أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال بنورة - الزيارة















المزيد.....

الزيارة


جمال بنورة

الحوار المتمدن-العدد: 2934 - 2010 / 3 / 4 - 18:48
المحور: الادب والفن
    


ِالزيارة- قصة بقلم:جمال بنورة


تلفتتْ يميناً وشمالاً، ثم قطعت الشارع مسرعة، وهي تُمسك بيد ولدها.وقفتْ " بباب الزقاق" عند مفترق طريق الخليل تنتظر!. السيارات تمر بها دون ان تتوقف، والباصات ملأى لا تتسع لمزيد من الركاب. طال وقوفها. الأعين النهمة ترمقها في تساؤل. بعض الركاب ينتظرون.. يتسابقون الى السيارات عندما تمر.. يحاولون تسلق أحد الباصات أثناء سيره أو عندما يتوقف لينزل بعض الركاب.. ابنها يقف الى جانبها يتمسح بثوبها، ويجذبها اليه كلما قدمت سيارة. نهرته:
- لا تفعل ذلك ثانيةً! سوف لن أحضرك معي في المرة القادمة..
- أسرعي لنلحق لنا مكاناً!
- لا نستطيع ان ندافع مثلهم..لماذا التسرع؟
- اني متشوق لرؤية أبي!
- لا يزال النهار في أوله.
قدمت سيارة (سبع ركاب) خالية من جهة القدس. وقفتْ الى جانبها. سألها السائق وهو يطل برأسه من السيارة:
- الى الخليل؟
-نعم.
وصعدت بسرعة، قبل ان يسبقها أحد. امتلأت السيارة وانطلق السائق وهو يتمتم:
- توكلنا على الله..
اعتدلت في جلستها بالمقعد الخلفي من السيارة ..وابنها الى جانبها، ولكنه لم يكن يهدأ أبداً. وقف ملتصقا بالنافذة يتفرج. وبدأ يثرثر ويعلق على الأشياء التي يمرون بها.. ويقول لأمه:- أنظري..
فتسكته قائلة:- ابق هادئاً.. ماذا سيقول عنك الناس؟
وتسرح ببصرها خارج النافذة المفتوحة تراقب مشاهد الطريق المتلاحقة أمام ناظريها..ونسائم الصباح الندي تصافح وجهها مصافحة رقيقة ناعمة، فتثير في نفسها أحاسيس غامضة، وشوقاً لا يرتوي، وتشرد بخواطرها الى زوجها.. وهي تتأمل بساتين الفاكهة وكروم العنب تترامى على جانبي الطريق.. مناظر تخلب البصر، اعتادت رؤيتها مرة في كل شهر.. تحس بشوق لرؤيتها.. وتحن اليها..كجزء من الحنين الذي تحمله لزوجها..إنها تعد الساعات والدقائق طوال أيام الشهر.. استعداداً للقاء المنتظر.. وتتهيأ له وقلبها يخفق.. تشعر وكأنها مقبلة على موعد غرام.. حياتها تكاد تكون خاوية لولا هذا اللقاء.. إنها تعيش له..وبه.. تحس بالسعادة أكثر كلما اقترب الموعد. عندما أخذوه.. ظنت أن حياتها انتهت..! ولكن لقاءه الشهري يجدد فيها الأمل والحب. لقد أصبح شيئاً صميمياً في حياتها.. تحس له بكل سعادة الحب التي عاشتها معه. لم تعد تشعر أنه بعيد عنها. إنه يعيش معها أنّى ذهبت.. يعيش في خيالها.. تكاد تحسه الى جانبها في كل خطوة تخطوها.. ويملأها ذلك إحساساً بالراحة والعزاء. وتنتبه الى ولدها يسأل:
- هل المسافة طويلة؟
- ليس كثيراً.
وأسرع السائق في سيره وقد خلّف وراءه المناطق المزدحمة.. ولفح وجهها هواء مشبع بالندى.. وأحست بلسعة برد خفيف اقشعرّ لها بدنها. وكان ابنها يقف معظم الوقت، وقد أخرج رأسه من نافذة السيارة متحدياً هبوب الهواء الذي يصفع وجهه بشدة، ومستمتعاً بالمشاهد التي تتراكض أمام بصره.
ولاحظه السائق من مرآة معلقة أمامه. قال محتجاً:
- اجلس يا شاطر! لا تخرج رأسك من الشباك!..
وقالت أمه مؤيدة:- لا تفعل ذلك ثانية!.
- أريد ان أتفرج.
هددت قائلة:- هل ستجلس هادئاً أم لا؟
- أنا لم أفعل شيئاً!.
- سوف أخبر أباك.
قال في استكانة:- لا..!
واستسلم ليد أمه التي أجلسته في مكانه. ولفت ذراعها حوله، وقالت للراكب الجالس أمامها:- هل تسمح بإغلاق الشباك؟
وجلس الولد في هيئة حرد..وفي خوف من ان تخبر أباه عن سلوكه فيزعل منه..وطافت في مخيلتها ذكرى حزينة عندما حاول ابنها ان يتمسك بأبيه ليمنعه من الذهاب معهم، فاعترضوا طريقه، فأخذ يكيل لهم السباب. وعندما فشلت محاولاته صرخ بهم:
- أريد الذهاب مع أبي.. أتركوني أذهب مع أبي..
حاول أحد الجنود مراضاته دون جدوى، قال له مهدئاً:
- سوف يعود اليك بعد قليل..لن نجعله يتأخر عنكم نحن نريده لأمر هام!
ورفض ان ينام حتى يحضر أبوه.. ولكن النعاس غلبه دون أن يدري.. وعندما فتح عينيه في الصباح أول ما سأل عن أبه. قالت أمه:
- إنه لم يعد..
- لماذا ؟
- لا أدري..!
- متى سيعود؟
- لا أعلم..!
وطال انتظاره لأبيه. قال أخيراً في غضب:
- إنه لا يحبنا..!
- لماذا؟
- لماذا يتركنا وحدنا؟
- غصباً عنه..!
- كيف؟؟
- ربما كان هناك أمر هام أخّره..
وعندما طالت غيبته عاد يسأل:
- أين ذهب أبي؟
قالت دون وعي:- سافر.
- الى أين؟؟
- لا أدري!
- لماذا لم يأخذنا معه؟
- لا يستطيع..!
- متى سيعود؟؟
- لم يخبرنا بذلك..
وظل يلح بأسئلته الطفولية المحيرة، حتى عرف أخيراً من اخوته الذين يكبرونه سناً أن أباه في السجن. فمضى الى أمهيسألها بحرقة:
- لماذا وضعوا أبي في السجن؟
واحتارت بماذا تجيب!. فكرت طويلاً ثم قالت:
- لأنه يحب وطنه..!
- أنا أيضاً أحب وطني.. لماذا لا يضعوني في السجن عند أبي؟؟
- أنت صغير..
ونظر الى خاله الذي كان يزورهم، وفي هيئة تفكير قال له:
- أنت لا تحب وطنك!؟
- أنا..؟ ما أدراك؟
- لأنهم لم يضعوك في السجن..!
وظل الولد يصر على رؤية أبيه:
- خذيني عند أبي!.
قالت يائسة:- سآخذك لزيارته.. عندما يسمحون بذلك..
وكانوا حتى ذلك الحين لا يعرفون عنه شيئاً..وتملكها خوف شديد على حياته، تحول بالتدريج الى نوع من الغضب.. لماذا يزجّ بنفسه في هذه الأمور، التي تسبب لهم كل هذا العذاب. وكم لاقت من عنتٍ وهي تسعى لكي تعرف شيئاً عن مصيره، فما وجدت غير أبواب موصدة، ووجوه مصعّرة..وقد يتلطف أحدهم قائلاً:- لماذا تتعبين نفسك..؟ نحن لا نستطيع ان نفيدك بشيء!.
- كيف لا أتعب نفسي؟.. أليس هو زوجي؟..اذا كان أمره لا يعنيكم، فهويعنيني..
فيرد باحتقار وغيظ:
- انه لا يزال في التحقيق.
- ألم ينته هذا التحقيق؟
- ليس بعد..
- اسمحوا لنا برؤيته!
- ممنوع..!
- نريد ان نطمئن.
- بعد ان ينتهي التحقيق..
- ولكن.. متى؟..متى؟..
- لا احد يعرف..!
- أخبرونا اين هو على الأقل؟
وتذهب جهود المحامي سدى.. يخبرونها انه في مكان معين..تذهب فتسأل هناك فيخبرونها انه نقل الى مكان آخر. وبعد ان مضى على اعتقاله أكثر من شهر، وبعد عذاب مرير استطاعت ان تحصل على إذن بالزيارة.
وقفت صامتة تنظر اليه كأنها لا تصدق عينيها.. وطال الصمت، كأنما تفصل بينهما صحراء شاسعة. وجاشت نفسها بمشاعر اللوعة، والفراق، والعذاب الطويل، وهو ينظر اليها صامتاً، ترف على شفتيه ابتسامة، ثم تغيض. أخيراً قال هامساً:- لماذا لا تتحدثين؟
وابتلعت غصة تقف في حلقها، وقالت دون روية:
- ما الذي فعلته بنا؟
ثم أضافت في بكاء:- كنت أخشى الا أجدك حياً.. لقد عذبونا حتى استطعنا ان نصل اليك..
نظر اليها متألماً دون ان يقول شيئاً. أردفت قائلة:
- انك لم تكن تشعرني بشيء؟!
قال في استياء:- هل جئت هذه المسافة الطويلة.. لتقولي لي ذلك؟
- ولكن لماذا لا تريدني ان أعلم؟ ألست امرأتك؟
- لم أشأ ان أسبب لك الخوف والعذاب.. لقد فعلت ما يمليه علي واجبي.
- ونحن.. ألم تفكر في مصيرنا؟
- لقد فكرت دائماً في مصيركم.. وفي مصير جميع الناس، فلم أجد جواباًعلىذلك
غير ما فعلت..
قالت وهي تتأمله:- وهذه كانت النتيجة..!
هزّ رأسه في صمت. قالت كأنما تعزيه:
- أنت أردت ذلك..!
قال مؤكداً:- وما أريده دائماً..
ظلت صامتة لا تعرف بماذا ترد، حتى قال:
- أنت لا تعرفين كم أتعذب لأجلكم..!
- أرجوك..لا تزد في عذابي!.
قال كالمعتذر:- لقد كان ذلك أقوى مني..
قالت في ابتسامة يائسة:- إني أفهم..
بعد فترة صمت أخرى قال متفكراً:- كيف الأولاد؟
قالت وهي تكفكف دموعها:- إنهم يفتقدونك كثيراً..
- ماذا قلت لهم؟
- ماذا تريدني ان أقول لهم؟!
صمت قليلاً، ثم قال:- أريد رؤيتهم..
- سأحضرهم في المرة القادمة..
لا.. ليس زوجها كما تعرفه.. إنه شيء آخر..كأنما تتعرف عليه لأول مرة.. وما هذه الأسرار التي يمتلىء بها صدره؟ إنه يحمل أفكاراً غريبة لم يكن يشعرني بها من قبل..ألأن مثل هذه الأفكار تؤدي بصاحبها الى السجن..؟ ألهذا السبب كان يخفي عني؟ أكان ذلك من حرصه علي أم لعدم ثقته..؟ لقد كان من الممكن أن أفهم لو أنه حاول معي. وشعرت بشيء يجذبها اليه بقوة اكبر مما تتصور..انه يكبر في نظرها.. ويكبر.. وتكاد تحس بالتلاشي أمام نظراته التي تحتوي كيانها كله..كانت مسحة حزن كبيرة تعتور نظراته..انه يتعذب.. إن عذابها لا يقاس بعذابه في محنته.. انها تغفر له من قلبها العذاب الذي سببه لها.
وأحست بحبه يكبر في قلبها مع الأيام. كم تود ان تقول له ذلك في كل مرة تزوره فيها.. ولكنها لا تستطيع ان تنطق بذلك أمامه.. ربما لأن شعورها نحوه أكبر من الحب، وهو يبدو كأنما ينتظر منها ان تفصح عن حقيقة مشاعرها، وهي ترى عينيه يتجسد فيهما الترقب والحيرة والعذاب والشك، كأنما في نظراته شيء يريد ان يقوله لها.. ليته يقوله ليستريح قلبها..! ترى ما معنى هذه النظرات التي يعانق بها جسدها، فتكاد تحس بلمساته عليه؟ كم تتوق الى مصارحته بحقيقة أشجانها ولكنها تخشى ان تزيد في عذابه.. ولكن لا.. لعل ذلك يساعده على الاحتمال.. انها تريده ان يعرف كم من الحب تحمله له في حنايا فؤادها. وتظل مترددة.. وهو ينظر اليها من خلف القضبان.. تود لو تمحو مسحة الشك التي تظلل عينيه.. يجب ان يعلم بما يعتمل في صدرها من لواعج الحب.. ستقول له..الآن.. بلا تأخير.. ويرفع نظره اليها في هيئة تفكير.. وتفتر شفتاه قليلاً..انه يريد ان يقول شيئاً.. نعم تكلم.. سأنتظر قليلاً!.. ويقول في تصميم:
- ربما تطول إقامتي هنا..!
وتظل ساكتة تنتظر، وهي تفكر: " نعم.. ماذا في ذلك؟ أنا أنتظرك رغم كل الظروف.." ثم يضيف:
- وأنا.. لا أريد ان أسبب لكِ مزيداً من العذاب والانتظار.
سألت في خوف:- ماذا تقصد؟
ينظر اليها في تحديق، وفي عينيه إصرار وألم لا يوصف.
- أنا أمنحكِ حريتك.. لا أريد ان أقيدك بشيء..
وتكاد تُصعق:- هل فقدت ثقتك بي؟!
وترفع بصرها اليه في تحديق مخوف.. والعبرات تكاد تخنقها، والألم يعتصر فؤادها.. وترفع يدها كأنما لتغلق فمه على بقية الكلمات.. تعترضها القضبان الحديدية. تقاطعه بعصبية، وبصوت مرتفع:
- لا تقل هذا الكلام!.. أرجوك.. سأنتظرك مئة عام..
ويطول الصمت بينهما..وقد اختلجت عضلات وجهه اختلاجات عنيفة. اختلطت القسوة بالرأفة في عينيه.. وهو يتماسك ليمنع دموعه من ان تنحدر على خديه.. كان يتشرب إحساساً بالسعادة لم يمر به من قبل. قال متسائلاً بلهجة حادة:
- ألا تعتقدين أنني كنت على حق؟
إنها لا تستطيع ان تؤمن بغير ذلك.. قالت بحزن:- بلى..
إنه من الخيانة لحبها ان تقول غبر ذلك. كان شعورها بأنه صادق فيما يقول.. وأنه على حق فيما يفعل.. إنها لا تستطيع أن تقتنع بغير ذلك، برغم ما سببه ذلك لهما من آلام.. إنها ستتحمل كل شيء ما دام هو يتحمل.. كان يكفي ان يتحدث لتؤمن بما يقول..
تُرى ماذا يفكر بها الآن؟ ماذا يقول عنها؟ هل يعرف حقيقة مشاعرها؟ هل يستطيع ان يثق بأنها ما زالت على العهد؟ هل يمكن ان يصدق بأن شعورها نحوه لم يتغير، إنما قوي أكثر من السابق؟.. إنها لم تشعر من قبل بمثل هذه الرابطة القوية التي تجمع بينهما..
وفي زيارة تالية، كانت تريد أن تقول له شيئاً.. وظلت مترددة فترة طويلة حتى أوشك زمن الزيارة على الانتهاء. قال لها وهو يتفرس في وجهها:
- هناك كلام أكاد أقرأه في عينيك.. لماذا لا تقولينه؟
أخفضت صوتها حتى أصبح همساً وهي تقول:
- لقد حضر شخص الى بيتنا.. وقال لي أشياء كثيرة عنك..
تلفت حوله تم سأل بدهشة:- من هو؟
- لا أعرف..!
- ألم يذكر اسمه؟
- لا.. ولكن أنت تعرفه.. إنه أحد أصدقائك الذين كانوا يترددون على البيت أحياناً..
- وبعد..؟
- أعطاني مبلغاً من المال، فرفضت. ولكنه أصرّ على ذلك، وقال إنه دين لك..ثم
أوصاني ألا أتحدث بذلك الى أحد..
- حسناً..!
- ثم سألني: " هل تريدين مساعدة زوجك؟" قلت له: " طبعاً.." قال إن هناك أعمالاً كثيرة أستطيع القيام بها.. ثم دعاني للاشتراك في اعتصام في مركز الصليب الأحمر..
قاطعها قائلاً:- سمعت عن ذلك..
ثم أردف بعد لحظة:- وهل ذهبت؟
قالت بنظرة أسى:- هل تشك في ذلك؟
قال في توكيد:- لا.. لن أشك بعد اليوم..
وأحست بالسعادة لأنه يثق بكلامها.. لن تدّخر وسعاً من أجل مساعدته.. لا.. لم تصبح حياتها بلا معنى..إنها تعيش لأجله.. وتقف الى جانبه..وتشعر به يتغلغل في كيانها.. تشعر بوجوده يندمج في حياتها.. تشعر به في كل حركاتها وسكناتها.. وتشعر به في حضور أولادها الذين أنجبها إياهم.. وتشعر بأهمية وجودها من وجوده هو.. واستشعرت طعماً جديدا للحياة.. إنها لا تعيش للاشيء وانهمكت في أمور كثيرة.. لم تكن تعيرها بالاً.. وشعرت أنها تفعل شيئاً بحياتها.. وأكسبها ذلك قوة وإرادة. كانت تعتقد أن المرأة لا تملكها.. شعرت أخيراً بالرضى عن حياتها.
واقتربت السيارة من مدخل مدينة الخليل.. قال ابنها ببداهة بعد فترة صمت استغرقت معظم الطريق بينما كانت أمه سارحة في أفكارها:
- هل وصلنا؟
قالت وهي تنتزع نفسها من أحلامها:- تقريباً..
صفق يديه الصغيرتين قائلاً في حبور:- سنرى أبي الآن..
ثم أردف متسائلاً:- هل يسمحون لي بالبقاء عنده؟.
قالت محذرة:- إياك ان تفعل شيئاً يجعل أباك يزعل منك!
سأل في سذاجة:- ولكن سنمكث عنده طويلاً؟!
قالت وهي تُربت على كتفه:- بقدر ما يسمحون..!
واسترسلت في خواطرها.. وأخذت تفكر بلقائه.. وقلبها يخفق بشدة كما يحدث معها دائماً.. كمراهقة صغيرة تستعد للقاء حبيبها للمرة الأولى..
إنها تحاول دائماً ان تجعله سعيداً.. وتحمل له في جعبتها أخباراً سارة..
وتتذكر أبناءها وهم يحضرون لأبيهم الهدايا التي يسمحون بإدخالها الى السجن.. وابنها هذا يرتدي أجمل ثيابه استعدادا للقاء أبيه، وقول أخته مداعبة:- يا فرحتك..! سترى أبانا اليوم..
ويقول أخٌ آخر:- أنت صاحب الحظ السعيد اليوم..
وتتذكرهم وهم يتحلقون حولها ويحملونها السلام الى أبيهم، ويتحدثون جميعهم في وقت واحد..فتكاد لا تعرف على من ترد منهم، وهي تبتسم لهم.. وتقول:
- نعم.. سأخبره.. لن أنسى..
وهم يرددون واحداً بعد آخر:
- قولي لأبي إننا نحبه كثيراً.. ونشتاق له..
- قولي له إنني أدرس باجتهاد.. وإن علاماتي جيدة جداً!.
- قولي له إننا نحفظ وصاياه..وإننا سنعمل كما لو كان موجوداً بيننا..
- قولي له..إن أخي الأكبر- عما قريب- سيتخرج من المدرسة، ويشتغل..
- قولي له الاّ يحمل هموماً كثيرة لأجلنا..
- قولي له إننا نطيع أمنا، ونسمع كلامها.
وأجهشت المرأة في بكاء صامت. أردف أحد الأبناء:
- وقولي له أيضاً.. إننا لا نريدك ان تبكي..
- وقولي له إننا سننتظره دائماً..
- وأهم شيء..قولي له..إننا نحب وطننا مثله تماما..
أفاقت من خواطرها، والسيارة تكاد تجاوز الطريق التي ستذهب منها. قالت تستوقف السائق:- انتظر..!
التفت اليها السائق في دهشة، وهو يضغط على فرامل السيارة. قالت في رجاء:
- يا أخي.. إذا سمحت.. أوصلني الى سجن الخليل.. وسأدفع لك الفرق.
ألقى السائق على المرأة نظرة متفحصة من مرآة سيارته.. قال متسائلاً كأنه لم يفهم:- هل قلت.. سجن الخليل؟
- نعم..
عاد ينظر اليها في إشفاق، بعد ان غيّر اتجاه سيارته، ثم بلهجة مترددة قال:
- من لك من الأقارب هناك؟
- زوجي.
ثم سأل عن الاسم والبلد بلهجة فضولية. وبعد فترة صمت قصيرة، قال بلهجة تعاطف، وبشيء من التردد والوجل:
- كم هو محكوم؟
- إنه ليس محكوماً..!
- كيف؟!
- إنهم يجددون توقيفه باستمرار.. بدون محاكمة.. وقد مضى على ذلك أكثر من سنة..
هزّ رأسه ساخراً من الظروف التي توصل الإنسان الى هذه الحالة، ثم قال بلهجة حزن وأسف:
- علينا ان نتحمل..!
وعندما أوصلها، مدّت اليه النقود وهي تسأل:
- كم تريد؟
فكر قليلاً ثم قال:- لا شيء..
نظرت اليه في استغراب، وقد احمرّ وجهها حياء:
- كيف؟!
نظر اليها في إكبار، وقال في تصميم:
- لا أريد نقوداً..
- أجرتك.. هذا حقك..!
- هذا الطلب على حسابي..
- لا يجوز..
قال مسرعاً كأنماينهي الموضوع:
- أرجو ان تبلغي السلام..
قالت متفكرة:- أقول له من؟
- إنسان.. من هذا الشعب..!
سألت في استغراب:- هل تعرفه؟
- أليس جميعنا إخواناً؟
وعادت تلح عليه ان يأخذ الأجرة. وظل مصرا على رفضه، ولم تملك الا ان تشكره وهي تنزل من السيارة، وهو يقول لها كأنما يودعها:
- قولي لهم.. إن قلوبنا معهم.. إنهم ليسوا وحدهم..وإن هناك من يفكر بهم..
نظرت اليه في تفحص، وهي تهز رأسها، وقد بدا عليها التأثر. وأخرجت تصريح الزيارة والهوية من حقيبتها، وناولتهما للحارس، وعيناها ترنوان الى السيارة وهي تبتعد.. وهي تمسك بيد ابنها.. الذي رفع بصره اليها متسائلاً في دهشة:
- هل هو صديق أبي؟
قالت وهي تدخل باحة السجن:
- جميع الناس أصدقاء أبيك..



#جمال_بنورة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاجتياح
- في المستشفى
- موعد مع الموت
- الموت خلف الأبواب - قصة قصيرة
- لقمة العيش - قصة قصيرة
- القبر - قصة قصيرة
- موت الفقراء - قصة قصيرة
- الدرس الأخير - قصة قصيرة


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال بنورة - الزيارة