أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - وديعٌ ليل الرقة الصافي















المزيد.....

وديعٌ ليل الرقة الصافي


محمد الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2924 - 2010 / 2 / 21 - 07:38
المحور: الادب والفن
    


قبل أن يُبنى السد وتنتشر المزروعاتُ وتَنشأ المستنقعاتُ، كان ليل "الرقة" في الجزيرة السورية، صيفاً، من أعذب الليالي.
عند الساعة العاشرة ليلاً يشرع مكبّر صوت صاف كما لو أنه ماء زلال بنقْل صوت وديع الصافي. لا! ليس عبر مسجل؛ كما يمكن أن يتبادر لذهنكَ. بل وديع شخصياً.
لست أدري لمَ كان غناءه في أيام فندق فينيسيا الرقاوي دَنْدنة! لم يكن يغني. كان يدندن. أم أنني أتوهم بسبب بعد الزمان والمكان؟ أكان هذا في العام 1969 أم 1970 أم بعد؟ اختلطت الأمور عليّ!
بلى أجزم أنه كان يقضي ساعات وهو يدندن. يأتي صوته القوي خافتاً وإنما مسموعا في كل حرف. يأتي الصوت كما لو أنه يغني لكَ وحدك. يأتي الصوت كما لو أنه يغني في قلب أذنك حتى لوكنت على بعد مئات الأمتار عند مدرسة "خديجة للبنات" والتي أصبحت فيما بعد مقرّ شعبةٍ لحزب البعث.
من أيامها ترسخت فيّ فكرة أن السهرة تبدأ الساعة العاشرة. رغم مرور كل هذه السنين وما إن تلفظ كلمة السهرة، حتى تنبثق في رأسي صورة لساعة عند العاشرة، مترافقة بدَنْدنة وديع "يا ابني ليلى بنت ضيعتنا..". المشكل هو أني أعيش الآن في بلد تُعتَبر فيه العاشرة ساعة متأخرة من الليل، فالبشر هنا ينامون بدءاً من الساعة التاسعة عدا السبت والأحد طبعاً. أما أنا فلم أستطع التطبيع مع هذا النظام حتى عندما كان عملي يبدأ الساعة الثانية صباحاً.
الفندق الذي غنّى فيه وديع كان في أقصى غرب المدينة. هذا الفندق، هو الآخر، تحول إلى مركز لقيادة الشرطة. كانت حديقة الفندق ذات الشجيرات الكثيفة هي المكان الأكثر ملاءمة في الدنيا لغناء ما هو بغناء. غناء هو دندنة شجيّة تدخل القلب بلا "إحمْ ولا دستور".
ما الذي جعله يغني بتلك الطريقة ولعدة أسابيع؟ من يدري! أزعم أنه لم يغن، ولا في أي مكان وطوال عمره، كما غنى تلك الأيام في تلك الحديقة الصغيرة وفي مدينتا الصغيرة الواداعة آنذاك، فأنا أحفظ أغانيه صمّاً. أكان للكحول دوراً؟ أأجرؤ أن أخمّن بأن وديع كان يعيش حالة حبّ أو صدمة حب؟ لقد كان يغني لا بصوت وإنما بأحاسيس ومشاعر. كان يغني كما لم يغنّ أبداً. وبالنسبة لي كما لم يغن أحدٌ أبداً. الآن وبعد أن جربتُ وخبرتُ وعرفتُ أجزمُ أن لا شيء يتصل بالأجر ما كان قد ربط وديع ليغني في مدينتا المنسيّة. لا بد أن في الأمر سرّ.
أيامها كان يحدث أن تصخب المدينة في فترتين. فترة صباحية عندما ينزل أهل الريف للتبضّع والطبابة ومراجعة الحكومة والجلوس في المقاهي. تنتهي هذ الفترة بسفر "البوسطات" حوالي الساعة الثالثة. وعند الخامسة أو السادسة تبدأ جولة الصخب الثانية. هذه المرة سيكون عدد الناس أقل، وإنما سيكون منبع الصخب المنافسة الموسيقية في كل زاوية، حيث لا حرج من رفع صوت المسجل أو الراديو إلى آخره. والأولاد كل الأولاد في الشارع، والنساء متحلقات حول "دلال" الشاي أو "ركوات" القهوة. والرجال في المقاهي أو في طريقهم إليها. وقليلون من الناس يمارسون مشوار التنزه قريباً من النهر. أما الشباب الذكور فيحوّمون من شارع إلى شارع، وعيونهم على باب موارب أو نافذة مفتوحة. وفي قلب المدينة حيث دور السينما الثلاث والمقاهي العديدة يسود صوت أم كلثوم ليلاً.
يسمع المرءُ في النهار من مقهى أو من السينما أو من دكان، عبد الحليم يغني "كامل الأوصاف أو زيّ الهوا"، و يسمع المرء حصراً في الصباح الباكر فيروز في برنامج "مرحبا يا صباح" الذي كان يقدمه منير الأحمد. وهو(منير الأحمد) أيضأ حصل له ما حصل للأمكنة، لقد مات في أحد فروع المخابرات العسكرية. يحصل هذا، ويحصل أن تسمع أغان عراقية بالأخص في السوق الشرقية والحارات العتيقة. أما عندما تغرب الشمس ويحل الظلام وتقترب الحفلة الأخيرة في السينما ويبدأ لعب الورق، فلا صوت هنا في قلب المدينة إلا صوت أم كلثوم. جوقةٌ أغانٍ من عشرات المسجلات ومكبرات الصوت. توافق عجيب. أمّ كلثوم وفقط.
مع بدء حفلة التاسعة في السينما يسكن كل شيء، سوى الغناء الأخفض طبقة والمنبثق من قلب مقهى أو من أمام دكان حلاق أوبقال . بضع مئات من الأمتار غرباً في الحيّ الحديث حيث فندق فينيسيا يسيطر الهدوءُ، وتبدأ دندنة وديع. لكن حتماً ليس قبل العاشرة.
كنا ثلاثة وكنا كالعادة في جدل أن نكمل المشوار إلى الفرات والجسر القديم، أم نستمر في التطْواف بين الحارات. فجأة وعند عطفة الشارع جاءت الدندنةُ مثل رشقة لذة غامضة. ومن بعيد رأينا بضع نساء مُلتفّات بعباءاتهن يحاولن أن يسترقن النظر من بين الشجيرات. كان سور حديقة الفندق خفيضاً، فالدنيا كانت أمانٌ. ومثلهن رحنا نتمايل لصق السور لنتمكن من رؤية أفضل. كان وديع يحضن العود جالساً على كرسي خيزران، وأمامه طربيزة صغيرة عليها كأس من العرق. يدندن ويبتسم ويرشف. كان الأمر مفاجئاً لنا فلم يحدث أن سمعنا أو رأينا مطرباً يشرب وهو يغني. الأمر برمته لم يكن مألوفاً لنا. طريقة حضن العود، ورشف العرق، والغناء الخافت الذي بدا لنا كمراهقين كما لو أنه في غرفة نوم "جولييت". إذْ لم يمض سوى ساعة على خروجنا من فيلم "روميو وجولييت"، ولربما كانت تلك هي المرة العاشرة.
في تاليات الأيام سنتعصّب لوديع وسنشتري أشرطة أغانيه وسنقتني صوره، وسيصبح اسمنا في الثانوية "شلة الصوافي" دمجاً لكنيةِ وديع وللصوفية معاً، وسخرية منّا نحن مهملي الهندام وطويلي الشعور والمعاقبين على طول الخط كي يستقيم اعوجاجنا. كانت تسمية لابسة. من جهتنا بدأ الأمر أولاً نكاية ومخالفة، فالأكبر منا كانوا إما أنصارا لأم كلثوم أو لعبد الحليم والغناء المصري، أو لإياس خضر وحسين نعمة والغناء العراقي. اليساريون طبعا وبلا أدنى تردد مع فيروز. أعجبنا أن نخالف، وأن نرى في عيون الآخرين كم نحن مختلفون.
حتى دون ان نتشاور؛ تسلقنا السور ثمّ لطونا خلف كتلة شجيرات غارٍ ودفلى تقع تماماً في الزاوية الشرقية الجنوبية. على يسارنا جدار السور وعلى يميننا وأمامنا كل مساحة الحديقة، وتحت أقدامنا عشب مقصوص . وأولى الطاولات لاتبعد عنا سوى عشرة أمتار وحولها كان يجلس خمسة أو ستة رجال، يقرعون الكؤوس ويتحدثون. على بعد ربما خمسة أمتار من أولاء كانت طاولة كبيرة للخدمة، حيث الكؤوس والصحون والشوك والمعالق النظيفة وأباريق الماء، ولكن أيضاً بقايا الطعام و الكؤوس نصف الفارغة وأرباع أو أنصاف الليترات.
تفاهمنا باللكز وبالهمس. يمكنُ لأيّ منّا أن يزحف إلى حيث توجد الطاولة دون أن يلحظه أحدٌ بشرط وحيد أن يظل منتبهاً لباب المطبخ حيث يدخل النادل ويخرج. أظنّه كان نادلاً وحيدا. دقائق وكان لدينا في مخبئنا ما يكفي كي نسمر نحن أيضاً. أنا شخصياً كانت تلك المرة الثالثة أو الرابعة التي أشرب فيها الكحول. في المرات الماضية كانت جرعات قليلة. أما الآن فإننا أحرار في أن نشرب ونشرب ومجاناً.
لست أظن ان الأمر أخذ وقتاً طويلاً قبل أن يزول الحذر والحرص لدينا، إذ رحنا نردّد مع وديع ونتخيّل ليلاه في صورة جُولييت. منبطحين أو مستلقين نكرع ونأكل ونغني. والغريب أن لا يحس بنا أحد. طبعاً كانت العدوى قد لفتنا نحن أيضاً، فغناؤنا كان دندنة، ورغم السكر كنا نعي أننا لصوص.
آخرُ علمي بحالنا هناك كانت صورتنا ونحن مستلقين وأجسادنا تصنعُ مثلثاً. كانت رأسي تتوسد كتفٍ وقدماي تحت رأسٍ. وكان وديع يتنحنح محاولا تنظيف حنجرته ويُدوزن العود استعداداً لدندنة أخرى. أذكر أنني رغبت في جرعة أخرى لكنني لم أفعل رغم أنني كنت أقبض على عنق الزجاجة. وكنت أقول لنفسي الآن سأرفعها وسأغبّ جرعة كبيرة، لكنني لم أفعل.

محمد الحاج صالح
النرويج
18/2/2010



#محمد_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إهانة العرب
- أيهما أكثر فائدة الانحياز للكتّاب أم للرقابة؟
- النسخة الاسلامية المتشددة في شوارع اوسلو
- عربيٌ في الجليد
- مسلمو الغرب يُهدَّدون باللغة الثأرية لإعلامهم
- كفوا أذاكم عن مسلمي أوربا
- إعلان دمشق والطبقة المدينية الوسطى
- سيذهب نداء الشيخ القرضاوي هباء
- عينتان: سيعية وسنية
- تقطيع الأوصال العربية لمحة عن تاريخ التفكك العربي
- الوجعة العربية
- القوانين السيئة السمعة
- الزمن بين المعارضة والسلطة
- البطالة وعملية الإصلاح الشامل
- ماالعمل
- أنقذو مقابر عازار
- سوريا ومشروع الشرق الأوسط الجديد


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - وديعٌ ليل الرقة الصافي