أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد إبراهيم المحجوبي - خصومة الفقه والتصوف















المزيد.....



خصومة الفقه والتصوف


خالد إبراهيم المحجوبي

الحوار المتمدن-العدد: 2949 - 2010 / 3 / 19 - 07:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة
الحمد لله المتفرد بالكمال ، والصلاة والسلام على النبي القدوة والرسول الأسوة .
ينطوي التراث الإسلامي على ساحات كثيرة امتلأت بالنتاجات الفكرية والعلمية والإبداعية ،مما أتيح للعقول العربية والإسلامية أن تنتجه وترفد به محاصيل الفكر العالمي.
ولقد كان من أهم وأطرف ما ضمته المنظومة التراثية ما كتب في سياق جدلية وحوارية الفقه والتصوف ، أو الصوفية والفقهاء (1). أعني بهذا مجموع ما تمت كتابته من طرف كل من الفقهاء ، والمتصوفة في إطار الخلاف الواقع بينهما علي صعيدي المناهج ، والنتائج. حيث إن الخلاف بين الطائفتين جاء قائما على حقيقة التباين الفاصل بينهما على مستويين هما :
1- مستوى المنهجية المتبعة في صدد فهم النص الديني ، والتعاطي معه إدراكاً وتطبيقاً .
2- مستوى المناتج والطروح التي تم تبنيها والعمل على تطبيقها عمليا ً خارج إطارها النظري .
وعلى أساس من ذاك التباين والانفراق ظهر ما عرف بخصومة الفقهاء والصوفية ، مما أقترح تسميته باسم (التعارض الصوفقهي ).
إن هذا التعارض والتباين لم يكن حكراً على الساحة التراثية الإسلامية فحسب ، حيث ظهرت من أشباهه خلافات وصدامات وسط الديانتين : اليهودية والمسيحية ، عندما لم تتفق طوائف ومذاهب كل منهما على اتباع منهج موحّد في مقاربة واستكناه النص المقدس لدى كل منهم ؛ فظهرت فيهم مذاهب عقلية تأويلية لا تسلّم بظواهر النصوص ؛ فعمدت إلى فهمها بطريقة لم تقبلها مذاهب أخرى آثرت انتهاج النصوصية الحرفية .
مدخل
تتفاوت نفوس الناس اتساعا وحرجا ، وتتزايل أنظارهم قوة وضعفا . كما تتباين قلوبهم في مدى سماحتها أو ضيقها ؛ لأجل ذلك لم يكن غريبا أن نجدفي تاريخ المسلمين كثيرا من العلماء –سواء الفقهاء والصوفية- من انطوت أبدانهم على قلوب غير سمحة ، ونفوس حرجة ، وآفاق ضيقة .وكان من مقتضيات ذلك رفضهم ما غاير أفكارهم ، أو ما خالف مناهجهم ، أو عارض اجتهاداتهم في سياسة إقصائية نكدة ، تقوم على مصادرة حق الآخرين في إعلان واتباع ما اقتنعوا به وارتضوه من مناهج ومناتج .
كل هذا في حال وجود كثير من العلماء والفقهاء المعتدلين المبرئين من تلكم النواقص والمعايب التي لا يصح تعميمها على كل علماء أمتنا وصناع تراثنا .
ولا يخفى أن الإقصائية الفكرية هي من الشوائب التي عكرت صفو تراثنا ، وأسهمت بفاعلية في تشويه ديننا السمح ، هذا الدين الذي أرسخ حرية الفكر ، وكفل اختيارية العقيدة من غير إجبار ولا إكراه؛ لذلك امتلأ القرآن المجيد بالشواهد الموكدة لهذه الحقيقة ، من مثل قوله تعالى {لا إكراه في الدين}وقوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }وقوله{وهديناه النجدين}.
لكن هذا المنهج القرآني وجد صدودا غير مقصود ،واعتراضاً غير معلن من طرف كثير من الفقهاء والصوفية الذين أشعلوا نيران الخصومةالتي صارت إلى صدام مؤلم ثم تحولت إلى حرب فكرية سالت فيها الدماء ، وقطعت وسطها الرؤوس ، وصلبت عندها الأجساد.
تأريخ الخصومةو الصدام الصوفي – الفقهي(الصوفقهي)
أرى أن البوادر الأولى للخصومة تلك كانت غير سابقةللنصف الأول من القرن الثالث الهجري ، وقد تزامن هذا مع اتضاح معالم الظاهرة الصوفية وتشكلها في تجليات واضحة شملت الممارسة العملية والتنظير النظري ، في إطار التصوف العملي قبل ظهور التصوف النظري الذي اشتهر تسميته بالفلسفي.
تسنح بوادر الخلاف بين الفقهاء والصوفية فيما جرى بين علمين من أِشهر أعلام المسلمين هما: أحمد بن حنبل(ت 241هـ) ، والحارث المحاسببي (ت243هـ).
إن أحمد ابن حنبل رجل ورع ، طيب ، عالم بالحديث ، حريص على دينه وسنة نبيه. ومن شدة حرصه وصل في بعض المواقف إلى درجة الغلوفي ذلك –رحمه الله- إلى حد تعرض فيه المحاسبي إلى التجريح من طرف أحمد الذي قال في الحارث : ((حارث أصل البلية ...ما الآفة إلا حارث))(2).
وقد بنى أحمد موقفه الغالي هذا على أحد احتمالين هما :
1-ما وجده في طريقة وأسلوب المحاسبي ، وبعض المواضيع التي اهتم المحاسبي بطرقها ، والكلام فيها معتمدا على النصوص الدينية . كمواضيع الوساوس ، والخطرات القلبية ، و الوجدانيات الذوقية العرفانية ، وكذا الكلام في موضوع محبة الله، على نحو لم تألفه المصنفات السابقة قبل المحاسبي . ويبدو أن وشاية دخلت بينهما ، وقد كشفها أحمد يوما بعد استراقه السمع لأحد مجالس المحاسبي ؛ فوجد قويماً غير منحرف ؛ فقال أحمد: ((كنت أسمع من الصوفية خلاف هذا، أستغفر الله)) (2)
2-أما الاحتمال الثاني فهو مشاركة المحاسبي في بعض مباحث علم الكلام ،هذا العلم الذي كان له خصوم ومعارضون كثير وسط علماء المسلمين ، بدءً بالشافعي مرورا بأحمد ثم ابن الصلاح وابن رجب الحنبلي ؛ لأجل ذلك اشتهر النكيرعلى من خاض في مسائله. من ثم فقد هجر أحمد الحارث وأنكر عليه (3).
كان المحاسبي قد اشتهر بمشاركته في علم الكلام ، فضلا عن علم الفقه ؛ لذلك وصفه النديم بأنه ((فقيها متكلما مقدماً)) (4). كذلك قال الكلاباذي إنه ممن ((جمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن))(5).
ولم يكن ذلك الموقف موقوفاً على أحمد بل تبعه فيه تلميذه أبوزرعه-رحمه الله-متوهماً أن الحارث قد انحرف عن الشرع وحدوده ، ومن صور موقفه هذا أنه سئل مرة عن كتب الحارث ، فقال للسائل: ((إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات . عليك بالأثر ؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب ))(6).
إننا اليوم لنرى مدى الجناية التي أوقعها أحمد وأبوزرعة –رحمهما الله -على الحارث ، حين نطالع كتبه التي لم يظهر فيها أي انحراف ، أو زيغ على النحو الذي توهمه أبوزرعةوحذر منه في موقف عاجل غير متريث.
لا جرم أن كان المحاسبي مثلا لمئات من العلماء الذين ظلموا وانتقصوا وشوهت صورهم طوال سيرة التاريخ ، لا لذنب اجترحوه ، إلا أنهم تميزوا بأساليب طارفة ، أو اجتهادات غير تقليدية ، أو تجديدات لم تستوعبها عقول كثير من الجموديين المتوهمين الحفاظ على الأصالة ، فلا أصالة حصّلوا ، ولا تجديد وصّلوا.
قبل ذاك الزمن –أي قبل أواسط القرن الثالث الهجري – كان للتصوف والصوفية حظوة ، ومكانة محترمة لدى جملة الفقهاء ؛ لذلك لم يكن غريباً أن يقول الإمام الشافعي(ت204هـ) ((حبب إلي من دنياكم ثلاث : ترك التكلف ، وعشرة الخلق بالتلطف ، والاقتداء بطرق أهل التصوف)) (7). كما ورد عن مالك قوله ((من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ))(8). كما روي عن أحمد قوله بشأن الصوفية ((لا أعلم قوماً أفضل منهم ...))(9)
إن مرجع الاحتفاء الفقهي بالصوفية وقتها يرجع إلى أن تصوف تلك الحقبةقد التزم منهجاً مساوقاً لمنهج الفقه غير مصادم له ، أقصد بذلك المنهج ما قام على النقاط التالية:
1-التزام الفهم الظاهري للنصوص
2-اعتناق الصوفية وقتها السلوكات والآراء المستندة إلى شواهد شرعية دينية لا تختلف عما يعتمده الفقهاء من شواهد.
3- البعد عن الابتداع الفكري فضلا عن الابتداع السلوكي .
كان هذا هو المنهج الصوفي الأول ، وقد عبر عنه بعضهم بجمل واضحة من ذلكم قول (سهل التستري) ((أصولنا ستة : التمسك بكتاب الله ، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، وأداء الحقوق))(10).
كذلك قال (الجنيد) : ((الطرق كلها مسدودةعلى الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم))(11). كما قال((علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ؛ فلا يقتدى به في علمنا هذا))(12).
لذلك لانعدم إظهار الرضى والإعجاب بالصوفية الأوائل من طرف كثيرمن الفقهاء المعروفين بخصومتهم وشدة نكيرهم على الصوفية المتأخرين . من ذلك إطلاق ابن تيمية صفة ((المستقيمون من السالكين))(13)على الفضيل بن عياض ، وإبراهيم بن أدهم ، وأبو سليمان الداراني ، ومعروف الكرخي ، والسري السقطي ، والجنيد البغداي.
إذا ما استقام التصوف ، واعتدل الفقه فالنتيجة هي تكامل وانسجام ، وتواصل واندغام على نحو يجمع شتات التشريع، ويقوّم انحراف التدليس . وقد أدرك هاته الحقيقة عدد من فقهاء الصوفية منهم أحمد زروق ، الذي قال :((...فلا تصوف إلا بفقه إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه ، ولا فقه إلا بتصوف ؛ إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه...وهما إلا بإيمان ، إذ لا يصح واحد منهما دونه))(14)
دوافع الخصومة الصوفية - الفقهية (الصوفقهية)
لقد كانت تلك الخصومة مدفوعة بعدد من الدوافع والحوافز ، أراها ماثلة فيما يلي من دوافع ومباعث:
أولاً: افتقاد أدب الخلاف:
إن الدافع الأول إلى هاتيك الصدامات هو ضيق الأفق ، المفضي إلى افتقاد أدب الخلاف ، ذلك الأدب القاضي القاضي بوجوب احترام حق الآخر في تبني ما يراه صواباً ، وفي اعتقاد ما يبدو له حقاً
ثانياًً: الدافع الإصلاحي الوقائي:
لم تكن خصومة الفقهاء وهجماتهم منحصرة في مواجهة الصوفية فحسب ، إنما توزع الجهد الخصومي من طرف الفقهاء إلى جبهتين رئيستين هما: 1-جبهة الفلاسفة والمناطقة.2- جبهة الصوفية .
يترجح عندي وجود دافع إصلاحي وحافز تقويمي ، خلق بين صفوف الفقهاء عداوة وخصومة لكل مستحدث من المناهج والأفكار التي رأوا تعارضها مع الدين والشريعة ؛ ومن هنا لقي التصوف النظري منذ القرن الرابع الهجري وبعده ، موقفا فقهيا رافضا وعدائياً . وقبل ذلك سنح مثل هذا الموقف في وجه الظهور الفلسفي والمنطقي في الساحة الإسلامية أعني انتشار الفلسفة الإغريقية خاصة والمنطق الصوري من خلال نافذة الترجمة التي بلغت ذروتها في عهد المأمون بن الرشيد.
لقد ظهر في وسط أكثر الفقهاء موقف رجوعي متصلب رفض كل علم لم يعرفه السلف الأولون ، وهذا موقف تبناه ونشره كثير من أعلام الفقه والحديث منهم: أحمد بن حنبل ، وأبوزرعة ، والأوزاعي ، وابن الصلاح ، وابن رجب الحنبلي ،-رحمهم الله- وغيرهم كثير ممن رأوا عدم جواز مخالفة آراء السابقين من الصحابة والسلف ، في عملية تقديسية غير معلنة. كما رأوا أن ما ظهر بعد الأسلاف من العلوم إن هو إلا بدع أو شبه ٍ ، لذلك نصح ابن رجب بأن يكون الإنسان((على حذر مما حدث بعدهم ))(15) .
كذلك قال :((أما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها ...فكلها بدعة ، وهي من محدثات الأمورالمنهي عنها )) (16).
كما ورد عن الأوزاعي قوله((العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فما كان غير ذلك فليس بعلم ))(17).
إن هذا الفريق ينظر إلى التصوف ومباحثه نظرته للمحدثات والبدع التي شوهت الشرع والدين وقد عبر عن هذا ابن رجب الحنبلي في قوله : ((ومما أحدث من العلوم : الكلام في العلوم الباطنة ، من المعارف وأعمال القلوب ، وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق ، أو الكشف . وفيه خطر عظيم )) (18).
إن مما أذكى وسعّر وقود الخصومة الفقهية ، أن الفقهاء الأولون لا سيما العرب منهم لم يكونوا على جاهزية وتهيؤ لاستيعاب وحسن فهم مثل تلك المباحث الفلسفية والتصوفية النائية عن دلالات ظواهر النصوص . ولعل من الواقع قول صاعد الأندلسي ((كان للعرب معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها ، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها...أما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله – عز وجل- ولا هيأ طباعهم للعناية به)) (19).
إن الإغرابات والدقائق الصوفية ، هي ضرب من ضروب الفلسفة بنحوٍ ما ، لذلك لا تراني أفرّق بحزم هنا بين خصومة الفقهاء والفلاسفة ، وبين خصومة الفقهاء والصوفية .وليس بخفيٍّ أن ساحة الفلسفة من أوسع الساحات التي ألقيت فيها تهم وفتاوى تكفيرية لا سيما بعد ظهور كتاب (تهافت الفلاسفة ) للغزالي(20). ذلك الكتاب الذي اعتمد عليه كثير من الفقهاء في حملتهم على الفلسفة والفلاسفة . وفي هذا السياق أنقل قول الحسين بن جبير في شماتته بالفلاسفة ، وبخاصة ابن رشد بعد نكبته. حيث قال(21):
الحمد لله على أخذه وأخذه من كان من أتباعه
وقال:
نفذ القضاء بأخذ كل مرمّد متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة إن البلاء موكّل بالمنطق


وقال:
تفلسفوا وادعوا علوما صاحبها في المعاد يشقى
واحتقروا الشرع وازدروه سفاهة منهم وحمقاً.
ولقد استقوى موقف الفقهاء ذاك بمعاضدة بعض الحكام الذين اقتنعوا بوجهة رأيهم ؛ فاستغلوا سلطانهم في قهر الفلسفة والفلاسفة بالقوة . ومن أشهر أولئك يوسف ابن تاشفين الذي تولى سنة 493هـ وتبنى القول بتحريم وتبديع الفلسفة وعلم الكلام ثم حرّق كتب الغزالي (22).
من باب إحسان الظن يمكننا ا لنظر إلى موقف الفقهاء بوصفه محاولة إصلاحية وقائية أمام ما توهموا كونه خطرا على الدين والتشريع ، وقد كان في الفلسفة التي حاربوها قسماً شكّل خطرا على عقائد العوام ، وهو القسم الحاوي لمباحث المغيبات ، والوجود ، والخالق فيما ضمه مبحث الوجود ، وهو مبحث فلسفي حوى آراء وتصورات لا تحمل براهين على صحتها ، ولا مسوغات لقبولها ، سوى اجتهادات وتأملات مبدعيها ؛ لأجل هذا لم يكن من المبالغة أن يراها محمد فريد وجدي((مجموعة ظنون وأوهام وخيالات )) (23).
وفيما يتصل بالتصوف أقول إن من المهم أن أنبه إلى أنه يتوزع في واقعه إلى أقسام ثلاثة هي : 1- التصوف العملي 2- التصوف النظري 3- التصوف العبثي. ولقد انحصرت عداوة الفقها ء في نوعين منه فحسب هما:
1- التصوف النظري (الفلسفي) بما التحف عليه من مباحث ، ونظريات إغرابية غنوصية.
2- التصوف العبثي ، بما حوى من ابتداعات فكرية نظرية، وسلوكية تطبيقية ، في سياق الخروج عن ضوابط وتوجيهات ومعاني النصوص والاشتراع مما وقع اعتماده لدى فقهاء المسلمين.
أما التصوف العملي (السني ) فلم يلق عداوة تذكر من طرف الفقهاء ؛ لكونه غير مصادم للمناهج الفقهية ، وغير متبنٍ للأفكار والاجتهادات التي لم يقبلها الفقه.
لقد زاد من شدة الخصومة والثقاف بين الفريقين وجود اختلافات جذرية وقاعدية على كل المستويات ، سواء المستوى الطروحي الفكري ، أو المستوى المنهجي ، ، أو المستوى التعبيري النظري . ففي كل هاته المستويات كان التباين ظاهرا والاختلاف سانـحاً بجلاء بين كلا الطائفتين: الفقهاء ، والصوفية. وهذا ما سأفصله فيما يلي –بعد أن تكلمنا عن الدافع الثاني وهو الدافع الإصلاحي الوقائي-.
ثالثاً : التباين الفكري :
أعني به الاختلاف البين الواقع بين الآراء والاجتهادات الفقهية، وبين الاجتهادات والآراء الصوفية من جهة أخرى. ويجيء هذا التباين منبنياً على تحقق التباين المنهجي ، حيث إن التباين في المنهج يستتبع اختلافا في المنتج ؛ لأن المنتج نتيجة للمنهج. فما الأفكار والآراء إلا نتيجة لاتباع منهج تفكيري معين في سياق مقاربة نص محدد ، هذا الشأن في العلوم الدينية خاصة ؛ لأجل أن هاته العلوم قائمة أساساً على نص مقدس يشكل أساس الدين ومنبع تشريعاته.
لقد جاء التباين والفكري ماثلا في كثير من الآراء و الطروح المعالجة لمسائل وقضايا دينية أساسية . من ذلك 1- البحث في حقيقية الإله الخالق وصفاته ، وتصرفاته، وواقع علاقته بالمخلوقين. 2- البحث في موضوع النبوة وشخصية النبي والرسول ،وعلاقته بربه وبالمكلفين، ودوره بينهم .في هذا الإطار يتم طرح الآراء والأفكار في حقيقة الولاية ومفهوم الولي ، وصلاحياته ودوره ،وصفاته.
إن الآراء والأفكار الناتجة عن البحث في هاته المواضيع كثيرة جداً ، ومتباعدة جدا فيما بين الطائفتين ، كما أنها متباينة على المستوى القيمي ، بمعنى أن بعضها له قيمة عالية وأهمية ذريعة ، إما لاستتباعه مترتبات ونتائج مؤثرة وفاعلة، وإما لقيامه على براهين قوية ، وقرائن سديدة.
كما أن كثيرا من تلك الأفكار لا يعدو كونه كلاما ً وحشوا فارغا ، فاقدا لقيمته ، عادما ً لأهميته ؛ ذلك إما لكونه غير مستتبع لأي نتائج ، وإما لكونه عريّاً عن البراهين ، فاقدا الأدلة والأسانيد ؛ مما يفقده شرعية القبول ، ويركمه في صفوف الفضول .
ومن المتاح الوقوف على أمثلة للمباحث التي طرقها الصوفية بفكرهم من السؤالات التي طرحها الحكيم الترمذي في القرن الثالث ، متحديا بها الفقهاء ،وهي مـئة وخمسة وخمسون سؤالاً. وقد سردها ابن عربي مشفوعة بإجاباتها في كتابه( الفتوحات المكية) بعد توكيده أن إجاباتها لا يعرفها ((إلا من علمها ذوقاً وشرباً ، فإنها لا تنال بالنظر الفكري [إنهاعن طريق] تجلٍ إلاهي في حضرة غيبية)) (24)
رابعاً: التباين المنهجي:
لكل مفكر طريقة وسبيل ينتهجه لتحصيل معارفه وعلومه لإنشاء أفكاره وقناعاته . ولقد ظهر بجلاء وجود تباين منهجى بين طائفتي : الفقهاء ، والصوفية .برغم ما يتم إعلانه من كلا الطرفين دائما ًمن كون كل منها يعتمد على كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . إن هذا الإعلان يثبت فقط وحدة المصدر المعتمد ، لكنه لا ينفي اختلاف المنهج المتبع للوصول إلى ذلك المصدر، وما يحتويه.
قام المنهج الفقهي على طريقة ظاهرية واضحة غير معقدة في التعامل مع النص المقدس ، حيث يتم فهم معانيه وتشاريعه بحسب دلالات اللغة العربية وتقنياتها البلاغية ،والأسلوبية ، مع الاكتفاء المغني بدلالات ذلك النص ، سواء الدلالات الصريحة المباشرة ، أو الدلالات الضمنية الماكثة في ساحة روح الشريعة ، ومقاصد المشرع . وفيما عدا النص لم يعترف الفقهاء بمصدر آخر لاكتساب الحقائق والمعاني الدينية.
أما المنهج الصوفي فقد تواصل مع النص المقدس بطريقة غير ظاهرية وغير مباشرة ؛ حيث استثمر تقنيات فهمية غاص بها في بواطنه ، من ذلك اعتماده على تقنيات : الرمز ، والإشارة، والتأويل ، وادعاء الإلهام على نحو رأى فيه الفقهاء غلواً باطنياً، وانحرافا غير مأمون .ولقد أوصل ذاك الغلو ، وهذا الانحراف إلى قمة من قمم التطرف الفكري الصوفي ، ذلك ما ظهر في قولهم بثنائية( الشريعة والحقيقة) والتمييز بين أهل الشريعة الظاهرة وأهل الحقيقة الباطنة .وقد اتخذت هذه النظرية أسماء عديدة منها نظرية الظاهر والباطن ، و نظرية التنـزيل والتأويل .(25)
كذلك اعتمد الصوفية مصدرا آخر غير النص ، حيث اعتمدوا الغنوصية ، ومعارفها ، ومساربها غير المألوفة؛ لذلك قال عبد القاهر السهروردي إن علوم الصوفية((كلها إنباء عن وجدان ، واعتزاء إلى عرفان وذوق تحقق بصدق الحال ، ولم يف باستيفاء كنهه صريح المقال ؛ لأنها[أي علومهم] مواهب ربانية ومنائح حقانية...فاستعصت بكنهها عن الإشارة ، وطفحت عن العبارة)) ( 26).
كما يرى الشعراني أن لا علم إ لا ((ما كان عن كشف وشهود ، لا عن فكر وظن ؛ لأن الأفكار محل الغلط))(27). وفي السياق ذاته يرى أبو طالب المكي ) أن من جملة المحجوبين عن فهم القرآن ((من نظر إلى قول مفسر يسكن إلى العلم الظاهر ، أو يرجع إلى عقله ، أو يقضي بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب)) (28) .
خامساً: التباين التعبيري :
لقد سار كثير من الصوفية في غيابات الباطن، ووسط مسارب التخييلات ،والواردات الذوقية ، والصادرات الغنوصية ؛ حتى تاهت العقول في محاولة درك كلامهم ، أو استيعاب معانيهم التي كان استبهامها مقصودا ومتعمدا في كثير من الأحوال ؛ لذلك قال القشيري عن الصوفية إنهم ((يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم ، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم ؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة عن الأجانب))(29).
ويوكد كثير منهم قصور اللغة المعتادة عن التعبير عما يحسونه ويتذوقونه في طريقهم الصوفي .من هنا يقول ابن طفيل ((لا نجد في الألفاظ الجمهورية ، ولا في الاصطلاحات الخاصة ، أسماء تدل على الشئ الذي يشاهد به ذلك النوع من المشاهدة)) (30).
لكي تنجلي حقيقة الإغراب التعبيري الصوفي، سأزجي الآن بعض النصوص أقدمها توكيدا لمدى البعد الفاصل بين لغة الفقهاء التعبيرية ، ولغة الصوفية الغرائبية .السابحة في لجج من التعتيم المعنوي ، إلى حد قد يسوغ وصفها بالعبث اللفظي ، لا سيما لدى ابن سبعين ، والحلاج ، كما سنلحظ بعد قليل.
كتب محيي الدين ابن عربي (( ... فإن قلت ما التدلي ، قلنا نزول الحق إليهم[أي المقربين]...فإن قلت ما الحرف ، قلنا ما يخاطبك به الحق من العبارات...والحرف صورة في السبحة السوداء ، فإن قلت ما السبحة قلنا الهباء الذي فتح فيه صور بأجسام العالم المنفعل عن الزمردة الخضراء. فإن قلت وما الزمردة الخضراء ، قلنا النفس المنبعثة عن الدرة البيضاء .فإن قلت فما الدرة البيضاء ، قلنا العقل الآول صاحب علم السمسمة .فإن قلت وما السمسمة ، قلنا معرفة دقيقة في غاية الخفاء ...مع كونها ثمرة شجرة .فإن قلت وما هذه الشجرة، قلنا الإنسان الكامل مدبر هيكل الغراب .فإن قلت وما الغراب ، قلنا الجسم الكل الذي ينظر إليه العقاب بواسطة الورقاء فإن قلت فما العقاب ، قلنا الروح الإلاهي)).(31).
قال عبد الحق بن سبعين ((هذه الحروف قد ركبت وبقي علينا لكلام بها ، واقطع تجمع الوقوف ، واصفع تدفع الصفوف، واخضع بمناك ، وانس فتاك ، واهد الحول وأعط القول ،وزلزل أنا ، وعلم لنا ، وواصل هلم ، وراحل فثم، وغيب علي وسلم إلي ، وبادر يميني ، وشاور يقيني...وصدق صديقك ، وانس فريقك ، وخمسة وسبعة ، وواحد وجاحد والحق والحقيقة، والفصل وفوقه ، والجملة لذوقه ، والغربة ثلاثة والحضرة واحدة...والوصول قط ، والمشاهدة والشهود بط ، والصداقة فقط. وأنت ككنت ، وليت أتيت، وهاك واجبر وكاد وأخبر ، وجار وحرب ، وهد وضرب. وقد تخلصت يافيلسوف فاخرج عنك واهرب منك ))(32).
وكتب عبد الكريم الجيلي((إن العجب الحقيق ، والطائر الحمليق الذي له ستمئة جناح ، وألف شوال صحاح ، والحرام لديه مباح، واسمه السفاح ابن السفاح ، مكتوب على أجنحته أسماء مستحسنة، صورة الباء في رأسه ، والألف في صدره))(33).
وقال((الشئ يقتضي الجمع ، والأنموذج يقتضي العزة، والرقيم يقتضي الذلة... فمتى خلعت على الأنموذج شيئاً من صفات الرقيم ؛ انحزم قانون الأنموذج عليك ، ومتى كسوت الرقيم شيئأً من حلل الأنموذج لم تره فيه ؛ لظهوره بما ليس له ))(34).
وقبلهم قال الحلاج: (( الدنو دائرة الضبط لحقيقة حق الحقائق ، في دقيقة دقة الدقائق ، من شهود السوابق ، بوصف ترياق التأئق[كذا] برؤية قطع العلائق في نمارق الصفائق بإبقاء البوائق ، وتبيين الدقائق ، بلفظ الخلاص من سبيل الخاص ، من حيث الأشخاص. ومن الدنوما هو بمعنى المعرض العريض، ليفهم المعنوي الذي سلك سبيل المرعوي المروي النبوي))(35).
وقال((خروجه معكوس في استقرار تأريسه ، مشتعلاً بنار تعريسه، ونور ترويسه. وقواصيه بمحل رميض ، مقابله بَعلٍ رميض، شراهمه برهمية، صوارمه مخليّة، عماياه فطهمية. هاه يا أخي لوفهمت لترضمت الرضم رضماً ،وتوهّمت الوهم وهماً ، ورجعت غماً ،وفنيت هماً ))(36) هجمات فقهية صوفية
لكي نقف على الواقع الدقيق للخصومة (الصوفقهية ) أستحب أن أسوق نماذج من الهجمات الفقهية المستهدفة للصوفية ، وكذا من الهجمات الصوفية الموجهة إلى ساحة الفقهاء.
تنبيـه/
إنني إذ أطلق الكلام بتسمية الفقهاء والصوفية لست قاصدا الإطلاق أبداً لأن الإطلاق عيب كبير في البحث والكتابة. لذلك أنبه إلى أن كلمة الفقهاء لا أعني بها كل الفقهاء ، بل كثيرا منهم من غير تحديد كمي . وكذلك كلمة الصوفية لا أريد بها الصوفية جميعهم ، بل كثيرا منهم بلا حصر عددي .
إن من الملحوظات الهامة أن عددا من الفقهاء برئوا من ظلم الصوفية ، وترفعوا عن غبنهم إن هؤلاء الفقهاء تمتعوا بروح علمية موضوعية ، مع أدب في الخلاف ، إضافة إلى دقة في الكلام وتدقيق في سوق الأحكام المتصلة بالتصوف والصوفية في كثير من كلامهم .
ومن أهم من يمثل هذا النوع من الفقهاء كل من :ابن تيمية ، وابن القيم ، والذهبي ، والسيوطي. فابن تيمية نراه يقسم المتصوفة إلى طوائف قبل أن يطلق حكمه عليهم ، فيرى أن منهم مجتهدون ، فيهم السابق ، والمقتصد و المقرب . أما منحرفوهم فلا يتهاون و لا يقصر في الإنكار عليهم .



أولاً : هجمات فقهائية:
من الهجمات الحديثة أن نسمع محمد جميل غازي يقول بتعميم غير حكيم ((فإن الصوفية هي الوباء القاتل والداء العضال ، الذي منيت به هذه الأمة ؛فرقت الجماعة وروجت البدعة ، وحاربت التوحيد ، وهاجمت السنة ، وأشاعت الفوضى )) (37) .
وفي هجوم شديد يبدأ الشيخ عبد الرحمان عبد الخالق ، كتابا له بقوله((أعظم فتنة ابتلي بها المسلمون قديما وحديثا هي فتنة التصوف .هذه الفتنة التي تلبست للمسلمين برداء الطهر والفقه والزهد والإخلاص .وأبطنت كل أنواع الكفر والمروق والزندقة...فأفسدوا العقول والعقائد ،ونشروا الخرافات والدجل...إذ حارب المتصوفةالعلم والجهاد والبصيرة في الدين...)) (38)
لا ريب في انطباق هذا الوصف على كثير من الصوفية النظريين ، وكذا العبثيين . لكن ذلك لا يسوغ أن يساق الكلام والحكم على هذا النحو من التعميم الملبس ، والإطلاق الظالم الذي لايستثني ، ولا يتورع عن أعراض الصالحين والمستقيمين من أهل التصوف .
ثانياً: هجمات صوفية :
لم يسكت كثير من الصوفية عن الضيق والضرر الذي لحقهم من طرف كثير من لفقهاء ؛ فعبروا عن ذلك بكلام انتثر في كتبهم . من ذلك قول محيي الدين بن عربي ((ما خلق الله أشق ،ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به...فهم لهذه ا لطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام))(39) . كما أنه ينعتهم بالغافلين وغير المحققين. (40)
وفي السياق نفسه نسمع عبد الحق بن سبعين ، يقول عن الفقيه إنه(( فاسد الفرع ، صادق الجنس ، وكاذب النوع )).(41) كما يقول عن الفقيه ومنهجيته الفقهية إنه((يدفع اليقين بالجهل ، ويفعل فعل أبي جهل ، ويحجب نور الله عن عباده بالفروع المعللة...ويمشي على الضلال ويركب جهله)) .ثم يطلب من قارئه أن يسخر بالفقيه ويعتقد جنونه (42)

وفي تعميم هجومي آخر نلقى الهجويري يقول(( المنكرون على ا لصوفية هم أشر خلق الله جل جلاله ، وأرذلهم ؛ لأن صحبتهم كانت مع أشرهم وأرذلهم))(43)
ثم نجد الغزالي –وهو ذو فقه – يجعل علم الفقه في الصنف الأخير من علوم الدين، وإنما وقع تقديمه –كما يقول –بسبب حب المال والجاه.(44)
آثار الخصومة الفقهية الصوفية (الصوفقهية)
لا جرم أن استتبعت هاته الخصومة آثاراً وأضراراً حاقت بالمسلمين ودينهم الحنيف ، وقد كانت أهم الآثار ماثلة في أثرين هما : 1-إضعاف الترابط بين أتباع الدين الإسلامي .2- تشتيت جهود كثير من الفقهاء والمتصوفة فيما لا يغني نفعا ً .
أولا : إضعاف الترابط بين أتباع الدين الإسلامي:
إن قوة هذا الدين منوطة باتحاد أتباعه ؛ لذلك فالقوة والاتحاد علاقتهـما طردية تلازمية . وهي علاقة مصيرية لم يغفل ا لله تعالى التركيز عليها في القرآن المجيد . من ذلك قوله تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} سورة آل عمران 103. وقوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}آل عمران105وقوله{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}الأنعام160.
لكن الذي حدث أن كثيرا من الفقهاء والصوفية لم يستطيعوا تطبيق التوجيه الإلاهي ، فضلا عن الإرشادات النبوية المتكاثرة الداعية إلى التزام الجماعة والبعد عن الفتن والتشتت.
فلما كانت الحالة مخالفة لما وجه إليه الله ورسوله؛ حدث الوهن والضعف في بنية هذه الأمة .

ثانياً: تشتيت جهود كثير من الفقهاء والمتصوفة فيما لا يغني نفعا :
إن الإسلام ليس في غنية عن جهود أتباعه لا سيما العلماء وأصحاب الكفاءات الفكرية ، وقد كان وسط جماهير الفقهاء والصوفية أعلام ومفكرون ذوي كفاءة راقية ، كان من حق الإسلام عليم أن يصرفوها في خدمة الدين والناس لا في الخصومة والتنابذ ، وبرغم ذلك صرفوا الغزير من جهودهم في الخصومة الموجهة إلى إخوانهم في الدين ، فخسر هذا الدين بذلك كثيرا مما كان حقه أن يوجه لخدمته ، لا إلى خذلانه.

--------------------------------------------------------------------------------
خاتمة وتوصيات
أنهي هنا كلامي في جدلية الفقه والتصوف ، وخصومة الفقهاء والصوفية، موكداً على حقائق مهمة ، هي التالية:
1-إن الخصومة بين الفقهاء والصوفيةكانت من العوامل التي أسهمت في استنـزاف جهود فكرية كبيرة خسرها العالم الإسلامي .
2- إن الفقهاء المسلمين لم يكونوا على نحو واحد في تعاملهم مع التصوف والصوفية ، حيث وجد بين فقهائنا من هو ضيق الأفق ، ومن هو واسعه ، كما وجد فيهم من هو غالٍ ومتطرف غير حكيم ، في الحين الذي وجد فيه منهم من كان معتدلاً ، مقسطاً ، حكيماً .
3-إن الصوفيةالمسلمين تباينت مواقفهم من الفقهاء ، حيث وجد في الصوفية المتطرف الغالي ، كما وجد بينهم المعتدل العاقل .
4- إن الخصومة الصوفية الفقهية (الصوفقهية) تولدت تحت دوافع أهمها:
-افتقاد كثير من الصوفية ، والفقهاء أدب الخلاف .
- وجود اختلاف قاعدي بين الطرفين على مستويات كثيرة أهمها : ما كان على مستوىالمنهج ، والطرح الفكري ، وساحات الاهتمام والتوجه.
وفي ختام هاته الخاتمة أقترح بعض التوصيات في سبيل تهوين حدةالخلاف الصوفقهي الذي لا يزال ضاربا أطنابه الكريهةفي عالمنا الإسلامي. أما التوصيات فهي :
1- التنسيق بين أقطاب ورموز كل من الطائفتين ؛ لعقد لقاءات توفيقية تلقي بآثارها على أتباع كل طرف ، في سبيل إحداث تقارب ودي .
2-العمل الفعلي على إرساخ وإشاعة أدب الخلاف (فقه الخلاف) وسط الأوساط التعليمية ، سواء الأكاديمية أو الحرة ، وفي مواطن مخاطبة العوام ، كخطب الجمعة، ودروس الوعظ والإرشاد .
3- إقرار مادة علم التصوف ضمن مقررات المرحلةالجامعية ، في الكليات المتخصصة ؛ في سبيل إيضاح تاريخ وواقع التصوف الإسلامي ، وأنواعه ، وخصائصه .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د‌.خالد إبراهيم المحجوبي








الهوامش والتعليقات:
(1) أعني بالفقهاء –في هذا البحث كله -علماء الدين والشريعة السائرون على المنهج الظاهري التقليدي الواضح في التعامل والنظر في النصوص الدينية التشريعية ، وهم المكونون لجمهور علماء المسلمين سواء من أهل الحديث أو المفسرين أو أصحاب المذاهب الفقهية .أما الصوفية فأعني بهم تحديداً أتباع ومنظري التصوف النظري (الفلسفي) ، فضلا عن أتباع التصوف العبثي . وليس منهم أتباع ورواد التصوف العملي (السني).
(2) – انظر (الطبقات الكبرى ) عبد الوهاب الشعراني 1/64. وانظر (طبقات الشافعية ) السبكي 2/39-40. وينظر كذلك (البداية والنهاية) لابن كثير 10/329.
(3) –انظر (طبقات الشافعية ) للسبكي 2/29
(4) – (الفهرست ) لابن النديم .ص261
(5) –(التعرف لمذهب أهل التصوف ) الكلاباذي ص12
(6) – انظر موقف أبي زرعة الحارث في (ميزان الاعتدال) الذهبي 1/430
(7) – (كشف الخفا ومزيل الإلباس...) للعجلوني1/341 .يجب هنا التنبيه إلى أن كلمة طرق أهل التصوف لايقصد بها الطرق الصوفية بحسب الاصطلاح المشتهر فيما نعد ؛ لأن عهد الشافعي لم يشهد تشكلات وظهورات لتلك الطرق ؛ لذلك نحمل الكلمة على معناها اللغوي لا الاصطلاحي .
(8) – (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) أحمد بن عجيبة .دار الإيمان . دمشق. ط1/5.
(9) – (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب )1/10
(10) - انظر(فضل علم السلف على الخلف ) ابن رجب الحنبلي .تحقيق:محمد عبد الحكيم القاضي .دار الحديث . القاهرة ص45.ونحو هذا المعنى عند السهروردي في (عوارف المعارف)ص52
(11) –(12)- انظر(فضل علم السلف على الخلف ) ابن رجب الحنبلي . ص45
13- فتاوى ابن تيمية . مطبعة فضالة . المغرب. 10/516.
14– نفسه ص43. انظر في أمر الفقهاء ، وبخاصة العرب ، من الفلسفة كتاب (مناقشات وردود )محمد فريد وجدي . الدار المصرية اللبنانية. القاهرة .ط( 1) 1995
15– نفسه ص44.
16–(قواعد التصوف) أحمد زروق. القاعدة الرابعة . وينظر إيقاظ الهمم ... لابن عجيبة 1/5
17–( طبقات الأمم ) صاعد الأندلسي ص285
18– انظر تفصيل نقد هذا الكتاب فيما كتبه ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت). وكذا نقد ابن طفيل للغزالي. من ذلك قوله إن الغزالي ((يربط في موضع ويحل في آخر ، ويكفّر بأشياء ثم ينتحلها)) انظر كتاب ( حي ابن يقظان ) لابن طفيل – مشفوع بدراسة وتقديم لفاروق سعد –دار الآفاق الجديدة .ص113.
19– سيرة ابن رشد. للأنصاري. مخطوط ملحق بكتاب ابن رشد والرشدية – آرنست رينان. ترجمة عادل زعيتر. ص443. ومن نكبات المهتمينن بالفلسفة ما حاق بعبد السلام بن عبد القادر الركن . الذي اتهم بالفلسفة وحرقت كتبه في بغداد ثم حبس حتى سنة589هـ. انظر تفصيل ذلك في كتاب (أخبار الحكماء) . جمال الدين القفطي – مكتبة المثنى . بغداد – ومكتبة الخانجي . مصر . 1903م ص228.
20– شذور الذهب .../ ابن العماد الحنبلي 4/318 .
21– (مناقشات وردود )محمد فريد وجدي ص298. وهو يتبنى القول بأن علماء الإسلام قبل سنةة 250هـ لم يعترضوا على أي علوم نافعة ولم تظهر عليهم الاعتراضات على المنطق والفلسفة إلا بعد القرن الخامس الهجري .ويرى الاعتراض على مباحث المعتزلة لكونها تافهة لا جدوى منها من شأنها تصديع وحدة المسلمين. انظر ص309 وما تلاها. وفي هذا الرأي مناقد لا وقت لبيانها. وقد أورد الغزالي تقسيما لطيفا للناس والطوائف في نظرهم للفلسفة وأتباعها انظر ذلك في كتابه (المنقذ من الضلال ) ص18.
22– انظر تفصيل ذلك في (الفتوحات المكية) لابن عربي 2/40 وما بعدها.
23– للتوسع في هذا الموضوع انظر (جدل العقل والنقل في الفكر الإسلامي )محمد الكتاني . دار الثقافة للنشر والتوزيع. الدار البيضاء .ط1- 1992ص693وما يتلوها.
24– (عوارف المعارف) السهروردي.ملحق بكتب إحياء عوم الدين ط دار المعارف. ص44 . في نقد الإلهام الصوفي انظرما كتبه ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام )ج1. والقاضي عبد الجبارفي كتابه (المغني) 12/343وما بعدها . وكتاب (المعرفةالصوفية ) ناجي حسين جودة . دار عمار – عمان ط1. 1992ص218.
25– انظر (لواقح الأنوار )1/5.
26– (قوت القلوب...)أبوطالب المكي1/74.
27– (الرسالة القشيرية ) للقشيري . تحقيق : عبد الحليم محمود .ومحمد بن الشريف. دار الكتب الحديثة .1/218.
28– انظر مقدمة كتاب (حي بن يقظان ). وهو مشفوع بدراسة مطولة لفاروق سعد . دار الآفاق الجديدة . المغرب ص108.
29– الفتوحات المكية2/130
30– بد العارف . ابن سبعين ص337-338
31– الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل . عبد الكريم الجيلي1/9
32– نفسه 1/11.
33– كتاب (الطواسين) أبو مغيث الحلاج. نشره :سعدي ضناوي مع ديوانه وأخباره . دار صادر.بيروت .ط1. 1998 .ص154-155. طاسين النقطة.
34– نفسه ص160طاسين الأزل والالتباس .
35– انظر تقديمه لرسالة الصوفية والفقراء. لابن تيمية .مكتبة المدني . جدة
36– (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) عبد الرحمان عبد الخالق . الكويت ط4.
1986. ص2.
37- الفتوحات المكية . الباب 54 . نقلا عن (نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها ) عرفان عبد الحميد. ص79.
38- الفتوحات المكية . ط دار صادر .بيروت.2/39
39- (بد العارف ) لابن سبعين .ص111.
40- نفسه ص111-112. ولا يسلم من لسان ابن سبعين في هذا الكتاب كثير من أعلام الفقه والفلسفة والتصوف انظر من أمثلة ذلك ص142.ص152.
41- نفسه ص151.
42- (كشف المحجوب) الهجويري . تحقيق: إسعاد عبد الهادي . دار النهضة العربية . بيروت 1980. 1/295
43- انظر (جواهر القرآن ودرره) أبو حامد الغزالي. تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي.ص43.



#خالد_إبراهيم_المحجوبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجاز عند الزركشي
- تأصيل حق الأمان في منظومة حقوق الإنسان
- (إشكالية الوضع التاريخي والتأريخي للدولة الفاطمية)
- الإعلام والتنمية : نظرة في الترابطية والتفاعلية
- إشكالية الانتماء عند سكان المغرب العربي: نظرة في المرجعية ال ...
- السيميائيات ، بين غياب الريادة وإشكالية التصنيف
- الإبداع بين قيد التوظيف، وفضاء التحرر
- الفكر الجماهيري :نظرة نقدية
- العوائق التنموية في القارة الأفريقية : تشخيص وعلاج
- شعوبية أم عروبية: دراسة في ظاهرة العصبية السلالية
- الأمن المغاربي بين الإسلام السياسي والإسلام العسكري
- الخطاب الصوفي بين الفتنة والاغتراب
- بلاغة اللغة ولغة البلاغة
- العولمة وإشكاليةالخصوصية الثقافية للأقليات
- جدلية المثقف والسلطة بين االإقصاء والإخصاء
- آلية التأويل في منهج الصادق النيهوم
- بعيدا عن الحضارة الورقية
- الجمال : بين خلل المعايير ، وخفاء التجليات
- جدلية الفلسفة والدين
- ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد إبراهيم المحجوبي - خصومة الفقه والتصوف