أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - رافاييل باي - هندوراس تصفي منبوذيها دونما عقاب - حرب على الفقراء















المزيد.....


هندوراس تصفي منبوذيها دونما عقاب - حرب على الفقراء


رافاييل باي

الحوار المتمدن-العدد: 890 - 2004 / 7 / 10 - 04:47
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


في 17 أيار/مايو لقي 103 شباب حتفهم في ظروف مشبوهة في الحريق الذي وقع في سجن سان بدرو سولا. بمعزل عن هذه المأساة التي تشكل دليلاً على ما يحدث فان هندوراس تخوض حرباً عل المجرمين وخصوصاً في الأوساط الأكثر شباباً والأشد فقراً. وعلى هامش عملية القمع الشرعية تدمي البلاد مئات الإعدامات التي تنفذ من دون محاكمة وتطال الأولاد والمراهقين، ففي السنوات الخمس الأخيرة أحصيت 2125 عملية اغتيال لفتيان تراوح أعمارهم ما بين 3 و23 عاماً.

"إنهم يقتلون "الماريروس". هم يخرجون ليلاً لاغتيالهم. إنهم يجندلونهم في حقول قصب السكر وأحياناً يشنقونهم أو يقتلونهم بالرصاص. ربما سيصفونني كما فعلوا معهم". هكذا تعمد العميلة البوليسية الشابة آنا بيسي راميرز، في إحدى آخر رسائلها المكتوبة في العام 2003 قبل أن تقتل على أيدي مجهولين، إلى اتهام زملائها في الشرطة بأنهم "قتلة" و"فاسدون"، فهم الذين يقومون بالعمل في أوساط الشباب الجانحين من العصابات المحلية.

لقد مضى ست سنوات على اغتيال أوسكار ميدينا (15 عاماً) وجوزيه هرنانديز (14 عاماً). فبينما كانا يصلحان دراجة هوائية في الساحة العامة "البروغريسو"، هددهم خمسة مسلحين وأجبروهم على الركوب في سيارة زرقاء. وقد وجدت جثتاهما مشوهتين في اليوم التالي. رسمياً لم يتوصل التحقيق إلى أي شيء. لكن لم يبدُ أن شهادات الجيران مهمة جداً، ففي الصباح نفسه تم استجواب كل من في الجوار على أيدي محققين من الإدارة العامة للتحقيقات الإجرامية (DGIC) وصلوا في سيارة مشابهة، حول عملية سرقة ارتكبها هذان الفتيان. حتى أن بعض الشهود تعرفوا إلى أحد أعضاء إدارة التحقيقات هذه على أنه كان بين المسلحين الذين خطفوا المراهقين.

وقد تعمدت إدارة التحقيقات هذه، وهي المسؤولة عن التحقيقات، أن تستمع إلى بعض الشهود الذي امتلكوا الجرأة على الكلام. أما عائلات الضحايا، فقد لاذت في المرحلة الأولى بالصمت بعد أن تعرضت للتهديد. إلا أن جوزيه، الشقيق البكر لأوسكار فقد قرر في العام 2002 أن يكسر الصمت ويفضح القضية أمام منظمة "كازا أليانزا" غير الحكومية.

وقد أوضح لنا مدير هذه الوكالة السيد جوزيه كانويل كابلان: "لقد حظيت منظمة كازا أليانزا بالدعاية بعد أن منحنا جائزة دولية لحماية الطفولة. وقد قصدنا جوزيه ليكلمنا عن اغتيال أخيه... وبعدها رفعنا القضية أمام المحكمة الأميركية المشتركة لحقوق الإنسان". وإزاء "فظاظة" التحقيق وتباطؤ القضاء المشبوه، بدا لنا في الواقع أن السلطات الدولية هي الملاذ الأخير، وسوف يقر الحل مع ست قضايا أخرى ذاك أن اغتيال اوسكار وجوزيه، رغم ما يحمله من رمزية، لا يمكن اعتباره قضية معزولة بحد ذاتها.

حالات من التعذيب والإعدامات الفورية ومن دون محاكمة... إن منظمة كازا اليانزا، وهي تستقي معلوماتها من الصحافة أو من سائر المنظمات غير الحكومية أو مباشرة لدى عائلات الضحايا، قد أحصت للفترة الممتدة ما بين العامين 1998 و2003، حدوث 2125 عملية اغتيال لشباب تراوح أعمارهم ما بين 3 و23 عاماً، نصفهم أعمارهم ما دون الثامنة عشرة وغالبيتهم العظمى من الذكور. وهي الأرقام نفسها إلى حد الصادرة عن النيابة العامة. وفي بعض الأشهر يقتل يومياً اثنان من الأولاد أو الشباب البالغين في هذه الدولة الأميركية الوسطى الصغيرة البالغ عدد سكانها 6.6 ملايين نسمة[1].

أما الرأي العام المشمئز أو المضلل، فانه يعزو أعمال العنف هذه إلى تسوية حسابات بين جماعات "الماريروس"، وهي الرواية الرسمية من السلطات، دونما التفات إلى كون بعض الضحايا خبازين أو بنائين أو طلاب مدارس. وعلى أي حال يبدو أن اللامبالاة قد سيطرت على الأرض منذ أن انتشرت الإحصاءات المرعبة الصادرة عن منظمة كازا اليانزا على الصعيد الوطني والدولي. وفي العام 2001 أجرت الأمم المتحدة تحقيقاً في هندوراس نشرت على أثره تقريراً عنيفاً ذكرت فيه أن قوات الشرطة كانت متورطة عملياً في هذه الاغتيالات[2]. وهذا ما قامت به لجنة حقوق الإنسان في البلاد وفي تشرين الأول/أكتوبر عام 2002، اعترف رئيس الجمهورية ريكاردو مادورو علناً بإعدام 574 ولداً ومراهقاً، وهذا ما دانه السيد كابلان بشدة قائلاً: "إن عشر حالات من هذا النوع في أوروبا كانت كافية لتطيير أي حكومة. لقد نجحنا في جعل الجميع يقرون بحدوث هذه الجرائم، لكن لا يزال هناك إفلات كلي من العقاب".

لكن السيد أوسكار ألفاريز، وزير الداخلية المتشاوف بعد أن أصبح "بطلاً خارقاً" منذ خاض حملته العنيفة ضد الأجرام يدافع عن روايته للأحداث: "إن 90 في المئة من الضحايا هم من الماريروس، أما ما نشهده فهو تصفية حسابات". وهذا التبرير التبسيطي يشعل السيد كابلان. فبحسب "كازا اليانزا"، يمكن ربط 20 في المئة من الحالات فقط بحرب العصابات. فالمنظمات غير الحكومية التي فضحت هذه الاغتيالات تمكنت من "كشف أنماط عملانية، في الكثير من التصفيات، تحمل على الاعتقاد بتورط قوات حفظ النظام والعناصر الأمنية".

وفي الحقيقة فان الإعدامات منظمة أكثر مما تبدو عليه في الواقع. ويشتبه في أن الأسلحة المستعملة هي من عيارات يستخدمها مع غيرها رجال الشرطة والعسكريون. وترتكب الاغتيالات بالرصاص ومباشرة من سيارات تم التعرف إليها في العديد من ساحات الجرائم، كما أن هناك حالات تعذيب تبعتها رصاصة الرحمة في مؤخرة الرأس وحتى أن الأجسام قطعت في يعض الحالات. فهل هذه من ممارسات الـ"بانديريوس"؟ ترى السيدة أسما جاهانجير، كاتبة تقرير الأمم المتحدة حول الموضوع أنه "ليس من أدنى شك في أن هناك عصابات مسلحة في البلاد، لكن لا يمكن التذرع بوجود هذه الجماعات لتبرير الإعدامات من دون محاكمة التي ترتكبها القوات الأمنية من دون أن تلقى أي عقوبة".

وفي خطاباته المختارة المطعمة بكلمات إنكليزية من هنا وهناك، لا يحسن السيد أوسكار ألفاريز إخفاء انزعاجه: "لقد أنشانا وحدة خاصة للتحقيق في أيلول/سبتمبر عام 2002، لكن تنقصنا الوسائل... نحن ندرك أن بعض رجال الشرطة متورطون في بعض الحالات ونحن نجري التحقيقات". هذا ما يؤكده مبرزاً إرادويته السياسية التي كانت سبب نجاحه. "وقد تحدث بعض الأشخاص، المرتبطين بالخارج، عن سياسة الدولة وعن عملية تطهير اجتماعية، لكن هذا خاطئ كلياً"، هو يصرح بهذا النقد اللاذع مذكراً أنه رسمياً ينسب واحدا في المئة من هذه الاغتيالات إلى قوات حفظ النظام. غير أن السيد الفاريز، حفيد قائد القوات المسلحة السابق الذي سيطر على البلاد في ثمانينات القرن الماضي[3] قد يكون راغباً بذلك في أن يخفي حقيقة أخرى أكثر مأسوية.

فالدائرة العامة للتحقيقات الإجرامية، المكلفة إجراء التحقيقات لتقدمها في ما بعد إلى النيابة العامة خاضعة لـ... وزير الداخلية. وتلك نعمة مؤسساتية لـ"المنحرفين" الذين نادراً ما يتهمهم زملاؤهم المقربون. وإذا ما قررت بعض القطاعات، المرتبطة بشكل ما بالشرطة أو بالجيش، أن تتخلص من بعض العناصر غير المرغوب فيها فإنها تلقى بذلك التغطية التامة.

وفي النيابة العامة، المتهمة ظاهرياً من وزير الداخلية بتأخير سير التحقيقات، يعترف المدعي العام السيد روي ميدينا، بأنه لا يزال هناك أمر كبير مجهول: من الذي يقتل، ولماذا؟ "جرى الكلام عن مشاركة الشرطة، لكن هناك أيضاً مجموعات خاصة. البعض يعتقد أن حل مسألة العنف هو بقتل الجانحين. وقد ظهر نوع من الأمن الخاص... ومن الصعب أن تحدد بكل دقة من يقوم بالأعمال وماذا يفعل...". أما في ما يتعلق بالتأخر في الإجراءات المتعلقة برجال الشرطة المتورطين فانه أمر يبقى غامضاً. فهل الأدلة التي أتت بها دائرة التحقيقات كافية؟ "لو كانت كذلك لكانوا حوكموا جميعاً، ما يعني أنها ليست كافية".

ويطيب للصحافة أن تنقل الشائعات خصوصاً إذا كانت مسلية. ومنها تلك التي تروي ما صرح به إلى صحافي أجنبي السيد رامون كوستوديو، العضو في لجنة حقوق الإنسان والذي يواجه الكثير من الانتقادات: إن بعض أصحاب الأعمال في البلاد يجتمعون في احد مطاعم سان بدرو سولا للتخطيط لاغتيال عناصر الباندييروس المفترضين. ويزعم السيد كوستوديو أن الصحافي قد حرّف في كلامه. إلا أن هذا المدافع العجوز عن حقوق الإنسان، الذي تعرض للتهديدات مرات عديدة من قبل، وخصوصاً في ثمانينات القرن الماضي، يعرف على الأرجح أكثر مما يستطيع أو يريد كشفه. فهو قبل أن يختصر الحديث وقد بدا منزعجاً من الأسئلة المحرجة، انتهى إلى القول: "أن مرتكبي إعدامات الأولاد والمراهقين هم أفرقاء متعددون ومتنوعون: من الباندييروس والشرطة والسيكاريوس[4]. وأنا أستعمل كلمة سيكاريوس بكل وعي ولا أعرف من الذي يرسلهم وهذا ما علينا أن نكتشفه".

وإذا جاز تفسير الإفلات من العقوبة جزئياًَ بعدم توافر الوسائل للدولة[5]، فإن مرد هذا بنوع خاص هو إلى غياب الإرادة السياسية وحتى عدم وجود محاولة واضحة للخوض في مشروع شامل للتطهير الاجتماعي. فماذا يمكن القول مثلاً في التأخير البالغ في التحقيقات التي قد تفضح موظفين كباراً في الشرطة يشتبه في أنهم اغتالوا بعض عناصر الباندييروس، وبعض المسؤولين عن أعمال خطف، وقد اتهموا لاحقاً بأنهم أخفوا بنادق آي.كا.47 (AK-47) كان من الممكن استخدامها لإثبات التهم عليهم؟ فبعد أن ختم عليها بالشمع الأحمر في مركز الشرطة في تيغوسيغالبا، "اختفت" هذه الأسلحة، ثم أتلفت وذلك على الأرجح بمباركة مديرة ومفتشة من الشرطة.

وهناك قضية أخرى لا تصدق، فملف الاتهام في حق ستة رجال شرطة لارتكابهم إعدامات اعتباطية اختفى بفعل فاعل في تشرين الأول/أكتوبر عام 2002... ولا شيء في كل هذا يفاجئ السيدة ماريا لويزا بورياس التي كانت وراء معظم هذه الاتهامات. فهذه المرأة ذات الرتبة الرفيعة في الشرطة والتي تلقى الاحترام نتيجة فعاليتها في مكافحة الجريمة المنظمة باتت اليوم محتقرة من رؤسائها المباشرين. وما جريمتها؟ إنها لم تقم إلا بعملها كرئيسة القضايا الداخلية فاضحة ممارسات إجرامية داخل جهاز الشرطة. وقد أقالها وزيرها المختص في كانون الثاني/يناير عام 203 غير أن السيدة بورياس تواصل الإدلاء بشهاداتها بالرغم من التهديدات الخطيرة الضاغطة على أسرتها.

وقراءة الوثائق المحرجة التي تحتفظ بها يقشعر لها البدن. ومن الشهادات التي تكشفها، شهادة شاب وقع في أحابيل الشرطة واضطر إلى الإفشاء بـ "زملاء" سابقين له متورطين في تهريب السيارات. وقد صفّوا الواحد تلو الأخر. وإذ أصيب بالذعر فضّل هذا الشاهد أن يجرب حظه خارج البلاد بعد أن رفع دعوى أمام القضاء. وتؤكد السيدة بورياس: "على المستوى الوطني هناك حوالى 20 مجموعة تصفية مؤلفة من عناصر شرطة. وقد تابعت النيابة العامة القضية لكن وصولاً إلى نقطة محددة أي إلى حيث تبين بشكل واضح أن في الأمر سياسة دولة".

أما السيدة برتا اوليفا، مديرة لجنة عائلات الموقوفين والمخطوفين في هندوراس(Cofadeh) فإنها تتساءل: "هل يمكن الكلام على احترام الحياة من جانب الدولة؟ إن الدولة تعرف من هم مرتكبو هذه التصفيات لكنها لا تفعل شيئاً ضدهم لأن ذلك يعني العمل ضد مصالحها وضد عملائها الخاصين". كما أنها تذكر بأن وزارة الداخلية لم تتخلص من عناصرها المتورطين في أعمال القمع العسكرية التي وقعت في ثمانينات القرن الماضي: "والممارسات نفسها تستمر داخل جهازي الشرطة والجيش، وهي ممارسات لا تعير أي اهتمام للحق في الحياة". وعلى رأس السلطة الرئيس مادورو هو نفسه يعتبر رمز هذا الانحراف. ففي العام 1997 خطف ابنه ثم قتل واقعاً ضحية مهنة الخطف المربحة والتي كانت رائجة جداً في أميركا اللاتينية. وقد قتل بعض منفذي أعمال الخطف في ظروف غامضة. وقد سرت شائعات حول هوية مدبر هذه الجرائم (إنما من دون أن تقوم على أدنى أدلة بدائية)، روّج لها شهود وموظفون ورجال شرطة...

ويرى الكثير من الهندوراسيين أن "الماريروس" الذين قتلوا لم ينالوا ألا "ما يستحقونه". وعلى الأرجح أن الخطأ ناتج من أعمال العنف الحقيقية والمتنامية التي يتحمل مسؤوليتها "البادياس". لكن أجواء القمع القصوى التي خلقتها الحكومة ليست بعيدة عن هذا. فمنذ تسلمه السلطة في العام 2002 يشدد السيد مادورو على سياسته القائمة على عدم "التسامح أبداً" إزاء العصابات، تلك السياسة التي تبخرها وسائل الإعلام.

وفي إطار إصلاح قانون الجزاء، جاء التعديل على المادة 332 المعدلة، الذي صوّت عليه بشبه إجماع في تموز/يوليو عام 2003، لحمل الجرم لـ"الباندياس" حصراً. وهي تعتبر أي نشاط لـ"الماراس" محظوراً ويكفي أن يكون لدى المشبوه أوشام على جسمه تبين انتماءه للعصابات لكي يوقف ويسجن[6]. وهذه "الفلسفة" تفسح المجال أمام عمليات عنيفة غالباً ما تكون وقائية وتفضي إلى السجن... وقد استنكر بعض رجال القانون هذه المادة التي تتعرض للحريات الفردية كونها تسمح بالسجن بدون أي جريمة محددة. وسرعان ما جرى تعطيل الاتهامات بأن هذا منافٍ للدستور. فقد عمدت وزارة الداخلية إلى إبراز إحصاءات تعتبر أن هذا الإصلاح عملية ناجحة وأن المادة 332 الشهيرة تحظى (بحسب الإحصاءات) بتأييد 92 في المئة من الشعب، رغم أنها لم تحد بشكل ملموس من عمليات الاغتيال التي تطال الشباب مع أن السلطة تشدد على أن هؤلاء الشباب هم المسؤولون عن الجرائم المقصودة[7]!

وما من أحد في هندوراس ينفي الجرائم التي يرتكبها الباندياس، ولا خصوصاً ارنستو باردالس عالم الاجتماع الذي يعمل بنجاح على إعادة دمج عناصر البادياس (JHAJA) في سان بدرو سول. فسبع سنوات من الخبرة حملته على القول بأن الباندياس دخلوا عالم الإجرام بفعل تضافر عوامل ثلاثة: سوق المخدرات والقمع البوليسي وانتشار الأسلحة. "من أجل الحصول على المخدرات يلجأ هؤلاء الشبان إلى العنف، وفي ظاهرة جديدة باتت تجارة المخدرات تستعين بخدمات "الباندياس" من اجل حماية مناطق عملها وتأمين تصريف البضائع أو خدمة الـ"سيكاريوس" ". عند هذا الحد يصبح من الصعب فرز الخيوط التي تؤدي إلى تصفية قسم من الشبيبة، فيمكن أن يعزى ذلك إلى تصفية حسابات بين تجار المخدرات وعناصر الباندياس. لكن عندما يتبين تورط السلطات السياسية والبوليسية والعسكرية في تجارة المخدرات تصبح الصورة العامة أكثر تعقيداً. وفي كل الأحوال ما من أدنى شك في مسؤولية عملاء الدولة المشتركة.

وكثيرة هي شهادات عناصر الباندياس الناشطين أو المعتزلين. فالسيد جوزيه ميدينا، البالغ من العمر 27 عاماً، فر إلى الولايات المتحدة بعد أن انسحب من سالفاتروشا. فهو، بعد أن تعرض لمضايقات الشرطة طلب اللجوء السياسي إلى الجار الشمالي الكبير. وتروي كارلا، إحدى قريباته "أنهم لم يسامحوه لأنه عمل مع الباندياس. فرجال الشرطة يسوحون في الحي، يدفعون الشباب، يوقفونهم ويلكمونهم أو حتى أحياناً، لكي يتسلوا، يطلقون النار بين أرجلهم. والتذمر نفسه يأتي من خوان جوزيه، البالغ من العمر 23 عاماً والذي بات يعمل مع مؤسسة إعادة دمج عناصر الباندياس (JHAJA). فمع الرؤية الواضحة التي اكتسبها بعد سنوات من انسحابه من العصابة يعترف بأن "الأخوة في العصابة لا يدعونك ترتاح عندما تقرر الانسحاب لأن هذا، بحسب قانون "المارا" يعني الموت. لكن تبقى هناك دائماً وسائل للانسحاب. لكن المشكلة هي في أننا إذا كنا نخاف من المارا فإننا نخاف أكثر من رجال الشرطة"...

وفي بلد لم يعد يعرف حدوداً للشعور بعدم الأمان تنتشر الوكالات الأمنية الخاصة في خطوة تكمل تماماً "اللجان الأهلية الأمنية" (لجان سيغوريداد شيودادانا). وهذه اللجان كانت قد ظهرت في العام 1998 بموافقة وزير الداخلية السابق من أجل توفير الأمن في مناطق لم يكن الوجود البوليسي فيها كافياً. وعلى هذا الأساس بات في إمكان الحاكميات أن تنظم أمنها الخاص. وإذ ضبطتها محكمة الجزاء الدولية التي تشكك في أسسها القضائية الغامضة فان "هذه اللجان الأمنية بدت كأن لها دوراً في بعض الحالات [من الإعدامات من دون محاكمة] بالتواطؤ مع الشرطة"[8]. وفي بلد حيث يسهل حمل السلاح يمكن بسهولة تصور الأثر الذي ينتج من المواجهة بين هذه اللجان الأهلية وشباب الباندياس.

وفي الواقع انه ليس لوزارة الداخلية سوى رقابة محدودة على هذه المجموعات حتى السيد ألفاريز نفسه يعترف بأن في وجودها "إشكالية" ما. وسواء أكان المولج بالأمر اللجان العاملة باستقلالية تامة أم الشرطة أم أيضاً الوكالات الخاصة فان أمن المواطنين الهندوراسيين هو بين أيدي أشخاص ينقصهم بشكل فادح الإعداد والأخلاق. فثقافة العنف التي تطبع كامل النسيج الاجتماعي في أميركا الوسطى عادت تبرز بقوة لدى "حراس النظام" الذين هم بأنفسهم ينشرونها. وعن أعمال العنف اليومية التافهة لا يمكن أن تخفي التصفيات التي تتسبب بها، هي بدورها، كتائب الموت المنظمة.

فهل أن هذا وليد الرغبة في الحفاظ على النظام أم وليد الكراهية الشديدة للمجرمين أم أنها أيضاً نتيجة كراهية لجو الفقر الغارق في الجريمة مما يعوق حسن سير البلاد نحو الازدهار الاقتصادي على يد طبقة لها امتيازاتها؟ إن عملية التطهير الاجتماعي تتغذى من دعاية رائجة حول أجواء الإجرام تساعد في التعتيم على بعض المعطيات الخفية: فهناك 77.3 من الهندوراسيين يعيشون في حالة الفقر، و54.4 في المئة غارقون في حالة عوز مطلق[9]. وقد اعترفت الحكومة بأن حالات الانحراف في أوساط الشباب تشكل 5 في المئة من مجمل الجنح المرتكبة في البلاد، وفي العام 1999 لفتت المؤسسة الهندوراسية للأطفال والعائلة(IHNFA) في دراسة لها إلى أن 0.02 من مجمل الجرائم المرتكبة في الهندوراس قد ارتكبت على أيدي قاصرين...

أما السيد خوان ألمنداريز، مدير مركز الوقاية والمعالجة وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب وعائلاتهم، فانه يرى أن هذه التصفيات تدخل ضمن إطار صورة أكثر اتساعاً. وبالنسبة إليه فان هندوراس تجدد علاقاتها بأشرار ثمانينات القرن الماضي. "إنها سياسة جديدة من الأمن الوطني. والآليات هي نفسها، حيث يتم تحديد العدو ويجري خلق جو من الإرهاب ويعزز الوجود العسكري والبوليسي من أجل إبقاء البلاد في حالة من الخضوع المنظم". فهل يمكن اعتبار أن عناصر الباندياس قد خلفت في ذلك جماعات اليسار في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؟ إن الذين يؤيدون هذه الفرضية سراً هم على تزايد. " لقد دخلنا في حرب نفسية فعلية تذكّر بالصراعات الأقل حدة؟؟؟ وكل ذلك على أساس إيديولوجي".

في بلد أرهقه الفقر وأنهكته الإجراءات النيوليبيرالية بدأت تلوح تباشير مقاومة اجتماعية. فما يجري في الاكوادور وبوليفيا وفنزويلا يقلق السلطات وقد شهدت هندوراس بعض المظاهرات العارمة في العام 2003. فهل أن البلاد التي لم تشارك في الحروب بين الجيران في أميركا الوسطى في ثمانينات القرن الماضي يمكن أن تشهد عملية انفجار اجتماعي؟ بالنسبة إلى أصحاب النفوذ من الأفضل الاحتراز ومن أجل ذلك ليس أفضل من تحديد عدو مشترك والعمل بكل الوسائل من أجل القضاء عليه.

إن هذه الهندوراس، التي تتأقلم تماماً مع عمليات اغتيال الآلاف من أولادها ومراهقيها تقدم نفسها باعتزاز على أنها العقل المدبر في أميركا الوسطى لمكافحة الجريمة... وبطبيعة الحال على أنها نموذج للديموقراطية.

* صحافي.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] .الرقم القياسي من الاغتيالات الأليمة تقع بشكل أساسي في العاصمة، تيغوسيغالبا وفي المدينة الثانية والمركز الصناعي سان بدرو سولا.

[2] . راجع: Jahangir Asma, “ Les droits civiles et politiques, en particulier la question des disparitions et exécutions sommaires ”

من تقرير للجنة حقوق الانسان التابعة للمجلس الاقتصادي-الاجتماعي في الأمم المتحدة، جنيف، حزيران/يونيو عام 2002.

[3] . إن الجنرال غوستافو ألفاريز ، الذي كان مرتبطاً بطائفة "مون" وقائد القوات المسلحة الهندوراسية حتى 31 آذار/مارس عام 1984، والذي كان في الواقع رجل البلاد القوي، كان أيضاً القائد السري للكتيبة 316، كتيبة الموت المسؤولة عن اغتيال حوالى 200 هندوراسي كانوا يعارضون أن تستخدم بلادهم كـ "حاملة طائرات" للولايات المتحدة ضد نيكاراغوا الساندينية. وكان يتصرف وفق علاقة وثيقة بالسيد جون نيغروبونتي، الملقب بالـ"والي"، الذي كان سفير أميركا في تيغوسيغالبا ما بين العامين 1981 و1985. وقد منحت إدارة ريغن الجنرال ألفاريز وسام الاستحقاق في العام 1983 وذلك لأنه "شجع إقامة الديموقراطية". اما السيد نيغروبونتي، آخر مندوب في عصرنا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة فقد عين في 19 نيسان/أبريل عام 2004 سفيراً في بغداد على أن لتولى مهامه ابتداءاً من 30 حزيران/يونيو القادم.

[4] . القتلة المأجورين، وفي أميركا الوسطى يكفي أحياناً دفع بضع مئات من اليورو للاستفادة من خدماتهم.

[5] . أن تطور العدالة القضاء يصطدم بالعديد من النواقص في النظام البوليسي والقضائي في دولة تصنف بين الأكثر فقراً في العالم: فهناك فقط 300 محقق على ما يزيد عن 6 ملايين نسمة، ونيابة عامة تجد موازنتها تتقلص أكثر فأكثر...

[6] . يواجه زعماء الماراس عقوبات بالسجن تتراوح مدتها ما بين 9 و12 عاماً.

[7] . تم إحصاء 45 عملية اغتيال فقط خلال شهر كانون الثاني/يناير عام 2004 حيث 43 في المئة من الضحايا هم دون الثامنة عشرة من العمر و57 في المئة ما بين الثامنة عشرة والثالثة والعشرين.

[8] . راجع: “ Cero Tolerancia... a la impunidad. Ejecuciones extrajudiciales de niٌos y jَvenes desde 1998 ”, Amnesty International, Londres, février 2003.

[9] . المرجع: Comisiَn Econَmica para America Latina y el Caribe, Sيntesis - Panorama social de America Latina 2002-2003, Mexico, novembre 2003, pp. 8-9.


www.mondiploar.com

جميع الحقوق محفوظة 2004© , العالم الدبلوماسي و مفهوم



#رافاييل_باي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - رافاييل باي - هندوراس تصفي منبوذيها دونما عقاب - حرب على الفقراء