتحر خالد ؟ ولماذا لم تخبرونى إلا الآن ؟!!
ـ هون على نفسك يا ابوعلى .. نحن نعلم انه كان الاقرب إليك
ـ لماذا اختار خاتمته على هذا النحو ؟!! لماذا ؟..
ـ إنها مسألة إرتباك . . لحظة مواجهة الخيارات الصعبة ..
ـ آه ، ياخالد .. لماذا .. ؟! .. لماذا ؟!..
ـ منذ عدة اشهر وحقوق الانسان ليس لها حديث سوى حق الحياه
ـ توقعنا إطلاق سراحك فى الفوج الاول ..لكنك خرجت فى الفوج الثالث ، اليوم
اطلق
الفوج الخامس للتأكد من حسن النوايا ..
ـ لكننى لم اطلق ضمن فوج ..
ـ ماذا بك يا ابوعلى ؟!..
ـ آه عبداله، لم اعد احتمل شيئاً .. دعنى ..
كانو قد انهو اليه خبر إنتحار خالد كأنه خبر عادى .. لم يكن ثمة الم
مجامل على
الاقل يلوح على اعينهم ولم يكن ثمة احد يود ان يعترف ان استقالة حسام
وتمردات
سلمى و محمود و كثيرون غيرهم وانتحار الفتى القزحى هو موقف واحد ذو تجليات
مختلفه متعددة ومتباينه!!..
تسرب ابو على من شقوق الجدران معتكفاً على حزنه وحده كأبو ذر ، كانت لوحة
نوار
لاتزال ملقاه على الدرج الحجرى حيث تركها آخر مره .. لم يحركها احد من
مكانها
فى غرفة الداخلية، نظر إلى السريرالـ DUBlE BED كان فارغاً من خالد ،احس
بغصة
تلتهم حلقه .. خالياً السرير إلا من الوحشه والوحده والالم .. مزق اللوحه
الى
قطع صغيره واشعل فيها النار .. كان قد اغمى عليه !!..
( * )
ليتئذ ، بعد ان اخبروه بأنتحار خالد الفتى القزحى ، إختفى ولم يره
احد
!! وفى الايام التى تلت إختفاءه زعم بعضهم أنهم شاهدوه فى تمام الساعة
السابعة
مساء الخميس جالساً على الكرسى الخامس من اليمين فى لوج سينما النيل
الازرق !..
لكن أخرين اصروا على انهم شاهدوه والعسس يأخذونه مرة أخرى ! أحد اصدقاه
الكثيرين فى الاسبوع الذى يسبق التاريخ المذكور وفى الرابعة من عصر احد
ذلك
الاسبوع ، زعم انه ودعه حتى صالة المطار ، وافترقا على وعد خطابات كان
كلاهما
يعلم أنها لن تصل !.. بينما لم يبد ادنى تأثر على والدته التى كانت فى
زيارة
لابنتها التى تسكن بحرى .. فهى كانت من جهة تعلم اين مكانه ، وتخبىء ذلك
كسر
حميم ومن جهة اخرى تولدت لديها قناعة مجهولة المنشأ بأنه لن يموت قبل ان
تتحقق
رؤيتها السريه التى لم تخبر بها احد ! ومع ذلك كانت تشعر بقلق وتوتر تسعى
جاهده
لإخفائه ولم يجرو احد على مكاشفتها ، بالاقاويل المتناثره التى صاحبت
إختفاء
شهاب ابوعلى المفاجىء ، حتى لايثير مخاوفها !.. لم يستطيع احد ان يثبت
جغرافيا
محددة صاحبت الاختفاء !.. وفى ذات هذه اللحظات التى كانت فيها الافواه
تتناقل
الشائعات المتباينه ، كانت تتشكل منها - ذات الشائعات - شائعات اخرى من
والى
داخل الجامعة احدهم اكد انه التقى به فى الامس القريب وإرتشف معه فنجاناً
من
القهوة فى إحدى البيوت السريه للحبش فى ديوم بحرى ، مما دفع سلمى لدعوة
هذا
المدع الى زجاجة من الميرندا ، لكن تصادف فى ذات الوقت ان مر احدهم بسلمى
والشاب " البرلوم "* جالسين فى الكافتريا يشربان المياه الغاذيه وسمع
شيئاً من
حديث "البرلوم" فقاطعه مصراً على انه راه منزوياً يرتشف الشاى ، كعادته ،
يتلذذ
تحت ظل احد الاشجار على شارع السجانه فى نقطة محددة قريبة من المنطقة
الصناعية
، يطيب لعساكر النظام العام إرتيادها بضمير وإنتظام ! .. احست سلمى بهما
يريدان
" برلمتها " فنهضت غاضبة وعينيها غائمتان بالدموع ! ليلتئذ كان أبوعلى
هائماً
كعادته فى غرفة الداخليه بنافذتها المطله على شارع النيل .. الغرفة التى
كثيراً
ما أستضافه خالد فيها … أعتاد هذه الغرفة و إعتادته .. كان يشعر لإنتحار
الفتى
القزحى طعم الحنظل ، فى حلقه ، الآن والنار تأكل لوحة نوار ، تشتعل فيها ،
يشعر
أبوعلى بالتمزق … (خالد انتحر هكذا دون اشعار ) ! … كان يدرك انه سيضع
حداً
لحياته ذات يوم ما ، فى زمن ما ، ولم يكن ذلك يثير فى نفسه اى نوع من
الاحاسيس
الرماديه المجهولة التى تنغص على الشخص حياته فى هذه الحاله … شعر
بالتصالح مع
الذات شيئاً فشيئاً يعمه لاول مرة ! لا لأنه ادرك الان .. و الآن فقط
الحقيقة ،
حقيقته ! … او ربما لايود اتخاذ قرار ينبئ عن العجلة و التسرع كما هو حاله
دائماً كذلك النوع من القرارت التى تجعله نادماً لزمن طويل ! … لاول مره
يغمره
*البرلوم : سودنة لبرليم الإنجليزية … وتعنى طالب لسنة الأولى والبرلمة هى
المقلب الذى يتعرض له طالب السنة الأولى بحكم حداثته ، من الطلبة القدامى
الصفح ! … فى السابعه من عمره كان مغرماُ بالغناء فى سقف البرنده حيث
يطيب له
الجلوس ، وذات مره وهو يحاول النزول ، إنغرز مسمار خبيث فى سطح بربخه وشقه
شقاً
فاضحاً ! لم يبكى ، فقط كان قلقاً و متوتراً ، فقد علم مؤخراُ فقط ان هذا
الشئ
هو مايميزه عن الاناث !… حزن أشدَّ الحزن ، حتى أطلَّت نوار على عالمه
المحزون
، عندما انحسر عنها الفستان على سطح الرابيه ، غنى حينها بلوعة ( الجرح
جرحى
براى ـ منو البقاسمو معاى ..) و كانت هذه الاغنية مثار تندر الاسره لوقت
طويل
لا لأنه ألغى كلمة " بقاسى" و احل محلها "بقاسموا" ولكن لأنه كان يعبر عن
نفسه
بشكل طريف !! يكاد أبوعلى يجزم على ان احداً من افراد الاسره فى ذلك الزمن
لم
يكن قادراً على استكناه المعنى العميق الذى يعنيه .. كانت والدته تترصده
حتى لا
يصعد الى البرنده مرة اخرى فيعوق نفسه ! وبرغم انه وضع قراراً حاداً انه
لن
يصعد ابداً الا انه سرعان مامحى هذا القرار عن ذاكرته بعد أن طمأنته
جارتهم
الأربعنية وشرحت له وظيفة البربخ وحدثته عن أهمية ذلك الجهاز بشكل مستفيض
وبالرغم من أنها دفعته لتجربة عملية ناجحة معها ، إلا انه لم يكن كامل
الوثوق
رغم إطمإناناته بالطبع امه لم تكن تعلم شيئاً عما حدث بينه وبين الجاره
الاربعينيه ، اذا كانت تثق فى براءته لحد تقديسه ! وعندما قالت نوار ذات
مرة :
( لنتزوج ) .. تلمس حينها بربخه الذى خدشه مسمار خبيث ذات يوم أعلا برندا
أبلكاش سوداء فى بيت إيجار قديم يطيب لمالكه ان ينكد عليهم عيشهم دائماً
وفى أى
وقت من الاوقات المزعجه ! .. عندما قالت نوار ذلك تأكد من طمأنة تلك
الاربعينيه
وشكرها سراً ! ..
كانت أحاديث الصبيه المراهقين تقلق أبوعلى رغم ان الجاره طمأنية وهم
يتحدثون عن
وظائف الجهاز المجهول و شهرته التى طبقت الآفاق !! ..
منذ دخلت نوار عالمه ، او دخل عالمها ، لم يعد يهتم بالغناء او ذكرى
البرنده
الابلكاش ، لكن شئ واحد ادركه جيداً ، هو ان وعيه بالجهاز المجهول قاده
الى
سؤال التاريخ ؟ !! وهكذا عرف السياسة !!…
الاحساس بالتصالح الذى كان يستفزه ، تجلل بالضباب ، أثر على تنفسه
المتصاعد ،
تلمس أبوعلى فراشه الحاف ولاول مرة منذ سنوات طويله لم يشعر به حاف ، موحش
الى
هذه الدرجة من الفجيعة . . ترى القلب ليس بخاوٍ ! .. كان أبو على يستلذ
الفوضى
بينما يراه الآخرون مرتباً ؟! ، لايرون غير ذلك ؟ . . كان يحب نوار حد
الجنون
او هكذا كان يستشعر دائماً !! ..
ـ سلمى تعتب عليك !
ـ لماذا ؟!

ـ انك لاتعيرها إهتماماً !
ـ ماذا تعنى ؟!
ـ الفتاة تحبك ياأبوعلى ..
ـ وماذا على ان أفعل يامحمود .. لقد اخترت خاتمتى ! ..
ـ كلهم يعتقدون أنك تحمل جبلاً من الجليد بداخلك … لاأحد يرى الاتون
المشتعل
الذى يتسرب شفيقاً ويفيض …
ـ مابك ياعادل
ـ سلوى ..
ـ من … اه ، مابها …
ـ اوصت نهى .. انها تريد ان تراك ! ..
ـ آخيراً قررت الخروج عن عزلتها ..
وكان أبوعلى يطيب له ان يمارس قلقه متى شاء ! .. وكيف شاء ! .. ولا يرون
فيه ما
يريدون تصوره متى أرادوا ! .. الأمر يتوقف دائماً على الزاويه التى يرونه
منها
..
ولذلك أنتحر خالد الفتى القزحى ، لأنه أستجاب ، لتصورات الأخرين عنه ، ليس
كما
هو كائن حقيقة ! .. تنهد أبوعلى بحرقه … لن تنتحر ياشهاب ، ولن تقف مكتوف
الأيدى و منذ الآن ستفعل مايجب أن يفهم كما هو ! لا كما يريدون أن يفهموا
! …
أنتحار خالد هى نقطه البداية كان خالد كابياً بنظراته بنظراته ، بجسمه
الناحل ،
بحزنه ، مأساته الأذليه .. كان محض مأساة ! … آخر مرة إفترقنا فيها قبل
سفره
المفاجئ ذاك … ذاك السفر الذى لم يعد منه أبداً ، كنت اعلم انه سيحرق كل
المراكب التى سيعبر عليها الميناء خالده ، فقد حطمت الميناء كان من الصعب
عليه
ان يرسو ! وليست ثمة جدوى من ان يطلق للريح اشرعته ! خالد أنهى حياته على
نحو
تراجيدى مثالى !! ..
قال عبدالله ذاك المساء المشحون بالحمى و التوتر ثم اضاف :-
ـ أغلق على نفسه الدكان ، اوثق جسمه على العنقريب القَّد ، بعد ان إرتدى
كل
ثيابه التى يملكها بعضها فوق بعض ، كان قد بللها بالجاز بعد ان اوصل
التيار
الكهربائى الى أطرافه ثم أشعل النار ، وجرَّ التأمين فى ذات اللحظة ..
لم يكن من السهل علىَّ إستيعاب هذه الصدمه .. شريط دموى ينساب من القلب …
و الى
القلب ، نقطة ، نقطة … ينسكب على مناخ البنشات المترع بالأسى و المشحونه
بالتوتر فيزيد الجامعة قتامة !! ..
كان خالد قد قرر أن (المواسم والاطفال أغنية خبيثه ، وخصوبته أجتهدت لكى
تلد
البوار..)*
* عثمان بشرى
ـ خالد عاش أوربا بكل خلجاتها ، لم يكن سهلاً عليه أن يحوله والده الجشع
إلى
مشروع تاجر مع سبق الاصرار و الترصد ، فى دكان صغير يبيع المواد التموينيه
لاهل
حيه الشعبى ، امامه تكوَّم الفحم و الحطب ولقاء رطل من السكر يفرغ فحولته
فى
احدى الفقيرات ، المهجسات بإسكات صراخ أطفالهن المشرعى الأفواه !!.. لم
يكن
سهلاً عليه ان يلج عالماً لاينتمى له ….
كان عبدالله يتكلم كجهاز التسجيل و كان خالد ماثلاً يملأ المكان بالهتاف
كان
أقرب منى إلىَّ لم يكن يخفى عنى شيئاً و الخطأ الأكبر أننى أخفيت عنه نوار
كسر
حميم لم يكن هناك شئ لاأعرفه من حديث عبدالله الذى يعذبنى ، يلجنى كالنصل
،
يقطع دواخلى يميناً و شمال !! وهو لايتوقف إلا لبواصل :
ـ عندما ترك الجامعه لظروف غامضة إثر سفرته المفاجئة كان يتوغل فى روح بول
إلوار ،و فيتزلاف نزفال .. كان يريد ان يكون Libertx of indiffrence كما
كان
يصرح دائماً وهو يتحدث عنهما ، لقد كان كالمسيح يحمل أخطاءنا جميعاً .. لم
تكن
الموازنه سهله ووالده يجبر إبنه شقيقة المريضة نفسياً على الزواج من عجوز
مهووس
.. لم يكن أحد ممن بالعائلة يجرؤ على ان يقول لا ، فكر خالد ثم قدّر ،
فقرر ..
يااااه. . . . ، كان قاسياً فى خياره !! . . . اختار خاتمته على نحو مخيف
!!
كانت عظامه قد تفحمت و تحول اللحم الذى يكسو جسمه إلى مزق من الشواء
المهترئ !
كان قد تمزق تماماً ! لكن ظل المكان معبأ بالهتاف ورائحة التوحد و
الانصهار ! .. توحد خالد فى النار المقدسه للقدماء .. أعظم إكتشاف للانسان
الأول ! .. ووفود المهنئين القادمين لزواج إبنة شقيقه تتحول إلى وفود
تعزية دون
أن تدرى !
( * )
كان أدمو فى تللك الليله التى لم تحتفل فيها شعب الوادى بعيد إستقلاله
(عيد فشل
الزحف الكسوفرى ) و تمزق كسوفرو إلى أشلاء ، وتشتت شعبه فى قرى صغيره
تتخلل
الوديان من بلبل در منفرة حتى دلال العنقره وفور برنقه ،ألخ .. من الاماكن
التى
سقط عليها شئ من أشلاءه كان آدمو فى تلك الليله التاريخيه لشعب الوادى و
التى
على غير عادته خلت من البقو والكسوك ( و المرين و الدامرقة )* و رائحة
الغرام
.. كان قلقاً و متوتراً، ليس كعادته .. لم يكن الأمر لتأخرنينا عن القدوم
فحسب
، بل لشيئ ما شيئ آخر يجتاح دواخله ،
* لحوم الخراف فى شرائح مع البهارات والمشهيات ** عصيدة من عجين الدخن
المقشور
*** المساحة المزروعة داخل الدار والماربق نوع من الذرة الرفيعة
ولا يدرى أحد كنهه بالضبط ، يحاول ان يهيم فى انتظار نيتا ، حفيدة الكيرا
،
فتلتهب أحاسيسه أكثرَّ !! سمع وقع خطوات خفيفه على " القش " المتناثر عند
مدخل
قطيته التى توسطت " جبراكة "* " الماريق "** أطلت نيتا لاهثه و خفق قلبه
أكثر
!! …
ـ آخيراً وافق مارتجلو ، أدمو ! …
عصافير من الفرح الشفيف أطلت من عينيه ، تشاركها الاندياح المخملى المخمور
! ..
استندا على جسديهما ، إعتنقا باحساس مضن . . توحدا ، كأن قوة ما تحركهما
باتجاه
عالم من الضباب الوردى … شيئاً فشيئاً تحاصرهما طيوف من الضوء الصافى
الشفيف ،
تحولا إلى كنارى ، تنامى ، تنامى ، تنامى تضخم إلى طائر مارتجلو النارى ..
ارتفع الطائر توحدا مع مارتجلو و خفف لأعلا ، فأعلا فأعلا …
لملم أبوعلى رماد لوحة نوار ، ذاكرة الحراز البرَّى الذى ظل متكوماً فى
وسط
الغرفة الأيام..
قذف بالرماد من النافذه المطله على شارع النيل .. توقف الرماد فى الهواء !

واخذ يتشكل .. تملكت أبو على حاله من الدهشة و الصفح الصافى كالضوء
المنبعث من
القمر ليلة " أربعتاشر " .. تبدى طائر النار ، مارتجلو عن الرماد .. تردد
أبوعلى قليلاً ، ثم قذف بنفسه على الطائر … كان أبوعلى قد توحد مع الطائر
الذى
أخذ يحلق ، محترقاً حلق الطائر … حلق و حلَّق حتى تضائل تدريجياً إلى
شراشف
لهببة متقطعة ، آخذه فى التضاؤل !! …
*
عندما أسفرت شمس الصباح فوجئ الناس ، كل الناس بأختفاء أبوعلى وسلوى و
القصر
الجمهورى وكبرى الحرية و الجامع الكبير والشهداء والمتحف الوطنى .. كل
المعالم
.. لم يكن ثمة أثر لها ! .. لم يكن ثمة أثر لمعالم جغرافيا الأمس / الراهن
..
فقط ثمة جبل مجهول ينتصب فى قلب السوق العربى ملقياً بظلاله حتى مواقع
الطوابى
القديمة غربى النيل ، وبوابة عبدالقيوم … فتح الناس راديوهاتهم و اجهزة "
التلفزيون " علهم يسمعون بياناً ما … فلم يكن ثمة صوت سوى : مارتجلوووه ..
مارتجلوووووه
مارتجلووووووووووووووو وووو وووو وو وو وو وو و و و و و و و و و

تمت بحمد الله

كوستى - الخرطوم - وادى صالح
93 - 1999م



#احمد_ضحية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الازمة الوطنية فى السودان : من التمزق الى التلاشى 1-5
- حول مازق السودان ..الراهن 1-5
- جابر الطوربيد : محمود مدني رؤية نقدية في الدلالة والسياق الر ...
- حكومة الخرطوم والاصرار على الابادة فى دارفور
- تحول السلطة : بين العنف والثروة والمعرفة
- عام على احتلال العراق : لقد ظل حذاؤك وراسى .. فتذكر سيدى الج ...
- اغنية لطائر الحب والمطر..........قصة قصيرة
- تشكيل العقل الحديث
- هوامش على دفتر التحولات ..........دارفور والبلاد الكبيرة ... ...
- المقدمات التاريخية للعلم الحديث...
- النوة.......... قصة قصيرة
- دار فور: ما لا يقتلنى يقوينى 4_4
- نافذة للحنين نا فذة للشجن ....قصة قصيرة
- القاص السودانى عبد الحميد البرنس : الطيب صالح لو عاش فى السو ...
- القاص السودانى عبد الحميد البرنس: الهيئة المصريه احتفت بالتج ...
- على خلفية القرالر 137 فى العراق - الاسلام السياسى قنبلة موقو ...
- دار فور : ما لا يقتلنى يقوينى3_4
- عثمان علي نور / رائد القصة القصيرة في السودان
- دارفور ملا يقتلنى يقوينى 2_4
- كل ما لا يقتلنى يقوينى 1--4


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد ضحية - رواية مارتجلو ..ذاكرة الحراز