أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - محاولة لتبسيط العالمانية















المزيد.....


محاولة لتبسيط العالمانية


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 10:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مما لاشك فيه أن مفهوم العالمانية [Secularism] هو من أكثر من المفاهيم غموضاً وتهويماً ضمن عدد من المفاهيم السياسية والفكرية الأخرى؛ لاسيما مع ما يتعرّض له هذا المفهوم من محاربة وتشويه كغيره من المفاهيم التي تم تشويهها بنوايا مُسبّقة الغرض منها تحييد هذه المفاهيم عن العقلية العربية دفاعاً عن المصالح الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو كل المصالح الآنفة مجتمعة. وفي الوقت الذي نشهد فيه نوعاً من الانفتاح على جميع الأصعدة، وتجديد دعاوى تجديد الخطاب الديني؛ لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي سلطت الضوء على الإسلام السياسي ومفهومه بشكل عميق وحذر للغاية، الأمر الذي جعل مجموعة من المفكرين الإسلاميين والدعاة يرغبون في تقديم بعض التنازلات الشكلية في سبيل كسر حدّة الهجوم الذي يتعرض له الاتجاه الإسلامي بشكل عام والسياسي منه بشكل خاص؛ إلا أننا ما نزال نشهد تنامي النهج التكفيري [Atonement Curriculum] وتأصله في العقلية الإسلامية مما يجعل هذا السلاح هو الأمضى حتى بين أوساط الاتجاه المعتدل الذي برز إلى الساحة الفكرية والسياسية كنتيجة حتمية للمواقف والأحداث التي شهدتها المنطقة [وما تزال] منذ السنوات العشر الماضية؛ وتحديداً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وظهور مصطلح الإرهاب والتصاقه بالإسلام والتيارات الإسلامية السياسية على وجه خاص.

يأتي ظهور التيار الإسلامي المعتدل الداعي إلى حوار الأديان ونبذ العنف كنتيجة حتمية لهذه الأحداث ظاهرةً طارئة، بمعنى أنها ليست أصيلة في ميكانيزم التفكير الديني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، الأمر الذي يجعلنا لا نثق به كثيراً لأسباب سوف يتضمنها هذا المقال بشكل تلقائي ومفصّل؛ وربما كان موقف التيارات الإسلامية من العالمانية أكثر الأدلة وضوحاً وتأكيداً على صحة هذا القول. فالنقد الذي تقدمه هذه التيارات للعالمانية قائم في أساسه على فهم خاطئ للعالمانية، وأزعم أن هذا الفهم الخاطئ مقصود بعينه، أو على أقل التقديرات فإن الفهم الصحيح للعالمانية من قبل هذه التيارات يكشف عن سوء نوايا هذه التيارات وزيف ادعائها للاعتدال والانفتاح على الآخر.

قدم كثير من المفكرين العرب وغير العرب إسهامات عديدة في شأن شرح العالمانية وإيضاحها، ولا ننسى على الإطلاق إسهامات كل من جورج طرابيشي ومحمد أركون وبرهان غليون وغيرهم كثيرون في هذا الصدد، ولكن ورغم عشرات [بل مئات المؤلفات] عن العالمانية وأنساقها واشتراطاتها؛ إلا أننا نجد أنها في الذهنية الإسلامية لا تظل المقابل الفعلي للكفر؛ وبالتالي فإن العالمانية في نظرهم تعني بالضرورة مُعاداة الإسلام وأحد الوسائل [الغربية] للتخلّص من الإسلام، ومما لاشك فيه أن نظرية المؤامرة المتجذرة في الفكر الديني الإسلامي ساعدت كثيراً في ترسيخ هذه الصورة المغلوطة عن العالمانية، وأصبح الأمر ملتبساً للغاية حتى باتت العالمانية العدو الأول للإسلام والمسلمين والذي أصبح الجهاد ضده في مقام الواجب المقدّس.

لاشك أن محاولات إيضاح مفهوم العالمانية، ومحاولات إزالة اللبس، وتصحيح الصورة، والنفخ على غبار التشويه لإظهار حقيقة العالمانية تبدو مستحيلة في ظل التحفز الدائم الذي يعتري الذهنية الإسلامية المتمترسة خلف حجاب ثخين جداً من الرفض للآخر، وتسلّط فكرة المؤامرة عليه. فهل بإمكاننا القول بأن المفكرين العرب أخفقوا في نقل مفهوم العالمانية فعلاً؟ أم يُمكننا إرجاء الأمر إلى العقلية الإسلامية ذاتها الرافضة لكل ما هو غربي؟ من الواضح أن الأمر لا يخلو من الاثنين معاً، فمن ناحية فإن اللغة التي استخدمها المفكرون في تناول مفهوم العالمانية كانت لغة مستعلية للغاية، بحيث يصبح معها قبول فكرة العالمانية مستحيلاً لأنها لا تصل بالكامل، ومن شأننا أن نعلم أن العقلية الإسلامية ترفض على الدوام تلك الأفكار المُصاغة بطريقة عقلانية وفكرية جادة وممنهجة، لأنها تشعر حياله بالعجز عن النقد الموضوعي فتلجأ إلى رفضه بالجُملة، يُساعدها في ذلك [بالطبع] الخطاب الديني الإقصائي الذي يلجأ إلى استخدام سلاح التكفير لكل ما من شأنه أن يمس بمصالح الطبقة الدينية سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو على أيّ مستوى آخر.

ويبدو كذلك أن سلاح التفكير أثبت نجاعته في محاربة العديد من المفاهيم وبالتالي إقصائها وتحييد الذهنية الدينية عنها؛ من ناحية فهو سلاح سهل للغاية وبإمكان كل من يُريد استخدامه؛ لاسيما مع وجود نصوص مطاطية قابلة للتأويل والتفسير حسب المصلحة، وحسب مقتضى الحال، ومن ناحية أخرى فهو سلاح يعمل بطريقة مزدوجة فهو يقمع الآخر بقطب، ويستغل العاطفة الدينية بالقطب الآخر، والمواطن المسلم الواقع تحت سلطة رجال الدين يشعر في حقيقته بالضعيف، بحيث يعتبر هؤلاء درع حماية له يقيه من الهرطقة والانفلات من وحدة العقل الجمعي الذي اعتاد عليه. يُصبح الخوف عنصراً آخراً يُضاف إلى العناصر الأساسية التي ساعدت في تشويه مفهوم العالمانية وصورتها في العقلية العربية بشكل عام والإسلامية بشكل أخص، دون أن ننسى أبداً أن طبقة رجال الدين [والمتمثلة في: المؤسسات الدينية والخطاب الديني] هم من أسهموا منذ البداية في تربية العقل الإسلامي على الخوف والاعتمادية.

نحن إذن نتكلم عن عقل غير حُر، عقل محكوم بخطاب ديني شمولي يفترض الصحة المطلقة، ويُقدم الحلول المستديمة في شكل تشريعات ونصوص قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، إضافة إلى اعتماد هذا الخطاب على عنصر الترهيب المقابل للترغيب، وهو كذلك محكوم بهيمنة مؤسسات شديدة القمع والتنكيل. كل هذه العوامل ساعدت كثيراً في بناء حاجز صلد تجاه فهم العالمانية واستيعابها؛ هذا إضافة إلى إشكاليات العقلية العربية أو الشرقية عموماً والتي تعاني من الخور والهزال الفكري حائلةً بذلك دون فهم واستيعاب القضايا الفكرية، وبالتالي إمكانية تناول هذه المفاهيم والتنظير لها وإعادة صياغتها، وكذلك عمليات التوفيق اللازمة لتطبيقها غير بعيد عن المنظومة الثقافية والاجتماعية، وهذه بالتحديد هي إشكالية المفكر العربي الذي يحاول كثيراً تطبيق نظريات وأفكار الغير دون أن يُقدم إسهامات فعلية حول موائمة هذه الأفكار والمفاهيم مع البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها وعناصرها، فالعقلية العربية هي عقلية مستهلكة وليست منتجة في الأساس؛ ومن هنا فإنني أقول إن الأمر لا يخلو من العاملين معاً: فالخطأ يقع مناصفة بين العقلية الدينية الإسلامية وبين المفكرين العرب. سأحاول في هذا المقال أن أتناول مفهوم العالمانية بشيء من التبسيط، متمنياً ألا أقع في ذات الإشكالية التي أعيبها على من أسهموا في تقديم وعرض العالمانية من قبل.

وحتى نتمكن من تناول العالمانية بصورة مبسطة ويسيرة فإنه يتوجب علينا قبلاً أن نتطرق إلى مفهوم الديمقراطية؛ حيث أنه لا عالمانية ممكنة التطبيق بمنأى عن الديمقراطية، ويُخيّل إليّ أن المفهومان متلازمان بصورة تجعل من الاستحالة طرح أحدهما بمنأى عن الآخر، فهما وجهان لعملة واحدة، فما هي الديمقراطية؟ وما هي العالمانية؟ وكيف يرتبطان ببعضهما؟

الفهم المتيسّر عن الديمقراطية أنها [حكم الأغلبية] وفي الحقيقة فإن هذا التعريف هو مختزل إلى حد الاختلال، فحكم الأغلبية ليس هو الديمقراطية على الإطلاق إن لم يلازمه معرفة حقيقية لحقوق الأقلية والاعتراف بها، بحيث لا يُمكننا القول أن الأغلبية في النظام الديمقراطي تمارس دكتاتورية منظمة تجاه الأقليات، بل على العكس تماماً؛ تأتي الديمقراطية لتولي اهتمامها البالغ بشئون الأقليات ومناصرة لقضاياهم ومحافظة على حقوقهم، وأهم هذه الحقوق: حق التنظيم والمعارضة، وحق تقاسم السلطة والثروة. وعن الديمقراطية يقول جورج طرابيشي:

{النظام الديمقراطي قابل للتعريف بأنه شكل الحياة السياسية الذي يعطي أكبر قدر من الحرية لأكبر عدد، مع حمايته وإنتاجه في الوقت نفسه لأكبر تنوع ممكن. وواضح للعيان كم هو ناقص تعريف الديمقراطية بأنها سيادة الغالبية؛ فالديمقراطية من دون أن تتنكر لهذه السيادة إنما هي بالأحرى سياسة الاعتراف بالآخر} [في ثقافة الديمقراطية – سلسلة المفكر العربي، دار الطليعة – بيروت 1998 ص39]

وهنا يقف جورج طرابيشي على المبدأ الثالث الأكثر أهمية في مفهوم الديمقراطية إضافة إلى سيادة الأغلبية وحقوق الأقليات؛ ألا وهو [مفهوم التعدد والتنوّع – Pluralism] فليس بإمكاننا تصوّر نظام ديمقراطي أُحادي يفتقر إلى التنوع الثقافي والسياسي والفكري؛ وإلا فإنه سيكون نظاماً شمولياً وإن قام بتطبيق المفاهيم الإجرائية للديمقراطية، وهنا بالتحديد يظهر الفارق النوعي الكبير بين مفهوم الديمقراطية وبين مفهوم الشورى، فمفهوم الشورى هو في حقيقته تطبيق إجرائي للديمقراطية داخل كيان أُحادي شمولي ذو رؤية ومنهج واحد لا يقبل التعددية، ولم يكن بوسعي أن أتجاوز هذا الأمر إلى مفهوم العالمانية قبل إجلائه، لأن كثيراً من الرافضين للديمقراطية، يرفضونه في الأساس لاعتقادهم أن هذا المفهوم متوفر في النظام الإسلامي ولا حاجة لهم باستيراد مفاهيم غربية دخيلة، فكان لابد لنا من إيضاح الفارق الجوهري الكبير بين المفهومين.

والآن ما هي العالمانية؟ العالمانية ببساطة هو منهج لإدارة الدولة بنظام ديمقراطي تعددي [هل بإمكاني وضع Full Stop؟] بالتأكيد؛ فهذه هي العالمانية ببساطة دون اللجوء إلى منزلقات الدين وإقصاء الدين ورفضه ومحاربته، فهذا كله في الحقيقة من منتجات العقلية الدينية الرافضة للعالمانية، ولكن لماذا ترفض هذه العقليات العالمانية؟

في الحقيقة تبدو الإجابة واضحة للغاية، فمن خلال ما ذكرناه عن التعددية تبرز لنا الإجابة كأنصع ما يكون، فالدين في عمومه هو نظام أو نسق أُحادي لا يقبل التعددية، فكل دين يفترض أنه هو الأصح وأنه يمتلك الحلول السحرية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى البيئية، وبالتالي فإنه تلقائياً يقوم بإقصاء الآخر، وهو ما يتناقض مع مفهوم الديمقراطية القائم في أساسه على التعدد والتنوع. وقد نلاحظ أننا هنا لا نتكلم عن دين بعينه؛ وإنما نتكلم عن كل فكر أُحادي يرفض التعددية، وبالتالي فإن العالمانية لم تأتي في أساسها لمحاربة الدين؛ بل وإنها لا تهتم بهذا الأمر، وسوف نأتي إلى تبيان هذا الأمر لاحقاً، ولكننا هنا نتكلم عن رفض الديمقراطية العالمانية لفكرة الرأي الواحد والفكر الواحد والسُلطة الأُحادية؛ وإلى هذا الحد فإنه بإمكاننا القول: إذا كنتَ عزيزي المتديّن ترى أنك لا تختلف معنا كثيراً في هذه المسألة؛ فعليك إعادة النظر مُجدداً حول مفهومك للعالمانية، فما العالمانية إلا ما ذكرناه، وإذا كنتَ تُصر على ضرورة تفرّد دينك بالحكم والتشريع؛ فاعلم أن العيب كامن فيك وفي طريقة تفكيرك وفي فهمك لمفهوم الدولة والديمقراطية، والعالمانية ستكون ضدك حماية للآخرين من إقصائك لهم، حتى وإن كان هؤلاء الآخرين أصحاب ديانات أخرى.

هل هذه هي العالمانية؟ في الحقيقة تلك هي الخطوط العريضة للعالمانية، فهي ليست ضد الدين وهي ليست ضد دين بعينه، وإنما هي ضد تسلّط الفكر الواحد سواء كان ذلك فكراً دينياً أو وضعياً أو غيره، فهي ضد الإسلام إذا أراد الإسلام الانفراد بالحُكم لنفسه وإقصاء الآخرين، وهي ضد المسيحية إذا أرادت المسيحية الشيء ذاته، وهي ضد القوانين الوضعية إذا اعتبرت مقدسة وفرضت صلاحيتها الأبدية ولم تراعي متغيرات الزمان والمكان والحاجة، وهي ضد حُكم الفرد، فالعالمانية تريد نظاماً يستطيع فيه الجميع [بصرف النظر عن دياناتهم وأفكارهم ومعتقداتهم] أن يناولوا حقوقهم من إدارة الدولة وحقوقهم من ثروتها، بحيث لا يكون فيها الجميع محكومين بشرط واحد لا غير ألا وهو [المواطنة - Citizenship] وبالتأكيد فإن شرط المواطنة يمنح الحقوق كمان يُلزم بواجبات في المقابل، فالجميع داخل الدولة العالمانية مُلزمون بنفس الواجبات بصرف النظر عن معتقداتهم، ومستحقون لنفس الحقوق أيضاً بصرف النظر عن معتقداتهم.

ولكن العالمانية لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تتعداه لتضمن حرية الاعتقاد والتديّن بل وتحميه بموجب القانون، فيحق لكل صاحب ديانة أن يمارس شعائره الدينية كما يحلوا له، دون أن يتدخل أيّ كان في منعه من ممارسة هذا الحق، ويحق له التبشير بمعتقده كيفما يشاء، فالعالمانية تؤمن تماماً بحرية الأديان وحرية التدين وكذلك حرية عدم التدين، ولكنها تشترط في مقابل ذلك ألا تتعارض حريات المتدينين أو غير المتدينين مع حريات الآخرين، ومن البديهي أن نعلم أن مفهوم الحرية نفسه مقيّد بحريات الآخرين، فأي سلوك يتم فيه التعدي على حريات الآخرين يُعتبر خرقاً لقانون الدولة لأنه تعدٍ على الآخر، وهو ما يُجرمه القانون. يصبح السؤال المؤرق هنا [هل بإمكان مجتمع علماني تعددي أن يخلو من المشكلات الطائفية والدينية؟] وهذا السؤال في الحقيقة مطروح لأصحاب الديانات وليس للدولة، ولا للنظام العلماني، فعجز أصحاب الديانات عن التعايش السلمي داخل دولة تكفل لهم حرية العبادة وممارسة الشعائر والدعوة والتبشير هو في الحقيقة شيء يُعاب على أصحاب هذه الديانات وليس على الدولة أو على نظام حكمها، وعندها بإمكاننا أن نتأكد من مقولتنا أن الدين فوقي واستعلائي وإقصائي بطبيعته، والعقلية الدينية تعجز تماماً عن التعايش في مناخ ديمقراطي تعددي، بل وتعتبر ممارسة الآخرين لحرياتهم الدينية تعدياً على حرياته ومقدساته، وهنا يتوجب على هؤلاء مراجعة مفاهيمهم الخاصة عن الحريات من ناحية، ومراجعة مفاهيمهم الخاصة عن الدين من ناحية أخرى؛ فعندما يفهم هؤلاء أن الحرية هي ملك للجميع وأن الدين أمر شخصي يتعلق بعلاقة الإنسان الفرد بما يعتقده فعندئذ بإمكانه أن يتفهم معنى التعايش الديني السلمي، ويُصبح قادراً على التعاطي مع بيئة متعددة الديانات والثقافات؛ وعندئذ فإنه سوف لن يجد نفسه مضطراً إلى مهاجمة العالمانية واتهامها بأنها تحارب الدين.

من السهل على كل صاحب ديانة أن يدعي بأنه متصالح مع فكرة التعددية، ولكن الحقيقة غير ذلك على الإطلاق؛ فرفض العقلية الدينية للعالمانية نابع في حقيقته من خوفه من هذه التعددية، فهو يرى أن تشريعات دينه قد توفر حلول جذرية لكثير من المشكلات، ولكنه ينسى أن بإمكان صاحب كل ديانة أن يدعي الأمر ذاته، وعندها سوف لن نتمكن من الخروج من الدائرة المغلقة التي سوف يُدخلنا إليه نزعة الدين الأُحادية تلك، وبالتالي سوف يظل الأمر محصور في إطار الاعتقاد بأن رفض تطبيق التشريعي الديني المعيّن محاربة وإقصاءً لهذا التشريع؛ في حين أن الأمر هو كما أوضحناه سابقاً هو رفض للفكر الأحادي بشكل عام، وليس رفضاً لديانة بعينها. وعندما نتكلّم عن العالمانية؛ فإننا نتكلّم بالضرورة عن مجتمع متعدد بالضرورة به ديانات مختلفة وطوائف مختلفة وتيارات فكرية مختلفة، وبإمكان الدولة الدينية [الدولة التي تظهر إحصائيات سكانها أن 100% من سكانها يدينون بدين واحد] تطبيق المنهج العلماني كذلك، فالعالمانية نظام ليس ضد الدين، بل هو نظام إدارة الدولة التعددية. وقد يبدو الأمر متناقضاًن ولكن ربما يزول اللبس عندما نعلم أن داخل الدين الواحد توجد هنالك طوائف ومذاهب وتيارات متعددة، ومن الظلم والإجحاف أن تقوم طائفة واحدة بإدارة الدولة وإقصاء بقية الطوائف والمذاهب؛ وإلا سيكون النظام نظاماً شمولياً دكتاتورياً دون شك.

من هنا نعلم أنه بالإمكان تطبيق العالمانية داخل الدولة متعددة الثقافات سواء أكان أهلها يدينون بدين واحد أو بأكثر من ديانة، لأن طبيعة المجتمعات البشرية تمتاز بالتمايز والتباين والتفاوت في الأفكار والآراء والتوجهات حتى مع توحد المعتقدات، ومن هنا كذلك نفهم كيف أن مفهوم العالمانية لا يعني على الإطلاق محاربة الدين كما يُحاول الكثيرون إظهاره عليه، فجوهر العالمانية هو [إدارة الدولة التعددية] وفهمنا من قبل معنى التعددية سواء بديانات مختلفة أو داخل الديانة الواحدة، فالدولة المسلمة يجب أن تكون عالمانية حتى تتمكن التنوعات المذهبية والطائفية داخلها [السنة – الشيعة – الصوفية وغيرها] من الحصول على حقها سواء في الثروة أو في السُلطة، وكذلك الدولة المسيحية يجب أن تمكّن طوائفها الدينية من المشاركة في صنع القرار [كاثوليك – بروتستانت – أرثوذكس وغيرهم] دون أن يتم التطرق عندها إلى أيّ الطوائف يتبع المعتقد الصحيح أو يطبقه بالطريقة الصحيحة، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة على الإطلاق، فهذه نظرة فوقية استعلائية. إذا كنتَ ترى أن ما تعتقد به صحيح، فليس من حق أحد أن يمنعك من الاعتقاد به، ولكن فقط لا تحاول فرضه على الآخرين، هذه هي الديمقراطية.

وفي نهاية هذا المقال الذي تناولت فيه مفهوم العالمانية بطريقة أرجو أن تكون مُبسّطة دون إخلال، فإنني سوف أعمد فيما يلي إلى تبسيط أكثر للعالمانية بإحالة المفهوم إلى نموذج حياتي معايش لضمان وصول الفكرة بشكلها الصحيح، ففكرة العالمانية مشابهة تماماً لفكرة منتخب كرة القدم؛ فالمنتخب القومي لأيّ دولة مكوّن من لاعبين ينتمون في الأساس إلى أندية مختلفة، هذه الأندية تظل في تنافس محموم بينها وبين بعضها عبر الدوريات والبطولات المحلية، ولكل ناد مؤسسيه ومشجعيه الذين قد يكونون متعصبين جداً لناديهم، تأتي فكرة المنتخب لتجمع الصفوة من لاعبي هذه الأندية فيتم اختيار حارس مرمى واحد هو الأفضل في نظر المدرب ضمن مجموعة حراس مرمى الأندية المحلية، ويختار مجموعة من المدافعين هم الأفضل ضمن مجموعة أكبر من مدافعي الأندية، ويختار مهاجمين ضمن مجموعة أكبر من مهاجمي وهدافي الأندية المحلية، وبذلك يتشكل منتخب الدولة القومي: يتم اختيار اللاعبين هنا بناءً على معايير ليس لها أيّ علاقة بالولاء الرياضي لهذا النادي أو ذلك، بل وفق معايير موضوعية للغاية، ولا يلتفت مدرب المنتخب الوطني إلى أندية هؤلاء اللاعبين طالما أنهم يمتلكون الموهبة والمهارة التي يحتاجها للخانة المُحددة، وعلى مستوى الفرق المحلية يختلف هذا اللاعب مع هذا اللاعب كلٌ حسب ولائه لناديه، ولكنهما في المنتخب الوطني قد يكونا ثنائياً رائعاً؛ وهكذا هي العالمانية: يتم اختيار ممثلي الدولة والبرلمانيين والرئيس والمستشارين وأصحاب القرار بناءً على كفاءتهم السياسية وليس بناءً على ديانتهم أو معتقدهم، يختلف هذا مع الآخر في دينه وفكره، ولكنهما في مهام الدولة وفي سبيل تحقيق مصلحة الدولة ومصلحة الشعب، فإنهما يعملان معاً وفق سياسة واحدة مشتركة. فأيّ دين قد يضمن ذلك؟ هذه هي العالمانية التي أعرفها، والتي أحرص كثيراً على تحقيقها في بلدي، أو أن أرى بلداً عربياً يُطبّقها بشكلها الصحيح.

إلى هذا الحد فإننا نعلم تماماً أن هنالك إخفاقات كبرى تنتج نظراً لتغليب البعض لمصالحه الشخصية على حساب الفكرة العبقرية للعالمانية، وقد نرى أُناساً يستغلون العالمانية لتحقيق أهداف شخصية، أو ربما نرى أو نسمع عن أشخاص يتكلمون عن العالمانية وهم لا يعرفون عنها سوى اسمها، فيسيئون إليها وإلى جوهرها، وقد تتعرض الفكرة في عمومها إلى إخفاقات نتيجة أخطاء تطبيقية إما لنقص في الخبرة السياسية، أو جهلاً بالأساسات النظرية والفكرية للعالمانية، أو قفزاً على الترتيبات الإجراءات التي يجب أن تتبع في سبيل تحقيق جوهر العالمانية، أو لأسباب أخرى؛ وفي هذا تتفق العالمانية مع غيرها من النظريات والأفكار المدهشة التي أساءت إليها التطبيقات الخاطئة؛ وهانحن نسمع حجج المسلمين الذين ما إن تواجههم بإخفاقات الدولة الإسلامية وعيوبها ومآسيها وإخفاقاتها عبر التاريخ الإسلامي الطويل، حتى يُردد دون انقطاع {العيب في التطبيق وليس في التشريع}؛ فما بالنا نرمي العالمانية في جوهرها ولا ننصفها بأن نرد عيوبها إلى مُطبقيها؟



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي
- جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)
- نقد الانتلجنسيا السودانية
- الله والشيطان في الريس عمر حرب
- الميتافور الدلالي في اللغة الإبداعية
- الروح


المزيد.....




- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - محاولة لتبسيط العالمانية