أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 6 –















المزيد.....

رواية جفاف الحلق – 6 –


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 11:33
المحور: الادب والفن
    


غريب عسقلاني
رواية جفاف الحلق – 6 –

- 6 -

من حارة الجرجاوي، يخرج الموكب في الصباح الباكر، أبي بالقمباز الروزا الأبيض، وجاكيت الشركستين السمني، تتدلى على صدره سلسلة فضية تنتهي بساعة جيب ترقد في جيب صدر القمباز..تتكئ على الحزام المشدود على بطنه النحيل، الحذاء الأسود برقبة عالية، والطربوش أبو زر مثبت على الرأس الصغير، يبدو أكثر طولاً وهيبة بالرغم من "حبته القليلة" وكما تقول أمي "الرجال مخابر مش مناظر.. حبته قليلة وفعله كبير" .
الطربوش لا يغادر صندوقه الكرتوني المبطن إلا قبل السفر، للكي والتنظيف عند "فليب ظريفة" مكوجي الطرابيش.. يبهرني البخار المتصاعد من لباد الطربوش المغسول والمشدود على القالب، يتنفس بخاراً، يتسرب من ثقوب القالب، المقبضان الخشبيان يحركهما المعلم حركة نصف دائرية في اتجاهين معاكسين، يتوقف عن الحركة عندما يلفظ الطربوش زفيره..
ويغدو صقيلاً جافاً ناعماً ( اعتقدت لزمن أن الأبخرة الهاربة من ثقوب القالب هي ماء عرق أبي الذي يختزنه الطربوش ويطرده قالب المعلم فيليب)
في الطريق إلى المحطة تتكسر الشمس على قامة أبي، ينبطح ظله خلفه، أتقافز خفيفاً فوق الظل ، أسابقه حتى موطئ قدميه ، يسبقني أبي، ويسلم ظل رأسه لقدمي الصغيرتين أحجل عليه، أزقزق، وأتعامى عن خالي، الذي يحادث أبي في شؤون التجارة، والإعتمادات والبنوك، يتهامسان فلا يصل حديثهما لأحمد شمعة الذي يمشي أمامهما، حاملاً الشنطة الجلدية الحمراء، ليضمن لأبي مقعده في القطار.. ألتقط حديثاً عن برقية سيرسلها أبي من مصر ،وشفره يلقنها لخالي.. عدد كلمات البرقية المحددة توفيراً للتكلفة، وحصاراً لتفاصيل قد يستفيد منها البعض خاصة وأن عامل استقبال البرقيات غير مأمون الجانب في السوق.
وفي المحطة نذوب بين المسافرين والمودعين، والأمتعة والمناديل والبكاء والأكف الراعشة..
عيون تدلق دموعها..يلوح القطار..يرن جرس المحولجي، ويهبط الصنافور مغلقاً الاسفلت .. يتهادى القطار..يدخل المحطة، ويقفز أحمد شمعة إلى العربة، قبل أن يتوقف، يحتل المقعد المطلوب عند الشباك، لا يغادره إلا ليحتله أبي.يطلق كنترول المحطة صفارته ثلاثاً فيعطس رأس الوابور بخاراً كثيفاً.. ويتحرك بطيئاً باتجاه الجنوب.. تختلط كلمات أبي بهدير العجلات الحديدية على القضبان الثعبانية اللانهائية:
- خليك شاطر ولا تغلّبهم في غيابي
يعود بي أحمد شمعة، لا أستطيع مجاراة خطواته الواسعة، يردفني على كتفه يمضي حتى لا يتأخر عن نوله..
حينما يسافر أبي انقطع عن الدكان، ويغيب صابر أيضاً.. ولم أكن أعرف سبب ذعر صابر من خالي، مع أنني لم أره يوماً يضربه على قفاه مثلنا، ولم يوبخه أمامنا، وهو الغضوب الذي لا يحتمل ذبابة تحط على وجهه أو حتى تقترب من هواء منخريه.. وتعلل جدتي ضيق خلقه إلى كميات البنج التي أخذها في العمليات التي أجريت لعينه في القدس "ويا ريت طلعت على فايدة.." ولم نعرف ما هي العمليات، وعينا خالي العسليتان الواسعتان لا يظهر عليهما آثار هدم أو جروح، ولم ندرك أن عينه اليسرى لا ترى، إلا بعد أن تورمت، وأصبح لا ينام الليل ولا النهار.. فاصطحبه أبي إلى مصر، ورجع بعين زجاجية، يضعها في كوب مملوء بالماء عندما ينام، واعتقدنا أنا وهيجر أنه باع عينه القديمة واشترى العين الجديدة من مصر، وإنها تشرب في الليل لترى في النهار، وإذا توقفت عن الشرب فإنها تذبل وتموت مثل النعنع في حوض الدالية...
يسافر أبي، وتتنفس الدار الصعداء، فهو لا يتدخل في أحد.. ولا يلتفت لحكايات النساء بمن فيهن أمي التي يغلبها عندما تدلق همومها في الليل، يضحك ويهز كتفيه ويرد عليها الكرة:
- الجرح في الكف يا بنت الناس، مين معك في الدار، أهلك أمك وأبوك وأخوك وزوجته، ايش بدي أقول لأخوك، أمك ؟ ولا أختك ؟
تسكت وتهمهم "خلي غلبك في عبك يا غلبانة " يشاكسها:
- المهم الحاجة نفيسة مثقلة عليكي هذي بأقدر عليها ؟!
- يوه يا ابن الناس يا ريتهن مثلهــا..
وفي غياب أبي تؤول قيادة الدار إلى جدي ،ويداوم خالي في الدكان، وجدي الغاطس في جورة النول، يسلم المقاليد إلى جدتي فاطمة التي تتحالف مع أمي.. فتخرج زوجة خالي من ليل أسود إلى نهار أحلك سواداً، تعيرانها بموت أولادها الذكور، وخلفة البنات، وتتحسران على خالي الذي يوقف حياته عليها، وهو القادر على الزواج بدل الواحدة أربعة.. تحزن زوجة خالي ولا ترد..وعند الظهر تلبس ثوبها "الجنة والنار" وتتزين بشال الحرير الشامي، تفرد منديلها وتمضي بالغداء إلى الدكان، وفي بعض الأحيان تصطحبني وهيجر معها.. وعندما نعود عصراً تشدني أمي من أذني، وكذلك تفعل جدتي مع هيجر، ونخضع لاستجواب دقيق، نرد ولا نكذب.
- سألها عن الشغل في الدار وقالت له كويس
- وغــيره؟
- سألهــا إذا فيه مواسير متأخرة على العمال، قالت له كل شيء ماشي تمام والمواسير كثيرة.
- وبعـــديــن؟
- قعدوا يضحكوا واشترى لنا بوظة وبراد من أبو فتحي العيسوي، وأكلناها في المخزن، علشان عيب النسوان يلحسن بوظة قدام الرجال في السوق.
تتلمـــظ أمـــي:
- ناس عليها الشغل وناس تلحس بوظة، وتلحس عقل رجالها في الليل والنهار.
وتنغـــم جدتي على نفــس الوتر:
- ناس بتبرد على حالها وناس بيزيد نارها ..
تتقصع زوجة خالي في الدار، توزع ابتساماتها الساخرة المتشفية، وحينما تميل الشمس نحو الغروب تكون قد امتلكت قرار التفجير
- الواحــدة بتروح اتغدي جوزها، حرام ولاّ كفر؟!
يرجع خالي من السوق يتفقد القاعة، ويعاين مطاوي الأنوال، يقدر ما عليها من قماش، يطمئن على سير العمل من جدي، تكون الدار الفوقا قد هدأت، الحجرات قد نظفت، والبوابير أشعلت لتجهيز العشاء وحمام الصغار.. زوجة خالي تدعك قدمي زوجها بالماء الساخن والملح ، ثم تصب على يديه ماء الوضوء ..
بعــد العشــاء تقدم جدتي الشاي يسألها عن الأحوال:
- الحمد لله كله ماشي بنَفَسك
تتمحــك زوجـــة خالــي
- يوه مصاريــن البطن تتقاتل يا ابن النــاس
جدتي تحســم الأمر بصرامة :
- المصارين الشبعانة تحمد الله وتشكره على ايش تتقاتل....
تستجيب الكنّة للهدنـــة:
- على رأيــك يا عمــتي ما فيش حاجــة تستاهل
يضطجع جدي على غليون البوص، يطير سحابات بيضاء فوق رؤوسنا ،يضحك هازئاً...
- نســوان قليلات عقل ودين ،من يوم امهن حواء ..



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق – 5 –
- رواية جفاف الحلق -4 –
- رواية جفاف الحلق – 3 –
- رواية جفاف الحلق – 2 –
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –
- طقوس امرأة بريئة – 2 –
- طقوس امرأة بريئة – 1 -
- الجمر والحريق
- كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة
- رواية نجمة النواني - 21 - والأخير
- رواية نجمة النواتي 19,20
- نجمة النواتي - 19 -
- رواية نجمة النواتي 17 ,18
- رواية نجمة النواتي 15,16
- رواية نجمة النواتي 13, 14


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 6 –