أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - رؤيا جوهرية نحو سيكولوجية متطورة-الغرض من الأحاسيس















المزيد.....


رؤيا جوهرية نحو سيكولوجية متطورة-الغرض من الأحاسيس


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2932 - 2010 / 3 / 2 - 16:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نحن على دراية بأحاسيسنا وعواطفنا(1) لأننا جميعاً نمارسها ونختبرها. فعندما نتحدّث عن الأحاسيس فمن العادة أن نفكر بالسئّ منها والجيد؛ فالحزن والغضب والخوف والقلق نعتبرها أحاسيس سيئة، بينما نرى الغبطة والرأفة والإطمئنان جيدة، إلا أن هذا الوصف في حقيقة الأمر لا يساعدنا في فهم طبيعة أحاسيسنا ودورها في حياتنا. وعلى ذلك فإن التعرّف على تعريف للأحاسيس لا شك سيساعدنا، وحتى نصل إلى غايتنا هذه دعونا نلقي نظرة على بعض خصائص الأحاسيس ووظائفها.
نقول أولاً بأن الأحاسيس هي تجارب إنسانية واعية، فلا إحساس بدون وعي. فعندما نحس بشيء فذلك لأننا واعون بذلك الإحساس، وإذا كنا في غيبوبة أو تحت تأثير المخدّر العام سنفقد الإحساس لأننا فقدنا الوعي. فحتى تحسّ يلزمك أن تكون واعياً.
وثانياً، فإن تلك الأحاسيس نمارسها جسمانياً وعقلياً؛ فنحن لا ندرك إحساسنا بأسلوب ما فقط، بل ونمارس ذلك الإحساس جسمانياً. فمثلاً عندما نرتعب ندرك بأننا خائفون وفي الوقت نفسه نشعر بتغيير قد حصل في جسمنا؛ فتزداد نبضات القلب سرعةً وقد نبدو شاحبي اللون ونرتجف أحياناً، وقد يضطرنا الأمر إلى الهرب وعندها نمارس العديد من التغييرات الجسمانية والفسيولوجية. وبالإجمال فإن للأحاسيس غرضاً وعملاً للقيام به بشكل كامل. فهناك من الإحساس ما يخبرنا بالألم أو بالوهن، ومنها مَن يُنذِرنا بخطر يهددنا مثل أحاسيس الغضب والخوف والقلق. وهناك أحاسيس أخرى تخبرنا بأمور طيبة وإليها يُعْزَى إحساسنا بالسلامة والغبطة والإطمئنان.
ففي دراستنا للأحاسيس يتضح لنا شيئاً فشيئاً أنها في حقيقة الأمر تجارب إنسانية مركّبة. فالإنفعالات الإنسانية (الأحاسيس) إنما هي مركّبة لأنها تشكّل جسراً يوصِل بين غرائزنا وقوانا الذهنية. فالأحاسيس هي نتيجة التفاعل بين الجسم والعقل، وهي جانب للنفس لا غنى عنه ولها خصائص جسمانية وأخرى فوق الطبيعة وقوانينها "Metaphysical" وتؤثّر على الجسم والعقل معاً.
بعض هذه الأحاسيس في أصلها جسماني والآخر نفساني (سيكولوجي)، وهناك مجموعة ثالثة تجمع بين الإثنين. ومع ذلك فإن ما يجدر ذكره أن الأحاسيس الجسمانية في حياة الإنسان يمكن أن تصبح أحاسيس نفسية (سيكولوجية)، والأحاسيس النفسية يمكن أن تنحصر في الطابع الجسماني فقط. ومع أن هذا التصنيف غير صارم وجامد، إلا أنه يمكنه أن يكون عاملاً مساعداً في فهم جانب هام جداً من وجودنا.
إن أحاسيسنا البدائية مرتبطة بغرائزنا التي تختص بالحفاظ على أنفسنا متفادين الألم ومستمتِعين بالملذات. فلدينا الأحاسيس الخاصة بالجوع والخوف والألم والمتعة لتخلق عندنا الحوافز للبحث عن الطعام وعلاج للألم وتفادي المواجهة والتصدّي وتجنّب مواقع الخطر ثم في إرضاء أنفسنا. كل هذا بالطبع نابع من طبيعتنا التناسلية، فإذا ما انحصرت حياتنا في هذا المستوى من الأداء تحوّل وجودنا إلى وجود حيواني. إذ ليس مهمًّا لدينا أن تكون الحياة على هذه الدرجة من السهولة والراحة، وما يهمنا فيها أنها لا تحقق لنا تطلعاتنا الإنسانية الأساسية وما نصبو إليه فنظل نشعر بعدم الرضا والإشباع، وفي الحالات العادية المزدهرة سنبحث في النهاية عن مستوى أعلى لإشباع تطلعاتنا. ولا شك أن التحوّل من النمط الحيواني لحياتنا إنما يحتاج إل نضوج، والنضوج هنا مؤلم. فلا سبيل أمامنا سوى تحمّل المسؤولية وأن نجعل إرضاء أنفسنا وإشباع رغباتنا في المقام الثاني فنواجه تحدّيات الحياة أمامنا بشجاعة، ونضبط شهواتنا ونعمل على توجيه رغباتنا نحو إتجاهات جديدة.
إنها مهامّ صعبة ولكنها ميدان لممارسة عواطف وأحاسيس إنسانية خاصة وفريدة. فإذا ما واجهَتْ مساعينا في النموّ مشاكلُ وعقباتٌ تنتابنا في العادة مشاعر القلق والخوف والغضب وقد نُصاب بالإحباط والحزن فنشعر بالتعاسة مع أنفسنا والآخرين أو مع الآخرين فقط، وحتى قد نُصاب بالشك والإرتياب ممّن حولنا من الناس على أنهم ضدّنا. ولكن حالما نبدأ في النموّ والتطوّر فإن الأحاسيس السلبية تُستَبدَل في النهاية بأخرى من الطمأنينة واليقين فنغدو خلاّقين متحلّين بالثقة والشجاعة تغمرنا السعادة.
فإذا أردنا لأنفسنا أن نحقق هذا التحوّل علينا أن نقتلع أسباب سخطنا واستيائنا من جذورها. لقد شاعت في السنوات الحديثة فكرة تعلُّم الأساليب المؤدّية إلى التخلص من أحاسيسنا غير المرغوب فيها. فالكثير يحاولون مثلاً أن يتعلموا كيف يتغلّبون على الشّدّة والضيق "Stress"، فالضيق مِثْلُ جميع الأحاسيس له مكوّناته المتعلقة بالجسم، وعملية التغلّب عليه تلك ركّزت على تمارين مثل النشاط الرياضي والإرتجاع البيولوجي "Biofeed-back" والإسترخاء. فهي وسائل تساعدنا في تخلّص الجسم من الإحساس بالضيق، إلا أن تأثير هذه الوسائل مؤقت ما لم تُعالج فيها الأسباب السيكولوجية (النفسية) والروحية. من المهم جداً أن نعرف أولاً مسببات الضيق؛ فقد تكون راجعة إلى خلاف شخصي، أو إلى ما يُنذر بالخطر مثل المرض، أو إلى أزمة روحية مثل علمنا بأن شخصاً ما يعيش حياة لا معنى لها. لذلك فإن التركيز والإسترخاء وحدهما لا يكفيان، كما أن العقاقير المهدّئة "Tranquilizers" لن تستأصل أسباب الضيق جذرياً، ولن تجلب العقاقير المضادّة للإحباط وحدها سعادة دائمة. فهذه الحالات كلها لها أسبابها الجسمانية والنفسية بمثل ما لها من أسباب روحية أيضاً. ففي تعاملنا مع أحاسيسنا علينا أن نتأكّد أن جميع هذه الأسباب قد أُخِذت بعين الإعتبار، إذ في هذه العملية نرتقي درجة أعلى في المعرفة الذاتية التي تشمل النواحي الجسمانية والنفسية والروحية لحياتنا.
وخلاصة القول، فإن الجانب الأهم في تكوين الطبيعة الإنسانية هو جانبها الروحي، وكوجودات إنسانية فإننا نمتلك طاقات المعرفة والمحبة والإرادة وخاصيات أرواحنا التي تميّزنا عن الحيوان. ورغم التشابه بيننا وبين الحيوانات الراقية، فإن العقل البشري هو الوحيد الذي يتميّز بالقدرة على الإستجابة لمطالب النفس الخاصة. هذا التداخل المشترك بين الجسم والنفس هو إحساس الكينونة "Selfhood"، وأساس كونك فرداً مميّزاً. وفي عالم النفس فإن قوى العقل من قبيل الخيال والفكر والإدراك والقوة الحافظة تنسجم كلها مع حواسّنا الجسمانية: السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس، وهنا تلعب الأحاسيس دورها الحاسم في التنسيق والتكامل بين غرائزنا وأفكارنا.
رأينا كيف أن النفس البشرية هي نتاجٌ متفرّدٌ لتداخُل وتفاعل الجسم والروح، إلا أنه بالرغم من هذا المبدأ البديهي، فإن هذا التكامل ليس منظومة مغلقة ومُقدّرة، فهو بكل بساطة يسمح للكائن البشري أن تكون نفساً إنسانية، أما كيف تكون عليه تلك النفس فإنه متروك لإختيارنا وهو خيار عادة ما يكون صعباً.
إن حالة "دون" "Dawn" التي سنشرحها هي مثال جيد لعملية "كيف نكون".
"خلقتك عزيزاً..." بهاءالله
ما هو كائن، وما سيكون:
حالة السيدة "دون" "Dawn
"دون" إمرأة في الثالثة والثلاثين من عمرها تعمل صحفية، ذكية جداً ومتحرّرة في أفكارها. متزوجة من رجل تغْلِب عليه صفة الحذر والإحتراس ويمكن الإعتماد عليه. لها منه طفلان في الخامسة والثامنة من العمر. كانت ناجحة في عملها ومحبوبة من زملائها وأصدقائها، متّزنة نفسياً ولم يسبق لها أن تعرّضت لإضطراب نفسي تطلّب علاجاً.
عندما طلبتْ "دون" تحديد موعد لمقابلتي كان بسبب إصابتها بسرطان الدم - اللوكيميا "Leukemia"، مما جعلها مضطربة وما كان يُشغِل بالها من مواضيع عدة نتيجة عدم تجاوب جسمها مع العلاج. فأول ما كانت راغبة فيه معرفة أفضل السبل لتحضير طفليها ساعة وفاتها الوشيكة، وثانِيه إبداء رغبتها في القيام بأي عمل من شأنه أن يساعد مرضى السرطان الآخرين الذين يعانون الخوف ويفتك بهم المرض وهم بحاجة إلى مساعدة. لقد استطاعت أن تجعل من أصدقائها مجموعة يمدّون لها يد العون في كثير من جوانب تُهِمُّها، إلا أن مساعدةً على هذا القدْر لا يمكن أن تتوفّر لكل واحد، فخلُصت أخيراً إلى أن شيئاً ما يجب عمله في تطوير برنامج من شأنه أن يساعد المرضى أمثالها ويخفّف عنهم. كانت تفكر أيضاً في والدتها، وتُدرك تماماً أن فقدان الإبنة الوحيدة يعدّ أكبر الخسائر المؤلمة، ولأنها كانت الإبنة الوحيدة فقد توقّعت من والدتها ألا تتحمّل وقع هذه الخسارة القاصمة.
من الطبيعي، بالإضافة إلى كل هذا، أن ينشغل فكرها بموضوع موتها رغم ما كانت عليه من شجاعة في مواجهة مرضها. إلا أن مشاعر القلق والخوف المرتقب قد سيطرت عليها إلى جانب غضبها، نتيجة اعتبار موتها أمراً غير عادل في أساسه. كانت تقول: ’إذا كان هناك إله فهو غير عادل ولا رؤوف، وإذا كان غير موجود فإن الأمر برمته وهم وخيال.‘ علمتْ "دون" بمدى اهتمامي في تقديم المساعدة لمن هم ينتظرون الموت. فقررت المجئ لعيادتي في جلسة أو اثنتين ’لترى ما يمكن فعله في مثل هذه الأمور.‘ بقيتُ على اتصال معها مدة تسعة أشهر إلى حين وفاتها، ثم مع أسرتها بعد ذلك مدة سنوات.
لا أريد التطرّق إلى سرد تاريخي لتطوّر هذه الحالة، بل رأيت أن آتي بأبرز الأمور الهامة التي ظهرت أمامي في معالجتي ﻠ"دون"، وكل أمر فيها كانت له جوانبه المتكاملة، كما لاحظتُ أن أموراً كهذه دائماً ما نراها تبرز في كثير من الظروف الأخرى. فالمهم بالأمر هنا أن "دون" لم تكن تعاني من مرض نفساني كغيرها من مرضاي الذين ينتظرون الموت أيضاً، ومع ذلك كانوا طبيعيين، سعداء، ودودين محبّين، ناجحين في حياتهم، وأناساً متفائلين مستبشرين بينما هم يواجهون التحدّي الأكبر - الموت.
إذا أردنا أن نتفهّم الطبيعة البشرية علينا أن نوجّه دراستنا للمخلوقات الإنسانية لا إلى الجرذان والفئران والإوزّ. ذلك لأن دراسة الحيوان تفيدنا في تفهّم وظائف الجسم وليس النفسية البشرية، وحتى نفهم هذه النفسية، من المفضّل أن ندرس الأصحّاء من الناس نفسياً حتى لا تتأثر إستنتاجاتنا بمختلف الإضطرابات العاطفية والعقلية. ومن جهة أخرى، فإن دراسة الطبيعة البشرية تكون أمامنا واضحة وأيسر بكثير عندما نتعرّض لخَيارٍ رهيب في حياتنا، والموت يوفّر لنا مثل تلك الظروف المواتية للدراسة.
في ظروفنا العادية لنا حياتنا الخاصة والعامة. فحياتنا الخاصة زاخرة بالآمال والتطلعات والأفكار والأحاسيس، ومن الطبيعي ألا نبوح بها للغير لأنها بنظرنا هي خاصةٌ وشخصيةٌ وثمينةٌ وليس من الضروري إشراك الآخرين بها. أما إذا تعرّضنا لموقف مؤلم ووجدنا أنفسنا في مواجهة الموت، نغدو أكثر تقبُّلاً وميلاً لمشاركة الآخرين في مستوى أعمق وله دلالته ومعناه، ويحدث هذا خاصةً إذا كنا على اتصال مع شخص آخر لديه الرغبة في محاولة تفهّمنا ولا يخاف الموت. ففي ظروف كهذه لا نجد مانعاً من إشراك الآخرين ببعض أفكارنا الخاصة ومشاعرنا وآمالنا، ونصبح بذلك أكثر اتصالاً ووصالاً وتبصُّراً بمكنونات أنفسنا.
والمرض عادة ما يدفعنا إلى الإتصال بجسمنا ونفسنا معاً، وبه تُمتَحَن قُوانا ومعرفتنا وحبُّنا وإرادتنا، وفيه يتم التأمل والتدقيق في نظرتنا للحياة والموت، ونتساءل عن الهدف من وجودنا ومعناه. فتُقاس هنا قوة النفس في مواجهتها ضعفَ الجسد، وتتحمل قدراتنا مشاعرنا في أقصى مداها. وفي المرض علينا أن نعبّر عن الحبّ وهو في أعماق واقعه المؤلم، وعلينا أن نعترف بجهلنا التام لعلّ بمقدورنا أن نحظى بقبسات من رؤيتنا لأسرار الحياة. علينا بالتدريج أن ننزع أنفسنا من شرنقة إرادتنا لنبدأ في تطوير إرادة جديدة ترتقي بنا فوق وجودنا المؤقت إلى بقائنا الأبدي. فسلسلة أحداث حياة الإنسان إنما هي انعكاس للطبيعة البشرية وتفسيرها، وتكون في غاية حدّتها عندما نكون في موعد مع الموت.
لهذه الأسباب مجتمعة، أعتقد أن دراسة حالات مثل حالة "دون" ستساعدنا كثيراً في محاولة لفهم الطبيعة البشرية. وسأركّز هنا على حاجة "دون" للحصول على المزيد من المعرفة وخاصة معرفة الذات، حتى تعمل على تقوية روابط محبتها وتسخير قواها وإرادتها ثم إيجاد الهدف والمعنى لحياتها.
المعرفة سِمَة الإنسان
قبل ثلاثة أيام من موتها انهمكت "دون" في تصوير شريط فيديو يتحدث عن مرضها ومعاناتها ثم موتها، وأرادت في ذلك أن تقدّم للآخرين ما تعلّمته وأدركته من جوانب الحياة تلك. في ذلك الوقت كانت في غاية الإعياء وأخَذَ الدم ينزف من مفاصلها. كنا نتكلّم معاً عن الغضب والخوف والقلق، أرادت أن تعرف هل هناك أية علاقة تربط بين هذه المشاعر الثلاثة! أخبرتها بأنها مشاعر تحصل وتظهر معاً دائماً، لأنها تعبّر عن تجاوبنا العاطفي لما يواجهنا من تهديد، أكان لحياتنا وهويّتنا أم لقيَمنا ومبادئنا أم لأفكارنا. فعندما نتعرّض للتهديد فإننا نتجاوب تلقائياً بهذه المشاعر الثلاثة، ومن الطبيعي أن يكون أحدهم هو الغالب. في مواجهتنا للتهديد، تبعاً لطبيعته أكان يخص شخصيتنا أم ظروف حياتنا، فإن ردّ فعلنا سيكون إما في الغضب والخوف أو في القلق إذا كان غالباً. وعلى كل حال، فإنّ خَلْفَ الشعور الغالب من تلك المشاعر الثلاثة يختبئ الشعوران الآخران مترصّدين في خلفية إدراكنا ووعينا. إن هذا الوصف لتجاوب الإنسان للتهديدات قد جعل "دون" تهتمّ كثيراً وتقول: ’انتظر، دعني أسجل هذا كله وأريد أن أراجعه لاحقاً.‘ ثم توقّفت عن الكتابة وقالت: ’أليس هذا حُمْقاً! أعلم أنني سأموت بعد أيام، فما الفائدة من تدوين الملاحظات؟‘ إلا أنها دوَّنَتْها على كل حال.
بدأنا بعد ذلك نتحدّث عن الحاجة إلى "المعرفة". وكمخلوقات بشرية فإننا دوماً في بحث عن المعرفة، وحيث إنها قد تكون مؤلمة أحياناً ومسبِّبة لتشويش الفكر، خاصة عندما تكون عن "ذاتنا"، فإننا ننحو بتفكيرنا إلى مواضيع أقلّ شأناً ونبقى منشغلين في توافه الأمور. وسأعرض لهذه المواضيع بشكل أوسع في جزء المعرفة، أما هنا فسأُلخّص محاولات "دون" في تفهّم نفسها.
إن أول ما رغبت "دون" في معرفته: هل بالإمكان أن تشفى أم لا. لم يكن صعباً عليها تقبُّل حقيقة عدم إمكانية شفائها. فقبل الجلسة الأولى معها مرّت في صراعٍ مع هذا الموضوع، واعترفت لي بأنها تجاوزت مرحلة الرفض إلى الإذعان. وقد عنت في ذلك أن معرفتها بعدم إمكانية شفائها من مرضها كانت مؤلمة وغير مقبولة لدرجة أنها في البداية ما كانت لتصدقها. إنّ تنكّرها لحقيقة وضعها لم يأت من حالة نفسية واعية تماماً، فنحن معشر البشر لدينا قدرة كبيرة على التنكُّر للألم، ويمكننا أن نتعايش مع غير المقبول ووسط المخاطر المحتملة. ولأن النفس البشرية في جوهرها توّاقة إلى المعرفة وإلى المزيد من الإطّلاع والإدراك، فلا شك أن جميع محاولاتنا في الرفض والتنكر مآلها الفشل في النهاية.
بعد فترة من الرفض بدأت "دون" تواجه حقيقة وضعها، وغَدَتْ غاضبة وقلقة وخائفة، لم تكن قلقة على وضعها فحسب، بل وعلى طفليها ووالدتها أيضاً. كانت "دون" ترغب في أن تعرف كيف تُقلِّل من الآثار المؤلمة التي سيسببها موتها لأطفالها، وكانت تقول: ’أعلم أن لا حياة بعد هذه الحياة، فكيف أخبر طفليّ بشيء كهذا وأن أساعدهما، وأنّ عليهما أن يعيشا حياة طيبة أخلاقية، وفي نهايتها لن يكونا شيئاً يُذكر!‘ لقد عانت صراعاً حقيقياً أمام هذه التساؤلات، وتكلمت مع قساوسة في المستشفى، كما باحت لعدد من أصدقائها بهذه الأفكار، إلا أنها لم تجد تفسيراً مقنعاً لموتها. فما كان لهذه الأزمة الفكرية إلاّ أن تُغرقها في تساؤلات أكثر عمقاً من قبيل: معنى الحياة، وما هي حقيقة طبيعتنا؟. لقد اعتادت القول بأنها ما شعرت أبداً بأن موتها يقترب، بل ’إن جسمها الهزيل يتخذ منحىً مختلفاً.‘
أثناء فترة تسجيلها شريط الفيديو، أحضرت لها الممرضة صينية الطعام. تناولت منه القليل ثم التقطت قطعة جبن مغلّفة وحاولت نزع الغلاف عنها بكل جهد ولكنها فشلت. لم تقبل المساعدة وقالت إنها تستطيع فعل ذلك بالتأكيد، وأخيراً استدارت وقالت لي بشيء من الإحباط واليأس بأن هذا ما كانت تعنيه في السابق عندما قالت بأن لديها الإرادة لنزع الغلاف إلا أن جسدها خانها، وعند ذلك أصبحت تفرّق بين نفسها وجسدها. فالنفس راغبة ولكن الجسد واهن. ونفسها ظلّت تطلب المعرفة وبقيت شغوفة بالكشف الجديد والتخطيط للمستقبل إلا أن جسدها أصبح لا طاقة له في تحمّل هذه الأمور.
لقد لَفَتُّ نظرها إلى أن طريقة التفكير بطبيعتنا لها التأثير الهام في أسلوب حياتنا. فإذا فكّرنا في أنفسنا على أننا مجرد أجسام وأن عقولنا جزء منها، فمن الطبيعي أن نكون عدماً صرفاً بعد الموت، وبصورة أوضح سنتحلّل إلى العناصر المكوّنة لأجسادنا. أما إذا أدركنا أن النفس الناطقة هي حقيقة ذاتنا، وأن أجسادنا ما هي إلا أدوات للتعبير عن هذه النفس في هذه الحياة، عندها يبقى وعيُنا (نفسنا) حقيقة باقية بعد موت الجسد، حتى لو لم نلاحظها من خلال هذا الجسد.
وضعتُ أمام "دون" المثاليْن التالييْن لإيضاح العلاقة بين الجسد والنفس، إذ يمكن تمثيلها بعلاقة التيار الكهربائي بالمصباح. فالطريقة الوحيدة للحصول على الضوء (الحياة) هو أن يكون لديك تيار كهربائي (النفس الناطقة) ماراً إلى المصباح (الجسد)، وبدون هذا الإتصال يبقى التيار والمصباح في وجوديْن منفصليْن، وعندها لا يكون للضوء وجود. والمثال الثاني هو الحاسوب (الكمبيوتر)، وحتى يعمل الحاسوب فإنه بحاجة إلى "Software" أي برنامج عقل إلكتروني (النفس) ثم "Hardware" وهو الجزء الصلب (الجسد)، فإذا ما عمل الإثنان معاً أمكن للحاسوب أن يأتي بعمليات مذهلة (الحياة). وبالمثل، فعندما يتّحد الجسد مع النفس تكون هناك معجزة الحياة.
بعد فترة أقرّت لي "دون" بأنني على حق، إلا أنها تساءلت: ماذا يحدث للوعي "النفس" بعد الموت. فأجبتها لا أحد يعرف ماذا يحدث، ولكن جهلنا بذلك لا يعني عدم حدوث شيء.
مع أن "دون" كانت في صراع لأجل أن تفهم "مَن تكون، وما حقيقة طبيعتها؟" إلا أنها مضت في هذا الصراع بكل مثابرة. كانت تريد أن تعرف وتعرف. فإذا أردنا أن نلخّص سعي "دون" لمعرفة النفس ونضع عناصره في سلّم الأهمية سنرى عليه العناصر التالية:
1. معرفة المزيد عن الحقائق المتعلقة بالمرض ومسبباته.
2. تفهّم الألم بكل أبعاده ثم علاجه.
3. سبر غور مشاعرها وكيفية التعامل معها.
4. استعراض علاقاتها وكيف ستواجه الفراق والخسارة الكبرى.
5. وأخيراً التفكّر مليّاً في أوجه الحياة، الموت، الفناء، الأبديّة حتى تتوضّح لها وتفهمها بشكل أفضل.
فالعنصران الأولان (المرض والألم) خاصّان بالجسد، والثالث والرابع (المشاعر والعلاقات) مرتبطان بالنواحي النفسية والإجتماعية، أما العنصر الأخير (الحياة والموت والفناء والأبدية) فإنه روحاني في طبيعته. وفي فترة مرضها عاشت "دون" جميع هذه العناصر معاً.
قبل وفاتها بيومين صرحت "دون" بأنها الآن مستعدة للرحيل عن الدنيا، ولكن إلى أين؟ هي لا تعرف. فبدأتْ في حوار طويل مفعم بالمحبة مع صديقتها العزيزة التي كانت تعتني بها، وقبل ساعات من موتها قالت بأنها وجدت ما بدّد حيرتها ولن تبوح بالمزيد وارتسمت على شفتيها ابتسامة. من كتاب-( سيكولوجية الروحانيّة-من نفس منقسمة إلى نفس متكاملة- د. حسين ب. دانش.تعريب-د.نبيل مصطفى ، أ. مصطفى صبري-مكتبة مدبولي -القاهرة)

المراجع
1. The terms “emotions” and “feelings” used here are the same as the term “affect” used in psychoanalysis. There is no clear distinction in the psychiatric literature regarding these terms. For a detailed explanation of the psychoanalytic theory of affects, see David Rapaport, “On the Psychoanalytic Theory of Affects,” in The Collected Papers of David Rapaport, ed. Merton M. Gill, 476-512.



وتابعوا معي حالة دون .....



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كتاب أمتع روحي-سيكولوجيّة الروحانيّة-من نفسٍ منقسمة ...
- قراءة في كتاب أمتع روحي-سيكولوجيّة الروحانيّة-من نفسٍ منقسمة ...
- قراءة في كتاب أمتع روحي -المادية كنهج للحياة
- معنى الإسلام
- الحياة الروحانيّة-4/4- -الحياة الروحانيّة والمجتمع البهائي
- الحياة الروحانيّة-3/4- -التجارب والصعاب
- الحياة الروحانية-2/4-الممارسات الروحانيّة والتطوّر الروحاني
- الحياة الروحانية-1/4
- الكفاح من أجل العدالة: تغيير آليات التفاعل البشري
- القمة الألفية للسلام العالمي: منظور بهائي
- القيادة الأخلاقية
- تغيير الثقافة وزيادة الإدراك والوعى العام للقضاء على العنف ض ...
- حرية الاعتقاد
- إن التفرقة العنصرية مرض لا يصيب البشرة بل يصيب العقل البشري
- مبادرات للحوار العالمي الهادف إلى تعزيز ثقافة التسامح والسلا ...
- الدين البهائي وأديان آخرى- عبارات تُجزم بالانتهاء -(4/4)
- نناشد الإنسان في كل مكان من أجل إنسانية هؤلاء
- أين العدل والرحمة
- الدين البهائي وأديان آخرى (3)-الدين الحقيقي
- الدين البهائي وأديان آخرى-(2)


المزيد.....




- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...
- الأحزاب الدينية تهدد بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو بسبب قانون ...
- 45 ألف فلسطيني يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى ...
- استعدادا لذبحها أمام الأقصى.. ما هي قصة ظهور البقرة الحمراء ...
- -ارجعوا إلى المسيحية-! بعد تراكم الغرامات.. ترامب يدعو أنصار ...
- 45 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
- الأتراك يشدون الرحال إلى المسجد الأقصى في رمضان
- الشريعة والحياة في رمضان- مفهوم الأمة.. عناصر القوة وأدوات ا ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - رؤيا جوهرية نحو سيكولوجية متطورة-الغرض من الأحاسيس