أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - البورجوازية الوضيعة وليس الصغيرة ..















المزيد.....


البورجوازية الوضيعة وليس الصغيرة ..


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 2932 - 2010 / 3 / 2 - 11:36
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


البورجوازية الوضيعة وليس الصغيرة ..
كنت قد كتبت في الحوار المتمدن العدد 2649 حول " ضعة البورجوازية الوضيعة " وليس لدي الكثير مما أضيفه هنا؛ لكن ما يلفت الانتباه حقاً هو أنني كتبت الكثير حول كثير من المواضيع الخلافية في الماركسية دون اعتراض يذكر سواء من الشيوعيين السابقين أو من أعداء الشيوعية التقليديين باستثناء موضوعة واحدة ما كانت لتكون موضع خلاف لدى غير العرب وهي الترجمة العربية لكلمة (Petite) الفرنسية أو كلمة (Petty) الإنجليزية إلى كلمة " الوضيعة " العربية وليس " الصغيرة ". وكنت قد ذكرت في مقالتي السابقة كيف أن الحضور في ندوة تعنى بشؤون الفلسفة كما ذكرت بطاقات الدعوة ــ ولم تعنَ بها حقاً من قريب أو بعيد ــ صاحوا بوجهي غضباً وبعضهم شتمني لأنني ذكرت أن المثقفين بسائر نحلهم ينتمون لطبقة البورجوازية الوضيعة؛ وكان احتجاجهم على وصف الوضيعة ولو قلت الصغيرة لما كان هناك أي إشكال. عبثاً شرحت لهم أن كارل ماركس استخدم هذه الكلمة الفرنسية بمعنى الوضيعة وهو المعنى الدقيق للكلمة وليس الصغيرة كما يصرون بإلحاح مشبوه.

أنا أفهم تماماً لماذا ما زال المثقفون يصرخون عالياً احتجاجاً على قولي " وضيعة " وليس " صغيرة "، وهم يفهمون أيضاً لماذا أصر على هذا القول، ولولا أنهم يفهمون لما احتجوا بكل هذا الصراخ. ولكي أشرح لقرائي سبب إصراري على القول " البورجوازية الوضيعة " وليس " البورجوازية الصغيرة "، ناهيك عن أنه الترجمة الصحيحة لما ورد على لسان كارل ماركس من وصف لهذه الطبقة العريضة في المجتمعات غير الرأسمالية المتطورة، وبالإضافة إلى ما ورد في مقالتي المشار إليها، فلا بدّ من الأخذ في الإعتبار التالي : -

[1] يسود الإعتقاد لدى العامة أن البورجوازي هو من ينفق على ذاته أكثر مما اعتاده الناس، وبالتالي فإن البورجوازي الكبير هو من يمتلك المال الكثير للإنفاق، والبورجوازي الصغير هو من لا يملك المال الكثير. مثل هذا الإعتقاد الساذج يعتمر عقول العامة لكنه لا يمت إلى علم الإقتصاد بصله. فالبورجوازية نشأت تاريخياً للدلالة على نمط الإنتاج وليس نمط الإنفاق كما هو الإعتقاد الشعبي. فالبورج (Bourg) الذي انتسب إليه البورجوازي، هو المدينة المسوّرة التي قامت خارج حدود الإقطاعية ليمارس سكانها، البورجوازيون، الأعمال الصناعية الحرة لإنتاج السلع المختلفة؛ ويلجأ الأقنان إليها للعمل هرباً من عسف الإقطاعيين. كل المدن الأوروبية التي تنتهي أسماؤها بمقطع " بورغ " مثل ستراسبورغ الفرنسية وهامبورغ الألمانية وبطرسبورغ الروسية قامت لهذه الأسباب، وهي ولادة نمط جديد من الإنتاج ــ إلى هنا يمكن وصف تلك البورجوازية بالبورجوازية الصغيرة نظراً لصغر إنتاجها وقد اعتمد على الأعمال اليدوية المهنية (Handicrafts)، لكن أحداً لم يصفها بالصغيرة آنذاك وذلك لأنه لم يكن هناك بورجوازية أكبر منها تنتج إنتاجاً أكبر من إنتاجها . سكان تلك المدن وهم الأقنان الهاربون من عسف الأقطاعيين أخذوا ينتجون لذاتهم بدل أن كانوا ينتجون للإقطاعيين. علم الإقتصاد أخذ مفردة " البورجوازي " للإستدلال على الإنتاج للذات؛ فالبورجوازي هو تحديداً من ينتج لذاته مثل الفلاح الذي يكد طيلة العام لينتج الحبوب وهو يمتلك كل إنتاجه من الحبوب يتصرف به كيف يشاء. وهناك عمال بورجوازيون يعملون بالقطعة كالحلاق والبستاني والكناس فهم يشتغلون لذواتهم، أي أنهم يملكون إنتاجهم (الخدمة) ويعود بدله إليهم بالكامل، وليس كالعامل في النظام الرأسمالي الذي يبيع قوة عمله دون أن يكون له أية علاقة بالإنتاج وهو ما سماه ماركس بالتغريب (Alienation) إذ يغدو الإنتاج غريباً على العامل الذي أنتجه ولا علاقة له به.
استمرهذا النمط من الإنتاج الصغير (Professional Guilds) طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر، أما في القرن الثامن عشر فقد ظهرت الآلة البخارية التي حلّت محل عشرات العمال في الشغل. وبطاقة الفحم الحجري وبالآلة البخارية انطلق النظام الرأسمالي ينمو سريعاً وينتج بالجملة (Mass Production). مع التمدد السريع لنظام الإنتاج البورجوازي الكبير (الرأسمالي) انقشع وتلاشى الإنتاج البورجوازي الصغير نهائياً حتى أمسى أثراً بعد عين؛ وكان وريثه الوحيد هو الإنتاج البورجوازي الكبير أي الإنتاج الرأسمالي ولم يرث منه الإنتاج البورجوازي الوضيع أي ملمح سوى المشاركة بالخصوصية البورجوازية أي الإنتاج للذات.
ليس أدعى للتمييز بين أنماط الإنتاج البورجوازي الثلاثة، الصغير والكبير والوضيع، من أن الإنتاج الرأسمالي البورجوازي الكبير جاء ليطرد الإنتاج البورجوازي الصغير الذي سبقه، وليأتي بالإنتاج البورجوازي الوضيع الذي لحقه؛ طرد الأول ليحل محله دون أن يتصالح مع أي أثر منه، وليأتي بالثالث لكي يخدمه، الخدمة المطلوبة ليس أكثر، غير ما هو الإنتاج القائم اليوم في العالم حيث الإنتاج السلعي هو الذي يخدم الإنتاج الخدمي خلافاً للقاعدة الإقتصادية السليمة.
القول بالبورجوازية الصغيرة عوضاً عن الوضيعة يعني مباشرة أنها الإستثناء من البورجوازية الكبيرة وهو ما يعني مباشرة أن كلتيهما من طبقة واحدة، وما الفرق بينهما سوى فرق كمّي، تماماً مثل المقارنة في كومة حجارة بين الحجر الكبير والحجر الصغير أو في غابة بين الشجرة الكبيرة والشجرة الصغيرة حيث الطرف الأول في كلا المثالين هو من نفس نوع وجنس الطرف الثاني وما الفرق بينهما سوى في الحجم وهو فرق كمّي وليس نوعيّاً. أما في نوع وجنس البورجوازية فالأمر مختلف تماماً فالبورجوازية الوضيعة والتي يُساء تسميتها بِ" الصغيرة " ليست من نوع وجنس البورجوازية الكبيرة حيث هما طبقتان مختلفتان في النوع، متعارضتان ومتناقضتان، تعمل كل منهما ضد الأخرى. البورجوازية الكبيرة الرأسمالية تضغط باستمرار على الطبقة الوسطى، وهي البورجوازية الوضيعة، ولا تسمح لها بالتمدد إلا بمقدار ما تحتاج من خدمات باستثناء الخدمات الأمنية كالجيش الذي تستخدمه في فتح أسواق جديدة لفائض إنتاجها، وكالشرطة التي تستخدمها في قمع وتطويع العمال للعمل في مصانعها وفق شروطها. ولذلك كان في الجيش والشرطة في الولايات المتحدة فيما قبل السبعينيات ملايين المجندين أما الخدمات الصحية والتعليمية فكانت آنذاك محدودة للغاية. البورجوازية الوضيعة، أو الطبقة الوسطى، تنتج الخدمات لتبيعها للرأسماليين فقط قبل أن يحول هؤلاء كلفتها على الطبقة العاملة من خلال تحميلها على إنتاجهم السلعي في السوق. من المعلوم أن إثقال السلعة بمزيد من الخدمات من شأنه أن يعيق سريانها في الدورة الإقتصادية. لذلك يضغط الرأسماليون دائماً من خلال دولتهم على خفض كلفة الخدمات بالإضافة إلى تحديد حجمها إذ لا يشترون إلا الخدمات التي تعمل على تسهيل دورة إنتاجهم. رسملة المجتمع التي يعمل عليها الرأسماليون بطبيعتهم تقتضي فيما تقتضي تحويل البورجوازية الوضيعة، كبقايا الفلاحين، إلى بروليتاريا وهو ما تقاومه بكل ما لديها من قوة.
تُعرف الطبقة الإجتماعية بوسيلة الإنتاج التي تعتمدها لكسب معاشها وليس بحجم الثروة التي تمتلكها كما يسود الإعتقاد، وانتاج الخدمات تتم بوسيلة تختلف تماماً عن تلك التي يتم فيها إنتاج السلع. الرأسماليون والعمال ينتجون السلع أما البورجوازية الوضيعة فتنتج الخدمات بصورة فردية وبدون رأسمال أو أدوات إنتاج تذكر. إذاً نحن أمام طبقتين مختلفتين كامل الإختلاف ولا يجوز لهما أن يحملا نفس الإسم ولو بتفريق كمي يفرق الصغير عن الكبير. لنا أن نقول الرأسمالية الكبيرة والرأسمالية الصغيرة فلا نخرج عن المنطق والقياس العام، أما أن نقول البورجوازية الكبيرة ونعني بها الرأسماليين والبورجوازية الصغيرة ونعني بها منتجي الخدمات فلا يستوي الأمر ونكون بذلك قد وضعنا مَن نخاطب في دائرة الإبهام وعدم الفهم، وأوحينا له بأننا إنما نتحدث عن ذات الطبقة، فيها الصغار وفيها الكبار وهو ليس صحيحاً على الإطلاق.
لكل ما تقدم يلزم تسمية الأشياء بأسمائها فنقول البورجوازية الكبيرة حين نتكلم عن طبقة الرأسماليين، منتجي السلع، والبورجوازية الوضيعة عندما نعني الطبقة الوسطى، طبقة منتجي الخدمات والتي دورها الرئيسي في المجتمعات الرأسمالية هو تسليك دورة إنتاج الطبقة الرأسمالية وهو دور وضيع بكل الإعتبارات. إنها لا تنتج الحياة أو ما يحفظ الحياة ويعيد إنتاجها (Subsistent) ولذلك هي طبقة وضيعة.

[2] الإحتجاج الصاخب من قبل المثقفين وطلائعي الطبقة الوسطى ضد استخدامنا صفة " الوضيعة " عوضاً عن " الصغيرة "، كما يستوجب اعتقادهم، هو لأن صفة " الوضيعة " تشي بمعنى الحقارة. نحن لا ننفي ما تشي به بل إن الضعة والإنحطاط هما أبرز ما تتسم به طبقة البورجوازية الوضيعة. لسنا وحدنا من يقول ذلك، المعترضون أنفسهم يقولونه أيضاً حين يناسبهم القول! ألا يصف هؤلاء المثقفون وطلائعيو الطبقة الوسطى الجيوش الاستعمارية التي تهاجم الشعوب وتحتل بلادها والشرطة التي تقمع العمال المطالبين بتحسين شروط العمل، ألا يصفونها بالإنحطاط والإجرام والقذارة وبكل معاني الضعة!؟ كافة المجندين في الجيش والشرطة إنما هم جميعاً من طبقة البورجوازية الوضيعة، ينتجون خدمات عدوانية يبيعونها للرأسماليين ــ خدماتهم تنحصر في الإعتداء على الناس المسالمين، فأي وظيفة أوضع وأحط من هذه الوظيفة !؟
البورجوازيات العربية بمختلف شرائحها كانت المتضرر الأول من انهيار الإتحاد السوفياتي، وجميعنا يذكر أنه كلما كانت الإمبريالية تكشر عن أنيابها بوجه عبد الناصر أو حافظ الأسد أو صدام حسين كانوا يتراكضون لطلب النجدة من الإتحاد السوفياتي. ويذكر في هذا السياق الإنذار السوفياتي الرهيب لدول العدوان الثلاثي نوفمبر 1956، والإنذار السوفياتي لقوات بريطانيا وأمريكا في تموز 1958 ، وتحريك السوفييت قواتهم لحماية دمشق من الغزو الإسرائيلي في اكتوبر 1973 وأخيراً إنذار غورباتشوف لبوش قبل وقف إطلاق النار بدقائق في آذار 1991. كانت البورجوازية العربية تحارب الإمبريالية تحت المظلة السوفياتية. فلنبحث وبالنيابة عن البورجوازيات العربية عن تلك الجهة الحقيرة والمنحطة التي عملت على انهيار الإتحاد السوفياتي حامي حمى البورجوازيات العربية. من أهم العقبات في وجه التقدم الإجتماعي اليوم هي أن البورجوازية العربية لم تدرك بعد حجم الكارثة الإجتماعية التي خلفها انهيار الإتحاد السوفياتي، ويشاركها في عدم الإدراك هذا قطاعات عريضة من الشيوعيين في الأحزاب الشيوعية التي لم تتفكك بعد.
طعنة الغدر والخيانة في جسم دولة البروليتاريا الأولى في العالم كانت بيد الخائن خروشتشوف (حتى أنت يا بروتس) حينما خرج عن الأصول والقواعد الحزبية ليهاجم، بتقرير شخصي لم يوافق عليه الحزب، باني الدولة السوفياتية والشيوعي البلشفي الأعظم جوزيف ستالين. المرء ليس بحاجة لأية قرائن للإستدلال على خيانة هذا الرجل الذي تتبرأ منه كل سيماء الرجولة. فهو هو نفسه من دون سائر الرفاق المحيطين بستالين الذي كان لا ينادي ستالين على الدوام إلا " يا أبي " وليس " يا رفيق "، فحتى لو كانت اتهاماته لستالين صحيحة لوفرها على أبيه لو لم يكن خائناً وكاذباً بنفس الوقت، خاصة وأن أحداً في قيادة الحزب لم يشاركه فيها، فتقريره كان شخصياً لم يعرض على المكتب السياسي كما يتوجب ــ لا يجوز تلاوة أية تقارير على الهيئة العامة في المؤتمر العام للحزب سوى تلك التي يصادق عليها المكتب السياسي. ويبدو أن تقرير الشتائم كتب بأقلام العسكر حيث كان ستالين حريصاً على عزل العسكر بعيداً عن القيادة السياسية في الحزب. ولنا أن نشير في هذا السياق إلى شكوك مولوتوف في مذكراته حول اشتراك خروشتشوف مع بيريا في تسميم ستالين وقتله؛ وما يزكي هذه الشكوك هو اعتراف بيريا بالجريمة ثم محاكمته محاكمة سرية خلافاً للقانون بإشراف شخصي من خروشتشوف وقد تم طمس كل دقائق الحاكمة، ثم الإسراع بإعدامه ــ لنا أن نتصور وضاعة بل انحطاط أحدهم يسمم " أباه "، ثم لم يكتفِ فعاد يغتاله معنوياً. الإتهامات التي وجهها خروشتشوف لستالين قمينة بالسخرية وأولها عبادة الذات، التهمة التي يمكن توجيهها إلى جميع زعماء العالم باستثناء ستالين الذي ربط وبحق ما بين التربية الشيوعية وإنكار الذات وهو الذي لم يمتلك شيئاً في الدنيا حال وفاته حتى ولا لباساً مناسباً لدفنه. ثم اتهامه أيضاً بالتسلط الفردي وبالدكتاتورية وهو الذي لم يتخذ إجراء واحداً دون موافقة غالبية المكتب السياسي عليه؛ بل إن آخر إقتراح لستالين عرض على المكتب السياسي وكان متعلقاً بعزل اليهود لم ينل صوتاً واحداً من أحد عشر عضواً في المكتب حتى ولا صوت أقرب المقربين إليه اليهودي كاغانوفتش. نعود نكرر سرد هذه الوقائع ليدرك غيرنا مدى وضاعة وانحطاط البورجوازية الوضيعة وممثلها المثال نيكيتا سيرغيفتش خروشتشوف.

ليس لدينا معلومات تفيد حول مدى اتساع طبقة البورجوازية الوضيعة في المجتمع الإشتراكي السوفياتي وهي تتوزع في ثلاثة شرائح، الأولى من حيث القوة والنفوذ هي القوات المسلحة ومجمع الصناعات العسكرية، والثانية هي شريحة الفلاحين التعاونيين، وأخيراً الثالثة وتتشكل من الموظفين الإداريين في الدولة. العسكر والفلاحون دأبوا على سرقة الدولة جهاراً نهاراً. الفلاحون، وكان قد خصصت لهم أرض يفلحونها تبعاً لتأميم الأرض بموجب مرسوم لينين صبيحة الثورة، دأبوا على سرقة الدوله وعدم إيفائهم بحصة الدولة من محاصيلهم. ظلوا طيلة عمر الدولة السوفيتية يسرقون معظم حصة الدولة الأمر الذي دعا قيادة الحزب في العام 1950 إلى أن تلح على إلغاء طبقة الفلاحين بقرار واحد من القيادة، وهو ما رفضه ستالين كونه يخاطر بمستقبل الدولة، ورأى أن محو طبقة الفلاحين يستغرق بضع سنوات ويتم من خلال إغراق إنتاج الفلاحين بغمر من السلع الاستهلاكية الصناعية. استمرار الفلاحين بسرقة الدولة أرغم الدولة طيلة عمرها فيما بعد الخمسينيات على التوجه للولايات المتحدة وكندا واستراليا لشراء القمح وتأمين خبز العمال السوفييت علماً بأن الإتحاد السوفياتي كان ينتج من الحبوب أكثر من ثلاثة أضعاف ما تنتجه أميركا.

والعسكر كانوا يسرقون الدولة أيضاً، بل هم اللص الأكبر. فبعد رحيل ستالين، الذي كان يتخذ موقفاً حدياً من عسكرة الدولة باعتبارها معارضة للاشتراكية ومعيقة لها، نشأ فراغ في السلطة نظراً لحجم الدور الكبير الذي كان يلعبه ستالين في بناء الحزب والدولة وتطوير الثورة الاشتراكية. لم تستطع أية شخصية في الحزب أن تملأ مثل ذلك الفراغ الكبير فكان أن تقدم العسكر لشغله خاصة وأن قادتهم من المارشالات والجنرالات كانوا من الأسماء اللامعة في المجتمع السوفياتي نظراً لنجاحاتهم الكبرى في المعارك الحربية ضد العدو النازي. لقد بكروا في التدخل فيما لا يعنيهم وفرضوا على الحزب إلغاء الخطة الخماسية التي كان الحزب قد أقرها في مؤتمره العام التاسع عشر في اكتوبر 1952 باعتبار تلك الخطة الموجهة للإنتاج المدني الإستهلاكي لرفع مستوى حياة الشعب توطئة لإلغاء طبقة الفلاحين لم تخصص لهم الأموال الكافية لتطوير الآلة الحربية السوفياتية علماً بأنها كانت تتقدم على الألة الحربية الأميركية بمراحل. رفض جيورجي مالنكوف الذي شغل مركز ستالين طلبهم الوقح فكان أن استأجروا خروشتشوف وعصابته في المكتب السياسي ومنها ميخائيل سوسلوف وأنسطاس ميكويان وأليكسي كوسيغن الذين قاموا بتنحية مالنكوف لحساب خروشتشوف في سبتمبر ايلول 1953 وقبل أن ينقضي نصف عام على ولاية مالنكوف، وأقل من عام على إقرار الخطة الخماسية برعاية ستالين. منذ ذلك الإنقلاب الكارثي الذي ألقى بكل البشرية في هاوية لا قرار لها والعسكر هم القادة الفعليون للإتحاد السوفياتي قبل الانهيار ولروسيا بعد الإنهيار. ومنذ ذلك الانقلاب توقفت التنمية الإشتراكية وبدأ الرجوع عن الإشتراكية. في حزيران 1957 أراد خروشتشوف أن يطبق برنامجاً زراعياً يهدف إلى تعضيد طبقة الفلاحين باسم " إصلاح الأراضي البكر والبور " بعد أن كان الحزب قد اتجه لإلغائها، فكان أن نزع المكتب السياسي عنه الثقة وتوجب عليه أن يتنحى كما كان مالنكوف قد فعل، لكنه عوضاً عن ذلك استعان بالعسكر مرة أخرى وقام بانقلاب على الحزب وانتهى إلى طرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي وعددهم نصف العدد الكلي للمكتب.

كان المؤتمر الحادي والعشرين للحزب سينعقد في العام 1960 إلا أن خروشتشوف استعجل الأمر ودعا إلى عقده استثناءً في العام 59 نظراً لقصور الخطة الخماسية التي وضعتها عصابته في المؤتمر العشرين 56 ولم تحقق أهدافها الموضوعة، وطالب المؤتمر الحادي والعشرين أن يوافق على خطة سباعية خلافاً للعادة وللدورة الاقتصادية وفق التخطيط المركزي. ويبدو أن خروشتشوف أرادها سباعية لأن ما يتبقى من أموال وراء العسكر بالكاد يبني في سبع سنوات ما كان يبنى ويزيد في خمس سنوات. في العام 1964 عاد خروشتشوف ليتحقق من فشل خطته السباعية أيضاً وليكتشف دون مواربة أن سياساته ومنذ أن دخل في حلف غير مقدس مع العسكر منذ رحيل ستالين إنما كانت سياسات منافية للإشتراكية، وأن الاستمرار بها ستودي به شخصياً كما ستودي بالنظام الإشتراكي ككل، كما عبر عن هذا المعنى في مذكراته. حينذاك انقلب على العسكر وطالب بتخفيض الإنفاق العسكري بصورة ملموسة. غير أن العسكر وقد خان عهده معهم وهم الذين أتوا به كانوا أسرع منه فقاموا بالإتفاق مع بديله المتعاون بريجينيف بطرده مذموماً من جميع وظائفه. في مذكراته تذكر خروشتشوف كيف كان أداة بيد العسكر ينفذ مخططاتهم ويضعون في فمه الهرطقات الخيانية ضد المبادئ والسياسات الإشتراكية واعترف أخيراً أن الحزب لم يعد يملك قراره وقد أصبح مجرد واجهة سياسية مدنية للعسكر الذين سيأتون على ما تبقى من المشروع اللينيني الإشتراكي وهو ما قد حصل، بل هم وحتى اليوم وبالرغم من كل المهانة التي جلبوها للشعوب السوفياتية ما زالوا يمسكون بمقاليد السلطة في روسيا ويستولون على الحصة الكبرى من الإنتاج الوطني بحجة إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة التي لا يحتاجها الشعب الروسي في مختلف الظروف.

نعود أخيراً إلى القائد الشيوعي البولشفي الأعظم الرفيق جوزيف ستالين وكيف رأى بعبقريته الفذة أن الخطر الداهم الذي يتهدد المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية والمتجسد بالمعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي، داهماً حتى في العام 1952 بعد قيامه بسحق النازية بجبروت هائل، وانجاز إعادة إعمار ما هدمته الحرب بسرعة مدهشة، خطراً داهماً لا يتمثل بالعدو الخارجي المعروف لدى قوى الشعب المختلفة إنما يكمن في قيادة المشروع، في الحزب وفي المكتب السياسي بصورة خاصة حيث أن أياً من أعضائه لم يتطهر تماماً بعد من روح البورجوازية الوضيعة. كان قلقه واضحاً في جلسات المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 1952 وقد أخذ يتحسب لقرب رحيله، فليس لغير معنى ندد بحب رفيق عمره مولوتوف لزوجته وكانت في السجن للمرة الثانية بسبب ميولها الصهيونية، ثم إصراره على مضاعفة عدد أعضاء المكتب السياسي. ليس غير ستالين من تحسّب لأخطار البورجوازية الوضيعة على أعظم ظاهرة إنسانية في القرن العشرين وهي الحزب الشيوعي البولشفي بقيادته اللينينية الستالينية. ليس غير لينين وستالين من توجس خيفة من وضاعة وانحطاط البورجوازية الوضيعة على مشروع الثورة الإشتراكية في روسيا. نعم، وبالرغم من كل ما يمكن أن يقال، فقد انهار الإتحاد السوفياتي الأعظم بفعل الصراع الطبقي وقد استخدمت طبقة البورجوازية الوضيعة في معركتها ضد البروليتاريا السوفياتية أحط الخداع وأقذر الوسائل. كان العسكر يخدعون البروليتاريا السوفياتية لتفهم أن عليها أن تصطف في طوابير طويلة من أجل الحصول على بعض حبات البطاطا أو قطعة صغيرة من اللحم أو حتى سروالاً رديئاً من أجل إنتاج 44 ألف دبابة و32 ألف صاروخاُ عابراً للقارات و28 ألف رأساً نووياً و 240 قمراٌ صناعياً تدور في الفضاء في حين أن العسكر وقادتهم يعلمون تماماُ أن ليس هناك من عدو حقيقي يتهدد أمن البلاد على الحدود. لو كان هدفهم تحصين البلاد ضد كل عدوان خارجي لاكتفوا بإنتاج ربع هذه الكميات من السلاح. كان هدفهم إلغاء الثورة الإشتراكية من التاريخ وقد نجحوا للأسف الشديد. بعد كل هذا يطالبنا المثقفون ألاّ نشير إلى وضاعة البورجوازية الوضيعة !!!

فؤاد النمري



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو فهم أوضح للماركسية (3)
- نحو فهم أوضح للماركسية (2)
- نحو فهم أوضح للماركسية
- رسالة إلى أحد الديموقراطيين الليبراليين
- الليبرالية ليست إلاّ من مخلّفات التاريخ
- حقائق أولية في العلوم السياسية
- شيوعيون بلا شيوعية !!
- كيف نتضامن مع الشعوب السوفياتية لاسترداد فردوسها المفقود
- إنسداد دورة الإنتاج الرأسمالي وانهيار الرأسمالية
- الإنحراف المتمادي لبقايا الأحزاب الشيوعية
- محاكمات غير ماركسية لمحاكمة ماركسية
- محاكمة ماركسية
- - الأصولية - الماركسية في وجه محمد علي مقلد
- العيد الثامن للحوار المتمدن
- آثام جسام وتشوهات خَلْقية ورثتها البشرية عن أعداء الشيوعية
- ما هي الشيوعية، ولماذا الشيوعية؟
- الماركسية تأسست على الحقيقة المطلقة
- الطبقة الوسطى كما البروليتاريا، كلتاهما تنفيان الرأسمالية
- ماذا عن راهنية البيان الشيوعي (المانيفستو) ؟
- فَليُشطب نهائياً مراجعو الماركسية !


المزيد.....




- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - البورجوازية الوضيعة وليس الصغيرة ..