أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد السلام بلحسن - العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أركون نموذجا















المزيد.....


العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أركون نموذجا


عبد السلام بلحسن

الحوار المتمدن-العدد: 2950 - 2010 / 3 / 20 - 19:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مـــــــقـــدمـــــة
لعل اختيارنا لهذا الموضوع من بين عدد كبير من المواضيع المختلفة ما يبرره. والواقع أن تتبعنا لما يحدث حاليا في الوطن العربي والإسلامي خلق لدينا رغبة، بل بالأحرى قلقا فكريا ومعرفيا ودينيا ،خاصة مع تصاعد عدد كبير من التيارات المختلفة التي ترغمنا على أن نموقع أنفسنا في أحدها . لكننا ووفاء للمهمة النقدية، سوف نحاول اتخاذ الموضوعية كهدف، متسلحين بروح المنهجية العلمية في معالجتنا لهذا الموضوع.
في إطار بحثنا على مادة اشتغالنا لاحظنا أن أغلب ما كتب حول العلمانية يصب بالأساس في نقد هذا المفهوم بل إن الأمر يصل أبعد من ذلك حينما يتم نعت كل المدافعين عن العلمانية في الوطن العربي والإسلامي بالكفر والهرطقة وإباحة دمائهم . وهذا ما جعلنا نتساءل لماذا هذا المفهوم بالضبط أثار ويثير هذا الجدل الفكري الدائر في الساحة الفكرية والسياسية العربية’؟ هل بالفعل يشكل تطبيق العلمانية خطرا على الأمة العربية الإسلامية ؟أم أن الأمر فقط يرتبط بحماية مصالح طبقة معينة؟ وأيضا ما هي طبيعة الرؤية المعاصرة حول العلمانية كما يطرحها المفكرون المعاصرون؟ وهل سيشكل بالفعل الفكر العلماني وتطبيقه في الدول العربية الإسلامية خير سبيل للخروج من حالة التخلف وتجاوز كل الصراعات الطائفية والمذهبية وذلك في أفق تحقيق التطور والتنمية المنشودة في كل المستويات؟
يعتبر مفهوم العلمانية من بين المفاهيم التي تمت معالجتها في دائرة الكتابات الفكرية والسياسية العربية مند القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومن الملاحظ أن البحت عن العلمانية في الفكر العربي الحديث مند الثمانيات من القرن العشرين قد زاد زيادة كبرى لم تشهدها أي فترة من فترات التاريخ العربي، حتى تلك الفترة من نهاية القرن التاسع عشر التي قام فيها الحوار الساخن والمثير بين مجموعة من رجال الدين والعلمانيين وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده وفرح أنطون . ولعل السبب في ازدياد الاهتمام بخطاب العلمنة في فترة الثمانيات وما بعدها يعود بالدرجة الأولى إلى:
- قيام الحركات الإسلامية المختلفة في نهاية الستينات وبداية السبعينيات وبتشجيع خاص من الدول العربية الخليجية كالسعودية التي لعبت دورا كبيرا في دعم ونشر العقيدة الوهابية في كل الأقطار العربية الإسلامية، وأيضا من الرئيس السادات الذي أراد لهذه الجماعات والفرق أن تنشط لتقف في وجه الماركسية.
- قيام الثورة الدينية الإيرانية ونهاية العهد الإمبراطوري في إيران في العام 1979 وما استتبع ذلك من أحداث وطموحات في إطار تصدير الثورة خارج إيران.
- ممارسة العنف السياسي من قبل الجماعات الإسلامية في مصر والجزائر وسوريا والخليج (الإخوان المسلمين في مصر، جبهة الإنقاد في الجزائر...)
- تنامي الاتجاهات والدعوات السلفية سواء في المشرق أو المغرب وما ترتب عن ذلك من اشتداد الرقابة على الكتب الفكرية المعارضة . بالمقابل ظهور العديد من الصحف والمجلات والدوريات الإسلامية في مصر والخليج العربي التي تدعو إلى العودة إلى سيرة الأسلاف الصالحين .
ومن هنا فقد كانت هذه الأحداث كلها توحي للمتتبع بأن المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي وكذلك الاجتماعي في العالم العربي في الثمانيات والتسعينيات كان مشهدا قاتما يجر العالم العربي لمئات السنين إلى الوراء.
نتيجة لكل هذا قامت بالمقابل الدعوة المضادة المتمثلة في العلمانية التي استعادت أفكار المفكرين العلمانيين في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين وأضافت عليها الجديد. والتي قادها في الأغلب أكاديميون مستوطنون في الجامعات الغربية كمحمد أركون وعزيز العظمة وبرهان غليون وغيرهم ، وأكاديميون ماركسيون في العالم العربي كفؤاد زكريا وإسلاميون منفتحون كحسن حنفي . كما قادها من ناحية أخرى أكاديميون مغاربة ككمال عبد الطيف وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري .
ومن هنا كان الطرح العلماني في هذه الفترة كردة فعل طبيعية للمجتمعات العربية إزاء المشاريع السياسية الدينية المناقضة لمسار التاريخ العربي الحديث، ومن هنا كان أمر العلمانية وقراءتها لتاريخ العرب الحديث موضع مناقضة ومساءلة واسعتين .
وللتدقيق فإن من بين هذا الكم الهائل من الأدبيات والبحوث والجدل حول مسألة العلمانية لا نجد غير عدد محدود من المفكرين الدين استطاعوا أن ينفذوا إلى الحقيقة العلمية لمعنى العلمانية وهذا مانجده عند محمد أركون الذي نفذ إلى العلمانية وفهمها وتعامل معها باعتبارها موقفا من قضية المعرفة عامة، وليس مجرد فصل الدين عن الدولة كما يحلو لكثير من المفكرين العرب أن يحشروا العلمانية في هذه الزاوية الضيقة جدا.

وسوف نحاول في هذا العرض أن نتطرق إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل من خلال تناول المحاور التالية
- حول مفهوم العلمانية
- العلمانية في الفكر العربي خلال عصر النهضة
- رؤية جديدة لمفهوم العلمانية نموذج محمد أركون.















ا – حول مفهوم العلمانية
يعد مصطلح العلمانية من أهم المصطلحات التي أثارت وتثير العديد من القضايا والإشكالات. ولعل أهم قضية تطرح على العلمانية ذاتها هو إشكالية تحديد أصل و معنى هذا المفهوم. هذا بالإضافة إلى الالتباس الذي يرتبط بترجمة هذا المصطلح إلى العربية . حيث نلاحظ أن هناك ترجمات مختلفة و متناقضة وذلك باختلاف المرجعيات و المنطلقات التي ينطلق منها كل باحث.
تاريخيا لا أحد يستطيع أن يقطع إلى الآن من أين جاء مصطلح العلمانية إلى قاموس الفكر العربي المعاصر.فهذا المصطلح في أصله اللاتيني وفي أصله الفرنسي وفي أصله الانجليزي لايشير في اشتقاقه من قريب أو من بعيد إلى العلمانية التي تعني وتشير لأول وهلة إلى أخد كل شيء بالعلم و المنطق و العقل. وهنا نجد فصلا بين مفهومين و هما العلمانية (بفتح العين) التي تعني في مفهومها الضيق فصل السلطة الدينية عن السياسية. وثانيا العلمانية(بكسر العين) التي تعني الوضعانية أو العلموية scientisme والتي ترتبط بشكل كبير بالنزعة الوضعية خلال القرن التاسع عشر والتي تؤكد على دور العقل والعلم في المعرفة بعيدا عن الإشكال الأخرى كالدين أو الخرافة. ومن هنا كان رأي بعض المفكرين العرب المعاصرين استبعاد شعار العلمانية sécularisme لالتباسه.و استبداله بمصطلح العقلانية وهذا رأي محمد عابد الجابري.
أما أصل ظهور هذا المصطلح فيرى كثير من الباحثين أنه مرتبط بالفكر العربي،فهو نتيجة مخاض طويل للمجتمعات الغربية في صراعها مع الكنيسة و تتويجه بالثورة الفرنسية و بالفكر الأنواري ثم الفكر الوضعي. فهذا المصطلح sécularisme جاء من الكلمة اللاتينية seaculum والتي تعني العصر أو الجيل أو القرن ولكنها أصبحت تعني في المسيحية اللاتينية العالم الدنيوي ثم استعملت كلمةsécularisme فيما بعد في كل البلدان المسيحية البروتستانتية التي كانت تشكل مقدمة تاريخية حاسمة للعلمنة.
هذا في حين أن البلدان المسيحية الكاثوليكية استعملت مصطلح laicim وهو المصطلح الذي جاء من الكلمة اللاتينية laicus ومن الكلمة اليونانية لا يوس Laos وتعني الشعب مقابل كلمة كليروس التي تعني كل رجال الدين الدين يملكون سلطة دينية ،أو سياسية ، أو مالية .
وعندما انتقلت هذه الكلمة إلى القاموسين الفرنسي والانجليزي أصبحت كلمة laïcisme- laïcité أو sécularisme تعني العلمانية ، واستعملت من قبل الدين هاجموا الكنيسة وناصبوها العداء مقابل التزامهم بالجانب العقلي البعيد عن الخرافة في تناول قضايا الحياة، وأصبحت الكلمة فيما بعد تعني كل ماهو دنيوي. ومن ناحية الاستعمال، فقد استعمل هذا المصطلح secular لأول مرة مع توقيع صلح وستفا ليا سنة 1648م الذي أنهي أتون الحروب الدينية في أوروبا وبداية الدولة القومية الحديثة.أي الدولة العلمانية بحيث تم علمنة ممتلكات الكنيسة، بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية. وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة خلال النصف الثاني من القرن 19 على يد جون هوليوك (1817-1906) الذي عرف العلمانية بأنها : الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض.
وعلى العموم يمكن القول بان مصطلح العلمانية قد دخل إلى الفكر العربي المعاصر في القرن التاسع عشر وكان من رواده في تلك الفترة شبلي شميل (1850-1917) وفرح أنطون (1874-1922) وإسماعيل مظهر ولقد تجلت إسهاماتهم في ترجمة العديد من الكتب الغربية ، خاصة ترجمة فرح أنطون لكتاب المستشرق الفرنسي ارنست رينان Renan عن فلسفة ابن رشد ، كذلك ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب داروين المشهور أصل الأنواع وكان لهذا الانتقاء للترجمة هدفه ومقصده الواضح. وهذه الترجمات شكلت شرارة أشعلت النار بين هذا الجيل الجديد من العلمانيين ورجال المؤسسة الدينية، وقيام الجدل بين السلفيين والمحدثين. العلمانيين ورجال المؤسسة الدينية .

-IIالعلمانية في الفكر العربي خلال عصر النهضة
لعل السؤال المحوري الموجه للفكر العربي خلال عصر النهضة، هو السؤال عن أسباب وعوامل تخلف المسلمين، وإن طرح هذا السؤال بأشكال وصيغ متعددة. كما جاءت الإجابات أيضا متعددة ومختلفة. وفي هذا الإطار يمكن أن نميز بين اتجاهين أساسيين تبلورا خلال القرن التاسع عشر وهما الاتجاه السلفي المعبر عنه اليوم بأدبيات الإسلام السياسي والاتجاه العلماني الليبرالي.
ولا بأس أن نشير أولا إلى بعض المعطيات الفكرية العامة التي وجهت مشروع الإصلاح السياسي السلفي كما بلورته كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده خلال القرن التاسع عشر. فقد اعتبر الأفغاني ومحمد عبده أن قوة المسلمين السياسية ، التي تمكنهم من مواجهة الأخطار الخارجية تكمن في اتحادهم ، وفي هذا الإطار أسسا جمعية العروة الوثقى. وأيضا التفكير في مشروع الجامعة الإسلامية وهذا هو البديل الذي يكفل القوة ويحقق التقدم وذلك على أساس أن العودة إلى الإسلام في منابعة الأولى وأصوله الموحى بها أى الإسلام الحقيقي هو السبيل لعودة الأمجاد القديمة المتجلية في الدولة الإسلامية القوية التي كانت فيها العلوم مزدهرة ، بما في ذلك حرية الفكر والتعبير . وهنا نجد ردا قويا للأفغانى و محمد عبده على كل المحاولات التي تميل إلى ربط الإسلام بالاستبداد أو تعارض الإسلام مع العقل و العلم و الفلسفة.أو المحاولات التي تريد تهميش الدين والقضاء عليه كالنظرية المادية والداروينية وهذا ما يتجسد في كتاب الأفغاني "الرد على الدهريين" وما نريد التأكيد عليه هنا هو حضور الهاجس السياسي الذي يتأكد أكثر في كتابات الأفغاني وهدفه هو تأسيس دولة عربية إسلامية ، أي الربط بين الدين والسياسة رغم أن محمد عبده يؤكد في مواضع كثيرة على مدنية السلطة السياسية.
إذا كانت النخبة المثقفة في العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر، تشترك في الاعتقاد بواقع التأخر والجمود والانحطاط، فإنها لم تكن تفكر بطريقة واحدة في تجاوزه.فقد اعتقد مثقفون آخرون عاصروا أقطاب السلفية الأول ، أن إلغاء التأخر لا يتم إلا بتأسيس دولة التنظيمات من خلال إصلاح الجيش والتعليم ونظام جباية الضرائب والنموذج هنا هو دولة الغرب الليبرالية .ومن هنا فإنه لا يمكن تجاوز التأخر بالالتفات إلى النموذج الإسلامي وإنما يجب الاستفادة من كل ما وقع في أوروبا في سياق تجاوزها لعصورها الوسطى من خلال نهضاتها المتتالية .
من هنا دفاع فرح أنطون و هو من مؤسسي الاختيار الليبرالي العلماني في الخطاب السياسي العربي،عن ضرورة العلمنة باعتبارها جزءا من اختيارات النهضة الأوربية،و سبيلا يكفل التسامح و حرية الفكر و العقيدة.كما دافع على ضرورة الفصل بين متطلبات الدين و متطلبات الدنيا،بالاظافة إلى تلويحه بشعارات التسامح و المواطنة،و هو بهذا فانه يستعيد أطروحات فلسفة الأنوار،و يبرر فرح أنطون ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية و الدنيوية من خلال بعض القضايا و منها
- إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية .
- الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة، مساواة مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم.
- ليس من شؤون السلطة الدينية، التدخل في الأمور الدنيوية لأن الأديان شرعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا.
- ضعف الأمة و استمرار الضعف فيها، ما دامت جامعة بين السلطتين الدينية والدنيوية.
- استحالة الوحدة الدينية
وبمقابل هذه الرؤية،يرد محمد عبده على فرح أنطون لكي يدافع على خصوصية التجربة الإسلامية و اختلافها عن المسيحية
أما الخلاصة الأساسية لهذا الجدال،فتتجلى في المعالجة المباشرة و الصريحة لمسألة العلمنة في الخطاب العربي المعاصر،وهي التي ساهمت في رسم الملامح الكبرى للتوجهات الفكرية منذ عصر النهضة إلى حدود الآن.ويمكن أن نقول بأن معالجة فرح أنطون لمسألة العلمنة هي معالجة أفقية أي لم تقارب مسألة العلمنة من وجهة نظر تاريخية تطورية.وهذا ما سيقوم به فيما بعد علي عبد الرازق (1888-1966)في نصه الشهير الإسلام وأصول الحكم الذي حاول التأكيد فيه على أن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام.ويدافع فيه على دنيوية و تاريخية الفعل السياسي في الإسلام.

- -IIIرؤية جديدة لمفهوم العلمانية " نموذج محمد أركون "
-
لاشك أن مساهمة محمد أركون التي نريد تقديمها كنموذج للطرح الجديد لمسألة العلمانية في الفكر العربي المعاصر،تدخل في دائرة أفق فلسفي تاريخي جديد،يساهم فيه بالإضافة إلى محمد أركون باحثون ومثقفون آخرون يتنفسون داخل نفس المناخ الفكري ويتعلق الأمر على سبيل المثال لا الحصر بالمنجزات النظرية الهامة لكل من عبد الله العروي،ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط...الخ رغم التناقضات الموجودة بين هؤلاء حول المسألة موضوع هذا العرض.
يتناول محمد أركون بكثير من الشجاعة،وفي أكثر من مناسبة مفهوم العلمنة،وهو يتناوله في أفق البحث الفلسفي المتحرر الذي يتجاوز مجرد الاستدعاء الشعاري للمفهوم،رغم الإيحاءات المتعددة التي تتركها أبحاثه في هذا المجال.كما أن مجال اهتمامه بهذا الموضوع يتم داخل دائرة أوسع وهي دائرة التفكير في قارة السياسي في الإسلام،في تراث الإسلام،وفي حاضر الممارسة السياسية النظرية و العملية السائدة في البلدان الإسلامية،إلا أن بحثه لا يغفل أثناء المقاربة و التحليل تطور الممارسة العلمانية في الغرب الأوربي،متسلحا بروح البحث المقارن في مشاكل مجتمعات الكتاب والتوحيد ولهذا نجده في أكثر من مناسبة يدعو إلى تمثل مكتسبات الاجتهادات الغربية في المناهج والفلسفات و العلوم الإنسانية وتطبيقها على التراث الإسلامي في إطار ما يسميه "الإسلاميات المطبقة "islamologie appliquée ولقد أطلق محمد أركون على مشروعه الفكري ما أسماه "نقد العقل الإسلامي" .
لقد تناول محمد أركون مفهوم العلمانية من خلال تحديده للأسس الفلسفية والتاريخية التي انتج في سياقها المفهوم ثم يوضح الخلفيات السياسية والتاريخية التي حددت مجاله ، ويثير مسألة التعامل التاريخي النقدي مع المفهوم ، لينتهي إلى إعادة بناءه داخل إطار الشروط السياسية والتاريخية والفلسفية المستجدة ثم ينتهي إلى إعادة تعريف هذا المفهوم.




3-1- الأسس الفلسفية والتاريخية التي تبلور في إطارها مفهوم العلمانية

لا يشذ مفهوم العلمانية عن المفاهيم السياسية الفلسفية الأخرى التي نشأت معه في دائرة فلسفة الأنوار من قبيل مفاهيم الحرية والتسامح والتقدم ويتداخل معها في نسيج خطاب الأنوار . وهو الخطاب الذي يحدده المؤرخون في الحقبة الممتدة من 1670 إلى 1800، وقد شاركت أوروبا مجتمعة في هذه الحركة الفكرية والعلمية والتقنية والسياسية والاقتصادية . وبهذه الحركة خرجت أوربا والغرب عامة من حالة التخلف إلى مرحلة جديدة تميزت بسيادة الفلسفة العقلانية المتجاوزة لقطعية الخطاب الديني ، وأيضا ظهور الفلسفة السياسية المحددة لمفاهيم الحكم المدني والمساواة والعقد الاجتماعي ثم حقوق الإنسان ، وأيضا تبلور الأخلاق المستقلة عن القوانين الدينية .
نشا مفهوم العلمانية إذن داخل هذه المسلمات ، واستعمل لمواجهة سلطة الكنيسة في المجتمع ومن أجل دولة تقر بأن حدود السياسة تختلف عن حدود الدين وقد وظف في سياق تطور المجتمع الأوروبي في مجال نقد الدولة الدينية ، باعتبار أن العلمنة وسيلة للخلاص من بطش سلطة الدين .
هنا يؤكد أركون أن العلمانية في أفق أنوار القرن الثامن عشر ، لم تتخلص من عقيدة النجاة أو الخلاص ، فقد استبدلت خلاص السماء بخلاص الأرض واستبدلت العقيدة بالمعتقد ، كما رافق هذا المفهوم أيضا أزواج مفهومية أخرى من قبيل حق ديني / حق وضعي ، عقل / وحي ، عقلاني / لاهوتي ... وانتهى إلى نقد هذه الحدود وإبراز محدوديتها وبالتالي التفكير في معنى جديد لمفهوم العلمانية.

3-2 العلمنة عند أركون

يناقش أركون قضية العلمنة من زاويا مختلفة عما درجت عليه إيديولوجيات لم تر في الطرح العلماني سوى قضية فصل الدين عن الدولة من جهة ، أو في موقف سلبي من الدين نفسه ، وقدم مقاربات للعلمنة منفتحة وبعيدة عن الأدلجة أو الاختزالية .
يحدد أركون فهمه للعلمنة بأنها" موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة" وللعلمنة مسؤوليتان أو تحديان اثنان ;
ا – كيف نعرف الواقع بشكل مطابق وصحيح؟ أي كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة ( بغض النظر عن اختلافاتها ) نحو التوصل إلى الحقيقة ؟وهنا تكمن المهمة والمسؤولية المفتوحة أو المنفتحة باستمرار ، إنها عمل لا ينتهي ولا يغلق ، وهذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية و التاريخية و حتى الدينية (التي ولد فيها) وهي مسألة تبين أن العلمنة هي شيء أخر أكبر بكثير من التقسيم القانوني للكفاءات بين الذرى المتعددة في المجتمع ،إنها أولا و قبل كل شيء مسألة تخص المعرفة و مسؤولية الروح (أي الروح البشرية،الإنسان )،هنا تكمن العلمنة أساسا و تفرض نفسها بشكل متساو و إجباري على الجميع دون استثناء
ب- إيجاد الوسيلة الملائمة لتوصيل معرفتنا بهذا الواقع إلى الأخر، دون أن نشرط حريته أو نقيدها، و هنا تكمن كل مشكلة التعليم والتدريس
على امتداد طروحاته حول العلمنة ،يصر أركون على ربطها بقضية الحرية و جعل المفهومين مترابطين،و يشدد على رفض تحول العلمنة إلى إيديولوجيا وضيفتها قولبة الفكر أو الحد من حريته.ومن هنا فان أركون يعتبر مشكلة العلمنة،مشكلة مفتوحة بالنسبة للجميع،أي بالنسبة للمسلمين،وبالنسبة للعلمانيين الصر اعيين.فبالنسبة للمسلمين نجد أنهم مغتبطون ومزهوون أكثر مما يجب بيقينياتهم الدوغمائية،و بالنسبة للعلمانيين المتطرفين نجد أنهم يخلطون بين العلمنة الصحيحة وبين الصراع ضد الاكليروس ،أو طبقة رجال الدين .و العلمانية كما يراها أركون هي احد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة ،حيث يتميز النظام العلماني باحترام الفرد و حرية الضمير،و ضمان الحرية الدينية لجميع المواطنين من دون استثناء،إضافة إلى الاعتراف بالتعددية الدينية و بحرية الاعتقاد أو عدمه،بما فيها الحق في تغيير الدين.والعلمنة كذلك،"موقف للروح أمام مشكلة المعرفة"هل يحق للإنسان أن يعرف أسرار الكون و المجتمع أم لا يحق ؟ هل نثق بعقله في استكشاف المجهول و قيادة التاريخ ام لا نثق ؟ هل هو قادر بواسطة عقله،و عقله فقط على فهم الأشياء واتخاذ القرار أم هو غير قادر ؟
يخلص أركون من ذلك إلى تبيان أن العلمنة وحدها هي التي تحرص على البعد الروحي الذي يحتاجه الإنسان، وهي بالتالي تضع هذدا البعد في مكانه الصحيح وتمنع المتاجرة السياسية به واستغلاله لأهداف سياسية أو غير نزيهة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- في النظرة إلى الأديان
نجمت ضرورة العلمنة لدى أركون من نظرة خاصة إلى الأديان التوحيدية منها أو غير التوحيدية،وهى نظرة ترفض النظريات التي لا تعترف بموقع الدين الاجتماعي و الروحي فتصل إلى نفى الدين و اقتراح علمانية(ملحدة)لا موقع فيها للبعد الروحي الدي يحتاجه الإنسان.يقول في هذا الصدد "فالدين،أو الأديان،في مجتمع ما هى عبارة عن جذور.ولا ينبغي علينا هنا أن نفرق بين الأديان الوثنية واديان الوحي،فهذا التفريق أو التمييز هو عبارة عن مقولة تيولوجية تعسفية تفرض شبكتها الإدراكية أو رؤيتها علينا بشكل ثنوى دائما.أن النظرة العلمانية تعلن بأنها تذهب الى أعماق الأشياء،إلى الجذور من اجل تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلا و دقة،ففيما وراء التحديدات التيولوجية نجد أن كل الأديان قد قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات و الإيضاحات،و إنما أيضا الأجوبة العلمية القابلة للتطبيق و الاستخدام مباشرة في ما يخص علاقتنا بالوجود و الآخرين و المحيط الفيزيائي الدي يلفنا،بل وحتى الكون كله،وفى ما وراء "فوق الطبيعة"
ويستكمل أركون نظرته لموقع الدين بالقول "انه عندما نجسد الحقائق فينا بالمعنى الحرفي لكلمة التجسيد، أي عندما نصهرها في أجسادنا، فإنها تصبح مرتبطة كليا و نهائيا بكينونتنا العميقة.وتصبح بالتالي مرتبطة بشبكة الإدراك التي سوف تتحكم من الآن فصاعدا بكل وجودنا وسلوكنا.على هذا المستوى العميق و الجذري ينبغي أن نحاول فهم بنية الساحة الدينية والطريقة التي تمارس عليها دورها في المجتمعات البشرية المختلفة.وبهذا المعنى فان كل ما ندعوه بالأديان (أي كل الأديان بلا استثناء)ليست إلا عبارة عن أنماط للصياغات الطقسية و الشعائرية التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية و صهرها في أجسادنا،هده الحقائق التي سوف تتحكم بوجودنا كله
على سبيل الخاتمة
لاندعي بهذا العرض القصير و المبسط حول مفهوم العلمانية أننا أحطنا بالموضوع من كل جوانبه،او باختيارنا للطرح الاركوني لمسالة العلمنة انه يشكل نقطة جامعة مانعة لهذا الموضوع الذي لا زال يثير جدالا واسعا بين المهتمين بما فيهم المفكرون و السياسيون.ولكننا استهدفنا فقط إثارة هذا الموضوع للنقاش تحت شعار "التفكير في اللامفكرفيه".و نحن في إطار تناولنا لهذا الموضوع موجهون بقناعة أساسية مفادها أن تقدم المجتمعات العربية الإسلامية رهين بالمواجهة المباشرة لمثل هذه المواضيع،طبعا في إطار من الحرية،متسلحين بروح المنهجية العلمية.
بعض المراجع المتعددة.
- شاكر النابلسي،الفكر العربي في القرن العشرين،المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت الطبقة الأولى 2001 .
- عبد الجليل بادوا،السلفية و الإصلاح،منشورات سليكي إخوان،طبنجة،الطبقة الأولى 2007
- عبد الله العروي،مفهوم الدولة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء 1981
- فرح انطون،ابن رشد و فلسفته
- مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء العربي، عدد29،1984
- محمد اركون ،العلمنة والدين ،دار الساقي 1993،ترجمة هاشم صالح
- المعرفة و السلطة في المجتمع العربي، معهد الإنماء العربي،بيروت الطبعة الأولى
- ،1988





































#عبد_السلام_بلحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد السلام بلحسن - العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أركون نموذجا