|
الوفرة الإبداعية للشخصية .. قراءة في رواية لم تكتب بعد ل فرجينيا وولف
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2953 - 2010 / 3 / 23 - 07:59
المحور:
الادب والفن
في نصها الروائي " رواية لم تكتب بعد " – ترجمة فاطمة ناعوت – الصادر عن هيئة الكتاب بالقاهرة 2010 ، تطرح فرجينيا وولف سؤالين كبيرين عن مدلولي الوعي ، و الصيرورة السردية في علاقتها بالتأويل . إن فرجينيا تخترق – عن طريق الساردة – وعي البطلة / ميني مارش . و لكننا لا نقرأ حكيا عن ميني مارش نفسها ، و إنما مجموعة من التداخلات الشعرية بين فرجينيا ، و الساردة ، و ميني مارش دون مركز معرفي تبدأ منه الكتابة الروائية ، إلا التجلي الإبداعي لدال ميني في القطار . ثمة إيماءات في وجه البطلة ، و تأملاتها تندمج بتوقعات الساردة ، و رغبتها الملحة في تأويل الكينونة ، و من ثم يخرج لنا النص كشذرات تأويلية عن الساردة ، و ميني ، و فرجينيا ، و الكينونة الإنسانية نفسها في علاقتها المعقدة بالخطيئة الأولى ، و التجلي الظاهري للحياة في شكولها الخاصة ، و الفريدة . إن الوعي عند فرجينيا مجال تتصارع فيه أخيلة الأنا ، و الآخر ؛ ليتجدد سؤال الكينونة دون نهاية . و في المساحة الفارغة بين أولية الأنا ، و الآخر ، و أرق المعرفة ، تتجلى الكتابة التأويلية السردية كقراءة متغيرة عن الذات ، أو كتمثيل إبداعي يؤكد التغير ، و اللامركزية في بنيتها . هل أرادت فرجينيا – حقا – معرفة ميني مارش ؟ أم أنها أرادت بناءها من خلال المساحة المفككة في الوعي الإنساني ، و التي يلتبس فيها الأنا بالآخر ؟ إن الوعي هنا يمنح الخصوصية للبطلة ، و لكنه يترك فراغا تمثيليا فيما وراءها ، و كأنه يعارض الوجود المطلق ، و العدم المطلق في تلك اللغة الاحتمالية التي تبحث عن المعرفة ، ثم بطريقة غير واعية تقصيها عن المشهد . و قد استبدلت الأبحاث التأويلية المعاصرة مركزية الوعي بالتأويلات المفتوحة ، و إنتاجيتها الللغوية بالغة النسبية ، كما اختلطت فيها وظائف المبدع ، و المفسر ، و القارئ دون حدود بنيوية ، أو خصوصية مستقلة عن الآخر . يبدو هذا التصور واضحا في نتاج بول ريكور ، و تجاوزه للظاهراتية التقليدية ؛ إذ يرى أن كل تأويل يضع المفسر في الوسط ، و ليس في البداية ، أو النهاية أبدا ، كما أنه إجراء مفتوح خارج أية رؤية ؛ كما يؤكد أن سؤال الكينونة عند هيدجر يخضع أيضا للشك ؛ إذ يتجه التأويل الآن من نقد الموضوع إلى نقد الذات المتكلمة نفسها . ( راجع – بول ريكور – من النص إلى الفعل – ترجمة محمد برادة و حسان بورقية – عين للدراسات للنشر مع المركز الفرنسي بالقاهرة – 2001 – ص 38 و 39 ) . هكذا اتخذت الساردة – في نص فرجينيا – موقع المفسر المنتج لكتابة إبداعية ؛ هي بحد ذاتها تأويل مفتوح للشخصية الروائية ؛ و من ثم جاء السرد كإجابة بين الامتلاء ، و الفراغ عن هذا الوجود المحتمل للإنسان في العالم ، و كذلك كتعريف للحياة يحتفي بالنقص الكامن فيها من أثر الخطيئة الأولى . * سؤال الوجود / في اللحظة التي تتوقع فيها الساردة أنها بدأت في القبض علي ميني ، نجد سؤال الوجود يتجدد في الشك ، و التجلي الإبداعي الآخر للبطلة في الوعي ، و كأن الساردة ستوشك أن تستأنف نشاطها السردي / التأويلي دون نهاية عن البطلة . تقول : " ما الذي أتكئ عليه ؟ ما الذي أعرفه ؟ تلك ليست ميني ، لم يكن هناك موجريج على الإطلاق . من أنا ؟ الحياة عارية مثل قطعة عظام ... أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة ، أنتم من أتعبد فيهم " . الذات عند فرجينيا مزيج من التجلي الإبداعي للوجود الفردي ، و النقص المعرفي معا ؛ فلا وجود لأحدهما دون الآخر ؛ لأنها انتقلت من السؤال عن البطلة ، إلى سؤال الكينونة " من أنا " ، و كأنها ترفض تقديم المعرفة عن الذات التاريخية ابتداء ، و إنما تكتب نصا يقع بين دائرية الغموض المجازي للحياة ، و الرغبة في منحها تأويلات متغيرة لانهائية . إن كتابة فرجينيا تقع ضمن تطوير مدلول الذات في الفكر الحداثي ، و بخاصة في تيار الوعي ، و ما يحتمله من تساؤلات عن العلاقة المعقدة بين الهوية ، و تداعيات الذكريات ، و الأحلام غير المحكومة برابط ، و أرى أن فرجينيا طورت بوعي – هنا - مدلول الذات في حتمية لقائها بالآخر ، و التأويل السردي المفتوح . * الخطيئة ، و صيرورة الحياة / تحول فرجينيا الميراث الديني للخطيئة إلى قراءة مبدعة لوهج الحياة ، و صيرورتها التي قد تكون تكرارا لعقدة الذنب ، و الموت دون نهاية حاسمة ، أو بداية واضحة ؛ فنحن إزاء دائرة من بزوغ الجسد ، و ديناميكيته ، و تبلور الخطيئة فيه كبقعة تمثيلية للعدم ، و امتداده الذي يشبه تطور الحياة نفسها ، و غموضها الإبداعي . تقول بعدما لاحظت علامات الحزن على وجه ميني ، و تجاوزت أي منطق للعار : " كانت تحك كأنما لتمحو شيئا من الوجود ، و إلى الأبد ، وصمة ما ، تلوثا لا ينمحي ... شيء ما دفعني أن أخرج قفازي و أشرع في حك نافذتي ، كانت هناك بقعة صغيرة على الزجاج أيضا ... ثمة بقعة في الجلد بين الكتفين بدأت تلتهب و تستحكني ، أشعر بها فجة . هل يمكنني الوصول إليها ؟ " . ما البقعة ؟ إنها تشبيه للخطيئة ، أو هي الصيرورة المجازية للخطيئة ، و التي تسخر من مركزيتها المطلقة ، فهي تشبه الحياة ، و تكوين البطلة ، و هي أيضا دائرية ، تقع في قلب الوجود ، و لا يمكن محوها طالما وجدت الكينونة . الحياة هي العار . الحياة دائرية كالعار في وعي فرجينيا ، و هي وهج العار المضاد لمركزية العار ، أو العدم ، أو التجريد الكامل للخطيئة . البقعة المظلمة تمر من الجسد إلى الوعي ، و من الحياة إلى تجدد الوجود الإبداعي / التأويلي ؛ فهي تبقى في سياق المحو ، مثلما تبقى الشخصية الروائية في سرد احتمالي مؤجل للحقيقة ، و المعرفة . * وفرة الشخصية / ثمة وفرة جمالية تبدأ من التكوين الفريد للشخصية ، و تمتد في التطور الجمالي للكون دون نهاية . و تحاول فرجينيا أن تقبض على بعض آثار هذه الوفرة ، أو معاينتها فيما وراء المتكلم ، و الموضوع معا . إن الوجه يشرع في تحديد الهوية ، و تغييبها في تكرار الظهور نفسه في أشكال استعارية مختلفة . تقول عن الوجه : " كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء ؟ ثمة انكسار ، انقسام ، لكنك حين تقبض على ساق النبتة إذا بالفراشة تختفي ، الفراشة التي تتشبث في المساء بأعلى الزهرة الصفراء .. ارتجفي يا حياة .. ميني .. أنا أيضا فوق زهرتي " . الساردة تقرأ الجذور العميقة لعملية التجسد في غموضها ، و تكرارها الذي يحاكي الاستبدال في الكتابة ؛ فهناك أصول للهوية في الفراغ الكوني ، و امتلائه الذي يهدم أية حدود يمكن وضعها للهوية ، و الجسد ، و الصوت ، و العنصر الكوني . إنه تعين هوائي للجمال . * تفكيك المتكلم / للمتكلم أيضا تأويل استعاري يحاول استبداله ، و الامتداد به فيما وراء الصوت ، و الهوية ، و الإدراك . لقد انقلب سؤال الكينونة في وعي ، و لا وعي فرجينيا – بصورة دائرية – من الموضوع / ميني إلى صوت الساردة نفسها ؛ إذ تبحث في وهج الوجود الداخلي عن بديل للهوية لا يتسم بالمركزية ، أو الإدراك الأول للعالم ، و إنما هو أثر متغير ، مثل إنتاجيته التفسيرية للأنا ، و الآخر . تقول : " غير أن النفس حين تتحدث إلى النفس من يكون المتكلم ؟ الروح المدفونة ، النفس التي أقصيت ، و أزيحت عميقا ... في عمق السرداب المركزي لكهوف الموتى ... التي اعتمرت الوشاح الحاجب ، و تركت العالم " . إنها تبحث عن الصوت في انشطاره ، و تأويلاته المختلفة . الصوت هنا بديل لمدلول غائب ، أو سؤال دائري عن ماهيته الشعرية . الصوت مجاز التكوين ، و الموت ، و الحياة معا . الصوت هو الأنا الآخر ، و الإحساس المشبع بالوهج المبدع للحياة . لم يكن هناك هوية أولى أبدا ، و كأن الحياة نبعت من تطور للموت يشبه الكتابة ، و الخطيئة ، و المحاولات المتكررة لاستنبات ما يسمى بالشخصية الروائية في سياق جديد . * فاطمة ناعوت ، و فرجينا / لقد انتصرت المخيلة الإبداعية عند فرجينيا وولف في وعي ، و لا وعي فاطمة ناعوت ؛ إذ تلتقي مع مشروع فاطمة الشعري ، و رؤيتها للخصوصية الإبداعية للمرأة ؛ و لهذا أكدت في تقديمها للترجمة على فاعلية المخيلة ، و قدرتها الإنتاجية في النص . و في تناولها لمأساة فرجينيا ، و انتحارها ارتكزت على التواتر الحتمي للأطياف ، و كأن شاعرية الوجود عند وولف تستعاد في سيرتها الذاتية ، كأنما نتلقى نصا سرديا آخر ، أو نعاين وجودا آخر لها . و أظن أن فاطمة ناعوت قد عاينت وجودا مجازيا آخر لفرجينيا من خلال نصوصها ، و بخاصة رواية لم تكتب ؛ هذا الوجود ينقلنا إلى دائرة تأويلية جديدة أو مستوى آخر من الوجود المتعدد لفرجينيا ، و شخوصها ، و للإنسان في بحثه المستمر عن المدلول الجمالي للعالم .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
-
الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
-
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب
...
-
لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف
...
-
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
المزيد.....
-
في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
-
-يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا
...
-
“أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن
...
-
“أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على
...
-
افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
-
بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح
...
-
سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا
...
-
جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
-
“العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024
...
-
مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|