أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عزو محمد عبد القادر ناجي - الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963وتداعياتها خلال العهد العارفي















المزيد.....



الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963وتداعياتها خلال العهد العارفي


عزو محمد عبد القادر ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 2923 - 2010 / 2 / 20 - 11:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963
وتداعياتها خلال العهد العارفي

المبحث الأول : الوحدة الوطنية في ظل حركة البعث
(8 فبراير 1963 ـ 18 نوفمبر 1963)
• المطلب الأول : وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق
• المطلب الثاني : احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية، وثقافتها الوطنية
• المطلب الثاني : مدى تحقق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة
• المطلب الرابع : التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب والنظام السياسي
• المطلب الخامس : التأكيد على الهوية الوطنية للجيش
المبحث الثاني : تداعيات فترة حكم البعث 1963 على الوحدة الوطنية
" فترة الأخوين عارف 1963-1968"
• المطلب الأول : احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
• المطلب الثاني : الحرية والعدالة والمساواة في ظل النظام
• المطلب الثالث : التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب والنظام
• المطلب الرابع :الهوية الوطنية للجيش العراقي


الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963
وتداعياتها خلال العهد العارفي
يتناول هذا البحث التطبيق العملي لمحددات الوحدة الوطنية في العراق خلال قترة حكم البعث الأولى التي لم تتجاوز السنة ، مع تداعيات هذه الفترة والتي كانت نتيجة للفترة الأولى ، حيث ستجيب الدراسة عن التساؤلات التي طرحت في فرضية البحث خلال هذا الجزء منها ، والذي يعتبر أساس المراحل السابقة كونه كان أول تجربة خاضها حزب البعث في مجال الحكم ، ورغم فشل هذه التجربة إلا أنها كان لها فوائد عملية استفاد منها البعث لاستعادة سلطته ، متبعا نفس الأسلوب الذي اتبعه عبد السلام عارف في إسقاط حكم البعث الأول ، وعلى هذا الأساس سيبحث هذا الفصل عن كيفية وصول البعث إلى السلطة ، وهل استطاع تحقيق الوحدة الوطنية في العراق خلال فترة حكمه ؟ ، وما هي أسباب سقوطه ، وصعود النظام العارفي إلى السلطة ؟ وكيف استطاع البعث الاستفادة من تناقضات العهد العارفي ، وضعف الوحدة الوطنية خلاله ، ليصعد مرة أخرى إلى السلطة ؟ هذا ما سيبينه لنا مبحثي هذا الفصل .


المبحث الأول
الوحدة الوطنية في ظل حركة البعث
(8 فبراير 1963 ـ 18 نوفمبر 1963)
يتناول هذا المبحث مدى استطاعة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق بعد سيطرته على الحكم فيه في (8) فبراير 1963، في تحقيق الوحدة الوطنية فيه، من خلال المحددات التي حددتها الدراسة، ورغم أن هذا المبحث يتناول فترة لم تتعدى حدود السنة، إلا أنها تعتبر فترة الأساس الأول للفترات التي تليها من فترات حكم البعث، إضافة لفترة الأخوين عارف، فهي النتيجة الأساسية لهذه الفترات، فكانت التجربة الأولى التي خاضها البعث في الحكم، ونتائجها هي التي حددت معالم سياسة الأخوين عارف فيما بعد، رغم ما عاناه البعث خلال فترة الأخوين عارف، من استبعاد وتهميش، مما اضطره أن يعمل سراً، فتكمن أساسيات هذا المبحث في الإجابة عن التساؤلات التي حددتها الدراسة كمحددات للوحدة الوطنية، ومدى إمكانية حزب البعث على تحقيقها، أم أنه لم يستطع تحقيقها من خلال دراسة سياسة الحزب الداخلية، ومنهاجه، وقياداته، وإجراءاته حيال المشاكل التي حدثت في المجتمع العراقي، إضافة لما يعانيه المجتمع العراقي من تمايزات واختلافات حزبية ، وإقليمية ، وعشائرية ، وطبيعية، وعرفية، وطائفية، لابد لها تأثيرها على فترة حكم البعث الأولى.

المطلب الأول
وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق
لم يكن وصول البعث إلى الحكم في العراق من خلال حركة عسكرية مفاجأة، أو من خلال القوة التي يتمتع بها هذا الحزب، أو من خلال شعبيته أو مؤيديه بين الجماهير العراقية، أو من خلال قيادته لتحالف عسكري أو سياسي حزبي، كل هذه العوامل كان لها تأثيرات لا يمكن إهمالها، ولكن كان هناك ثمة ظروفاً ساهمت إلى حد بعيد في نجاح تلك الحركة العسكرية ـ إضافة إلى العوامل السابقة ـ وأهم هذه الظروف هو اضطهاد قاسم للقوميين أو مؤيدو التقارب مع مصر والوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، من خلال اعتقاله لعبد السلام عارف، ورشيد تعالي الكيلاني ، وغيرهم من القوميين، إضافة لما حدث في عهده من عمليات دموية بحق القوميين من خلال الشيوعيين، مثل حركة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل والتي تدخل قائد الخطط العسكرية الزعيم طه الشيخ أحمد باخمادها، إضافة لما كان يسعى إليه الشيوعيون وما يقومون به من حركات لإسقاط نظم قاسم والانفراد بالحكم مباشرة، أضف إلى ذلك تذمر الأكراد ضد نظم قاسم، فبرغم ما تحقق لهم من حرية الصحافة حتى وصلت عدد صحفهم إلى أربعة عشرة صحيفة كردية، واعتماده عليهم في قمع الحركات المناوئة لحكمه، في كركوك والموصل عام 1959، إلا أنه رفض طلبهم عام 1961 بالاستقلال الذاتي الموسع، وذلك عندما طالب الحزب الديمقراطي الكردستاني في يوليو 1961 بهذا الأمر، على أساس أن ذلك يمس بوحدة العراق السياسية والإقليمية، ثم مبادرته بشن حملات على حزب البارتي (الديمقراطي الكردستاني) وإغلاق مقراته، واعتقال الكثير من أعضاءه، وهذا جعل الكثير من الضباط والجنود الأكراد ينحازون إلى جانب البرزاني ضد قاسم الذي اتهمهم بأنهم أعوان الاستعمار بقوله في 23فبراير 1961: "وبعون المخلصين من أبناء شعبنا المظفر وبإرادة جيشنا المخلص، تمكنا أن نحطم أقوى مؤامرة استعمارية" ( ).
كما كانت نقمة الشيوعيين على نظام قاسم، بسبب اضطهاده لهم بعد أحداث الموصل وكركوك والتي أسفرت عن أكثر من خمسة ألاف قتيل، وإبعاده لهم عن نقابات العمال والفلاحين، وفرض رقابة مشددة عليهم ، وتطهير إدارة الدولة منهم، وإبعاده لهم عن الجيش( ).
أيضاً كانت نقمة التيار الإسلامي على النظام، من خلال الحزب الإسلامي الذي شكله قاسم، من السنة والشيعة على حد سواء، من خلال رئيسه غير المتدين نعمان عبد الرزاق السامرائي، وراعيه الأول الفقيه الشيعي آية الله الأكبر محسن الحكيم، حيث وجه الحزب الإسلامي في أكتوبر 1965 انتقادات إلى بعض التشريعات الحكومية مثل : الإصلاح الزراعي ، والتأميم، ومساواة حق الإرث للرجل والمرآة على حد سواء، على أساس أن هذه التشريعات تخالف الشريعة الإسلامية، وقد أدت هذه الانتقادات، إلى أن يقوم النظام بحملة اعتقالات ضد أعضاء الحزب،وإغلاق فروعه وتعليق صحيفته( ).
كما أثار قاسم من خلال سياسته الخارجية، نقمة الكثير من الدوائر المعادية لحكمه فابتعاده عن الجمهورية العربية المتحدة، وتوتر علاقته السياسية معها، وإثارته للشركات النفطية، بسبب القانون الذي أصدره عام 1961، بتقليل إمتيازات الشركات النفطية، وقيامه بمفاوضات سرية مع حكومة الكويت على إقامة اتحاد فيدرالي معها ـ بعد فشله في ضمها ـ بحيث تصبح قضايا الدفاع والخارجية والتعليم ضمن صلاحيات الحكومة العراقية( ).
وفي ظل هذه الظروف تشكل المكتب العسكري لحزب البعث، بقيادة علي صالح السعدي، الذي استطاع أن يضم إليه بعض الضباط الذين احتلوا مناصب مهمة في القوات المسلحة، إضافة لبعض المسؤولين الكبار في الدولة، وأصبح السعدي قادراً على تعبئة الكثير من المتعاطفين مع البعث، فنظم المظاهرات ضد نظام قاسم بغية إثبات جماهيريته ونفوذه ، أمام الحزب الشيوعي، وقد اعتمد السعدي في تشكيله للمكتب العسكري للحزب على مبادئ التنظيم السري، وأسس جهازاً تمكن فيه من شن حرب خفية على الشيوعيين في العراق، واستطاع التسلل إلى أوساط الحكم، وإشراك عدداً من الضباط للإطاحة بنظام قاسم، وأهم هؤلاء الضباط هم : (أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبدالغفار التكريتي، وطاهر يحي... وغيرهم)، وبحلول عام 1962، أصبح السعدي هو القائد الفعلي لحزب البعث في العراق، بعد أن شكل خلايا بعثية في الجيش والإدارات العامة في النقابات المهنية والعمالية( ).
وعندما شعر عبد الكريم قاسم بأن ثمة مؤامرة تحاك ضده، قام باعتقال السعدي، وصالح مهدي عماش، الذي كان ضابطاً في الجيش، وبدأ النظام بملاحقة البعثيين، وفي هذه الأثناء، بحثت القيادة القومية في بيروت أوائل 1963 من خلال اجتماعها بأعضاء بعثيين من سوريا والعراق ، ودرست خطة للإطاحة بنظام عبدالكريم قاسم في العراق، وبنظام ناظم القدسي في سوريا، فشكلت لجنة سرية من ممثلي البعث، وأعضاء من لجنة الضباط الأحرار القديمة، حيث رأت هذه اللجنة أن يكون إسقاط نظامي العراق وسوريا في يوم واحد، وإن تعذر ذلك فألا يكون ثمة فاصلاً زمنياً كبيراً بينهما( ).
وقد استطاع البعث العراقي، أن يدير الاضطرابات في جامعة بغداد، مما هيأ الظروف لتحرك الضباط البعثيين في العراق خاصة بعد موافقة القيادة القومية للبعث، أن تكون حركة البعث العراقي قبل حركة البعث في سوريا وأن يكون عبد السلام عارف رئيساً للعراق، وممثلاً للبعث في العراق لدى الرئيس جمال عبد الناصر ، وعلى هذا الأساس قام البعث باغتيال قائد القوى الجوية الزعيم جمال الأوقاني، وهو من الشيوعيين، ثم تم مهاجمة معسكر الرشيد وتعطيل مهبط الطائرات العسكرية فيه، ثم توجهت وحدات عسكرية إلى بغداد( ).
ورغم تشكيل خط دفاعي من قبل سرية الدفاع، الموجودة في وزارة الدفاع، بعد تحصن الرئيس عبد الكريم قاسم فيها إلا أن قائد السرية العسكرية انحاز إلى جانب الانقلابيين، حيث طوق وزارة الدفاع مع جنوده، إضافة لما قام به قائد فوج الدفاع عن وزارة الدفاع وهو العقيد (عارف يحيى)، حيث ترك موقعه ولاذ بالفرار( ).
وقد حاول الحزب الشيوعي بالرغم من خلافه مع قاسم التدخل لصالحه، والحيلولة دون سقوط النظام، فتوجه قسماً كبيراً منهم إلى وزارة الدفاع، وطلبوا تسليمهم، بناءاً على اقتراح قائد التخطيط العسكري طه الشيخ أحمد، لكن قاسم رفض ذلك، متوقعاً أن قوته الخاصة قادرة على إفشال المحاولة الانقلابية، إضافة لتخوفه من وضع الأسلحة في أيدي الجماهير، حيث من الممكن أن تتسبب في حرب أهلية في البلاد كالتي حدثت في كركوك عام 1959، كما رفض الهرب بطائرة عسكرية أعدها له مدير الخطوط الجوية العراقية قائلاً: ماذا ستقول الأجيال القادمة من العراقيين لو أنني تركت وزارة الدفاع إلى أي جهة آمنة"( ).
ثم أعلنت القطعات العسكرية خارج بغداد في بعقوبة، وكركوك وأربيل والبصرة تأييدها لحركة، بالرغم من التظاهرات الكثيفة التي شهدتها البصرة، حيث قام الانقلابيون بإرسال اللواء الخامس عشر للسيطرة على المدينة، وفرضوا نظام حظر التجول فيها، وعلى هذا الأساس تم السيطرة على كافة المعسكرات في العراق، وهي (الوشاش، وأبو غريب والرشيد ، واللواء التاسع عشر ، والقاعدة الجوية، والثكنة الشمالية التي تضم قيادة الفرقة الخامسة في باب المعظم) ، ولم يبق سوى وزارة الدفاع( ).
ورغم إصدار قاسم بياناً للشعب العراقي دعاه فيه للقضاء على الانقلابيون ووسمهم بالعملاء، حيث بثها مرافقة محمد سعيد الدوري من محطة إرسال في منطقة "سلمان باك" إلا أنه كان الأوان قد فات، مما اضطره إلى الاتصال بالانقلابيين وعرض عليهم استسلامه مقابل تسفيره إلى خارج البلاد، أسوة بما فعله النظام السوري عام 1962 بعد فشل محاولة عبد الكريم النحلاوي الانقلابية، حيث تم نفيه خارج البلاد، إلا أن الانقلابيون رفضوا ذلك، وطلبوا استسلامه دون قيد أو شرط، ثم تمكنوا من أسره مع بعض مقربيه في التاسع من فبراير 1963، وشكلوا محكمة من قادة الحركة، وأصدروا الحكم عليه وعلى رفاقه الذين كانوا معه في وزارة الدفاع بالإعدام رمياً بالرصاص، وقد نفذ الحكم مباشرة، وعرضت جثث القتلى في التليفزيون( ).
وقد اعتبر البعث بعد سيطرته على الحكم، أن حركته هي امتداد لثورة الرابع عشر من يوليو 1958، وعلى هذا الأساس كان رأيه في جعل العقيد عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية ، على اعتبار أن ذلك لفترة انتقالية ، حتى تتحقق الوحدة بين العراق ومصر، على أساس أن البعث قام بحركته لأجل هذه الوحدة وعلى هذا يقول عبد السلام عارف :
" كان كل شئ معد بأحكام ودقة، والخطة كاملة بأبسط التفصيلات لقد اتفقنا على أن يتم كل شئ، وأنا في بيتي، ثم يجيئني شخص في الثامنة صباحاً، وأركب سيارتي الصغيرة بملابسي المدنية، وأتجه إلى معسكر أبو غريب ، ومن معسكر أبو غريب ركبت دبابة مع الأخ أحمد حسن البكر واتجهنا إلى الإذاعة"( ).
وقد جاء في البيان الأول للحركة، مبيناً ماهيتها وأهدافها:
" إن هذه الانتفاضة التي قام بها الشعب والجيش من أجل مواصلة المسيرة الظافرة لثورة 14تموز/ يوليو المجيدة لابد لها من إنجاز هدفين، الأول تحقيق وحدة الشعب الوطنية، والثاني تحقيق المشاركة الجماهيرية في توجيه الحكم وإدارته، ولابد لإنجاز هذين الهدفين الإثنين من إطلاق الحريات وتقرير مبدأ سيادة القانون .... وستكون سياسة حكومة الثورة وفقاً لأهداف ثورة تموز/ يوليو المجيدة، لذا فإن الحكومة ستعمل على إطلاق الحريات الديمقراطية وتعزيز مبدأ سيادة القانون، وتحقيق مبدأ وحدة الشعب الوطنية، بما يتطلب لها من تعزيز الأخوة العربية الكردية، وبما يضمن مصالحهما القومية، ويقوي نضالهما المشترك ضد الاستعمار، واحترام حقوق الأقليات، وتمكينها من المساهمة في الحياة الوطنية، كما أنها تتمسك بمبادئ الأمم المتحدة، والالتزام بالعهود والمواثيق الدولية والمساهمة في دعم السلام العالمي ومكافحة الاستعمار بانتهاج سياسة عدم الانحياز، والالتزام بمقررات مؤتمر باندونج، وتشجيع الحركات الوطنية المعادية للاستعمار، وتأييدها... كما أن قيادة الثورة، تعاهد الشعب على العمل نحو استكمال الوحدة العربية وتحقيق وحدة الكفاح العربي ضد الاستعمار، والأوضاع الاستعمارية في الوطن العربي، والعمل على استرجاع فلسطين المحتلة، وستحافظ على المكتسبات التقدمية، وفي مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي، وتطويره مصلحة الشعب، وإقامة اقتصاد وطني يهدف إلى تصنيع البلد، وزيادة إمكانياته المادية والثقافية، كما سيؤمن تدفق البترول إلى الخارج"( ).
كما نص البيان رقم ثلاثة عشرة، بإبادة الشيوعيين ووصفهم بالعملاء، وأصبح عمل السلطة ملاحقة الشيوعيين وفك تنظيماتهم الحزبية، وكل خلاياهم( ).
وعلى هذا الأساس يدعو البيان الأول إلى الديمقراطية والوحدة الوطنية داخل الدولة، والعمل على تحقيق الأهداف القومية العربية في الوحدة، والاشتراكية، والحرية، والإصلاح الزراعي، واتباع سياسة محايدة، والاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية لرفع مستوى الدخل الفردي والقومي، وحل المشكلة الكردية، واحترام حقوق الأقليات، ومشاركة جميع أبناء الشعب في إدارة الحكم، لكن يتناقض هذا البيان مع البيان رقم ثلاثة عشرة، الذي يطالب بإنهاء الشيوعيين وحل تنظيماتهم، لأن هذا يتنافى مع مبدأ المشاركة السياسية والتعددية السياسية خاصة أن للشيوعيين مؤيدين بين صفوف الشعب.
وقد اتخذت هذه الحركة اسمين متلازمين، فالاسم الأول هو ثورة(8) شباط/ فبراير والاسم الثاني هو ثورة الرابع عشر من رمضان، كونها قامت في الشهر الإسلامي المقدس "رمضان" ، وهذا ما جعل بعض الأوساط الإسلامية تؤيدها، كما رحبت الكثير من الأوساط الشعبية العربية والكردية بهذه الحركة، وأرسل الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث الحربي الاشتراكي ميشيل عفلق برقيه تهنئة بهذه الحركة( ).
وفي اليوم الأول للحركة تم تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة، وتألف من ثلاثة من المدنيين، وستة من العسكريين وكلهم من البعث العراقي ماعدا عبد السلام عارف الذي ظل مستقلاً ، أما المدنيين فهم : (علي صالح السعدي، وحازم جواد، وطالب الشبيب) ، والعسكريين هم: (عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماشي، وعبد الستار عبد اللطيف، وحردان عبد الغفار التكريتي، وخالد مهدي الهاشمي)، أما القيادة القطرية للحزب فتألفت من عسكريين ومدنين برئاسة علي صالح السعدي، الذي كان يرأس المكتب العسكري للحزب، وبالنسبة لرئاسة المجلس الوطني لقادة الثورة ، فقد رأى الأعضاء أن يكون دورياً بينهم وكان أول من رأسه هو العقيد عبد الستار عبد اللطيف، ورأس الحكومة ؛ أحمد حسن البكر وشكلها كالآتي :
1. علي صالح السعدي ـ نائباً لرئيس الوزراء ، ووزيراً للداخلية .
2. صالح مهدي عماش ـ وزيراً للدفاع .
3. حازم جواد ـ وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية .
4. طالب شبيب ـ وزيراً للخارجية .
5. عزت مصطفى ـ وزيراً للصحة .
6. سعدون حمادي ـ وزيراً للإصلاح الزراعي .
7. مهدي الدولعي ـ وزيراً للعدل .
8. مسارع الراوي ـ وزيراً للإرشاد .
9. صالح كبه ـ وزيراً للمالية
10.أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية .
11.عبد الكريم العلي ـ وزيراً للتخطيط .
12.حميد خلخال ـ وزيراً للعمل
13.عبد الستار عبد اللطيف ـ وزيراً للمواصلات .
14.ناجي طالب ـ وزيراً للصناعة .
15.شكري صالح زكي ـ وزيراً للتجارة .
16.عبد العزيز الوتاري ـ وزيراً للنفط .
17.محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات .
18.بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للزراعة .
19.فؤاد عارف ـ وزيراً للدولة .

وهكذا ضمت الوزارة ثلاثة من القوميين هم: ناجي طالب ، وشكري صالح زكي ، وعبد العزيز الوتاري ، وواحداً من الإسلاميين هو محمود شيت خطاب ، فيما ضمت اثنان من الأكراد ، هما بابا علي الشيخ محمود ، وفؤاد عارف اللذان لم يستمرا في الوزارة سوى ثلاثة اشهر ، عندما شن حزب البعث الحرب على البارتي في الأول أيار 1963.
وبالنسبة لرئاسة الجمهورية فقد تسلمها عبد السلام عارف، لكنه كان منصباً شرفياً، لأن السلطة الحقيقية كانت بيد مجلس قيادة الثورة، ورئاسة الوزراء، اللتين في معظمهما من أعضاء بعثيين، وبالتالي فهما مرتبطان بقرارات القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، المرتبطة بدورها بالقيادة القومية للحزب، بمعنى أن القرار الأول والأخير هو لحزب البعث العربي الاشتراكي، وخاصة لأمينة العام في القيادة القطرية، علي صالح السعدي( ).

المطلب الثاني
احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية، وثقافتها الوطنية
عانى النظام العراقي في ظل حكم البعث عام 1963، من عدة مشكلات كان يسعى إلى حلها من أجل تحقيق الوحدة الوطنية للعراق، ولعل أبرز مشكلة كانت تواجه وحدته الوطنية هي المشكلة الكردية، فبعد الانقلاب البعثي عام 1963، أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة بياناً تضمن ما يلي:
" المجلس جاد في تحقيق الوحدة الوطنية للشعب العراقي، بما يتضمن تقرير الأخوة الكردية بشكل يضمن مصالحها القومية، ويقوى نظامها المشترك"( )، وقد وعدت الحكومة في أول جلسة لها بأن لجنة مختصة سوف تشكل لوضع نظام لا مركزي وأكد على ذلك رئيس الحكومة العراقية أحمد حسن البكر بقوله: "ينظر بعين الاعتبار إلى طموح القومية الكردية في زيادة مساهمتها في تطوير البلاد وفي تنمية رعاية ثقافتها ولغتها وفي تحقيق نظام اللامركزية الذي يسمح بازدهار أوسع لجميع أبناء الشعب"( ).
كما عملت السلطة على إيفاد قائد الأركان طاهر يحيى ؛ لإجراء مباحثات مع الأكراد برئاسة علي حيدر سليمان الذي كان سفيراً للعراق في الخارج، مع الوزيرين الكرديين بابا علي البرزنجي ، وفؤاد عارف، إلا أن المباحثات لم تسفر عن أية اقتراحات حاسمة، حيث طالب الوفد الكردي بضرورة الحكم الذاتي، بينما لم تحدد الحكومية موقفها من هذه القضية، ثم شكلت الحكومة وفداً أكبر يمثل كافة أطياف الشعب العراقي وأهم رموزه، فكان منهم: محمد رضا الشبيبي، وهو شخصية سياسية ودينية شيعية معروفة، وكان في الخمسينات رئيساً للجبهة الشعبية ضد الحكم الملكي، وفائق السامرائي وهو أحد قيادي حزب الاستقلال، وحسين جميل من قادة الحزب الوطني الديمقراطي، وفيصل حبيب خيزران وهو أحد أعضاء القيادة القومية لحزب البعث، وعبد العزيز الدوري وكان يشغل رئيساً لجامعة بغداد وزيد أحمد عثمان وهو من الشخصيات الكردية المعروفة ، حيث تم اجتماع هذا الوفد مع الوفد الكردي برئاسة الملا مصطفى البرزاني في قرية جوان قورنة في السابع والثامن من مارس عام 1963 وتوصل الجانبان إلى مشروع اتفاق مبدئي ضم عدداً من التوصيات أهمها( ):
1- الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي على أساس الإدارة الذاتية.
2- إعلان العفو العام في الشمال ورفع الحصار الاقتصادي المضروب على المنطقة.
3- سحب القوات العسكرية كدليل على حسن النية من جانب الحكومة.
ثم عمل المجلس الوطني لقيادة الثورة على رفع الحصار الاقتصادي عن الإقليم الكردي، وأصدر بياناً حول ذلك جاء فيه: " أن المجلس الوطني لقيادة الثورة يقر لحقوق القومية للشعب الكردي على أساس اللامركزية، وسوف يدخل هذا المبدأ في الدستور المؤقت والدائم عند تشريعها، كما أن لجنة مختصة سوف تشكل لوضع الخطوط العريضة" ( ) ، ويعتبر هذا البيان أول بيان رسمي يقر الحقوق القومية للأكراد على المستوى السياسي والدستوري.
ثم قامت الفئات الكردية المختلفة بعقد اجتماع لها خلال الفترة (18-22) أبريل 1963، برئاسة (جلال الطلباني) الذي كان يمثل الحزب الوطني الديمقراطي الكردي، وقد مثل هذا المؤتمر جميع الاتحادات والمنظمات الشعبية الكردية، من اتحاد نسائي، وأقليات دينية كردية، مثل اليزيدية، والعلي اللهية، والشبك، وعقد المؤتمر في بلدة كوي سنجق، وجرت مناقشات عامة في المؤتمر حول الوضع السياسي والعسكري للإقليم الكردي، ثم تم اختيار لجنة مؤلفة من خمس وثلاثين مندوباً لوضع المقترحات المقررة، وتقرر في المؤتمر أن يوجه الملا مصطفى البرزاني برقية شكر للحكومة المركزية في بغداد على اعترافها بالمطالب الكردية، كما تقرر اختيار وفد كردي من أربعة عشر عضواً برئاسة جلال الطلباني، لمفاوضة الحكومة حيث ضم هذا الوفد جميع ممثلي الفئات الحزبية والسياسية والعشائر الكردية ، واستنكر هذا الوفد اللجوء إلى الحرب في حل المشكلة الكردية.
ودعا للحوار والمصارحة بين الأكراد بجميع فئاتهم، بسبب ما كان بين الأكراد من نزاعات قبلية، حيث أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) ممثلاً لجميع الأكراد ، واعترف الجميع على أهمية دورة على الساحة السياسية، وضرورة عدم توسيع الخلافات بين الأكراد، وإجراء مشاورات دورية بينهم، والاتصال بالقبائل والعشائر الكردية الموالية للحكومية وكسبها إلى جانبهم، وخاصة الزيباريين، وبعض القيادات الدينية( ).
وبعد لقاء الوفدين الشعبي (الحكومي)، والكردي، للاتفاق حول مبدأ الإدارة الذاتية، لم يتوصل الجانبان إلى أية نتائج، مما حذا بالوفد الكردي، إلى المطالبة بأن تجري المباحثات على المستوى الرسمي من خلال أعلى سلطة في الدولة وهي مجلس قيادة الثورة، حيث وافق بعد اجتماعه بالوفد الكردي على تشكيل وفد حكومي برئاسة وزير الدفاع صالح مهدي عماش، وعضوية بعض قياديي الدولة، مثل حازم جواد، وناجي طالب، ثم انضم إليهم بعد ذلك نائب رئيس الوزراء علي صالح السعدي الذي كان في مهمة خارج الدولة، إضافة إلى قائد القوات الجوية حردان التكريتي، وقد حدد الوفد الكردي رأيه في الوحدة الثلاثية التي كانت تسعى إليها الحكومة مع كل من الجمهورية المتحدة وسوريا، وبيَّن هذا الرأي أن الأكراد يدعمون هذه الوحدة، ولهم شرف المساهمة فيها، لكن لهم بعض التحفظات حولها وهي( ):
1- إذا بقي العراق بدون تغيير كيانه يقتصر مطلب الشعب الكردي في العراق على تنفيذ البيان الصادر عن الجمهورية العراقية بشأن الحقوق القومية للأكراد على أساس اللامركزية.
2- فيما إذا انضم العراق إلى اتحاد فيدرالي، يجب منح الشعب الكردي في العراق حكماً ذاتياً بمفهومه المعروف غير المتداول ولا المضيق عليه.
3- فيما إذا اندمج العراق في وحدة كاملة مع دولة أو دول عربية أخرى يكون الشعب الكردي في العراق إقليمياً مرتبطاً بالدولة الموجودة على نحو يحقق الغاية من صيانة وجوده، وينفي في الوقت نفسه شبهة الانفصال، ويضمن تطوير العلاقات الوثيقة بين الشعبين الشقيقين نحو مستقبل أفضل.
لكن هذه المطالب قد ترافقت مع مطالب حزب البارتي التي طالب بها عشية حركة (8) فبراير 1963 وأهمها( ):
1- إعطاء صورة من الاعتراف بالحكم الذاتي للإقليم الكردي وفق دستور الدولة الجديدة إلى هيئة الأمم المتحدة، وإذاعته من الإذاعة الرسمية ونشره بالصحف الرسمية للدولة وبالصحف المحلية.
2- تكون اللغة الكردية، اللغة الرسمية في الإقليم الكردي، وبالنسبة للمواطنين عبر الأكراد، فتكون بلغتهم الخاصة إلى جانب اللغة الكردية.
3- يكون الحكم الذاتي من خلال وجود نائب لرئيس الجمهورية، وهو المسؤول عن الإقليم الكردي بحدوده الجغرافية المحددة شمالاً تركياً وشرقاً إيران وغرباً سوريا، وجنوباً سلسلة جبال حمرين، وأن يكون هناك مجلس وزراء في الإقليم الكردي، مع إبقاء وزارات الخارجية والدفاع والمالية تابعة للحكومة المركزية، إضافة لضرورة تعيين وزراء أكراد في الحكومة المركزية في بغداد، وذلك بحسب نسبة عدد السكان الأكراد، إضافة لوجود عدداً من النواب الأكراد في البرلمان المركزي، بحسب نسبتهم العددية.
4- يكون لإقليم كردستان ميزانية خاصة تتألف من واردات الضرائب والجمارك والرسوم، وأن يكون لهم نسبة من واردات النفط التي تعادل ثلثي واردات النفط الموجودة في الإقليم الكردي.
وقبل أن تقر الحكومة أو تصدر بياناً حول رأيها في هذه المطالب، قام حزب البارتي بإصدار منشور أخر تضمن بعض المطالب، التي تزيد الشقاق بين الحكومة وحزب البارتي، وتساهم في إضعاف الوحدة الوطنية بين الإقليم الكردي وبقية أنحاء العراق، وأهم هذه البنود هي( ):
1- أن يتم انتخاب نائب رئيس الجمهورية- الكردي- على غرار انتخاب رئيس الجمهورية العراقي، وأن يكون ذلك الانتخاب فقط في الإقليم الكردي ، وأن يكون مقره في عاصمة إقليم كردستان، وتتحدد صلاحيته من خلال دستور الجمهورية العراقية، مع الدستور الإقليمي لكردستان.
2- أن يكون لإقليم كردستان حكومة لا مركزية، تتألف من المعارف، والصحة، والداخلية، والأشغال، والإسكان والمواصلات، والعدل ، والإصلاح الزراعي والزراعة، والشؤون الاجتماعية والسلبيات، على أن تكون خاصة بإقليم كردستان، إضافة إلى أنه في كل وزارة مركزية يجب أن يكون وكيل وزارة فيها من الإقليم الكردي، بحيث ترشحه الحكومة اللامركزية الكردية، وأن يكون عدد الموظفين في الوزارات المركزية متناسباً مع نسبة السكان الأكراد، وأن يتم انتخاب البرلمان الكردي لإقليم كردستان على غرار البرلمان العراقي، من تشريع وتنظيم ومؤسسات، بما لا يتناقض مع الدستور المركزي، ولا يحق للبرلمان المركزي ولا لأي سلطة أخرى المصادفة على أي قانون يقلل الصلاحيات اللامركزية للإقليم الكردي، أو يقلل من الحقوق القومية للأكراد ، ولا يجوز إعلان الأحكام العرفية على إقليم كردستان من قبل الحكومة المركزية إلا بعد موافقة البرلمان الكردي.
3- بالنسبة للأقليات القومية كالتركمان، والأشوريين، والأرمن، وغيرهم، فعلى النظام الجديد أن يضمن لهم الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وأن تفتح لهم مدارس خاصة به، وإحياء تراثهم القومي والتقدمي، وضمان مساواتهم التامة في الحقوق والواجبات مع العرب والأكراد.
وبالنسبة لوزارة الشؤون الاقتصادية الخاصة بالإقليم الكردي، فهي تقوم بمهام وزارة الصناعة والتخطيط والنفط في شؤون الإقليم الكردي، سواء كانت مالية أو تجارية أو اقتصادية، يحقق لها جني الضرائب ونصف عائدات النفط في المنطقة الكردية، ونصف عائدات الرسوم الجمركية، وأن تأخذ من عائدات العراق الأخرى ما يعادل نسبة عدد السكان الأكراد، أما بالنسبة لوزارة المعارف الخاصة بكردستان فيحق لها أن تبعث من تريده من أبناءها للدراسة بالخارج، وأن تستقيل من تريد، دون الرجوع إلى وزارة المعارف المركزية، كما يجب على وزارة المعارف المركزية أن تقبل نسبة من الطلاب في جامعاتها، بحسب نسبة عدد الأكراد، إضافة إلى البعثات الخارجية( ).
وما زاد عن ذلك التصريح الذي أدلى به جلال الطلباني- بعد أن أشركه الوفد الرسمي العراقي في محادثات الوحدة مع فؤاد عارف، كمثلين الأكراد في مباحثات الوحدة الثلاثية- حيث قال لصحيفة (كومبا) الفرنسية:
" أن المساعدات المنوحة لنا تفوق في قيمتها أي مساعدة مادية أخرى .. وهذه المساعدة تقوى الشعب الكردي في نضاله .. إن من واجبي أن أوضح أن الأكراد هم أصحاب آبار البترول الموجودة في أرجاء كركوك وفي عين زالا وفي خانقين .. وأننا على الرغم من كوننا ملاك هذه الآبار، فإن أعداءنا يقيضون مواردها، وهذا الوضع يستحق التصحيح، ولو أن الشركات تضع في اعتبارها النضال الذي يشنه الشعب الكردي، ما قبلت تلك الشركات أن تدفع الحصص لحكومة بغداد، التي تستخدمها ضدنا، وأننا نعتزم يوم أن يعود الموقف إلى حالته الطبيعية، أن تحترم حقوق شركات البترول، وقد قررنا في الوضع الحالي أن نفهم شركة البترول العراقية ضرورة احترام حقوق الملاك"( ).
نلاحظ من المطالب الكردية السابقة، أنها تفرق بين الأقاليم العراقية، وخاصة الإقليم الكردي، وتبرز التمايز في المجتمع العراقي، كما أنها تسعى لزيادة هذا التمايز من خلال مطالتبها باستقلال الوزارات الكردية، وأن تكون لها انتخابات خاصة بها، وخاصة بالنسبة لنائب الرئيس الذي يتم تعيينه عرفياً من قبل الرئيس مباشرة، كما أن مقره يكون في العاصمة، وليس في الإقليم الذي ينتمي إليه، بخلاف الانتخابات المحلية للبرلمان المحلي والإدارة المحلية التي يتم انتخابها من قبل سكان الإقليم فلا تشكل انفصال، إذا كانت مرتبطة بالحكومة المركزية، لكن هنا يشار إلى أن هناك ثمة حكومة كردية في إقليم محدد، ولا يحق للحكومة المركزية التدخل في بعض الأشياء مثل إعلان الأحكام العرفية، فهذا تنويه بالانفصال، والقبول به من قبل الحكومة المركزية يعد من نوع التنازل عن جزء من أرضها، أي من إقليم الدولة، كما أن التصريح الذي أدلى به جلال الطلباني، كممثل لحزب البارتي، الذي يمثل بدوره جزءاً كبيراً من الأكراد، فيه الكثير من انعدام المسؤولية أمام الشعب العراقي ككل، عندما يقسم الشعب بين من ينتمي إليه وبين الأعداء وهم الحكومة العراقية أو الشعب العراقي ككل، وأن الثروة الموجودة في المنطقة الكردية هي خاصة بالأكراد وحدهم دون سواهم من العراقيين، بالرغم من أنهم يطالبون بحصتهم من ثروة العراق ككل، كما أنه يحث الشركات الأجنبية وخاصة الشركة الأنجلو أمريكية (شركة نفط العراق)، على السعي لعدم التعامل مع الحكومة العراقية، وعدم دفع أي حصة لها من موارد البترول المستثمرة، وأن تعطى هذه الحصص لأصحابها الشرعيين وهم الأكراد، الذي يمثلهم حزب البارتي، وعلى هذا فهذا التصريح لابد له أنه كان له أكبر الأثر في تجميد المفاوضات بين الحكومة العراقية وحزب البارتي.
ولم يكتف حزب البارتي بتلك المطالب، أو بذلك التصريح، بل زاد من مطالبه على الحكومة العراقية، وأهم هذه المطالب كان( ):
1- تكليف أحد الوزراء الأكراد الحاليين في الحكومة المركزية، من خلال تشكيل مجلس تنفيذي مؤقت يمارس صلاحيات البرلمان الكردي بشكل مؤقت، وتجري انتخابات المجلس التشريعي خلال فترة لا تتجاوز أربعة أشهر من تاريخ تأليفه، وتعويض جميع المتضررين من الأكراد بسبب حرب الأكراد مع قاسم.
2- في حالة تبديل الجنسية العراقية إلى الجنسية العربية ينظر في وثائق شهادة الميلاد، ودفاتر النفوس، وجوازات السفر، على كون حاملها كردستانياً، في الجمهورية العربية المتحدة إذا كان من مواطني كردستان وتعويض جميع المتضررين من الأكراد ؛ بسبب حرب الأكراد مع قاسم.
3- عند تبديل العلم العراقي أو شعار الدولة العراقية تضاف إليها إشارة كردية.
أيضاً هذه المطالب تزيد حدة الشقاق بين أبناء الوطن العراقي، كونها تسعى إلى إظهار التمايزات في المجتمع العراقي من خلال الأوراق الشخصية للمواطن العراقي سواءً أكان عربياً أم كردستانياً ؛ كما أن العلم الذي يجمع الأمة كلها، يجب عليه ألا يحوي أي إشارات تفرق أو تميز بين أبناء الوطن بل، عليه أن يكون جامعاً لتاريخ جميع أبناء الشعب بغض النظر عن أصولهم أو دياناتهم.
ورغم تجميد الحكومة لمفاوضاتها مع الأكراد بسبب هذه المطالب، إلا أنها ما لبثت أن عادت بعد فترة وجيزة وسعت لإنهاء هذه المشكلة ؛ فشكلت لجنة وزارية من خمسة وزراء من الحكومة المركزية، إضافة إلى خمسة من السياسيين، وكلفتها بإعداد مشروع لنظام الإدارة اللامركزية في العراق، وكان من بين أعضاء الوفد الحكومي، السفير العراقي (الكردي) في الولايات المتحدة علي حيدر سليمان، حيث أعدت هذه اللجنة مشروعاً صادق عليه مجلس الوزراء في الأول من يونيو 1963، وقد جاء في مقدمة المشروع:
" تنفيذاً لما جاء في البيان المرحلي الذي أصدره المجلس الوطني لقيادة الثورة بتاريخ الخامس عشر من مارس 1963 فإن نظام اللامركزية يقصد به تقسيم العراق إدارياً إلى محافظات تمتع كل منها بدرجة كافية من حرية العمل في إدارة شؤونها تحت إشراف الحكومة، وتعيين حدود كل محافظة بقانون، وتتألف من لواء واحد، وتحكم من قبل موظفين حكوميين، ومجالس منتخبة تسمى مجلس القرية والناحية والقضاء واللواء والمحافظة، ويتألف الجهاز الإداري في المراكز من:
1- المحافظ: تعينه الحكومة بمرسوم جمهوري، ويكون مسؤولاً أمامها عن جميع شؤون المحافظة، ويعتبر بحكم منصبه رئيساً لمجلس المحافظة.
2- مجلس المحافظة ويتألف من أعضاء منتخبين بالاقتراع السري المباشر وأعضاء معينين يتم اختيارهم من السلطة بمرسوم جمهوري.
3- مجلس تنفيذي، يتألف من رؤساء الدوائر في مركز المحافظة، ويعين أعضاؤه ورئيسه بقرار من مجلس الوزراء، أما نائب الرئيس فينتخبه أعضاء المجلس من بينه، ويختص مجلس المحافظة بالشؤون التالية: (التربية والتعليم والشؤون البلدية والقروية والعمرانية، والإسكان والمواصلات والتموين والتجارة والصحة والشؤون الاجتماعية والزراعية والري)، كما أن هذا المجلس مسؤول عن إدارة المحافظة والتأكد من قيام الأجهزة الإدارية بواجباتها بانسجام تام مع سياسة الحكومة، كما أن للمجلس صلاحية إصدار أنظمة محلية طبقاً للاختصاصات المبينة في القانون على أن تكون خاضعة للسلطة المركزية، ويصادق المجلس على الميزانية السنوية للمحافظة والتي تقرها الحكومة " ( ).
أما المجلس التنفيذي للمحافظة، فيختص
" بتنفيذ قرارات مجلس المحافظة ما لم تكن عطلت من قبل الوزير المختص، وتنفيذ القوانين والأنظمة والتعليمات الحكومية، وله سلطة نقل الموظفين والمستخدمين عدا أعضاء المجلس التنفيذي داخل المحافظة، وكذلك تعيينهم، ويعد مشروع ميزانية المحافظة ومشاريع الأنظمة المحلية، وضبط جميع حسابات المحافظة وإعدادها للتدقيق، وتكون إيرادات كل محافظة من:
1- نصف إيرادات الحكومة من ضريبة الأملاك ورسوم البنزين.
2- رسوم الأملاك والاستهلاك والرسوم البلدية والمنح الخاصة، وأجور الجسور والمعابر.
3- حصة من واردات الدولة تعينها الحكومة المركزية وفق قانون، إضافة إلى حصة من ضريبة التركات والهبات والقروض والأموال المرصدة في ميزانية الإدارة العامة " ( ).
ولمجلس الوزراء إصدار توجيها عامة يراعيها مجلس المحافظة، وفي حالة امتناع هذا المجلس عن ذلك، فلمجلس الوزراء أن يوقف أو يلغي أو يعدل أي قرار يصدره مجلس المحافظة، كما له سلطة نزع ي سلطة أو اختصاص من مجلس المحافظة لهذا الغرض( ).
كما حددت تلك اللجنة خصوصية المنطقة الشمالية، على اعتبار أن هدف نظام اللامركزية هو جمع أجزاء الإقليم الكردي المشتت من خلال عدة متصرفيات، بحدة إدارية واحدة، وعلى هذا فقد أعيد النظر في الحدود الإدارية للمتصرفيات القائمة وفق الآتي( ):
1- اقتطع قضاء (جمجمال) الكردي من لواء كركوك، وإلحاقه بلواء السليمانية الكردي.
2- اقتطع من لواء الموصل خمسة أقضية هي زاخو، ودهوك ، والعمادية ، وعقرة، والزيبار، ليتألف منها لواء دهوك، الذي يتألف غالبية سكانه من الأكراد والآشوريين.
3- تألفت محافظة باسم محافظة السليمانية، وهي مركز الحركة الكردية في القسم العربي حيث قسِّم وفق هذا المشروع إلى:
(1) محافظة الموصل ومركزها الموصل، حيث تألف من لواء الموصل منقوصاً منها الأقضية الخمسة التي فصلت لصالح السليمانية ودهوك.
(2) محافظة كركوك ومركزها كركوك، وتتألف من لواء كركوك منقوصاً منها قضاء جمجمان.
(3) محافظة بغداد ومركزها بغداد، وتتألف من ألوية بغداد ، والرمادي ، وديالي ، والكوت.
(4) محافظة الحلة ومركزها الحلة، وتتألف من ألوية الديوانية، والحلة وكربلاء.
(5) محافظة البصرة ومركزها البصرة، وتتألف من ألوية البصرة، والناصرية والعمارة.
كما تم من خلال تلك اللجنة إقرار اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين، في إطار نظام الإدارة اللامركزية، وذلك في محافظة السليمانية، على أن تكون لغة التدريس في المرحلة الابتدائية، والإعدادية هي اللغة الكردية، وتدرس اللغة العربية كلغة ثانية، ولغة التدريس بالنسبة للمرحلة الثانوية تكون اللغة العريبة.
وعلى هذا الأساس يلاحظ من قرارات اللجنة أنها قد عاملت المنطقة الكردية معاملة عادلة أسوة ببقية الناطق العراقية الأخرى، بل وقد جمعت كل المناطق الكردية في محافظة واحدة، هي السليمانية، وأقرت اللغة الكردية فيها، بغية الحفاظ على أهم خصائص الأكراد التي يتمايزون بها عن بقية الشعب العراقي وهي لغتهم الكردية، ومن الطبيعي أن تكون اللغة في المراحل العليا من الدراسة الثانوية وما بعدها هي لغة الدولة الرسمية التي هي لغة الأكثرية، من أجل التلاقي بين جميع أبناء الشعب حول لغة وحدة مفهومة من قبل الجميع، تربطهم وتجمعهم، وتحفزهم على التلاقي في جميع المجالات.
إلا أن حزب البارتي رفض مقررات اللجنة، على اعتبار أنها لم تلبي كل متطلبات الأكراد التي أوضحوها للحكومة، فأحالت الحكومة العراقية هذا الرفض إلى مجلس قيادة الثورة، مما حذا به إلى إصدار بيان باسمه وباسم الحكومة جاء فيه :
" تجلى إعلان الحكومة الثورية بوحدة المصير الذي يجمع بين العرب والأكراد في إشراكها للمثلي الأكراد في الوفود الرسمية ، والشعبية التي تدارست في الأقطار العربية شؤون الوحدة، وفي جعلها الأكراد على صلة وثيقة بمجريات ونتائج مباحثات الوحدة الاتحادية بين مصر وسوريا والعراق، وبعد أن تدارست حكومة الثورة المطالب التي قدمها مصطفى البرزاني .....إيماناً منها بضرورة اتخاذ الإجراءات الجدية السريعة لتلبية مطالب الأكراد، وتحقيق أهدافهم في الازدهار القومي والمشاركة الفعلية في الحكم الثوري، أعلن المجلس الوطني لقيادة الثورة في التاسع من مارس 1963، بيانه التاريخي بتطبيق نظام اللامركزية، وبعد مرور شهر واحد على قيام الثورة وفي وقت كانت الأخطار فيه تتهددها من كل جانب، أسرعت الحكومة الثورية بتشكيل اللجان الرسمية والشعبية لدراسة مبدأ اللامركزية، والتوصل إلى أفضل صيغة له، وفعلاً تم إعداد لائحة القانون الخاص بالنظام اللامركزي، ولقد شرعت حكومة الثورة، وبسرعة في إعادة النظر في الخطة الاقتصادية بالشكل الذي يعمل على إعادة تعمير المنطقة التي خربها القتال بين قاسم وجماعة البرازانيين، وبالشكل الذي يضمن للمناطق الشمالية حصة وفيرة من المشاريع التي تحقق الازدهار الاقتصادي، في ذلك الجزء من الوطن وتنقله من أوضاع التخلف إلى أوضاع التقدم ..... لقد أعلنت الثورة الشعبية في بيانها الأول، وفي بيانين لمجلس قيادتها، وفي منهجها المرحلي، إيمانها بمطامح الأكراد في زيادة مساهمتهم في عملية الازدهار القومي والتقدمي في العراق، وعملت الحكومة الوطنية بصدق وإخلاص منذ البداية على التوصل إلى حل سلمي سريع للمشكلة التي نشأت في العهد القاسمي، هذه المشكلة التي أضَّر بقاءها جميع مشاريع الإعمار والتطوير في المنطقة الشمالية، كالمشاريع الصناعية ومشاريع الري والإصلاح والمصاريف السياحية، ولكن الفئة الانفصالية الإقطاعية المعروفة بارتباطاتها بالاستعمار والرجعية والصهيونية، والتي ساندت زمناً طويلاً حكم قاسم الديكتاتوري الرجعي، لم يؤثر عليها هذا الموقف النبيل الذي اتخذته الحكومة الوطنية، ولم تأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشروعة للأكراد ولمجموع أبناء العراق، ولم تعمل على حقن دماء المواطنين من العرب والأكراد، وتوفير الأمن والاستقرار لإنهاء الأوضاع الشاذة، ولم تضع مصلحة الوطن ومصلحة جماهير الأكراد، والعمل على تحقيق الازدهار لهما، بل إنها تدور حول مطلب انفصالي رجعي استعماري مرتبط أشد الارتباط بمصالح الدول الأجنبية الطامعة، وهدفه تهديد استقلال العراق ووحدته الوطنية وانطلاقته الثورية......إن وقائع كثيرة تدمع هذه الفئة الإقطاعية بنواياها الانفصالية، وبرغبتها في تقويض أية محاولة للتوصل إلى حل سلمي..." ( ).
ثم ذكر البيان عن أهم الممارسات التي مارسها حزب البارتي ضد الحكومة المركزية، خلال المفاوضات بين البارتي والحكومة، والتي اعتبرها تسهم في تهديد الاستقرار السياسي في الدولة وتهدد الوحدة الوطنية ككل، وأهم الوقائع التي ذكرها البيان( ).
1- إيواء الهاربين من وجه العدالة سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين، وتشكيل عصابات مسلحة تهدد المواطنين إذا لم ينضموا إليها، وتفرض عليهم إتاوات وتجمع منه الأسلحة لصالحها.
2- تفتيش السيارات على الطرق الرئيسية، وسلب ونهب المواطنين، إضافة إلى الهجوم على مراكز الشرطة، وأسر وسلب أسلحتهم وتجهيزاتهم، والحيلولة دون مراجعة أهالي المتمردين لدوائر الحكومة.
3- قطع خطوط الهاتف بين المناطق الكردية، ولتعطيل معاملات الأهالي والتأثير على أعمال السلطات الحكومية، إضافة لإطلاق النار على رعايا القوات المسلحة.
4- اختطاف الموظفين الإداريين، وبعض الأفراد الحرس القومي، في بعض المناطق الكردية، ومهاجمة بعض القرى وسلبها، والتنكيل بأهلها.
5- مهاجمة سيارات الإسعاف الناقلة لبعض المصابين وسلبها، وإحراق بعض القرى، وتشكيل محاكم خاصة بها، وفرض أحكاماً على بعض الأبرياء وإعدامهم لبعض المواطنين.
6- فتح النار على طائرات الجيش (الهليكوبتر) وتعرضهم لقوافل التموين الحكومية.
وعلى هذا الأساس رأت الحكومة أنها حرصاً على حماية المواطنين في المناطق الشمالية، ورغبة منها في إعادة الأمن والاستقرار فيها، من أجل تطبيق المنهاج المرحلي للمجلس الوطني لقيادة الثورة، ولتطهير المنطقة ممن اسمتهم العصاة والانفصاليين، أنذرت الحكومة حزب البارتي بأنه إذا لم يسلم أسلحته، ويستسلم خلال أربع وعشرين ساعة فإن الحكومة عازمة على إجبارهم على ذلك، وقد أذيع هذا الإنذار في الإذاعة الرسمية داعياً إلى ضرورة مساعدة الشعب لقواته المسلحة للقضاء على الانفصاليين.
وهكذا بدأت الحرب بين النظام والأكراد منذ العاشر من يونيو 1963، بعد أن أصر البرزاني على آراءه بالحكم الذاتي كما يريد هو، إضافة لما فعله عبد السلام عارف، من تشجيع لهذه الحرب، بهدف إضعافه للنظام البعثي، وإسقاطه تمهيداً للانفراد بالحكم، خاصة وأن جناحي البعث العراقي، وهو جناح حازم جواد، وجناح علي صالح السعدي ، بينما الخلافات قد ازدادت بتشجيع من عبد السلام عارف، كما أن حازم جواد كان قد أعطى معلومات مغلوطة للقيادة القومية، حول المشكلة الكردية وتطوراتها في العراق( ).
وقد بدأت الحرب فعلياً في العاشر من يونيو 1963، وشجعت أطراف خارجية هذه الحرب، وأهم هذه الأطراف كانت الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل وتركيا، حيث استمرت هذه الحرب طول فصل الصيف من عام 1963، كما حدث تحالف بين الإيرانيين والأتراك من جهة وبين عبد السلام عارف من جهة أخرى وذلك من خلال أحد قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، وهو قائد الأركان طاهر يحيى، الذي كان يعمل سراً ضد البعث، فكان ينسق مع الإيرانيين والأتراك في كركوك حيث كانت طائرات إيرانية تنتقل العتاد الثقيل إلى قاعدة كركوك الجوية، وكل هذا بدون علم أعضاء البعث في الحكومة( ).
كما عملت الولايات المتحدة من خلال سفارتها في بغداد على تسليح العراق مقابل السماح لخبراتها بالإطلاع على الأسلحة السوفياتية التي كان العراق قد أستوردها زمن قاسم( ).
لكن هذه الحرب لم تحقق شيئاً للطرفين، فضعف الاقتصاد العراقي، والأمن الداخلي بسبب الصراعات بين أعضاء البعث، وتشجيع عبد الناصر لعبد السلام عارف على تغذية الحرب في الشمال تمهيداً لإسقاط البعث العراقي، وذلك بسبب الخلافات بين قادة البعث وعبد الناصر، وبالفعل فقد ذهب عبد السلام عارف إلى الشمال وأخذ يحرِّض على القتال ضد الأكراد، وضرورة استخدام كل الأساليب ضدهم، وزادت حدة الشائعات ضد العرب على أساس أن القيادة القومية في سوريا قد بعثت لواءاً سورياً إلى العراق لقتال الأكراد في العراق ودعم الجيش العراقي، رغم أن ذلك الجيش قد بعثته القيادة القومية بهدف دعم النظام العراقي الذي يوشك على الانهيار أمام تدخلات عارف، وإثارته للشقاق بينهم، لكن عارف جعله-بتكتيك سياسي وتحريضي- يذهب إلى الشمال بدل أن يتواجد في بغداد( ).
ورغم ذلك يعتبر بعث قوات سورية إلى العراق خطأ جسيماً؛ لأن الغرب إضافة إلى بعض الأكراد المتواجدين في الخارج، واللذين لهم مكاتبهم وصحفهم في العالم الغربي أصبحوا يصفون العرب بالشوفونيين، وأنهم يريدون التخلص من الأكراد أو تذويبهم ضمن الجسم العربي، فاشتدت الحملات الإعلامية على النظام، وخاصة الإذاعة الكردية في القاهرة، التي أخذت تصف البعث بأنه حزب فاشي، كما أخذت المنظمات الكردية في الخارج تشن حملاتها على ما أسمته التفرقة العنصرية ضد الأكراد، وتناشد الصليب الأحمر الدولي بضرورة التدخل لما أسمته وقف المذابح ضد الأكراد، وهذا ما حذا بالصليب الأحمر إلى أن يبعث شكوى إلى الأمم المحتدة ضد الحكومة العراقية، مطالباً بإدراج هذه الشكوى في جدول أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة( ).
ورغم أن الجيش العراقي حقق انتصارات حاسمة في الشمال ولم يبق سوى استسلام البارزاني، إلا أن اشتداد الصراع بين تيار حازم جواد، بعد سيطرته على القيادة القطرية، وإبعاده -بالتآمر مع بعض الضباط -على علي صالح السعدي عن السلطة وعن البلاد بعد تسفيرهم إلى إسبانيا، واتهامهم بإثارة عدم الاستقرار في العراق، مما حذا بمؤيدي السعدي في العراق، وأهمهم فرع القيادة القطرية في بغداد، التي اعتبرت أن القيادة الجديدة بقيادة حازم جواد غير شرعية، وأنها- فرع القيادة القطرية في بغداد - تمثل الشرعية، لحين قدوم القيادة القومية، وحلها لمشكلة الحزب( ).
وبعد وصول القيادة القومية لحزب البعث إلى بغداد، واستلامها مهام القيادة القطرية في العراق، بعد حلها للقيادتين - قيادة السعدي وقيادة جواد- في الحادي عشر من نوفمبر 1963، إلا أن تدخل عبد السلام عارف وتحالفه مع بعض الضباط البعثيين، الذين تخوفوا من عودة السعدي بعد انتهاء الأزمة في الحزب، كونهم ممن أيد حازم جواد في انقلابه ضد السعدي، لذلك وقفوا مع عارف في انقلابه، مستفيدين من خطأ القيادة القومية من حل القيادتين، حيث كان من الأحرى لها أن تنهي المشكلة بطريقة لا تثير أي طرف، من خلال تجميدها للوضع القائم، وأن تعيِّن قيادة بديلة، وتنحي الرئيس عبد السلام عارف، وتدينه، وأن تعلن الأحكام العرفية، وتسيطر مباشرة على الجيش، وبالتالي تخلق الجو الملائم للحل.
لكن رغم ما حدث بين النظام البعثي عام 1963 ، وبين الأكراد من مشاكل وحرب، أثَّرت سلباً على كليهما، وأضعف الوحدة الوطنية بين الطرفين، بسبب الرغبات الانفصالية للبارتي، وعدم احترامه للغة الرسمية للبلاد، بأن لا تدخل في المدارس ذات الأكثرية الكردية إلا كلفة ثانية ، ومطالبه ذات الطبيعة الاستقلالية، وعدم احترامه للثقافة الوحدوية التي يطالب بها الشعب العربي في العراق، إضافة لما في المجتمع العراقي من أقليات ، كل هذه الأشياء لابد أنها ساهمت في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق، لكنها تتميز هذه المرحلة بأنه ولأول مرة يلتقي فيها الطرفان المؤهلان لحمل المسؤولية وجهاً لوجه،ويباشرا حواراً سياسياً صريحاً، لأول مرة يشعر الجانب الكردي أنه يفاوض فوق أرضية واحدة ،ويتمتع بحقوق متساوية مع مواطنيه الذين يمثلون الجانب الرسمي للحكومة المشتركة (العراقية ) ، فلم يكونوا يمثلون الشعب الكردي في العراق عن طريق قيادته السياسية ، بينما يمثل الجانب العراقي الرسمي عن طريق قيادته السياسية التي يمثلها حزب البعث ، الأمر الذي أتاح فرصة كبيرة للشعور بالثقة ،والتعامل بالرضى ، لكن انهيار المباحثات واللجوء إلى الحرب بين الطرفين قد أضعف هذه الثقة، ومزَّق الوحدة الوطنية في العراق خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من حكم البعث عام 1963.
والمشكلة الأخرى التي واجهها حكم البعث في العراق عام 1963 هو مشكلة الاعتراف بالكويت، حيث يرى الكثير من العراقيين أن الكويت تلك المنطقة التي تقوم فوق بحيرة من النفط هي جزء من العراق، على أساس أنها كانت في العهد العثماني تابعة للواء البصرة أما حاكمها الأول وهو المعروف بصباح الأول ، فقد انتقل من أم قصر إلى مدينة الكويت عام 1752، كما انتقل المكتب البريطاني من البصرة إلى الكويت عام 1773، إثر خلاف البريطانيين مع الأتراك، أيضاً صاحب ذلك انتقال المقيم البريطاني من مدينة البصرة إلى إحدى الجزر الكويتية وهي جزيرة فلكا، وأزيلت الحدود بين الكويت والعراق خلال الفترة (1932-1939)، كما أن الكثير من الكويتيين لهم ممتلكات في البصرة، كل هذه الأشياء دعت عبد الكريم قاسم -عقب انسحاب القوات البريطانية منها- إلى محاولة ضمها للعراق، وعقد مؤتمراً صحفياً في 25 يونيو 1961 هدد فيه بقطع العلاقات مع أي دولة تعترف بالكويت، كما انسحب من الجامعة العربية ؛ بسبب اعترافها بالكويت وضمها إلى جامعة الدول العربية، كما حاول بعد ذلك إقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي مع الكويت، لكن حالت حركة البعث عام 1963 دون استكمال ذلك الاتحاد، بينما يرى الكويتيون أن الكويت كانت لها استقلاليتها منذ القرن السابع الميلادي وكانت عبارة عن قرية صغيرة اتخذها بعض الصيادين والبدو مقراً لهم، وأن قبيلة بنوخالد كانت تسيطر عليها إلى أن جاءت قبيلة أخرى تسمى العتوب الذين انحدر منهم آل الصباح والذين كانت لهم علاقات جيدة مع الشركة البريطانية المسماه شركة الهند الشرقية، ووقع حاكمها مبارك الكبير اتفاقية سرية مع بريطانيا عام 1899، لكن لم يستثنى أي نظام حكم العراق أمر الكويت ومطالبة ضمها للعراق على اعتبار أن الكويت والكويتيون هم جزء من المجتمع العراقي، وأنها كانت على مدار تاريخها جزء من الدولة العثمانية مثلها مثل العراق ، لذلك فقد عارض الكثير من العراقيين مسألة اعتراف مجلس قيادة الثورة العراقية عام 1963 بالكويت كدولة مستقلة، بعدما وصل وفد كويتي برئاسة صباح السالم الصباح -الذي كان يشغل ولي العهد - إلى بغداد ولقاءه برئيس الوزراء العراقي أحمد حسن البكر، ومن ثم توقيع محضر مشترك في الرابع من نوفمبر وقد أذيع قرار الاعتراف من الإذاعة( ).
وكانت حجة بعض العراقيين ضد هذا الاعتراف، أن موضوع نشوء الدولة الكويتية كان في وقت كانت فيه الكويت إحدى المحميات البريطانية، والسيادة حسب القانون الدولي هي من المقومات الأساسية لنشوء الدولة، فإذا لم توجد حكومة مستقلة ذات سيادة، فيكون تشكيل الدولة غير قانوني، كما أنه لم يستفت الشعب العراقي رسمياً في مبدأ الاعتراف بالكويت( ).
لهذا السبب فقد استاء الكثير من العراقيين من هذا الاعتراف الذي اعتبروه بأنه ضد حق تاريخي للعراق، إضافة لما فيه من موارد، وموقع استراتيجي يتمتع بسواحل كبيرة في ظل السواحل المحدودة للعراق، وادعى الناصريين أن هذا الاعتراف قد تم في الوقت الذي وقَّع فيه مشروع الوحدة الثنائية بين سوريا والعراق، عقب انعقاد المؤتمر الخامس لحزب البعث عم 1963 ، حيث عملت الحكومة على المماطلة مع شركة (كونكورديا) الألمانية، في منح امتيازاً باستثمار الجزيرة العراقية، تمهيداً لمنحه للشركة الأنكلو أمريكية أي شركة نفط العراق( ).
والمشكلة الثالثة التي واجهها البعث خلال فترة حكمه عام 1963 هي الوحدة الثلاثية مع كل من الجمهورية العربية المتحدة، وسوريا، حيث كان البعث عقب حركته يدعو للوحدة العربية، وأنه يريد تطبيقها على أرض الواقع، وهذا الطموح طموح جميع العراقيين العرب، الذين يعتبرون أنهم ينتسبون إلى أمة أكبر، يجب توحيد أجزاءها، وأن يكون العراق هو الرائد في ذلك، خاصة في ظل دولتين مجاورتين لهما تأثير على مجريات الشرق الأوسط وهما إيران وتركيا، لكن شروع البعثيين في العراق في إبعاد الناصريين عن الحكم، والانفراد بالحكم ساهم في التأثير السلبي على العلاقات مع مصر، فرغم أن الوحدة الثلاثية قد حدثت بين سوريا والعراق ومصر، في السابع عشر من أبريل 1963، إلا أن قمع الناصريين في سوريا وإبعادهم عن الحكم عقب حركة جاسم علوان في 18 نوفمبر 1963، وإعدام الكثير من الضباط الناصريين، جعل الفوارق بين البعث والجمهورية العربية المتحدة، كبيراً إضافة لما ساد من عدم ثقة بين الجانبين عقب إذاعة محاضر جلسات الوحدة بين الدول الثلاث من خلال إذاعة صوت العرب، وإذاعة القاهرة ، وعلى هذا الأساس شنت مصر حملة إعلامية مكثفة ضد البعثيين السوري والعراقي، وأخذت تدعم الناصريين إلى أن تم إسقاط البعث عن طريق عبد السلام عارف- الموالي لعبد الناصر- والذي شرع في إبعاد البعثيين عن كل مراكز الدولة وإلغاء حزبهم( ).
وتكمن أهمية مبادرات مساعي العراق الوحدوية، أنها قد أثارت، الأكراد الذين اعتبروا أنهم من الممكن أن يذوبوا فيها، خاصة أن الجنسية لن تكون عراقية في الدولة الجديدة بل ستكون عربية كما كان مفترضاً ، لذلك رأينا أنهم طالبوا بأن يكون لهم إقليماً خاصاً بهم، وأن ترفق جنسيتهم في أوراقهم الرسمية، وأن يكون لهم حكماً ذاتياً، بالرغم من أنهم أيدوا الطموحات العراق الوحدوية، كونها تشكل إحدى أهم ثقافات المجتمع العربي خلال فترة المد الثوري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ؛ لذلك فقد عالج المؤتمر السادس للحزب في بيروت عام 1963 هذه القضية ، حيث أصدر قراراً بضرورة الوحدة الثنائية بين سوريا والعراق وإنجازها في مدة أقل من شهرين، وأن يكون اسم الدولة الجديدة الجمهورية العربية الديمقراطية الشعبية، لكنه طلب ضرورة إنهاء النزاع المسلح مع الأكراد، وحل المشكلة الكردية سلمياً بإقرار الحقوق القومية للشعب الكردي، والإسراع بتطبيق اللامركزية، وفق حق تقرير المصير للشعب الكردي( ).
وعلى ذلك فالبعث رغم محاولاته تحقيق مبدأ احترام وحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية، فإنه اصطدم بتعنت كردي من خلال حزب البارتي، الذي ساهم في تأزم الموقف مع البعث ؛ لإشعال الحرب في المنطقة الكردية، إضافة إلى غياب روح الحوار بين النظام السياسي الحاكم وبين الأكراد، فكان من الممكن إشراك جهات خارجية تسعى لإيجاد الحل بدل رفع السلاح ، كما أن اعتراف النظام الكويت ساهم في إثارة الكثير من العراقيين الذين يعتبرون أن الكويت جزءاً من العراق، وأن الاعتراف بها هو تفريط بحق تاريخي، وعدم احترام لمشاعر الشعب وثقافته، إضافة أن سعي العراق للوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة وسوريا، قد ساهم هو الآخر في تأزم العلاقات بين النظام والأكراد الذين أكدوا على مطالب تسعى لتقسيم أبناء الشعب العراقي، والمنطقة العراقية وإثارة التمايز فيها، وعدم الرغبة في تعلم اللغة العربية واستعمالها في المناطق الكردية، وهذا مما كان له أكبر الأثر على إضعاف التواصل بين العرب والأكراد في العراق.

المطلب الثالث
مدى تحقق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة
منذ وصول البعث إلى السلطة في العراق بدأ بمكافحة الشيوعيين ومؤيدي النظام القاسمي، وبدأت حملة اعتقالات، وإعدامات كثيرة ضد الشيوعيين وإغلاق صحفهم ونقاباتهم، إضافة إلى جميع الشيوعيين الذين كانوا معتقلين في زمن قاسم قبل حركة البعث الثامنة من فبراير من عام 1963م( )، وقد استعملت مليشيات البعث المسماة "الحرس القومي" ، والتي أقرها مجلس قيادة الثورة، على أساس أنها ضمن الجيش العراقي وهدفها حماية النظام من أعداءه، لكنها كانت مليشيات قاسية جداً على الشعب العراقي ككل، ففي سجن أبي غريب الذي اتخذ كأحد السجون التي يسجن فيها المعتقلين من خلال قوات الحرس القومي، كان عدد السجناء يصل إلى حوالي ستمائة سجين، تركوا دون طعام أو شراب، لمدة ثلاثة أيام, ولم يكن المكان المخصص لكل واحد منهم في السجن يزيد عن متر واحد، وكانت ممارسات الحرس القومي للسجناء فيها الكثير من الإهانات والتعذيب، وكانت أهم وسائل التعذيب التي اتبعها الحرس القومي ضد معتقليه هي( ) :
1- سحق الجسد بماكينة (الرولر) ذا الوزن الذي يصل إلى عشرة أطنان.
2- ثقب الآذان بآله الدريشن الكهربائية بحيث ينفجر دماغ السجن وتتطاير أجزاءه في كل مكان.
3- قطع الجسد إلى نصفين بواسطة منشار كهربائي للخشب.
4- إجبار السجين على السير على سلالم مغطاة بالزجاج المكسر حتى تنزف رجلاه دماً، وعندما يصل إلى أخر درج من درجات السلم يجده مكهرباً، ويصعقه التيار الكهربائي فيغمى عليه.
5- الرب الأسلاك الكهربائية والأنابيب البلاستيكية.
6- الكي بالكهرباء والتغطيس بالمياه القذرة.
7- الرش بالماء المغلي ثم بالماء المثلج.
8- وضع رأس السجين في آلة تستخدم لضغط المواد الخشبية والحديدية.
9- الضرب بأنابيب الحديد وبالعصي الغليظة المدببة الرؤوس.
10- التعليق بمراوح السقف ثم إطلاق التيار الكهربائي.
11- تعليق السجين من السقف بواسطة رجليه أيام معدودة.
12- الكي باللفائف المشتعلة والمسامير المحماة في النار.
13- ترك السجين أيام عديدة بدون طعام ، أو ماء ثم تقديم كوب من الماء المثلج له، لا يكاد يهم بشرب ما فيه حتى يتلقى ضربه قوية تحطم الكوب الزجاجي على شفتيه وأسنانه، فتتحطم أسنانه، ويمتلئ فمه بقطع الزجاج المكسور الممزوج بدمه وأسنانه المحطمة.
والكثير من هؤلاء المتهمين كان يؤخذ بتهمة دون أي أدلة أو براهين تثبت ضلوعه بالشيوعية، أو بأي جريمة أخرى، فقد شكل الحرس القومي لجان تحقيق من قبل بعض الأعضاء المنحرفين أخلاقياً، وأخذوا يمارسون إهاناتهم واعتقالاتهم وتعذيبهم للمعتقلين، بدون الرجوع إلى الحكومة أو إلى قيادة الجيش التابعين له، وأصبحت مكاتب التحقيق التابعة للحرس القومي، التي اتخذت من بعض المقرات ومنها محكمة المهداوي مراكزاً لها، تمتلك السلطة المطلقة في اعتقال من تشاء من أفراد الشعب، وساد الفساد الإداري في هذه المراكز، فكان الكثير من المعتقلين يدفعون اللأتاوات أو الرشاوي مقابل إطلاق سراحهم ، حتى أن بعض المستقلين ممن كانوا خطراً على النظام، أطلق سراحهم مقابل بعض الرشاوي، ولم يكتف عناصر الحرس القومي بالاعتقالات والتعذيب وأخذ الرشاوي، بل وصل بهم الحد إلى إعدام الكثير من المعتقلين ودفنهم في مناطق مختلفة تحت ستار الليل، وبتكهم رجال الحرس القومي على ذلك، أيضاً كان اتهامهم للكثير من القوميين الوحدويين والناصريين بالشيوعية، عاملاً ساهم في زيادة عدد المعتقلين بشكل كبير كون القومين والناصرين يشكلون تياراً كبيراً في المجتمع العراقي( ).
ورغم أن الحرس القومي هو جزء من القوات المسلحة العراقية كما نصت المادة الأولى من قانون الحرس القومي، إلا أن حب السيطرة والانفراد بالحكم قد استولى على بعض قادة الحرس القومي، وأباحت لهم ارتكاب الأعمال المخالفة للقانون ضد أبناء الشعب، وضد بعض أفراد السلطة أيضاً، وهذا ما حذا بقيادة القوات المسلحة إلى توجيه كتاباً إلى قيادة الحرس القومي برئاسة المقدم منذر الونداوي، لوضع حد لهذه التصرفات، حيث أرسل هذا الكتاب في الرابع من يونيو من عام 1963، وكان مضمونه: " إن الحرس القومي يقوم بأعمال من شأنها تعكير صفو الأمن وراحة المواطنين، وإذا استمرت هذه الأعمال، فإن القيادة العامة للقوات المسلحة تجد نفسها مضطرة لحل الحرس القومي"( ).
مما حذا بقائد الحرس القومي الونداوي إلى الرد على هذا الكتاب برسالة أخرى جاء فيها:
"إن الحرس القومي قوات شعبية ذات قيادة مستقلة، ولا يحق لأي كان يصدر مثل هذه الأوامر والتعليمات، إلا لمن له صفة تمثيل الشعب، وفي مثل ظروفنا الثورية ، يكون حق إصدار مثل هذه الأوامر للمجلس الوطني لقيادة الثورة فقط، إن الواجبات التي مارسها الحرس القومي ... إنما أقدم عليها شعور منه لخدمة المصلحة العامة، إن الأخطاء والمخالفات التي تحدث من بعض الحرس القومي، إنما هي أخطاء فردية تحدث أمثالها في كل من الجيش والشرطة والأجهزة الأخرى، وقيادة الحرس القومي هي السلطة المسؤولة عن مراقبة وتصحيح مثل هذه القضايا، إن قيادة الحرس القومي تتحد أي جهة أن تثبت بأنها على أخطاء ارتكبت من بعض أفرادها"( ).
ولكن أي قانون يقصده قائد الحرس القومي في ذلك ، فقانون الدولة ينص على أن المواطنون سواسية أمام القانون، كما أن دستور البعث، لا يتيح للبعثيين القتل والسحل وانتهاك الأعراض، والاعتداء على النساء، والنهب والسلب، وإهانات المواطنين، إضافة إلى أن الحرس القومي لم يتقيد بالقانون الذي أسس بموجبه، والذي تنص مادته الأولى على ربطه بالقوات المسلحة، وأنه يتلقى تعليماته من وزارة الدفاع، وبناءاً على ذلك فالحرس القومي وقيادته قد داسوا على حرمة القانون واستهتروا بقدسية النظام، إضافة إلى أن الحرس القومي لم يحترم رموز المجتمع العراقي من أساتذة جامعات، وضباط جيش، واتهامه لمن ينتقده بالشيوعية، إضافة إلى اعتداءه على أفراد الشرطة، وتدخله في المحاكم العسكرية والمدنية للمواطنين، وتدخله أيضاً في أعمال التجارة الداخلية، ومديرية التسويق، وممارسته لأعمال التهريب بالتعاون مع بعض مهربي المواد الغذائية، وتدخله في قضايا الإصلاح الزراعي وفي قضايا الفلاحين، وجمعهم المبالغ الضخمة بحجة التبرعات بدون أخذ الموافقات القانونية، وتدخلهم أيضاً في توظيف الموظفين، مع ضرورة موافقتهم على التوظيفات، وتعيينهم لبعض الإداريين الغير مؤهلين في شغل مناصب معينة بحجة انتسابهم للحرس القومي أو للبعث، وسرقتهم للسيارات، وحصولهم على أموال التبرعات التي كانوا يقومون بها بأنها تبرعات لشهداء ثورة الثامن مارس، رغم أنها ذهبت إلى جيوبهم، وأخذهم إتاوات من المسافرين خارج العراق أو الداخلين إليه، وفرضهم إرادتهم على الموظفين والعمال بما يحقق لهم رغباتهم منهم، أو في الدائرة التي يشتغل بها، و إلا فأنه سيتهم بالشيوعية( ).
قد انتقد أحد أفراد الحرس القومي هذه التصرفات وبعث بشكوى إلى القيادة القطرية حول ذلك في رسالة له في 29 يوليو 1963جاء فيها:
"أننا في الوقت الذي نطالب بإنزال أقسى العقوبة بحق من تحمل مبيت فتاة في قيادة قطاع الرصافة، وتطالب بإجراء تحقيق على منتسبي القيادة العامة لقوات الحرس القومي، حيث أن المعروف لدينا، ولدى كل رفاقنا أن باب مبنى القيادة، أصبح ساحة لملتقى (الأوانس والفتيات) بأعضاء هذه القيادة، ولنذكر على سبيل المثال أن (صباح المدني، وعمار علوش) وغيرهم أصبحوا محط أنظار الجنود والشرطة الذين يمثلون في القيادة العامة...... وهؤلاء أصبحوا معتادين على مشاهدة السيارات التي تقودها الفتيات أو تحمل الفتيات، وتقف أمام القيادة لتنادي على الثوار العباقرة (صباح وعمار)...الخ .. نحن الحرس القومي وعلى رأسه القيادة العامة يجب أن نقدر المسؤولية والأمانة التي أنيطت بنا، أن ما ورد في خطاب عبد الناصر وما فيه من إشارات غمز وتلميح حول من هم مبتلين بالسهر والملذات، أصبح مكشوفاً للجميع من قبل قادتنا... والفضيحة إن استمر التستر عليها سوف تنفجر على نطاق شعبي، وحينذاك سوف نشعر بأن التستر على هذه الجرائم كان جريمة بحق أنفسنا وحزبنا وأمتنا........ إن الحزب ورسالته فوق زيد وعمر فأنقذونا من هذه القيادة، أنقذوا رسالتكم من البقع السوداء التي لطخت بها من جراء تصرفات الأشخاص الذين لا يقدرونها ...."( ).
من الضروري إلغاء مكاتب التحقيقات الخاصة بالحرس القومي، والاستعاضة عنها بتشكيل هيئة تحقيق أمن الجمهورية المرتبطة بالمخابرات العسكرية لكن قيادات الحرس القومي رفضت ذلك بحجة أن الأوامر يتلقونها من القيادة القطرية للبعث، أي من على صالح السعدي، ورغم أن وزير الدفاع الفريق صالح مهدي عماش حدد دور الحرس القومي وصلاحياته، وربطه بالمخابرات العسكرية، وبالحاكم العسكري العام، وبالمحكمة الثورية، إلا أن قيادة الحرس لم تتمثل لأوامره، حتى أن رئيس الحرس القومي رد على تلك الرسالة بقوله:
" يفهم من كتابكم أعلاه بأنكم غير مطمئنين إلى مقررات، وهيئات التحقيق والحرس القومي من معالجة أمور أعداء الثورة، وبما أن الجهاز ككل لا يمكن أن يكون موضع شك، ويرجى الاستقصاء عن العناصر السيئة، والتي تتهاون في أمور سلامة الثورة، وأخبار السلطة الثورية عنها، لأن الثورة بقاعدتها وقيادتها لا تسمح بذلك، وهي مستعدة لسحق كل من يقف في طريقها أو يعرقل مسيرتها"( ).
وعلى هذا الأساس لم يتورع رجال الحرس القومي لا لأوامر الحاكم العسكري ولا ولأوامر قادة الجيش، وأصبح أي مواطن عراقي معرضاً لتجاوزاتهم وإهاناتهم واتهاماتهم، وإجبارهم على الانتساب إلى الحرس القومي، مع أنه معظم قياداته كانت من ذوي أخلاق ذميمة ، وكانوا عاطلين عن العمل، أو لأنهم بعثيون، من دون أي كفاءات علمية أو إدارية أو قيادية( ).
كما أن الكثير من البعثيين الذين تولوا في الحكومة أو مجلس قيادة الثورة، أو في القيادة القطرية للحزب في العراق، كانوا من الشباب الذين تنقصهم الخبرة والدراية بأمور الحياة والدولة، وهذا ما أثار الكثير من ذوي الخبرة والدراية والذين أمضوا الكثير من حياتهم في ذلك، وحول تولي هؤلاء للمناصب في الدولة يقول ميشيل عفلق: " من الضروري أن يتسلم الشباب البعثيون الصغار مقاليد الحكم ، ثم يخرجوا ويأتي شباب يعني آخرين، ويبقى في الحكم فترة وجيزة، ثم يستقيل، فيصبح في النهاية حصيلة لا بأس بها من الشباب الذين يحملون لقب وزراء سابقين"( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه هل أمور الأمة والدولة، يستطيع هؤلاء الشباب الغير مدربين وغير ذوي الكفاءة أن يقوموا بها ؟ ، أليس من العار أن يستلم القيادة من تنقصهم هذه الكفاءات، وتحجب هذه المناصب عن ذوي الخبرة والدراية التي يمتلأ العراق بالكثير من كوادرها ؟، فلو تتبعنا مثلاً بعض أهم هؤلاء القيادين وأعمارهم ومستواهم التعليمي فسنجد الآتي :
1- علي صالح السعدي، كان معلم ابتدائي، وعمره 35 سنة.
2- حازم جواد، مطرود من المعهد العالي للمعلمين، وعمره 28سنة.
3- طالب الشبيب، لم يكمل دراسته في كلية الصيدلة، وعمره 32سنة.
4- هاني الفكيكي، لم يكمل تعليمه في الصيدلة، وعمره 27سنة.
5- طارق عزيز، معلم درس في كلية الفنون، وعمره 27سنة.
أما أهم الضباط الذين تولوا السلطة فمنهم:
1- أحمد حسن البكر وعمره 49 سنة.
2- صالح مهدي عماش وعمره 37 سنة.
3- عبد الستار عبد اللطيف، وعمره، 37سنة.
4- طاهر يحيي، وعمره 49 سنة.
5- منذر الونداوي، وعمره 28سنة.
6- حردان عبد الغفار التكريتي وعمره 37 سنة .
وكل هؤلاء ينتمون إلى الطبقة الوسطى وإلى البعث، ورغم أنه لم يكن عندهم طائفية مذهبية أو عرقية لتؤثر على العلاقات فيا بينهم، إلا أن معظم هذه القيادات المدنية كانت شيعية وأبرزها: (علي صالح السعدي، وحازم جواد، وهاني الفكيكي، وطالب الشبيب)، لكن معظم القيادات العسكرية كانت سنية، مثل:(أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي، وعبد الستار عبد اللطيف، ومنذر الونداوي) ( )، كما أن علي صالح السعدي، هو من أصول كردية، حتى أن أخاه كان عضواً قيادياً في حزب البارتي، وهذا يؤكد عدم طائفية أو إقليمية أو عرقية القيادة البعثية في العراق عام 1963.
وفي ظل حكم البعث عام 1963، أصبح يساق الناس إلى المعتقلات لمجرد اعتناقهم أيديولوجية أو فكر غير بعثي، بما في ذلك القوميون والناصريون، لكن أكثر من تعرض لاضطهاد البعث كان الشيوعيون، الذين كان لهم دور بارز خلال فترة حكم عبدالكريم قاسم، وكان عبد السلام عارف يغذي هذه القسوة من قبل البعث العراقي، فهو الذي شجع على إعدام ما يقارب أربعمائة وخمسين شيوعياً، عام 1963، وذلك من خلال ما عرف بقطار الموت الذي أخذ فيه الشيوعيون من بغداد إلى البصرة وماتوا بسبب الاختناق، ودرجة الحرارة المرتفعة( )، ورغم ذلك رأى ميشيل عفلق أن المجازر التي ارتكبت بحق الشيوعيين، لا تدخل في طائلة مسؤولية البعث ؛ لأن البعث في العراق كان في حالة دفاع عن النفس، كما برر حملة الاعتقالات ضدهم، واصفاً الأحزاب الشيوعية العربية بأنها أحزاب قطرية وإقليمية( )، رغم أن الانتقامات البعثية من الشيوعيين كانت مبنية على روح الثأر والحقد والانتقام، وهو ما زرعته العشائرية- من خلال العشيرة- برجالها الذين تحولوا إلى قيادة الجيش والدولة، وهذا ما يفسر رفضهم لطلب عبد الكريم قاسم الذين تحولوا إلى قيادة الجيش والدولة، وهذا ما يفسر رفضهم لطلب عبد الكريم قاسم أن ينفي إلى الخارج، أو أن تتشكل له محكمة علنية على التلفاز، كما يفسر رفضهم لطلب زعيم الحزب الشيوعي سلام عادل وهو الاسم الحركي لحسين أحمد راضي، حيث رفضوا طلبه بأن يتناسى الجميع الماضي، ويعلنوا بيان قومي مشترك( )، حتى أن أحد قادة البعث وهو أول قائد للحرس القومي مصطفى عبد الكريم نصرت، قال وهو في السجن لأحد الشيوعيين الذين كان قسماً منهم مازال قيد الاعتقال بعد سقوط البعث على يد عبد السلام عارف،: "لو جئتم إلى السلطة وقتلتمونا بالدبابات سيكون ذلك من حقكم، لأنه لم يبق شئ لم نستخدمه ضدكم"( )، وهذا ما يفسر قتلهم لابن أخت عبد الكريم قاسم، وهو الطيار (طارق القيسمي)، وإظهارهم لجثث قاسم ورفاقه، على التلفاز وتمثيلهم بجثثهم، كل هذه الصفات عشائرية بدوية غير حضارية( ).
وقد أيدت بعض العشائر العربية في شمال العراق النظام الذي ساد، رغم قيامه بعمليات تهجير لبعض القرى الكردية من سكانها وإسكانها للعشائر العربية، مثل قرية بندور وهي قرية غرب جبل القوس في الشمال، على اعتبار أن هذه العشائر التي كانت موجودة في القرى كان تؤيد البارتي( ).
وبعد فشل ميثاق الوحدة الثلاثية بين العراق وكل من سوريا ومصر، بعد تحديد فترة للوحدة بعد حوالي سنتين، واتخاذ إجراء استفتاء في كل من هذه الدول خلال ثلاثة أشهر، وأن تكون هذه الوحدة على شكل فيدرالي بحيث تكون الحكومة الاتحادية مسؤولة عن الخارجية والدفاع والمالية والإعلام والتعليم والعدل والمواصلات الاتحادية، أما المشاتل الأخرى فتكون من اختصاص الحكومات الإقليمية الثلاث، والسلطة الاتحادية مسؤولة أمام الجمعية التشريعية الاتحادية التي ينتمي إليها رئيس الجمهورية لمدة أربعة سنوات، وتتألف من مجلس اتحادي يضم ممثلين متساويين في العدد في كل دولة من الدول الثلاث، ومجلس نواب منتخب يكون نصف أعضاءه من العمال والفلاحين، وعليه فإن سبب فشل الميثاق منذ الأشهر الأولى لقيامه هو قمع الناصريين في سوريا بعد فشل انقلاب جاسم علوان في 18يوليو 1963، ثم انتقل الخلاف إلى كلا القيادتين القطريتين في سوريا والعراق، وهذا مما حذا بعبد الناصر إلى تعبئة عبدالسلام عارف، لإسقاط البعث في العراق، وذلك بعد زيارته لمصر في نفس السنة، ثم بدأت حملة إعلامية بين البعث وعبد الناصر، حيث اتهم عبد الناصر البعث بأنه حليف للاستعمار بقوله في 22/10/1963: "إن حزب البعث يتحالف اليوم مع الاستعمار، ومع أعوان الاستعمار، إن حزب البعث لا يستطيع أن يحكم إلا إذا فرض الإرهاب بالحديد والنار، أنه حزب فاشستي لا يمثل الشعب، أنه حكم بنى وجوده على الدم"( ).
لكن ميشيل عفلق رد على عبد الناصر بتصريح له قال فيه:
"أن السياسة التي اتبعتها البيروقراطية الإقليمية، واللاعقائدية التي تحكم القاهرة، كانت مع الآسف الشديد نسخة عن سياسة الأجهزة التي تحكم القاهرة قبل عام 1952، أي سياسة إقليمية توسعية قصيرة النظر، تخطط وتعمل لإضعاف الأقطار العربية، لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة"( ).
ثم أخذت القيادة القطرية تحرض على إبعاد الناصريين عن أجهزة الحكم بحكم خلافها مع عبد الناصر، فأصدرت بياناً جاء فيه:"يعتمد نظام الحكم في القاهرة على التيار الناصري، وهو التيار الذي تدعمه القاهرة، وتتألف قياداته من مرتزقة عهد الوحدة، ومن الأذناب والانتهازيين والعملاء، وبقايا المباحث والمخابرات"( ).
وتجدر الإشارة هنا إلى القول أن تخوف عبد الناصر من وحدة مع سوريا والعراق، بحيث يصبح حسب قوله بين المطرقة والسندات، جعله يعرض عن هذه الوحدة إضافة لعدم رغبته من انتقال مركز العروبة إلى بغداد أو دمشق، فيما لو حصلت وحدة بينهما، على اعتبار أن ذلك قد يقود إلى هلال خصيب بعثي معادي لعبد الناصر، لهذه الأسباب لم يشجع على الوحدة الثلاثية مع بعثي سوريا والعراق، والاستعاضة عنها باستراتيجية إسقاط البعثين السوري والعراقي، فكان فشله من خلال جاسم علوان في إسقاط البعث السوري، جعله يتفق مع عارف وطاهر يحيى على إسقاط البعث العراقي، وذلك بالتقارب مع البعث العراقي على حساب البعث السوري، حيث قال في ذلك:
"لو كانت هناك وحدة بين سوريا والعراق، فإن العراق سيعاني أكثر مما عانته مصر، لأنها لا تتمتع بأي استقرار، وأن سوريا مصابة بالنزعة الانفصالية ولا يوجد أي تعبير عملي عن سياسة البعث، ومعظم تصريحات البعث منتحلة من مؤلفات لينين، ولا يوجد أي تفكير أصيل فيها، ولا معنى لشعاراتها( ).
وهذا الكلام فيه الكثير من الصحة، حيث أن ميشيل عفلق أعد برنامج للبعث بعد وصوله للحكم في العراق، لكن لم يتطرق برنامجه للموقف من الوحدة، ولا لمشكلة الأقليات وخاصة الأكراد، ولا للسياسة النفطية أو قانون الإصلاح الزراعي، كما أنه عندما طرح مشروع الوحدة الثلاثية، وكان الزعيم• أحمد حسن البكر متحفظاً على الوحدة، وعدم التسرع بها متذرعاً بالمشكلة الكردية والخطر الإيراني والمشاكل الاقتصادية( ).
وعلى هذا الأساس كان إبعاد الكثير من الناصرين عن الحكم، مدعاة لسخط الكثيرين، كون الكثير منهم من أصحاب الكفاءات المالية، وخاصة الضباط الناصريين، والقوميون العرب، وأخذ البعث يضع الموالين له في المراكز الرئيسية كما أصبحت الكليات العسكرية والأمنية، لا تقبل في صفوفها سوى البعثيين( ).
وهكذا ابتعد البعث عن الجماهير، وشكل الضباط البعثيون طبقة خاصة بهم لها قوانينها الخاصة بهم، وأسعارها الخاصة، وسكنوا بعيداً عن الطبقات الفقيرة، وعملوا على جعل ثكناتهم العسكرية، على أفخم طراز من مكيفات ووسائل ترفيه، رغم أنهم كانوا من أقل الفئات المثقفة علماً ودراية( ) ، هذا إذ ما علمنا أن الثورة عندما تكون بأيدي شباب تنقصهم الخبرة، وروح الاعتدال وشعور التساهل والتسامح، ومن طبقة فقيرة عانت من الأغنياء فيكون انتقامهم قوياً، لأن الانتقام من غرائز البشر، فعلى سبيل المثال كان يتميز علي صالح السعدي، بتصرفات عفوية، وله جاذبية محببة عند كل من يعرفه، إضافة لتواضعه، لكنه استخدم جميع سماته الشخصية في ممارسات سلبية على مستوى الحكم والحزب، إضافة لإبتعاده عن الأيديولوجية الدينية للشعب بسبب إدمانه على الشراب والقمار، وتمرسه في تنظيم المؤامرات، كل هذه الأسباب كانت من أسباب ابتعاد الشعب عنه، واهتزاز صورته أمامه ، رغم أنه وجميع البعثيين الذين حكموا العراق عام 1963 ينتمون إلى الطبقة الوسطى، التي لها جاذبية عند معظم أفراد الشعب وخاصة من الطبقة الفقيرة، إلا أن ضباط البعث عملوا على زيادة الفوارق بينهم وبين الجنود من ناحية المرتبات إضافة لما ذكرناه ، من تجهيزات وأسواق خاصة بهم، فقد استفادوا من مخصصات ورواتب القوات المسلحة، وزادت مرتباتهم بنسبة ستة أضعاف، وبالنسبة للفوارق بين الجنرالات، والجنود فقد كان الفارق يصل إلى واحد على ستة وأربعين ووصلت مخصصات الإنفاق العسكري إلى 1/31%( )، وهذا مما أثر سلباً على الاقتصاد العراقي.
كما أن الإجراءات الاشتراكية التي قام بها البعث من خلال الإصلاح الزراعي والتأميم، جعلت هناك انشقاقات في المجتمع العراقي، فرغم أنها لم يكن لها أي صفة طائفية أو عرقية، إلا أن الشيعة نظروا إليها على أنها إجراءات مورست ضدهم، على اعتبار أنهم يشكلون الطبقة التجارية المسيطرة على معظم مناطق العراق( )، كما أن رجال الدين كانوا ممانعين لهذه الإجراءات منذ عهد قاسم على أساس أنها لا تتطابق مع الشريعة الإسلامية.
ومما زاد في ابتعاد الشعب والجماهير عن القيادة البعثية في الدولة العراقية عام 1963، هو المحسوبية التي ظهرت بين أعضاء البعث، فعلى سبيل المثال عندما اشتكى آمر موقع البصرة، لقائد الأركان الزعيم طاهر يحي عن تجاوزات الحرس القومي هناك، وادعائهم أنهم يأخذون أوامرهم من القيادة القطرية للبعث، أو من قيادة الحرس القومي، وأنهم يمثلون السلطة العليا في الدولة، قام وزير الدفاع الفريق صالح مهدي عماش بنقل قائد الحرس القومي من البصرة إلى أحد قطاعات الجيش، بدلاً من معاقبته، وكان ذلك مجاملة لقيادة الحرس القومي، كما أن علي صالح السعدي، كان يعين المحافظين دون استشارة وزير المالية أو مجلس الوزراء( )، وعلى هذا الأساس لم يكن حزب البعث سوى اتحاداً لمجموعة من الجماعات التي تجمعها أيديولوجيا وأسباب مهنة، لكن بدرجة أكثر الأصول الطبقية المشتركة، والعلاقات الشخصية بين أفراده، وهذه الأشياء كانت سبباً في توليد التضامن بين أفراد البعث( ).
ورغم ذلك حدثت انشقاقات داخل حزب البعث، بين تيار على صالح السعدي، وتيار حازم جواد، حيث اتهم السعدي خصومه – أي جناح جواد ـ بأنهم غير اشتراكيين، واختلف البعثيون فيما بينهم حول تفسيرات شعارات البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية، ونشأت داخل الحزب تكتلات مختلفة الاتجاهات، أهمها جناحي السعدي وجواد، كما تحالف السعدي مع تيار القيادة القطرية في سوريا- ذلك التيار المتشدد حول الاشتراكية- برئاسة حمود الشوفي، وكانت سيطرة السعدي وتأسيسه للحرس القومي، هو لمواجهة التيار العسكري للبعث في الجيش العراقي، الذي يضم مجموعة الضباط البعثيين ، ولفرض إرادته على التنظيم البعثي الذي يعتقد أنه يمثله، وهذا ما حذا بحازم جواد إلى التحالف مع الضباط القوميين من غير البعثيين، إضافة لبعض الضباط البعثيين، بقصد إبعاد السعدي أو تحجيم قوته العسكرية، والحزبية، وهذا ما ساهم في اتفاق مجلس قيادة الثورة على إبعاده عن الداخلية، وتعينه وزيراً للإرشاد، وأن يحل محله في الداخلية حازم جواد، كما اختلف التياران حول الوحدة مع مصر، حيث رأى جناح جواد ضرورة الوحدة الفورية مع مصر، بينما رأى السعدي ـ الذي يميل إلى رأي القيادة القومية ـ أن الموضوع حساس جداً في الوقت الذي يتفاوض فيه الأكراد من خلال البارتي مع الحكومة( ).
وعلى هذا الأساس حدثت اشتباكات بين البعث بمليشياته المسلحة، من خلال الحرس القومي، مع الناصريين وحركة القوميين العرب، الموالية أيضاً لمصر، وازدادت تجاوزات الحرس القومي ضدهم، مما حذا بحازم جواد إلى الاتفاق مع بعض العسكريين البعثيين الموالين له في الانقلاب على علي صالح السعدي، أثناء انعقاد المؤتمر القطري السادس في الحادي عشر من نوفمبر 1963، وإبعاده عن العراق، مع أهم مؤيديه في القيادة القطرية، وانتخاب قيادة قطرية جديدة تكسب تأييد الضباط البعثيين، وبالفعل، ثم إبعاد السعدي خارج العراق، وهذا أثار مؤيدو السعدي في الحرس القومي، وخاصة رئيسه منذر الونداوي، الذي قاد هجوماً جوياً على معسكر الرشيد والقصر الجمهوري، وسيطر أفراد الحرس القومي على المراكز الحيوية في بغداد( ).
وهذا ما دعا الضباط العسكريين، وعلى رأسهم أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش إلى دعوة القيادة القومية للمجيئ إلى بغداد، وحل أزمة الحزب ، وبسبب تخوف بعض الضباط من قراراتها، التي من الممكن أن تؤيد عودة السعدي إلى العراق، وانتقامه منهم بعد ذلك ، قرروا التحالف مع عبد السلام عارف لإسقاط البعث، حيث تعاون معه، قائد الأركان طاهر يحي، وقائد القوى الجوية حردان التكريتي، والعقيد عبد الستار عبد اللطيف( )، إلا أن رئيس الوزراء أحمد حسن البكر بالرغم من إنه هو الذي خطط لإسقاط الحرس القومي، لكنه لم يكن يهدف من ذلك لإسقاط البعث كلياً حيث قال حول تلك الخطة، "على بركة الله أنا موافق"( )، إلا إنه طالب بوقف العملية قبل يومين من تنفيذها، بعد قرارات القيادة القومية عند وصولها بغداد، لكن رفض الضباط التوقف بعد أن أصبحت التحضيرات جاهزة، مما حذا به إلى الانسحاب من العملية كلياً، وقد اتهم عبد السلام عارف عقب انقلابه، بأن علي صالح السعدي كان يريد فرض الديكتاتورية، والاستهتار بحقوق الشعب وقوانين البلاد، وأنه حاول أن يجر البلاد إلى حرب أهلية وثارات عقائدية تخدم مصالح أعداء العراق( ).
لقد أثبت انقلاب عبد السلام عارف في 18 نوفمبر أن ضعف القيادة البعثية وانشقاقها، كان سبباً استغله عارف للانقلاب على البعث، وفي ذلك يقول أحد ضباط الجيش الذين شاركوا مع عارف في الانقلاب : "كان-عارف- يراقب هذا الصراع ويشجعه, وكان شديد الكره لعلي صالح السعدي, لأنه لم يكن يحترم مقامه كرئيس للجمهورية..... وكان يحسب نفسه بصفته أمين سر القيادة القطرية للحزب, أكبر من رئيس الجمهورية, ومن رئيس الوزراء"( ) ، إضافة إلى ضعف جماهيرية البعث في مراحله الأخيرة، بسبب تجاوزات الحرس القومي، فتسفير علي صالح السعدي والانقلاب عليه من قبل حازم جواد أضعف الجبهة الداخلية للبعث خاصة بعد أن اعتبر التيار الموالي له وهو قيادة فرع بغداد أن القيادة القطرية الجديدة لا تمثل الشرعية، وأنه يمثل الشرعية، لحين مجيء القيادة القومية وحلها لأزمة البعث في العراق، إضافة لتأييد الاتحاد العام لنقابات العمال له، وعلى ذلك كان بيانه الذي جاء فيه:
" اليوم انتفض الجهاز الحزبي كله، انتفاضة رائعة بطولية مدافعاً عن كيان الحزب ونظامه الداخلي وأخلاقياته... انتفض الحزب ضد المجموعة التي حاولت أن تدعي تمثيل الحزب زوراً وتقوده بأساليب لم يعرفها الحزب في يوم من أيام تاريخه النضالي، لقد استغلوا طيبة بعض رفاقنا الضباط البواسل بشكل غير حزبي لعزل القيادة القطرية الشرعية المنتخبة في المؤتمر القطري في أيلول/ سبتمبر 1963، وفرض قيادة غير شرعية، لم تنتخب بشكل حزبي سليم يوم 11/11/1963، وفرض عضويتها، حتى على بعض أعضائها، لقد برهن جهاز الحزب بمدنييه وعسكرييه على تلاحمه، وأن قاعدة الحزب هي الضمانة للدفاع عن الحزب، ولقد سادت إرادة الحزب، .. لقد قام رفيقان من القيادة القومية بالاتصال بقيادة فرع بغداد كأعلى سلطة منتخبة حالياً على مستوى القطر، وقد طلبت قيادة الفرع إصدار بيان يعلن فيه طلب استلام القيادة القومية المسؤولية في القطر، وحل أزمة الحزب عن طريق النظام الداخلي، كما وطلبت قيادة الفرع تسفير ثلاثة من رؤوس الفتنة المنحرفة إلى خارج العراق.... إن جهاز الحزب مطالب بالاستمرار في زيادة وعيه وانضباطه، إن المرحلة خطيرة ونحن كلنا مدنيين وعسكريين مطالبون باليقظة العالية، والحذر الكبير، فإن هذه الفئة قد تحاول الالتفاف على الحزب بأسلوب أو بآخر، لتنتصر أبداً إرادة الحزب ولتعيش انتفاضة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني من أجل أهدافه القومية والاشتراكية "( ).
ورغم أن القيادة القطرية القديمة بقيادة علي صالح السعدي قد أصدرت مقررات من بينها تصحيح انحراف الحرس القومي، وعدم ملاحقة الشيوعيين لغرض الانتقام، إلا أن تدخلات عارف كان لها تأثيرها في ذلك الانقلاب( )، كما تتحمل القيادة القومية مسؤولية عدم تدخلها لتصحيح الأخطاء في مهدها، وإبعاد عبد السلام عارف منذ البداية عن رئاسة الجمهورية، رغم علمها بأن ثمة مؤامرة تحال ضد البعث من خلاله ، وعلى هذا الأساس كانت خطتها الفاشلة ببعث قوات سورية إلى العراق لحماية البعث هناك، وإبعاد القوات غير الموالية للبعث إلى الشمال، لكن حدث العكس حيث أبعدت القوات السورية إلى الشمال، وبعثت القوات غير المؤيدة في بغداد.
وعلى هذا الأساس كان من هم أسباب سقوط البعث في 18 نوفمبر 1963 هو عدم الخبرة في إدارة الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها، وعدم وجود إدارة عقلانية للبلاد، حيث كانت إدارتهم بعقلية المعارضة السياسية، وليس بعقلية الحكام المتمرسين، كما أنه لم يكن للبعث برنامج سياسي متفق عليه في مجال إدارة الدولة سياسياً واقتصادياً ، إضافة للخلافات الداخلية في الحزب ؛ بسبب تقاطع الجدل حول عدم وجود برنامج متفق عليه، وعدم الاتفاق على رموز القيادة في تلك المرحلة، وانشغالهم بمن هو الأجدر لرؤوس القيادة السياسية، وسيادة خطاب ثوري متشدد مثله علي صالح السعدي بضرورة القضاء على الرجعية والإقطاع، وإتباع الخط الماركسي العلمي، بخلاف تيار حازم جواد الذي كان يرى كسب موقف الإقطاع من رؤساء العشائر وتذويبهم بهدوء في العملية السياسية، إضافة إلى تجاوزات الحرس القومي، وعدم تقيد قيادته بالقيادة العسكرية المركزية، وسيادة روح العلاقات الشخصية والمحسوبية، وابتعاد القيادة عن الجماهير من خلال وجود فجوة بينهما، إضافة إلى ابتعاد البعث عن القوميين والناصريين، وتشدده حيال الشيوعيين الذين وصفهم بالعملاء، وسيادة الخلاف والشقاق بين أعضاء البعث، وخاصة بين المدنيين والعسكريين، فكانت ردة فعل هذه الأشياء مجتمعة هو سقوط النظام، وانفراد عبد السلام عارف بالسلطة بعد انقلابه في 18 نوفمبر1963.
مما سبق نرى أن البعث لم يستطع أن يحقق الحرية والمساواة والعدالة في المجتمع العراقي، بسبب تخبط سياسته حيال تناقضات المجتمع العراقي، وعدم جدية قياداته في تحقيق ما دعت إليه في بيانها الأول، من أنها تسعى إلى الديمقراطية والحرية، وتحقيق المساواة والعدالة، فكانت أخطاء النظام، وتجاوزات تنظيمات المسلحة، والمدنية، سبباً ساهم في إضعاف الوحدة الوطنية بدلاً من تقويتها، وقاد إلى سقوط البعث في النهاية.

المطلب الرابع
التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي
بين الشعب والنظام السياسي
كانت مركزية حزب البعث في العراق خلال الفترة 1963، سبباً لقلة شعبيته، فقد كان يصعب الوصول إلى مرتبه العضوية العاملة في الحزب، فلم يكن يضم خلال هذه الفترة سوى ألف وخمسمائة عضو عامل في الحزب، ولم يزداد عددهم كثيراً خلال الفترة التي حكم فيها البعث عام 1963، وقد انتقد ميشيل عفلق هذه المركزية، وقال أنها من الأخطاء التي أدت إلى سقوط البعث عام 1963، حيث قال في المؤتمر الاستثنائي لحزب البعث في سوريا عام 1964:
"حزب البعث في العراق ضم الآلاف من الشباب العربي المناضلين، والمجربين، ولكن هؤلاء حرموا من العضوية العاملة التي حصرت بالمئات، ويقول بعضهم أنها تقل عن ثمانمائة، ويقول آخرون أنها تقل عن سبعمائة هذه مئات موزعة على المحافظات المختلفة ..... عشرات في كل محافظة . حكمت ملايين العراقيين، وهذا ما كان من تناقض كلي مع روح مبادئنا الحزبية"( ).
كما أن من أسباب عدم تفاعل الشعب مع النظام السياسي، أن معظم القادة كان صغير السن، فأربعة من أعضاء قيادة الثورة كانوا في العشرينات من العمر، وإحدى عشر كانوا في سن الثلاثينات، ولم يكن هناك سوى أربعة في الأربعينات، حيث ترافق صغر السن مع جهل كبير وافتقار إلى المخيلة، حتى أن ميشيل عفلق انتقد ذلك في إحدى اجتماعات القيادة القومية عام 1964 بقوله: "بعد الثورة بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد وشعب، بل أنهم يصلحون لظروف النضال السلبي"( ).
كما استاء من تصرفاتهم رئيس الوزراء أحمد حسن البكر الذي كان أكبر الأعضاء البعثيين سناً ، وقال حول ذلك: "كنت في السابق ألحظ المحبة في بيوت الناس، أما الآن فأني أهرب إلى الشوارع الخلفية غير المطروحة للابتعاد عن رؤية الناس، وتجنب نظرات الكراهية"( ) ، كما قال علي صالح السعدي: "لقد صفنا في الحكم .. وأن الحكم كان قفزة نحو المجهول"( ).
وهذا شيء طبيعي فتصرفات الحرس القومي، وما رافقها من تعديات على حقوق وحريات الآخرين، جعل هناك فجوة كبيرة بين النظام والشعب، إضافة إلى اعتماد البعث على نظام الحزب الواحد خلال فترة حكمه، رافضاً مشاركة أحزاب أخرى في السلطة، ما عدا حزب البارتي، ولم يكن الوزراء الأكراد، يمثلان البارتي، وإنما كانوا يمثلان الأكراد بشكل عام ومن ضمنهم الأكراد الذين يقودهم البارتي، وعلى هذا الأساس أخذت الأحزاب الأخرى تعمل سراً، مثل حزب الاستقلال، والناصريون، والحزب العربي الاشتراكي، والأخوان المسلمون، وحزب الدعوة، والحزب الشيوعي، وقد حدثت مواجهات دامية بين أعضاء هذه الأحزاب، والحرس القومي، وخاصة بين أعضاء الحزب الشيوعي من جهة ، والحرس القومي من جهة أخرى ، كما أصدر البعث بياناً اتهم فيه الناصريين أو اللذين يعملون معهم بأنهم أذناب النظام المصري، وأنهم يقومون بمؤامرات لإسقاط البعث من السلطة ، بينما ادعت هذه الأحزاب أن هذه خطة من البعث لتصفيتهم، خاصة بعد فشل الناصريون في السيطرة على الحكم في سوريا عقب انقلاب جاسم علوان في 18 يونيو1963( ).
وعندما فشلت الوحدة الثلاثية بين سوريا والعراق ومصر، بسبب ذلك الانقلاب الفاشل ، قام نظامي البعث في كل من سوريا والعراق بعقد الوحدة العسكرية بينهما في التاسع من أكتوبر من عام 1963، وعلى ذلك يقول ناصر النشاشيبي:
"في الساعة التي يصدر فيها بيان قيام الوحدة العسكرية بين سوريا والعراق من إذاعتي بغداد ودمشق، تأتي الأنباء الموثقة من العراق، بأن السلطات هناك قامت بحملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من ألفي معتقل معظمهم من أعضاء حركة القوميين العرب المعروفة بميولها الوحدوية المؤيدة للقاهرة"( ).
كما علقت على هذه الوحدة صحيفة أخبار فلسطين في الثامن عشر من أكتوبر عام 1963، وضرورة رفضها، ومقاومتها من قبل الناصريين، حيث تحدثت باسمهم بما مفاده :
"المعنى الأساسي لإقامة هذه الوحدة بين الضباط البعثيين في هذه المرحلة، هو أن قوات الحرس (الكرانبيري) الفاشسيتة التي شكلها الحزب لم تتمكن بأي حال من إثبات مقدرتها على تدعيم النظام وحمايته بشكل يطمئن قيادة البعث المرتدة، ويعيد إليها شيئاً من الهدوء الذي افتقدته تماماً عندما انعزلت عن جماهير الشعب العربي، وعندما اصطدمت بها وانقضت عليها"( ).
ولابد أن نشير هنا أن الوحدة مهما كانت صفتها فهي مقيدة، وكان يجب ألا تعارض من قبل أي جهة كانت، في ظل الأقطار المحدقة بالبلدين، لكن خلافات البعث مع عبد الناصر، كانت سبباً لإشعال الموقف بين الناصرين، وأعضاء حركة القوميين العرب، الموالين لمصر، وبين البعث الحاكم في كلا البلدين، فازدادت الاعتقالات في صفوف أعضاء حركة القوميين العرب، وسيق الكثير منهم إلى معتقل قصر النهاية، حتى وصل عددهم إلى أكثر من أربعة ألاف معتقل، موزعين في سجون العراق المختلفة، وخطب أحد قادة الحرس القومي واصفاً حركة القوميين العرب بقوله: "إن حزب البعث يؤمن بلا تردد أن حركة القوميين العرب حركة ثورية تقدمية لا تتناقض مع حزب البعث ولكن لديه بعض المآخذ"( ).
وكان من أسباب توتر العلاقات بين البعث والناصريين، أن البعث عارض استمرار فتح الإذاعة الكردية التي تبث من القاهرة، والتي أقامها عبد الناصر خلال فترة حكم قاسم، كما أن دعوة عبد الناصر لحل القضية الكردية عن طريق الفيدرالية ولقاءآته مع الوفود الكردية، مؤكداً لهم على ضرورة الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية، ونصائحه لجلال الطلباني عند لقاءه معه عام 1963، حيث كان موفد من قبل البرزاني، بضرورة شرح القضية الكردية للرأي العام العربي، ليؤكد الحقوق القومية للأكراد، وهذا ما جعل الطلباني يسافر إلى بيروت، ويعقد مؤتمراً صحفياً تكلم فيه عن موقف عبد الناصر، وحرصه على الحل السياسي للقضية الكردية، ومعارضته لأساليب القوة العسكرية ، والقتال كلها وموافقته على جعل المنطقة الكردية من العراق إقليماً خاصاً ضمن الجمهورية العربية المتحدة بعد الوحدة الثلاثية( ).
وكما لم يستطع البعث التفاعل مع الأحزاب الدينية، وأيديولوجياتها، فلم يحدث أي تفاعل له مع حزب الإخوان المسلمين، على اعتبار أن أيديولوجية البعث تعتبر الحركات الدينية هي حركات رجعية، رغم أن أحد الوزراء الإخوانيين قد تقلد حقيبة وزارية في حكومة البكر وهو محمد شيت خطاب، كما لم يستطع حزب الدعوة الشيعي، التفاعل مع البعث، رغم أن قادة البعث كان معظمهم من الشيعة، ورغم أن هذا الحزب قد استطاع التغلغل في الأوساط الشيعية وألقى أصحابه على عاتقهم القيام بدور الطليعة المناضلة الممثلة للشيعة، وكان أهم أعضاءه محمد باقر الصدر ومحمد مهدي الحكيم ومرتضى العسكري، إلا أن كلا الحزبين الأخوان المسلمين والدعوة قد تذمر من سياسة البعث عام 1963( ).
كما أن حزب الدعوة الإسلامي رفض بدوره التعاون مع أي من الأحزاب غير الإسلامية، بما فيها حزب البعث، بالرغم من أنه قد تعاون مع البعث وكون معه ومع القوميين العرب جبهة واحدة ضد عبد الكريم قاسم والشيوعية، ورغم ما تحقق للشيعة زمن قاسم من إصلاحات اقتصادية وترقية في المجال التعليمي والوظيفي، وعلى هذا فله دور كبير في وصول البعث إلى السلطة عام 1963( ).
ورغم محاولة القيادة القطرية للبعث في العراق، تثبيت قانون الأحوال الشخصية الذي وصفه قاسم عام 1959، والذي يتضمن بعض الأشياء التي تخالف الشريعة الإسلامية، مثل وضع الأقارب الذكور على قدم المساواة فيما يتعلق بإرث المتوفي بلا وصية، إلا أن تدخل عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر عارضاً ذلك، وأسقطا هذا القانون، مما حذا بالسعدي إلى اتهامهما بسعيهما إلى جعل النظام رجعياً( )، وقد توافق هذا الإسقاط مع رغبة حزبي الدعوة والإخوان المسلمين، والذين كانا يطالبان بتغييره، وكان لهم بعض المتعاطفين مثل عبد الغني الراوي الذي كان يقود إحدى فرق الجيش العراقي.
وبالنسبة للحزب الشيوعي فقد كان عداء البعث كبيراً ضده وذلك منذ توليه الحكم، فرغم أنه حظر النقاش حول المذاهب، ولم يكن أحداً يجرؤ على التهجم على أي منها، إلا أنه استطاع الحصول على فتوى من أية الله محسن الحكيم على أنه من غير المسموح الانضمام إلى الحزب الشيوعي، وأنه كفر وإلحاد( ).
ورغم ذلك انقسم الشارع العراقي بعد حركة البعث بين مؤيد للبعث والقومين، وأكثرهم من السنة، وبين موال لقاسم والشيوعيين وأكثرهم من الشيعة( )، رغم أن البيان الأول لحركة البعث نص على أنه يسعى لتوحيد الشعب، وكان سبب تأييد الشيعة لقاسم بسبب ما تحقق لهم من إصلاحات اقتصادية خلال فترة حكمه، لكن كان إعدام الضباط الشيوعيين-والكثير منهم من السنة- قد بحثوا عن ملاذ من لهم بين الشيعة بالرغم أن معظم قادة البعث كانوا من الشيعة، وجزء من قادة الحزب الشيوعي كانوا من السنة( ).
فتم اعتقال حوالي عشرة ألاف شيوعي، وأعدم المئات في مكاتب التحقيق واضطر أكثر من خمسون ألف من الشيوعيين إلى الهرب إلى بغداد آتين من المحافظات الأخرى( )، بسبب اضطهادهم من قبل السلطات الحكومية وتمايزهم مع أفراد الشعب الذي نظر إليهم كخارجين عن عقائده، وعلى هذا الأساس كان تعاون الكثيرين ضد الشيوعيين.
وقد كان من أسباب العداء بين البعث والشيوعيين أن البعث اعتبر أن الشيوعيين اتجاه شعوبي معادي للأمة العربية والوحدة العربية، وأنهم مناقضون للقومية العربية، والدليل على ذلك وقوفهم ضد انضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة في عهد قاسم، كما أنهم يتبعون بشكل مطلق الاتحاد السوفياتي، ونظرتهم الاشتراكية تتناقض مع مفهوم اشتراكية البعث، حيث تقوم على أساس انتقال المجتمع من الإقطاعية إلى الرأسمالية سيولة رأس مال يتراكم، فتقوم الصناعات الضخمة التي تكون المدن، والطبقة العاملة، ويتراكم رأس المال بسبب ارتفاع الإنتاج، لكن بالمقابل يزداد الفقر والشقاء للطبقة العاملة، وهنا يحدث التناقض بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية المسيطرة، ويحدث الصراع الطبقي، حتى تتغلب الطبقة العاملة على المجتمع وتلغي الطبقية فيه، وتنقله للمجتمع الشيوعي، لكن اشتراكية البعث تقوم على مزيج من الاشتراكية الماركسية والملكية الفردية في حدود معينة( ).
وقد أدى انشغال البعث إلى اعتقال عناصر الحزب الشيوعي، في التأثير على اهتمامه بأمور الدولة الأخرى، وكانت حجته في ذلك أن الشيوعيون يخططون لإسقاط النظام، من خلال تنظيماتهم القوية، وشبكاتهم الكبيرة ومنشوراتهم وخططهم، وتشويههم للبعث وعناصره، حيث وصفهم زعيم الحزب الشيوعي سلام عادل بأنهم "أيتام نوري السعيد" ، وأنهم سوف ينتهون بسرعة، وعلى هذا الأساس فتح البعث لهم السجون وخاصة قصر النهاية الذي كان قصراً للعائلة المالكة قبل ذلك، وحوله علي صالح السعدي إلى سجن، وحول هذا السجن يقول السفير العراقي في بيروت ناظم جواد، مقارناً بين هذا السجن وبين سجن النازية المسمى (أوشفيتز) الذي زاره عام 1963، أن سجن (أوشفيتز) يعتبر فندق خمسة نجوم بالنسبة لسجن قصر النهاية، وهذا ما يؤكد على مدى عدم الاهتمام الذي مارسه البعث بالنسبة للمعتقلين، فتركز حقدهم في التعذيب، وكانت بلاغات الحاكم العسكري العام تصدر بأسماء المقرر إعدامهم، وبخاصة ضد من اشتركوا في قمع ثورة الشواف عام 1959، كما عذب الكثير منهم في سجن أبو غريب، وسجن كتلة الدبابات الثانية، ورغم محاولة زعيم الحزب الشيوعي سلام عادل، -عندما كان في المعتقل- الطلب من أحد قادة الثورة وهو حازم جواد، من أجل تخفيف التعذيب عن المعتقلين ومعاملتهم معاملة حسنة، إلا أن جواد أجابه:
"أدلوا بما لديكم من معلومات وينتهي التعذيب، أنتم حاربتم الحزب والقومية العربية، والجمهورية المتحدة، لمدة خمسة سنوات، وأعدمتم كثيرين، وفي اللحظات الأخيرة حملتم السلاح وقاتلتمونا، هل من دولة وحتى الاتحاد السوفياتي لا تمارس التعذيب؟ أعطونا وخصوصاً أنت المعلومات، وتفاصيل الخط العسكري للحزب، فينتهي الأمر، المسألة بيدك، هذا قرارنا، وإلا فلكل حادث حديث"( ).
وعندما اقترح على حازم جواد إصدار بيان سياسي مشترك، يؤكد على الحفاظ على سيادة الدولة، والاستقلال الوطني، والعمل الوطني المشترك، ونسيان الماضي، إلا أنه رفض ذلك وأجابه: "هذا لا يمكن أن يحصل، لأن بيننا وبينكم بحر من الدماء ... أنت سجين وأنا السجان"( )، وهذا دليل على أن البعث رفض الاندماج مع جزء من الشعب، وتحقيق تفاعل سياسي معهم، وهذا يعتبر من المآخذ الكثيرة التي ساهمت في سقوطه في النهاية.
حتى أنه عندما أصبح حازم جواد رئيساً لمجس قيادة الثورة، طالب بتخفيف التعذيب عن المعتقلين، وأن يعفي عماش من وزارة الدفاع، لضلوعه بالتعذيب ضد المعتقلين، إلا أن معظم قادة مجلس الثورة رفضوا ذلك، وتدخل بعضهم مثل حردان التكريتي ضد القرار، بسبب ما تعرض له من تعذيب على أيديهم خلال فترة حكم قاسم، كما أن عبد السلام عارف اعترض على القرار ليزيد الاختلاف بين البعث والحزب الشيوعي، وقال في ذلك: "هؤلاء مجرمون وقتله، وقبل شهر سحلوا الناس في الشوارع وكادوا يسحلوننا نحن، ولو فشلت الثورة لما كانوا رحمونا أو رحموا بناتنا ونسائنا"( )، وهذا ما دعا حازم جواد إلى الاعتراض على هذا الكلام وصرح بتصريح قال فيه: "أعلن أمامكم أن الحزب بريء من هذه الجريمة، ولا علاقة له منذ الآن بالتحقيقات، وسأمنع كل أعضاء القيادة من الذهاب إلى أي معتقل"( )، وقد لاقى تصريحه تأييد السعدي والشبيب، وبالفعل فقد خف التعذيب في المراحل الأخيرة لحكم البعث، كما أن من أسباب عدم التفاعل السياسي بين جزء كبير من الشعب وهم المؤيدين لقاسم، وبين نظام البعث، هو إعدام قاسم ورفاقه في مبنى الإذاعة، واعتبار مجلس قيادة الثورة هو المحكمة التي حكمت عليهم بالإعدام رغم أن شعبية قاسم لم تأت من فراغ فهو لم يدخر أموالاً أو يرفه نفسه، فبقى بيته كما هو، كما أن ممن أعدم معه، وهو مدير الخطط الحربية الزعيم طه الشيخ أحمد كان متوسط الحال ويرعى أسرة كبيرة، وعلى هذا الأساس، انتقلت المقاومة ضد نظام البعث من قبل القاسميين الذين التحموا مع الشيوعيين وغيرهم من أجل إسقاط النظام، ورغم أن الانقلابيين ظنوا أن إعدام قاسم ورفاقه، وعرض جثثهم على التلفاز سينهي المقاومة، إلا أن المقاومة لم تنته، رغم أنها قد خفت بعض الشئ( ).
كما أدت المشكلة مع حزب البارتي إلى ضعف التفاعل السياسي بين الأكراد والنظام الحاكم، فرغم تأييد البارتي للحركة عام 1963، وتحقيق نوع من التفاعل مع النظام السياسي الجديد، خاصة بعد أن وجه مجلس قيادة الثورة نداءاً للوزير الكردي فؤاد عارف الذي شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، في حكومة البكر، وللعضو البارز في حزب البارتي صالح عبد الله اليوسفي للاتفاق على مشروع حل المشكلة الكردية، كما أن حزب البارتي وجه بياناً أيد فيه الحركة واعتبر قاسم بأنه عدو للقوميتين العربية والكردية، وجاء في البيان: " أن ضربات الشعب الكردي تلاحمت بالثورة المجيدة على العدو اللدود للقوميتين الشقيقتين العربية والكردية، وبقية الشعب العراقي على الجلاد الأوحد لشعبنا الكردي المسالم، وعلى أوكار الخيانة الملطخة بعار ودماء شهداء الشعب وقواتها المسلحة، وكوارثهم وويلاتهم"( )، وقد تم إذاعة هذا البيان من دار الإذاعة والتهنئة بالثورة ، كما شارك شخصين في حكومة البكر، هما فؤاد عارف وبابا علي، وتوقف القتال بين الأكراد والجيش عقب الحركة( ).
ورغم أن المباحثات بين الحكومة الجديدة بدأت في الثامن عشر من فبراير 1963 ، إلا أن المباحثات بائت بالفشل بعد حوالي ستة أشهر، وصرح بذلك أبرز قادة النظام وهو علي صالح السعدي بعد اتهامه للوفد الكردي بالتعاون مع الشيوعيين قائلاً: " نحن لا نمثل كل العرب، وكذلك الممثلين الأكراد الموجودين لا يمثلون كل الأكراد، ولهذا يتوجب الدعوة إلى عقد مؤتمر شعبي واسع لانتخاب عناصر جديدة للوفدين"( )، حيث اعتبر هذا التصريح قطعاً عملياً للمباحثات، وقد رد أحد أعضاء حزب البارتي وهو هاشم عقراوي على تصريح السعدي بقوله: "فقد كان البعث على ما يظهر يجد البارتي فرعاً من فروع الحزب الشيوعي أو على أفضل تقدير رفيقاً مرحلياً، وكان البارتي من جهته يرى البعث حزباً شبه فاشي غير قادر على استيعاب المفهوم الصحيح للمشكلة الكردية"( ).
لكن هذا لا يعني أنه لم يحصل تواطؤ بين البارتي والشيوعيين، فالكثير من الحقائق تؤكد التعاون بينهما، فقد اتخذت بعض المناطق الكردية في قضاء الشيخان- الذي تقطنه أكثرية كردية يزيدية- مخبأً للشيوعيين حيث لم ينتشر هناك أفراد البعث، بعد برقية التأييد من الحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، تلك البرقية التي عرفت باسم التحام الثورتين، حيث استغل الشيوعيون ما تم الاتفاق عليه من هدنه ومباشرة بالمفاوضات على مشروع اللامركزية الذي تقدم به البعث، وتوقف القتال( ).
ورغم أن وضع الحزب الشيوعي كان مأساوياً عقب حركة البعث عام 1963 ، خاصة بعد البيان رقم 13 الذي دعا لإبادتهم حيث نص على :
" نظراً للمحاولات اليائسة للعملاء الشيوعيين ـ شركاء عدو الكريم ،في الجريمة ، لزرع الفوضى في صفوف الشعب ،وتجاهلهم للأوامر والتعليمات الرسمية ، فقد كُلف قادة الوحدات العسكرية ،والشرطة ،والحرس القومي بالقضاء على كل من يعكر صفو السلام ،وإننا ندعو أبناء الشعب المخلصين إلى التعاون مع السلطات بالإعلام عن هؤلاء المجرمين ،وإبادتهم " .
ورغم ذلك استمرت الخلافات بين الشيوعيين ، ورغم سيطرة الشيوعيين على منطقة جبل القوش، واتخاذها قاعدة لهم، في المنطقة الكردية، إلا أن قائدهم مصلح الجلالي (كاكا أحمد)، عمل على تغذية النعرات القومية بين الشيوعيين الذين كان من بينهم قوميات عربية وكردية وأشورية وتركمانية ويزيدية، وأخذ معه التركمان وفتح مقراً له في قرية (شكعني) وعمل على التشهير بالذين لم ينضموا إليه، وأنهم منشقين ومطرودين من الحزب( ).
كما تعاون اليزيدية، مع البيش ماركة•، والشيوعيون ضد النظام، وجعل مناطقهم آمنة لتحركات المتمردين، حتى أن أمير اليزيدية (تحسين بك) كان يأوي الثوار ويسهل لهم أمورهم ضد النظام، لكن بمقابل ذلك عملت السلطات الحكومية على استمالة رؤساء العشائر والأغوات لصالحها ضد البارتي، ومن يتعاون معهم من الشيوعيين( ).
كما حدثت انشقاقات داخل حزب البعث نفسه وانعكست على تفاعل الشعب مع النظام بالسلب، فعلى الرغم أن البعث لم يتسلم جميع الحقائب الوزارية في الحكومة، حيث شغل أعضاءه على اثنى عشر مقعداً، من أصل واحد وعشرين وكان منهم الضباط الأحرار، واثنين من الأكراد، وبعض القومين الناصرين، وواحد من الأخوان المسلمين، وثلاثة من اليمين المحافظ، وأحد الإقطاعيين من رؤساء العشائر، واثنين من حزب الاستقلال اليميني، ولكن رغم ذلك رفض البعث، أن يكون هناك تنظيمات حزبية أو تكتلات سياسية تعارض سياسته، حيث اعتبر نفسه الحزب الوحيد المؤهل لقيادة الدولة والمجتمع( ).
فكان التناقض بين الضباط البعثيين والقادة المدنيين بالحزب، قد تداخلت معه عوامل إقليمية وطائفية وشخصية، رغم عدم وجود هذه الصراعات داخل الحزب نفسه، فقد كان معظم الضباط البعثيين من السنة، بينما كان معظم المدينيين في الحزب من الشيعة، ومثل الشيعة العرب في القيادة القطرية 53.8% ومثل السنة العرب 38.5%، أما الأكراد فمثلهم علي صالح السعدي بالرغم من إيمانه العروبي الكبير، وبذلك تكون نسبتهم 7.7%( ).
كما ظهر التناقض بين القادة المدينيين في الحزب، بسبب رفض السعدي التحالف مع الآخرين في حكم الدولة، بخلاف تيار حازم جواد، الذي رأى إقامة جبهة سياسية، تضم الناصرين والقومين مع البعث، وبسبب اشتداد الخلاف، سيطر السعدي على الشرطة والمخابرات، بحكم منصبه كنائب لرئيس الوزراء، إضافة لمنصب وزارة الداخلية، وقيادة القيادة القطرية لبعث العراقي ؛ لهذا فقد تحالف حازم جواد مع عبد السلام عارف، وبعض الضباط البعثيين من مجلس قيادة الثورة لإضعاف سلطة السعدي، واتهامه بعدم المبالاة بمشاعر الآخرين، وتطرفه، وتهوره، فتم إقرار إبعاد السعدي عن الداخلية إلى وزارة الإرشاد (الإعلام) وأن تصبح الحقيبة –الداخلية-لجواد، لكن استمر جواد بالتآمر لإخراج السعدي وإبعاده عن الحكم، فتم الانقلاب عليه في الثالث عشر من سبتمبر عام 1963، أثناء اجتماع القيادة القطرية، وبالفعل تم إبعاده ، وحلول جواد بقيادة القيادة القطرية بالتعاون مع بعض العسكريين البعثيين، وعلى هذا فكانت الخلافات الشخصية سبباً في إضعاف سلطة الحزب وعدم تفاعله مع الشعب، فلم تكن الرابطة الأيديولوجية هي المسيرة لهؤلاء القادة بقدر ما كانت الخلافات الشخصية( ).
رغم مجئ القيادة القومية، بعد توتر العلاقة بين القيادة الجديدة برئاسة حازم جواد، وبين مؤيدي السعدي من قيادة فرع بغداد والاتحاد العام لنقابات العمال، المسيطر عليها البعث، إلا أن مجيئها لم يكن موفقاً وفي ذلك يقول ميشيل عفلق:
" شعرت في كل لحظة أن وجودنا غير طبيعي، فتدخل رئيس الدولة، وقيادة من خارج العراق، في أيام عاصفة، ولم يكن ربع البلد أو حتى أي جزء منه في أعقاب تراجع الأشهر الأخيرة، بعثياً، كان أمراً يصعب احتماله وبدخولنا مباشرة في جو العمل والاجتماعات تجاوزنا أيضاً خصوصيات معينة، ولقد اقترحت علينا فكرة زيارة رئاسة القصر الجمهوري، ولكننا أجلنا الزيارة، ثم نسيناها كلياً، ومن جهته، لم يأت عبد السلام عارف لتحية الفريق أمين الحافظ في المطار، وأكثر من هذا شعرنا أن هناك في وزارة الدفاع شيئاً من عدم الرضى عن وجودنا .. يبدو أننا كنا مدفوعين بعواطفنا، ومنذ لحظة وصولنا سارع قادة فرع بغداد على التأكيد بأن السلطة هي للقيادة القومية، وكانت البيانات تصدر بلغة غير مكبوحة لتهاجم الضباط الذين تطاولوا على المؤتمر القطري ..... ووجه نعت الخائن إلى حردان التكريتي علناً ، وحصلت أشياء أخرى من النوع نفسه"( ).
ومن هذا البيان يتضح أن خطأ القيادة القومية بعدم احترام التقاليد الرئاسية بعدم زيارة الرئيس أمين الحافظ، للرئيس عبد السلام عارف•، وتنمية القيادة القطرية الجديدة، ونفيها خارج البلاد.
كما كان اختراق بعض الأشخاص لمجلس قيادة الثورة مثل الرئيس عبد السلام عارف، وللقيادة القطرية مثل طاهر يحيى ، وتسعيرهم للخلافات بين الأعضاء البعثيين، واتباعهم استراتيجية إضعاف تياري السعدي وجواد، من خلال أضعاف تيار السعدي أولاً بوقوفهم إلى جانب جواد، ثم استغلوا قرار القيادة القومية بإبعاد جواد خارج البلاد للانفراد بالسلطة من خلال الانقلاب على البعث نفسه وبالتعاون مع الضباط البعثيين( ).
وقد جاء في بيان القيادة القومية بعد وصولها لبغداد في 14 نوفمبر 1963م:
" لقد برهن حزبكم المناضل خلال الأزمة التي مرت على احترامه العميق للقيم الحزبية وتمسكه الصميم بمبدأ الشرعية المنبثق عن انتخاب نظامي سليم، وأن أي تفريط بهذه القيم أو تجاهل لها يعرض وجود الحزب، وبالتالي وجود الثورة وقضية الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية لأعظم المخاطر، إن الديمقراطية في حزب البعث العربي الاشتراكي ليست أمور سياسية، وإنما هي منطلقات أساسية أعطت الحزب دوماً طابعه المميز وهي مرتبطة بالواقع بمصالح الجماهير الكادحة من عمال وفلاحين وعسكريين ومثقفين ثوريين، أن الديمقراطية التي يمارسها الحزب في رسم سياسته وخططه، وفي انتخابات قياداته، وتماسك منظماته، هي الطريق الصحيحة والسليمة لتحقيق أهداف الحزب، فلا عجب أن نرى جماهيره تبرهن على يقظة ووعي عميقين عندما تنتصر القيم الحزبية، وتتجه للقيادة القومية لتمارس صلاحيتها الشرعية في إيجاد حل للأزمة.........لقد وقع الحزب منذ أن قامت الثورة وحتى الآن بأخطاء نتجت عن صعوبة الظروف التي طبعت المرحلة الماضية، وعن نقص في التجربة لدى القيادات الحزبية، وعن تصرفات فردية، صدرت عن عدد من القيادات، وإن حزبنا هو أجدر من يصارح نفسه، ويصارح جماهير الشعب بأخطائه التي انتقدها في مؤتمراته القطرية، ومؤتمره القومي السادس لأنه بهذه المصارحة، وبهذا النقد الذاتي يستطيع أن يصل إلى تجاوز الأخطاء وتثبيت القيم السليمة في معركة البناء كما ثبتها على الدوام خلال تاريخه النضالي الطويل.....إن ما وقع في المؤتمر القطري المنعقد بتاريخ 11/11/1963 من استغلال لطيبة بعض رفاقنا الضباط الذين لم يفسخ لهم المجال في السابق لإبداء آرائهم بالأسلوب الصحيح، ومن ممارسة لطرق غير حزبية في المؤتمر، تجعل القيادة القطرية التي انتخبت لا تعبر عن إرادة الحزب....إن الحزب مطالب بتصحيح الأخطاء التي وقع بها بعض أعضائه القياديين، ولكن تصحيح الخطأ لا يكون إلا باتباع الأسلوب الحزبي السليم داخل المنظمة الحزبية، وبالتمسك الدقيق بالشرعية والديمقراطية وبالانفتاح على الشعب والاستماع الدقيق إلى آرائه ومطالبه، إن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي شعوراً منها بخطورة الدور الذي تقوم به ثورة الرابع عشر من رمضان المجيدة ، في معركة العرب القومية، بضرورة ترسيخ وحدة الحزب بشقيه العسكري والمدني من جهة، واستمرار التلاحم بين الحزب، وجماهير الشعب من جهة أخرى، ورغبة منها في تهيئة الظروف لانتخاب قيادة قطرية جديدة تتطلع بمسؤولية الثورة في القطر العراقي قررت ما يلي:
1- اعتبار المؤتمر القطري المنعقد ببغداد بتاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر مؤتمراً غير شرعي، وحل القيادة القطرية المنبثقة عنه.
2- حل القيادة القطرية التي كانت تمارس مهامها عند انعقاد المؤتمر المذكور.
3- تولى القيادة القومية مسؤولية القيادة القطرية في العراق.
4- التحقيق في كافة المخالفات والأخطاء التي وقعت في الفترة الماضية، واتخاذ التدابير الحزبية الحاسمة بشأنها.
5- حصر صلاحية اتخاذ العقوبات بحق الرفاق الحزبيين التابعين للتنظيم العراقي بالقيادة القومية.
6- إجراء الانتخابات الحزبية في القطر العراقي في كافة مراحلها، وعقد مؤتمر قطري لانتخاب قيادة قطرية جديدة في مدة لا تتعدى الأربعة أشهر.
والقيادة القومية إذ تحيي أبناء ثورة 14 رمضان المجيدة، واثقة أن الأزمة التي اجتازها القطر العراقي أدت بفضل الضباط المناضلين الحزبيين العسكريين والمدنيين، وفضل وعي الجماهير الشعبية إلى تمتين وحدة الحزب وشد صفوفه وتقوية التفاف الجماهير حوله وتجدد القيادة القومية عزمها أمام الشعب العربي على الإسراع في تنفيذ مقررات المؤتمر القومي السادس تحقيقاً لأهداف أمتنا في الوحدة والحرية والاشتراكية"( ).
فإذا حللنا هذا البيان لتبين لنا أن القيادة القومية بالفعل شرعت في تصحيح الأخطاء، ومارست مقررات النظام الداخلي للحزب، بالنقد الذاتي للإجراءات والأعمال التي ارتكبتها القيادة والتي أثرت سلباً على جماهيريته وشعبيته وتفاعله السياسي والاجتماعي بالشعب.
لكن كان عليها أن تمنع قيادة فرع بغداد من إصدار أية بيانات أو تصريحات استفزازية، تؤثر على تيار حازم جواد، الذي بالفعل سُفر خارج البلاد مع بعض مناصريه وخاصة طالب الشبيب، إلا أنه حدث العكس من ذلك، فانطق أفراد الحرس القومي ومؤيدي قيادة فرع بغداد، الذي يعتبر من جناح السعدي، إلى شوارع بغداد، وأخذت تطلق الأعيرة النارية، ابتهاجاً بقرارات القيادة القومية، والتي كانت تشير ما بين سطورها إلى عودة السعدي إلى البلاد، وبناءاً على ذلك فقد أصدرت بياناً قالت فيه:
"يا جماهير شعبنا العظيم: لقد تم في ساعة مبكرة من صباح اليوم إبعاد كل من حازم جواد وطالب الشبيب ومحمد حسين المهداوي عن العراق، بناءاً على المقررات التي تم الاتفاق عليها بين القيادة القومية وقيادة فرع بغداد بصفتها أعلى قيادة شرعية منتخبة في القرار واستجابة للانتفاضة الجبارة لقواعد الحزب المدنية والعسكرية"( ).
كما أن تخوف عبد السلام عارف، الذي كان مؤيداً لقرار إبعاد السعدي، -ومن حوله بعض الضباط ومنهم ضباطاً بعثيين -من عودة السعدي إلى البلاد، والذي كان من الممكن أن يقود إلى عمليات انتقامية، مما حذا بهم إلى الإسراع في الانقلاب على الحزب، وإسقاطه.
لكن يجب علينا ألا نضع كل اللوم في انشقاق البعث على تيار حازم جواد فقط لأن تيار السعيد وقيادته القطرية، عملت مخالفات تمس جوهر القانون الداخلي للحزب، ففي المؤتمر الخامس للحزب، الذي جدد قيادة السعدي القطرية له عام 1963، نلاحظ أنه لم يحتل الحزب جميع القيادات البعثية في العراق، مثل : الاتحاد الوطني لطلبة العراق، ونقابة المسلمين، ونقابات العمال والفلاحين، كما تم تغيب محافظات عراقية بأكملها عن تمثيل نفسها في ذلك المؤتمر، كما أن السعدي كان قد فرض نفسه في تلك الانتخابات، كل هذا ساهم في زيادة حدة الخلافات بين تياري السعدي وجواد ، حيث رأى جواد ضرورة سيادة القانون وتحجيم الحرس القومي عدداً ودوراً ووضع خطة للانفتاح على كل القوى الوطنية والقومية في العراق، وأن تعاد الانتخابات، لأن الكثيرين لم يحضروها ومنهم حازم جواد الذي كان في مهمة خارج العراق للاتفاق حول مشروع الوحدة الثلاثية( ).
كما أن لا ننسى أن خلاف البعث مع عبد الناصر، كان له دور في زيادة حدة الخلافات بين تياري البعث، حيث قام علي صالح السعدي كوزير للإرشاد، بإقامة إذاعة سرية في العراق تعادي سياسة عبد الناصر، من دون الرجوع إلى القيادة القطرية للحزب، وكانت القيادة القومية على علم بها، وكان رد عبد الناصر على ذلك بإثارة الشقاق بين السعدي وجواد، وإثارة القيادة القطرية في العراق، ضد القيادة القومية التي كان على خلاف شديد مع عبد الناصر، ففي اجتماعات الوحدة الثلاثية قال عبد الناصر: " لا مشكلة لدي مع البعث العراقي، ولو خيرت للانتساب إلى حزب فلن اختار إلا حزب البعث العراقي"( )، كما أنه اشترط عند توقيع ميثاق الوحدة الثلاثية، أن تحوي حكومتي العراق وسوريا، على وزراء ناصريين يشكلون النصف، أما النصف الآخر فمن البعثيين.
وعلى هذا فكان البعث حزباً غير قادر على اختراق الجماهير بشكل يحدث التفاعل معها ويجعلها تكون الضمانة لاستمراره( )، ودرعاً واقياً لعدم اختراقه وإضعافه بسبب ما لحقه من انشقاقات كانت إحدى أهم الأسباب لسقوطه.
بيد أنه يجب أن نهمل أن بعض الأحزاب الأخرى مثل حزب البارتي نفسه كان يعاني من الانقسام النظري، والذي ازدادت حدته في فترة الأخوين عارف كما سنرى في المبحث القادم، حيث أن حزب البارتي كان يعاني منذ زمن قاسم من الانقسام النظري، بسبب قيادته التقليدية، القبلية الممثلة بالملا مصطفى البرزاني، وبين قيادته التنظيمية، من خلال أمينه العام إبراهيم الأحمد، بسبب أن البرزاني كان زعيماً قبلياً وعشائرياً وشيخاً للطريقة النقشبندية، ومتأثراً بجمهورية مهباد، بينما إبراهيم الأحمد، ومعه معظم أعضاء المكتب السياسي للحزب الكردي، كانوا من مثقفي المدن، والكثير منهم كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، وظلوا على صلة وثيقة بأيديولوجيتهم( ).
فكان يجب على البعث في حكمه أن يستغل هذا الانشقاق، لضم العناصر الأكثر ميلاً له ولأيديولوجيته، وإفساح المجال أمام حل المشكلة الكردية بشكل نهائي، خاصة أن عناصر الاتجاه التقدمي موجودة، ومن الممكن أن تضغط على الاتجاه التقليدي العشائري؛ لحل المشكلة، لكن البعث فعل العكس فقد تحالف مع بعض العشائرية الكردية لمناهضة حزب البارتي ككل، وهذا ما ساهم في إضعاف تفاعله مع جزء كبير من الأكراد الموالين للبارتي.
لكن يجب أن ندرك أن الأحزاب العراقية أيضاً كانت سبباً ساهم في معارضة البعث، وبالتالي إضعافه، فكانت متخوفه من الوحدة الثلاثية، على أساس أنها فيما لو قامت، فإنها ستنتهي من الخارطة السياسية، وتصبح ملاحقة كما في ظل البعث، لأن هذه الوحدة فيما لو قامت على العاطفة فستنهار، كما حدث في ظل وحدة مصر مع سوريا عام 1958، بسبب أنها –العاطفة-تثور بسرعة، لكنها تخبوا بسرعة أيضاً، أما إذا كانت مبنية على المصالح والمنافع ومدروسة من جميع وجوهها، وتعود بالمنافع على جميع الأطراف المشاركة، فإنها ستبقى وستصمد( )، إضافة إلى تخوف هذه الأحزاب من استمرار ملاحقتها من قبل حزب البعث، كان سبباً لمقاومتها له، مقاومة سرية، أضعفته، رغم أن حزب البعث أعلن بعد حركته في الثامن من أبريل عام 1963، أنه سيقبل بالمعارضة السياسية في ظل حكمه، لكنه لن يحدد نوع المعارضة المقبولة عنده، ولا نوعية الأحزاب المقبولة في ظل حكمه، كما أن هذا الإعلان لابد أنه يتناقض مع مبدأ البعث القائل بأنه حزب قائد لشؤون السلطة وموجهاً للسياسة العامة والشؤون الأساسية لقضايا الحكم، وهذا ما يبينه لنا قول رئيس الوزراء العراقي أحمد حسن البكر:
"إننا ديمقراطيون نؤمن بالديمقراطية، وليس من حكومة تستطيع الاستمرار في الوجود ما لم يؤيدها الشعب تأييداً كاملاً عن طريق الانتخابات ..... إن كل حكومة لا توجد أحزاب معارضة في صفوفها ترتكب أخطاء، ولذا ينبغي تشجيع الأحزاب المعارضة من أجل حكومة العراق الشعبية المقبلة"( ).
أيضاً تداخلت العلاقات الشخصية والعشائرية بين العناصر البعثية في القيادة وهذا مما ساهم في إضعاف تفاعل النظام مع الشعب، وبناءاً على ذلك أنقذ الكثير من معارضي البعث، والذين كانوا يشنون عليه حرباً دعائية، بسبب أن لهم صلات قرابية مع بعض أعضاء الحرس القومي، ودخل الكثير منهم الكليات العسكرية والأمنية بناءاً على ذلك أيضاً( )، وأكبر مثال على ذلك الدعاية الشيوعية ضد البعث، حيث وصفت إحدى منشوراتهم السرية بأن أعضاء البعث هم عملاء، فقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي- بسبب ما تعرض له من قمع- بياناً قال فيه: "إن سياسة البعث في سوريا والعراق، لم تكن إلا سياسة مدروسة، رسمها وخططها عملاء للاستعمار، مندسون في قيادة البعث من أمثال ميشيل عفلق وصلاح البيطار وعلى صالح السعدي"( ).
ومن أمثلة صلات القرابة التي أثرت على تفاعل الشعب مع النظام، صلات القربة بين ناظم جواد الذي شغل منصب السفير العراقي في بيروت، وكان أخو عضو مجلس قيادة الثورة، حازم جواد، قد استقال من منصبه عقب سقوط البعث، بسبب أن أخاه لم يعد بالقيادة، وكذلك بهاء الشبيب شقيق طالب الشبيب، الذي اعتقل بعد سقوط البعث العراقي، بسبب علاقته بأخيه، كما تولي الكثير من البعثيين مناصب قيادية لمجرد انتماءهم للبعث، رغم أنهم لا يحملون أية مؤهلات لذلك( ).
كما أن الشقاق بين جناحي السعدي وجواد، أضعف التفاعل الاقتصادي بين النظام البعثي الحاكم، وبين الشعب، حيث أصبح علي صالح السعدي يدعي أنه من الطبقة الكادحة، فكان يتقارب مع أفراد هذه الطبقة ويجالسهم بهدف كسب شعبيته بينهم، وقد تجاوب في ذلك مع تيار القيادة القطرية في سوريا برئاسة حمود الشوفي، حيث سيطر تيارهما في انتخابات المؤتمر القومي السادس للحزب الذي عقد في بداية نوفمبر 1963، وشنا حملة ضد من أسموهم بالتيار اليمني، وكان السعدي يقصد تيار حازم جواد، وكلاهما أيضاً يقصدان القيادة القومية، فأخذا يحثا على ضرورة أن يحدث البعث إنجازات اشتراكية ذات طابع ماركسي، مثل: التخطيط الاشتراكي، والمزارع الجماعية التعاونية التي يديرها الفلاحون، وضرورة سيطرة العمال على وسائل الإنتاج، وارتكاز الحزب على العمال والفلاحين بصفة خاصة، وقد أيدت منظمات الحرس القومي، واتحاد الطلاب، ونقابات العمال، والكثير من أعضاء البعث ذلك ، بيد أن معظم الضباط البعثيون رفضوا هذه الإجراءات ووقفوا مع تيار حازم جواد، وكان من بينهم، قائد الأركان طاهر يحيي، وقائد القوى الجوية حردان التكريتي، ووزير المواصلات، العقيد عبد الستار عبد اللطيف، وقائد كتيبة الدبابات الثالثة العقيد محمد المهداوي، بينما وقف رئيس الوزراء ، اللواء أحمد حسن البكر، ووزير الدفاع، الفريق صالح مهدي عاش، وسطاً بين التيارين، وعملاً على تسوية الخلافات بينهما حسب رأي ميشيل عفلق، لكنهما عملياً كانا مع تيار حازم جواد( ).
وقد ازداد هذا الخلاف بعد أزمة الحزب إثر تسفير علي صالح السعدي إلى خارج العراق، حيث طالب تيار السعدي، من خلال مؤيديه بالاتحاد العام لنقابات العمال بضرورة تصفية البرجوازيين الذين هم خارج الحزب، وبالتأميم الفوري للمصانع، وجعل المزارع تعاونيه، مما مهد للكثير من الضباط الذين كانوا في معظمهم من البرجوازية الصغيرة أن يقفوا ضد البعث( )، رغم أنهم كانوا في الأصل من الطبقة المنخفضة الدخل أو المتوسطة الدنيا، وهؤلاء كانوا يشكلون ثلثي أعضاء مجلس قيادة الثورة، بينما القسم الثالث، فكان في الأصل من طبقة متوسطة الدخل ، ويبين الجدول النسبة المئوية للأعضاء مجلس قيادة الثورة بناءاً على انتماءاتهم الطبقية:

الانتماء الطبقي لأعضاء مجلس قيادة الثورة النسبة المئوية لهم
طبقة منخفضة الدخل 22.2%
طبقة متوسطة دنيـا 44.5%
طبقة متوسطـــة 33.3%
المجموع 100%
هذا الجدول رقم (3،1) مأخوذ من مرجع حنا بطاطو، العراق: الشيوعيين والبعثيون والضباط الأحرار، ص ص320 -327 ، ويبين الانتماء الطبقي لأعضاء مجلس الثورة عام 1963 .

كما أن البعث منذ بداية حركته، وضع ما أسماه بالمنهاج المرحلي للثورة الشعبية العراقية، والذي جاء فيه : " أن الثورة تؤمن بأن خيرات الوطن ملك للجميع من أبناءه العاملين المنتجين ويجب أن يطور النظام الاقتصادي، بحيث يؤمن توزيع الخيرات على كل المواطنين كل بحسب خدماته وما يقدمه لهذا الوطن من جهد"( ).
وحول كيفية تطوير النظام الاقتصادي فقد لخصها المنهاج بما يلي( ).
- المادة الرابعة: "السير في حصر ملكية الصناعات الأساسية والمرافق العامة، وحق إنشائها بالدولة".
- المادة الخامسة: "تشجيع الرأسمال الخاص على الاشتراك في مشروعات التنمية ضمن الخطة الاقتصادية وإعفاءه من الضرائب خلال مدة معقولة على أن يلتزم في نشاطه بأهداف الثورة، وأن يتقيد بالقوانين التي تحدد أغراضها الاجتماعية".
- المادة السابعة: "إعادة النظر في توزيع الدخل على المواطنين عن طريق فرض ضرائب تصاعدية على المداخيل العالية، وإعفاء أصحاب الدخل المحدود من الضريبة".
لكن لم ينفذ البعث معظم هذه الخطط، كما لم يحدد نظرته للأرض وملكيتها، وما هو مصيرها، هل ستلغى أم ستبقى، وإذا ما بقيت فضمن أي حدود؟ كما أن تدخلات الحرس القومي حال دون تحقيق الكثير مما دعا البعث إليه، رغم ازدياد عدد الآبار النفطية خلال فترة حكم البعث في (8) أيار1963 بعد أن انخفضت عام 1962 إلى اثنين فقط( ).
السنة عدد الآبار النفطية المنجزة
1960 11
1961 7
1962 2
1963 8
جدول رقم (3-2) يبين ارتفاع نسبة المشاريع النفطية المنجزة
في عهد البعث بعد أن انخفضف في الآونة الأخيرة من حكم قاسم
كما أنه ازداد إنتاج البترول خلال فترة 1963 عن السنة التي سبقتها بنسبة 15.2%، من خلال التغير السنوي في إنتاج العراق، و 7.5% في التغير السنوي في إنتاج العالم، حيث ازدادت مساهمة العراق في الإنتاج العالمي إلى 4.2%، وهذا ما دعا البعض على اتهام البعث بأنه قد حصل على تأييد الغرب ، لأن البترول العراقي يتبع ستة شركات غربية، منها أربعة شركات تابعة للكارتل، أي للشقيقات السبع المسيطرة على النفط العالمي إنتاجاً وتوزيعاً وقيمة شرائية، وهذه الشركات هي( ).
1- شركة البترول البريطانية تسيطر على 23.75%.
2- مجموعة رويال دويتشر شل تسيطر على 23.75%.
3- شركة النفط الفرنسية تسيطر على 23.75%.
4- شركة ستاندرد أويل أوف نيوجسي تسيطر على 11.875%.
5- شركة موبيل أويل تسيطر على 11.875%.
6- مصالح كولبنكان تسيطر على 5%.
ولم يحدث أي زيادة في الدخل القومي العراقي بدون النفط، فالنفط كان له الدور الأكبر في زيادة الدخل عام 1963، حيث شكل حوالي 50% من الدخل القومي، بينما شكلت بقية القطاعات النصف الآخر( ).
وبناء على هذه الزيادة في الدخل فقد خصص البعث حوالي سبعة وخمسين مليون دينار عراقي للتعليم الثانوي، أي بزيادة قدرها 75.9% عن العام الذي سبقها، وازداد عدد الطلاب بنفس النسبة، كما ازداد عدد طلاب التعليم العالي إلى 27.4% في نفس العام، وازدادت معدلات التنمية الاقتصادية بنسبة 3.8%( ).
وازدادت قوة الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي، مخترقة كل أجهزة الدولة، وتحسنت أحوالها من خلال الخدمات والأحوال المعيشية، والصحة والسكن، فحصلوا على أرض مجانية من الدولة، لبناء المساكن بموجب المنهاج الذي صدر عام 1963، حيث كان الكثير منهم يعيش في الصرائف وأكواخ الطين، إلا أن عدم تجانس هذه الطبقة كونها تضم في داخلها الضباط والمهنيون ومتوسطي الملاك والتجار الصغار، قد جعلها لا تستطيع أن تشكل تنظيماً طبقياً خاصاً بها( )، لكن عمل العسكريون الذين كانوا من خلفية اجتماعية واحدة، على التعاون مع بعضهم البعض، أكثر من تعاملهم مع أقرانهم من نفس الأيديولوجية( ).
كما ازدادت نسبة العاملين بالصناعات التحويلية بمقدار 0.001 عن الفترة التي سبقتها، لكن هذه الزيادة تعتبر طبيعية بالنسبة للزيادة الطبيعية لعدد السكان، كما أزاد الميزان التجاري بمعدل 37.6%. وارتفعت نسبة التغير في قطاع النفط، بزيادة 15.3%، وانخفضت نسبة سكان الريف من 53.3% عام 1962 إلى 51.8%، عام 1963، بسبب التحسنات في الريف، لكن تناقصت مشاريع التنمية من خلال إيرادات النفط من 51% عام 1962 إلى 8.6 عام 1963، وانخفضت صادرات العراق غير النفطية بنسبة 17.7%، كما انخفض الدخل القومي العام بنسبة 0.027( ).
ويعود انخفاض الدخل رغم الزيادة النفطية، بسبب حرب الشمال التي أدت إلى نتائج مأساوية على الجانبين، بسبب الخسائر في الأرواح والمعدات وانخفاض المحاصيل الزراعية بنسبة 55% بالنسبة للقمح، و 29% للشعير، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والصناعية بنسبة 21% وعمت البطالة في مناطق القتال وما جاورها، وتعطلت الدراسة في المدارس( )، خاصة أن بعض الإقطاعيين في هذه المناطق كانوا يسيطرون على المحاصيل الزراعية، إضافة إلى الكثير من الأراضي، فكان استيلاء البيش ماركة والشيوعيون على محاصيل الإقطاعيين وتوزيعها على فقراء الأكراد يكتسب عندهم تأييداً كبيراً ( ).
ورغم الكثير من التحسينات التي حققتها البعث خلال فترة حكمه إلا أنه لم يكسب تعاطف الكثير من أبناء الشعب العراقي، فلم يستطع تحقيق التفاعل الاقتصادي بينه وبين الشعب، بسبب حرب الأكراد أولاً، والتي استنفذت الكثير من ميزانية العراق، وخاصة خلال الأشهر الثلاثة من حكم البعث، إضافة إلى ممارسات الحرس القومي الذي قام أفراده باغتصاب أموال باهظة، وكميات كبيرة من الأشياء الثمينة كالذهب والتحف النادرة، من المحلات العامة، ودور المواطنين، والشركات الأهلية بالقوة والإكراه، وكان كل ذلك من خلال استغلال شعارات البعث كالاشتراكية، أو بحجة التبرع، أو بأسلوب اعتقال الأبرياء ومن ثم إطلاق سراحهم مقابل الرشوات الباهظة، والأتاوات من كافة المواطنين، حيث كانت توزع على قادة الحرس القومي، إضافة إلى وزير الدفاع صالح مهدي عماش، متحدين بذلك كافة قوانين الدولة، وأهم الأساليب التي اتبعوها في جمع الأموال( ):
1- التبرعات من كافة الجمعيات والمدارس والمؤسسات والشركات.
2- أجور حراسة السينما والبارات والملاعب والملاهي والمقاهـي.
3- سرقة النقود التي يعثرون عليها عند تحري الدور.
4- الرشوات من قبل ذوي المعتقلين والمحتجزيــن.
5- الإتاوات من قبل التجار والشركات التجاريــة.
وبالنسبة للتفاعل الاجتماعي بين النظام والشعب، فكون معظم القيادة القطرية من التنظيم المدني للبعث من الشيعة، مثل : (علي صالح السعدي، وحازم جواد، وطالب الشبيب، ومحسن الشيخ راضي، وحميد خلخال، وهاني الفكيكي) وتشكيلهم حوالي 27.8% من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، أدى إلى جعلهم-في مجلس قيادة الثورة- أقل من السنة الذين شكلوا 66.7% أي أقل من نسبتهم العددية، كما أن الأكراد شكلوا 5.51%( )، أي أقل من نسبتهم العددية أيضاً، ولم تحصل الأقليات الأخرى على أي من المقاعد، رغم حصول بعضها، مثل طارق عزيز الذي ينتمي إلى الطائفة المسيحية في العراق، على العضوية في القيادة القطرية، إلا أن هذا لا يعبر عن النسب الحقيقية للسلطة الحقيقية في الدولة، وهو مجلس قيادة الثورة ، أو مجلس الوزراء، أو الحرس القومي، اللذين شكلوا القوة الحقيقية في الدولة العراقية عام 1963.
كما أن معظم مجلس قيادة الثورة، كانوا أقل من أعمار القياديين في الدول الأخرى وعلى هذا الأساس فمن غير المعقول أن يستثنى من له خبره طويلة في مجال الحكم، ويحكم العراق فئات عمرية معظمها من الشباب ذو الخبرة القصيرة، ومعظمهم ينتمون إلى تنظيم محدد هو التنظيم البعثي، حيث شكل (16) منهم من البعث واثنين فقط من غير البعث.
كما أن معظمهم لم يشتغل بالسياسة أو بأمور الحكم، فثلاثة منهم كانوا يعملون ضمن الحزب، وخمسة مهنيون، وثلاثة معلمون، واثنين، إحداهم محامي، والآخر مهندس، أما العسكريون فلم يكن من بينهم سوى أربعة أكثر من رتبة عقيد، إضافة إلى أنهم لم يشكلوا توزيعاً عادلاً لكل أقاليم العراق، فكان أربعة منهم من بغداد، وواحد من النجف، وثلاثة عشرة من الريف، أي تغلب الريف على المدينة، رغم أنه يشكل نسبة من السكان لا تزيد كثيراً عن سكان المدينة.
وهنا برز التناقض الاجتماعي في الأعمار، وفي الأقاليم، وفي التنظيمات المهنية التي ينتمي إليها أعضاء مجلس قيادة الثورة، إضافة إلى التناقض الطائفي بين الشيعة الذين شكلوا غالبية الجهاز المدني القيادي للحزب، وبين السنة الذين شكلوا أغلبية الجهاز العسكري، ومجلس قيادة الثورة وعلى هذا الأساس فلم يستطع البعث تحقيق التفاعل الاجتماعي بينه وبين الشعب.
وقد اعترفت القيادة القطرية لحرب البعث في العراق في يناير من عام 1964، حول أسباب سقوط البعث في العراق في بيان أصدرته، وقد جاء فيه:
" إن كون الحزب اشتراكياً في خطوط فكرته العامة وتطلعاته ونزوعه العاطفي لا ينفي أبداً الهوة العميقة بين الحزب والجماهير ولا يجعل منه رغم إيمانه النظري بالجماهير قائداً ومعبراً عن أحاسيسها وكنتيجة واضحة لذلك لم يستطع أن يقيم علائق وثيقة ومنظورة ومتسعة باستمرار بجماهير العمال والفلاحين، والطبقات العامة، في عملية التحويل الاشتراكي، والتي تمثل الاشتراكية صورة صادقة لنزوعها ومصلحتها، بينما بقي نشاط الحزب حبيساً ضمن ذلك الوسط الذي تتكون غالبية أعضاء الحزب منه، ونعني به وسط البرجوازية الصغيرة والمثقفين بصورة خاصة، ثم جاء الكراس ولقد اتضح من سير الأحداث خلال فترة ما بعد الثورة، أن الحزب لم يكن قد هيأ نفسه وأعد ما يحتاج إليه من تخطيط ودراسات في هذا المجال لتحقيق الثورة في القطر العراقي وإجراء عملية التحويل الاشتراكي في المجتمع بكل ما يحتاجه وتقتضيه تلك العملية ......إن الحزب باعتباره الحركة المؤهلة لقيادة النضال الاشتراكي لجماهير شعبنا العربي الكادحة ينبغي أن يفرق بين نوعين من الحركات:
1- الحركات السياسية التي تعبر بتركيبتها وتفكيرها عن مصالح القوى والطبقات الاجتماعية المعادية للجماهير الكادحة، وهذه القوى والطبقات تشمل البرجوازية، والإقطاع، والرجعية بكل فصائلها.
2- الحركات التي تنطلق بنضالها من إيمانها بأنها تعبر عن مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، نفس جماهير الحزب، حيث يتركز خلاف الحزب معها في بعض المنطلقات.
إن النوع الأول هي حركات معادية للجماهير الكادحة مصلحياً، ولذلك فإن موقف الحزب منها يجب أن ينطلق من الدفاع عن مصالح هذه الجماهير تجاه القوى والحركات المعادية.....أما النوع الثاني فإن الصفة المحلية المعادية للجماهير الكادحة غير متوفرة فيها، لذلك فإن الموقف منها يجب أن يعتمد إقناع قواعدها بأن حزبنا هو المعبر عن مصالح الجماهير الكادحة، لا أن يتجه إلى ضربها ودفعها للشك في حقيقتنا الاشتراكية.....الحزب الشيوعي باعتباره النوع الثاني من الحركات السياسية فقد كان ينبغي على الحزب أن يحدد الموقف منه انطلاقاً من نظرته الاشتراكية، ومنطلقاته كحزب ثوري لجماهير الكادحين، فالحزب الشيوعي رغم مواقفه الخاطئة، ومواجهته لثورة الثامن من شباط/ فبراير، بمقاومة مسلحة إلا أن ذلك، بالإضافة للمقاومة لم يكن ليبرر استمرار الحملة بشكل صليبي عستيري ضده، في الوقت الذي تركت فيها الرجعية بمختلف فصائلها إلى أجهزة الدولة، وتندس في صفوف الثورة، إن هذا الموقف بلا شك نتيجة دفع وتخطيط من عناصر اليمين في الحزب، وخارجه، تلك العناصر التي استغلت موقف الشيوعيين من الثورة، وحرص جماهير الحزب على حمايتها لإيمانها بأن الثورة تعبر عن أماني وتطلعات الجماهير الكادحة، لذلك عملت تلك العناصر على استخدام الحزب كأداة فقط تتحول لمعاداة بعد أن تتم لها تصفية بقية القوى، ولقد أكدت مؤامرة 18 تشرين الثاني/ نوفمبر وما بعدها هذه الحقيقة، حيث تتربع هذه العناصر الآن على كرسي الحكم، وتتمعن في معاداة الحزب والجماهير الشيعية، بعد أن فشلت في تحويل الحزب نهائياً إلى أداة طيعة بيدها يخدم أغراضها ومصالحها......إن الموقف الثوري السليم يفترض على أن يعتبر البرجوازية، والإقطاع، والرجعية، وفصائلها، هي العدو الأول الذي يجب أن تتركز الحملة عليه، إن نظرة بسيطة لواقع هذه الفئات وظروف تكوينها، وطبيعة بنيتها الاجتماعية، تظهر حقيقتها البرجوازية المستقرة وراء شعارات الجماهير الأساسية، وقد كان موقف الحزب من هذه الفئات رغم معرفته الكاملة بها من قبل الثورة موقفاً متردداً وغامضاً أحياناً، ولقد بقى الحزب يتخبط في مواقفه تجاهها بين أن يدخل وإياها في جبهة سياسية قومية لا يمكن أن يعبر عن حقيقة ثورة رمضان الاشتراكية، أو أن يمثل نضال الطلائع الثورية لجماهير شعبنا الكادحة، وبين الرفض لتلك الفكرة، وتكوين جبهة أو اتحاد للقوى الشعبية (العمالية، والفلاحية، والطلابية، والمهنية). وحقيقة هذا التخبط الذي عاشه الحزب ترجع في أساسها إلى التخطيط الفكري وغموض تخطيطه الاشتراكي، وعدم تقويمه السليم لقوى الطبقية في المجتمع ذات المصلحة بالثورة الاشتراكية"( ).
من تحليل البيان نلاحظ تركيز الحزب على أخطاءه ضد الشيوعية، إضافة إلى العناصر اليمنية في الحزب والتي يقصد بها تيار حازم جواد، والضباط الذين تعاونوا مع عارف في انقلابه، لكنه لم يذكر الاختلافات بين عناصر الحزب بسبب العوامل الشخصية واستهتار بعضهم بالقوانين، وتكوينهم طبقة خاصة بها ابتعدت عن الجماهير، كما لم يذكر البيان، أن الصراع مع الأكراد أدى لاستنزاف موارد الدولة، وإضعاف الاقتصاد، وأن الخلاف مع العناصر القومية سواءاً (كانوا من الناصرين أم من حركة القوميين العرب)، وأن عدم وجود تفاعل اجتماعي بين العناصر البعثية ذوي الأعمال الصغيرة، وعدم تمثيل مجلس قيادة الثورة، والضباط العسكريين، لفئات المجتمع العراقي بنسب كل فئة، واعتماده على الأيديولوجيا وحدها وعلى هذا الأساس فإن هذا البيان تنقصه الكثير من الأمور التي أسهمت في سقوطه، وأهمها عن تفاعل النظام البعثي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مع الشعب العراقي.

المطلب الخامس
التأكيد على الهوية الوطنية للجيش
إن أهمية دور العسكري في تحقيق الوحدة الوطنية أو إضعافها، تكمن أنهم أساس عملية التغيير في المجتمع العراقي، منذ نشوء الدولة العراقية عام 1920، فكل شئ يقومون به يؤثر سلباً أو إيجاباً على الوحدة الوطنية، فانقلاب 8 فبراير 1963، قام من خلال الضباط البعثيين بالدرجة الأولى، وحرصوا أن يكون أنصارهم ومؤيديهم موجودين في المعسكرات والحاميات المحيطة في بغداد ذلك اليوم، وأن يتولوا الحراسة تلك الليلة، ليلة الخميس/ الجمعة، ليضمنوا السيطرة ويقتلعوا كل من يشك في عدم تأييده لحركتهم.
وأول ما ابتدأ به الانقلابيون هو اغتيال قائد القوة الجوية (جلال الأوقاني) في منطقة الكرادة، وساعدهم في ذلك بعض الضباط القوميون الذين نسقوا معهم قبل الحركة، مثل : صبحي عبد الحميد، وناجي طالب، وعبد الكريم فرحان، وهادي خماس، وشكلوا معهم الجبهة القومية( ).
وعلى هذا يتبين دور الضابط في عملية إسقاط النظام، كما يتبين أن تحالف الضباط مع البعثيين كان له دور كبير في إقامة نظام جديد يعتمد في وجوده على العسكر بصفة خاصة ، لكن كان موقف حزب البعث داخل الجيش ضعيفاً ، ومعظم الضباط البعثيون من ذوي الرتب الصغيرة ، لذلك فقد جاءت تشكيله قيادات الجيش من عناصر قومية في غالبيتها ، وكان لتلك العناصر دور كبير في إسقاط سلطة حزب البعث بعد 9 اشهر من وقوع حركة 8 شباط 963 ، وفيما يلي التعينات التي أجريت في الجهاز العسكري إثر وقوع الحركة :
1 ـ تعيين العقيد طاهر يحيى رئيساً لأركان الجيش ، مع ترقيته إلى رتبة لواء .
2 ـ تعيين المقدم خالد مكي الهاشمي نائباً لرئيس الأركان ، وترقيته إلى رتبة عقيد .
3 ـ تعيين المقدم حردان التكريتي قائداً للقوة الجوية ، وترقيته إلى رتبة عقيد .
4 ـ تعيين المقدم صبحي عبد الحميد مديراً للعمليات العسكرية ورقي إلى رتبة عقيد
5 ـ تعيين المقدم سعيد صليبي ، أمراً للانضباط العسكري ، ورقي إلى رتبة عقيد
7 ـ تعيين المقدم محمد مجيد ، مديراً للتخطيط العسكري ، ورقي إلى رتبة عقيد
8 ـ تعين الرئيس محي الدين محمود ، مديراً للاستخبارات العسكرية .
9ـ تعين العقيد رشيد مصلح التكريتي ،حاكماً عسكرياً عاماً ،ورقي إلى رتبة زعيم .
وفي الوقت نفسه أصدر الانقلابيون قراراً ت أخرى بتعين قادة الفرق العسكرية ، وجاءت على الوجه التالي :
1 ـ تعين العقيد عبد الكريم فرحان ـ قائداً للفرقة الأولى،ورقي إلى رتبة زعيم.
2 ـ العقيد إبراهيم فيصل الأنصاري ـ قائداً للفرقة الثانية ،ورقي إلى رتبة زعيم
3 ـ تعيين العقيد عيد الغني الراوي ـ قائداً للفرقة الثالثة ،ورقي إلى رتبة زعيم .
4 ـ تعيين الرائد عبد الكريم نصرت قائداً للفرقة الرابعة المدرعة،ورقي إلى رتبة عقيد.
5 ـ تعيين العقيد عبد الرحمن عارف- قائداً للفرقة الخامسة ، ورقي إلى رتبة زعيم.
أما كتائب الدبابات ، فقد أسندت إلى الضباط التالية أسماؤهم :
1ـ المقدم صبري خلف الجبوري ـ قائداً لكتيبة خالد .
2 ـ المقدم الركن حسن مصطفى النقيب ـ قائداً لكتيبة الدبابات الأولى .
3ـ المقدم محمد المهداوي ـ قائداً لكتيبة الدبابات الثالثة .
4 ـ المقدم خالد مكي الهاشمي ـ قائداً لكتيبة الدبابات الرابعة ،إضافة إلى منصبه كنائب لرئيس أركان الجيش ، وكان واضحاً أن البعث أراد إبقاء هذه الكتيبة في يده ، والتي كان لها الدور الحاسم في حركته.
كما كان من الأمور التي أضعفت ثقة الشعب بالقوات المسلحة خلال فترة حكم البعث عام 1963، هو تشكيل الحرس القومي، الذي نص قانونه على أساس أنه تابع للقوات المسلحة، فقد نشر قانون الحرس القومي برقم 35 في الثامن من فبراير عام 1963، أي في نفس يوم حركة الرابع عشر من رمضان، على أساس أن يكون هذا التنظيم هو الجيش الشعبي الاحتياطي لحماية الوطن والحفاظ على أمن الدولة والحزب، لكن حسابات البعث كانت خاطئة ، فالحرس القومي مهما بلغ تعداده ، فهو لا يصل إلى تعداد قوات الجيش ، كما أن السلاح الذي يمتلكه الحرس القومي لا يمكن أن يقاس بما لدى الجيش من أسلحة ثقيلة ، ومعدات ، وطائرات ، وخبرات قتالية ، وإمكانيات مختلفة ، هذا بالإضافة إلى افتقار الحرس القومي ، وقيادته إلى الحكمة ، والتبصر ، فقد اتسمت كل تصرفاتهم بالاستهتار ، والتسرع ، مما أفقدها أي تعاطف ، سواء كان من الشعب ، أو من الجيش ، خاصة بعد سعيهم إلى تقليص نفوذ الضباط القوميين داخل الجيش مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى مرحلة أعلى .
وقد تطوع كل المعادين لقاسم أو للشيوعيين فيه، وأندس فيه بعض الانتهازيين ذوي الحزبية الضيقة، أو المصالح الشخصية، وأخذوا يرفعون من خلاله شعارات البعث، القائمة على أساس العدالة الاجتماعية، والاشتراكية والوحدة العربية الشاملة، والحرية المنشودة للوطن العربي ، ونص قانونه ذو الرقم خمس وثلاثين على الأهداف التي دعت لوجوده بقولها: " إن الغاية من تشكيل الحرس القومي هي لإعداد قوة الشباب القومي العربي لتتدرب على استعمال السلاح، لغرض معاونة القوات المسلحة للدفاع عن الوطن العربي، وصيانة الأمن الداخلي بموجب تعليمات خاصة تصدرها وزارة الدفاع"( ) ، كما بين القانون أن قيادة قوات الحرس القومي برئاسة قائد الأركان وذلك عن طريق دائرة الأركان العامة، والأمور الإدارية كل حسب اختصاصها وتكون واجباته كما يلي( ):
(1) في السلم:
- التعاون مع الجيش والشرطة في صيانة الأمن الداخلي.
- حماية وحراسة المنشآت الحيوية.
- التحري وتعقب المجرمين والمعادين للجمهورية.
- مكافحة الدعاية المغرضة.
- مكافحة الحريق.
- تفهيم أهداف ومبادئ ثورة الرابع عشر من رمضان إلى الشعب.
(2) في الحرب:
- تهيئة قوة احتياطية لمساعدة الجيش عند الحاجة.
- حماية خطوط المواصلات.
- الواجبات التي تم ذكرها للعمل في السلم.
- أعمال الحراسة والدوريات.
- التعاون مع الجيش في الدفاع عن المدن حسب الواجبات التي تعهد إليها.
- القيام بعمليات الإنقاذ ومكافحة الحريق أثناء الغارات الجوية المعادية.
- مقاومة الهابطين بالمظلات والمتسللين.
(3) في التسليح والتجهيز:
- يسلح أفراد الحرس القومي بالمسدسات والغدارات والبنادق من الأنواع المتيسيرة حسب الملاكات.
- يجهز الحارس القومي بتجهيزات خاصة يرتديها أثناء الواجبات فقط، ويحتفظ بها في مسكنه، خلال الأوقات الأخرى، وتقتصر التجهيزات على بدلة شغل وغطاء رأس.
- يجوز خزن الأسلحة في أقرب وحدة سكنية أو مركز شرطة إذا لم تظهر الحاجة إلى حملها.
وبناء على هذا القانون ذو الرقم خمسة وثلاثين، انضم الكثير من المتطوعين حسب الشروط والتوصيات التي ينص عليها، حتى أن بعض أفراد مجلس قيادة الثورة كان يرتدي بزة الحرس القومي مثل رئيس الوزراء أحمد حسن البكر، والرئيس عبد السلام عارف، وأمين القيادة القطرية، علي صالح السعدي، وهذا إن دل فإنما يدل على مدى أهمية وقوة هذا التنظيم.
لكن بعض أعضاء القيادة القطرية والحكومية وعلى رأسهم علي صالح السعدي الذي كانت قيادة الحرس القومي تتبع له وتأخذ أوامرها من خلاله، عملوا على استعداء الحرس القومي على الجيش، وكان يستطيع تحديد مهامها ومنع تجاوزاتها( )، فزعم الأهمية الكبيرة للحرس القومي، في حماية النظام وإجهاض بعض التحركات المعادية له، إلا أن عدم انضباط أفرادها، جعل أول قائد لها وهو العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت- الذي قاد الهجوم بالدبابات على وزارة الدفاع، لإسقاط نظام قاسم- يطلب نقله إلى الجيش النظامي بسبب أن أفراد الحرس القومي، كانوا يقرون النقاش والتصويت وتبادل الآراء، على أساس أنهم بعثيون، وهذه الأشياء غير موجودة في الجيش الذي عنده مبدأ: نفذ ثم اعترض"( ).
فلم يحدث في التاريخ أن تمكن أحد من ضبط المليشيات الحزبية، فعلى سبيل المثال، لم يستطع الزعيم النازي أدولف هتلر، أن يضبطها، حيث قضى عليها وأعدم قائدها، كما أن عبد الكريم قاسم، حل بعد ثورته المقاومة الشعبية، فالجيش والمليشيات لابد أن يصطدمان.
وكان تعيين الحزب لأحد الضباط الطيارين وهو منذر الونداوي، رئيساً للحرس القومي غير محظوظ ، حيث تم ذلك على خلفية نقل عبد الكريم مصطفى نصرت إلى الجيش النظامي، وتكليفه بضرورة ضبط الحرس القومي، حيث أن الونداوي بدل أن يفعل ذلك، ويخضع الحرس القومي لمجلس قيادة الثورة، أصبح واحداً من المعاكسين للقيادة العسكرية، فتدهور الوضع قيادة وقواعداً، وأصبح الونداوي ينفذ أعماله من دون الرجوع إلى مجلس قيادة الثورة، أو إلى القيادة القطرية للحزب( )، رغم أنه كان يأخذ الأوامر بشكل شخصي من علي صالح السعدي مباشرة، وليس على أساس التنظيم الحزبي.
وبسبب تذمر الضباط في الجيش من أعمال الحرس القومي، من خلال إهانتهم وتفتيشهم، وتذمر ضباط الأمن والشرطة، بسبب تدخلهم في دوائرها، وسيادة روح المنافسة القائمة على الحسد والحقد، مما كان له تأثيره في تصدع قوة الحزب داخل الجيش، فكان بعض الضباط ينقدون تصرفات الحرس القومي، ولم يكونوا راضين عنها، مثل أحمد حسن البكر وطاهر يحيي، وكانوا يرون ضرورة الانفتاح على القوى القومية الأخرى، وكسبها إلى جانب حزب البعث( ).
ورغم محاولة مجلس قيادة الثورة استبدال منذر الونداوي، كقائد للحرس القومي، بالمقدم عبد الستار رشيد، من خلال مرسوم جمهوري، أصدره عبد السلام عارف في الأول من نوفمبر 1963، إلا أن الونداوي رفض ذلك ، وهذا دليل على مدى قوة وفعالية الحرس القومي( ).
وكان لهذا تأثير كبير في الانقلاب الحزبي ضد علي صالح السعدي في الحادي عشر من نوفمبر عام 1963، حيث عقد المؤتمر الاستثنائي لزيادة عدد الأعضاء في القيادة القطرية إلى ستة عشر عضو، بدلاً من ثمانية، كما يفترض النظام الداخلي للحزب، إلا أن حازم جواد، كان قد تعاون مع بعض الضباط العسكريين البعثيين، لإبعاد علي صالح السعدي، والحلول محله في قيادة القطرية للحزب، وأصدرت القيادة الجديدة بياناً قالت فيه:
" إن القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث العربي الاشتراكي وهي تتحمل المسؤولية في هذه المرحلة التاريخية الخطيرة مرحلة تحقيق الوحدة العربية وبناء المجتمع الاشتراكي تقدر عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقها وتدعو جماهير الشعب من العمال والفلاحين والمثقفين والقوات المسلحة وكافة المخلصين من أبناء الشعب لتشديد النضال، وصيانة الثورة الاشتراكية من الأخطار الاستعمارية والرجعية المحدقة بها، ولتعبئة كافة القوى الخيرة لتحقيق الأهداف القومية للمرحلة التاريخية الراهنة والتي حددها بيان المؤتمر القومي السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي"( )
وهذا ما كان له تأثير سيئ على الحرس القومي الموالي للسعدي، وعلى هذا الأساس، قام الحرس القومي بانتفاضة ضد النظام وسيطر على بغداد، ومرافقتها الحيوية، والسيطرة على مراكز الأمن والشرطة والهاتف، والإذاعة، وهاجم الونداوي القصر الجمهوري، ومعسكر الرشيد ودمر عدداً من الطائرات، ورغم محاولة وزير الدفاع حل المشكلة من خلال إذاعته لبيان دعا فيه إلى مدى خطورة الوضع، على أساس أن ذلك لن يفيد إلا أعداء الحزب، وعلى ضرورة العودة إلى العلاقات الرفاقية الصلبة وإلى التفاهم والأخوة، كما رفض (البكر) إعطاء الأوامر للجيش بالتدخل لإحلال النظام( ).
وامتلأت مقرات الحرس القومي بصناديق الرشاشات ومخازن السلاح، ومدافع ضد الدبابات، والسيارات الكشافة والمصفحات والمدرعات المرابطة في مقرات الحرس الرئيسية منها والفرعية، مع أن القانون كما ذكر أنفاً، قد نص على تجهيز الحرس القومي بالمسدسات والغدارات فقط.
وهذا يعني أن الحرس القومي كان يسعى للاصطدام مع قوات الجيش، حيث كانت هذه الإجراءات تنفيذاً لمقررات القيادة القومية، لكن عندما شعر ميشيل عفلق أن عارف يقوم بمؤامرة لإسقاط البعث من خلال لقاءاته مع بعض الضباط، اقترح استدعاء بعض القوات السورية، وتمركزها في بغداد، وإبعاد القطعات العسكرية غبر الموالية للحرب إلى الشمال، كما أكد على ضرورة تدريب الحرس القومي على استعمال الدبابات والأسلحة الثقيلة، وأن يوضع عبد السلام عارف، والضباط الناصريين، تحت المراقبة ، لكن لم تتقيد القيادة القطرية بذلك ، وهذا ما يشكل هوة بينهما أثر على مسار الحزب( ).
ورغم تدخل أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش، لحل مشكلة الحزب باستدعاء القيادة القومية، إلا أن القيادة القومية، كان تصرفها سلبياً، عندما أيدت تحركات الحرس القومي، وبيانات فرع بغداد حول هذه القضية ، واعتبرت عمل الحرس القومي هو عمل جبار، وأصدرت بياناً حول ذلك قالت فيه:
" لقد برهن حزبكم المناضل خلال الأزمة التي مرت على احترامه العميق للقيم الحزبية وتمسكه الصميم بمبدأ الشرعية المنبثقة عن انتخاب نظامي سليم، وإن أي تفريط بهذه القيم أو تجاهل لها يعرض وجود الحزب، وبالتالي وجود الثورة وقضية الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية ليست أمور سياسية"( ).
كانت هذه القرارات من القيادة القومية بانتصارها لأعمال الحرس القومي، وعدم اتخاذها قرارات واقعية لحل الأزمة، قد دفعت بعبد السلام عارف للاستفادة من تذمر بعض الضباط، واستغلالهم قبل أن يفوت الأوان وتحل المشكلة بشكل جذري من خلال القيادة القومية، وأخذ بحثهم على ما أسماه "الثأر لكرامة الجيش والثأر لحماية الوطن"( ).
وقد استفاد عبد السلام عارف من أخطاء الحرس القومي، وأخطاء أعضاء التنظيم الحزبي، سواء كانوا في القيادة العسكرية أم القيادة القطرية أو بالحكومة، فقد أخطأ وزير الدفاع صالح مهدي عماش، عندما كان يرفض تعيين الضباط بالجيش لغير البعثيين بقوله : " أنا لا أوافق على الخدمة في الجيش لغير البعثيين"( )، حيث أن هذا يعني برأيه أن كل من ليس بعثياً هو سيئ ولا يحق له الانتساب للجيش.
كما أن قلة شعبية الحزب في الجيش بسبب تصرفات الحرس القومي، وتخبط القيادة القطرية، والمنافسة على المناصب بين أعضاءها، قد جعل انتشار الحزب بين ضباط الجيش قليلاً، حتى أن بعض المراكز الحساسة في الجيش بقيت في أيدي ضباطاً غير بعثيين مثل، تولي عبد الرحمن عارف ـ شقيق عبد السلام عارف ـ لقيادة الفرقة الخامسة، وعبد الكريم فرحان، قيادة الفرقة الأولى، وهو من حركة القوميين العرب، وإبراهيم فيصل الأنصاري لقيادة الفرقة الثانية، وهو من المستقلين، ومحمد مجيد لإدارة التخطيط العسكري، وصبحي عبد الحميد، لإدارة العمليات العسكرية، وسعيد صلبي، لقيادة الشرطة العسكرية، وهو من نفس القبيلة التي ينتمي إليها عبد السلام عارف، وهي قبيل الجُميلة، وتولي بعض البعثيين الذين كانوا ضد البعث عملياً، مثل اللواء طاهر يحيي، لقيادة الأركان، رغم ولاءه لعبد السلام عارف، وتولي بعض المستقلين لبعض المراكز بالجيش مثل عبد الغني الراوي، لقيادة الفرقة الثالثة ( ).
كما أن بعض الضباط تأثر سلباً بسبب إبعاده عن الجيش، وطبعاً لهم كان بعض الأصدقاء في الجيش، الذين حرضوهم ضد البعث، فكان إبعاد قائد سلاح الطيران العقيد عارف عبد الرازق وإقصاءه عن مجلس قيادة الثورة، وتعيين حردان التكريتي مكانه، وإبعاد عبد الستار علي، الذي كان من حزب الاستقلال، إضافة لإبعاد بعض الضباط غير البعثيين مثل: مهدي طالب، ورجب عبد المجيد، ومحمد جواد العبوسي، بسبب أنهم غير بعثيين، رغم أن كل هؤلاء قد شاركوا في حركة 8 فبراير 1963، وبذلك عملوا على إضعاف القوة العسكرية العراقية( ).
وهذا ما يفسر اعتماد علي صالح السعدي على الاعتماد على الحرس القومي، الذي وصل تعداده في العراق إلى خمس وثلاثين ألف عنصر، كان معظمهم من الأنصار والمؤيدين في حزب البعث، حيث قلة الدعم العسكري للبعث جعلته يعتمد عليه، ويستقطب رئيسه منذر الونداوي الذي كان يتلقي أوامره من السعدي بشكل رئيسي كما ذكر سابقاً ، وليس من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، وهنا نشأت الفجوة بين التنظيم العسكري للحزب، وبين الجيش، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين الجيش والتنظيم المدني للحزب أي القيادة القطرية، في ظل التمايز الطائفي بين العسكريين والمدنيين في الحزب حيث العسكريين في معظمهم من السنة بينما المدنيين في معظمهم من الشيعة ، وازداد هذا الخلاف في ظل إعدام الشيوعيين من قبل الحرس القومي، أو من خلال العسكريين البعثيين، وكان هذا أيضاً من الخلافات بين القيادة المدنية والعسكرية في الحزب( ).
كما استغل عبد السلام عارف وصول قوات سورية إلى العراق، ليدفع بها وبحثها على القتال في الشمال، وليجعل من الصراع وكأنه صراع بين قوميتين عربية وكردية، رغم أن هذا الصراع لم يأخذ شكل حرب أهلية، أو انفصالية أو عداء قومي بين العرب والأكراد، وكان هدف عارف، من أجل مصالح سلطوية، حيث حث الجنود السوريين على القتال ضد من أسماهم بالانفصاليين( ).
كما استغل عارف بعض الضباط البعثيين على أسباب أنهم القادرين على إنهاء انحرافات تياري حازم جواد وعلي صالح السعدي، ووعدهم بمناصب معينة لقاء اشتراكهم معه، ضد الحرس القومي( )،وعلى هذا استفاد عارف، من الجناح العسكري البعثي الذي كان موالياً لأحمد حسن البكر، ومنهم صالح مهدي عماش الذي كان وزيراً للدفاع، وحردان التكريتي الذي كان قائداً لسلاح الطيران، وانضم إليهم الكثير من الضباط البعثيين وغير البعثين، الذين كانوا يرون أن هناك قواسم مشتركة تجمعهم، أكثر مما تربطهم الأيديولوجيا( )، حتى أن بعض الضباط كان يرى تحجيم دور السعدي ضرورياً لإضعاف الحرس القومي، وزيادة قوة الضباط، خاصة بعد صعود السعدي بعد انتخابات المؤتمر القومي السابع للقيادة القومية عام 1963( ).
كما أن مشكلة البعث مع الشيوعيين والأكراد قد سببت ضعف التأييد الشعبي للبعث وحرسه القومي، وللضباط البعثيين أنفسهم، وكان لذلك رده فعل عند الشيوعيين، الذين قاموا بعدة حركات عسكرية انقلابية ضد النظام، مثل حركة (معسكر فايدة) قرب الموصل، التي حاولت السيطرة على معسكر الغزالي في الموصل، ومن ثم الامتداد من الموصل إلى كركوك ومن ثم إلى بغداد، من خلال بعض الضباط الشيوعيين مثل العقيد طالب عبد الجبار، الذي كان يقود اللواء الرابع عشر، لكن تم اكتشاف الحركة قبل تحركها، وتم اعتقال معظم قادتها، في السابع والعشرين من فبراير عام 1963، إلا أن الشيوعيين استمروا في تشكيل المراكز لهم في ظل حكم البعث تمهيداً لإسقاطه مثل مركز (دير الرهبان) ( ).
كما تحالفوا مع الأكراد بعد فشل مباحثات الحكومة مع البارتي، بعد الدعاوي الانفصالية التي طالب بها البارتي، مما حذا بالحكومة إلى أن تدخل الجيش وتشن هجومها على مواقع البيش ماركة، واشترك معها القوات الكردية الموالية للحكومة وهم (فرسان صلاح الدين)، بسبب ما كانوا يقوموا به من مهاجمة لمراكز الشرطة الحكومية، واستيلائهم على محتوياتها من الأسلحة والممتلكات، كما كان مع الشيوعين والأكراد، بعض الأهالي، من الأكراد بسبب الدعاية البارتية وتأثرهم بها، كما تعاون الشيوعيون مع أحد الآشوريين وهو (هرمز ملك جكو) الذي كان يقود مجموعة من المقاتلين الآشوريين، ضد النظام، وعمل من خلالهم على الاستيلاء على بعض المشافي والمستوصفات الطبية، والاستيلاء على محتوياتها من الأدوية، بحجة معالجة مرضاهم، رغم أن الجيش السوري الذي بعث إلى الشمال قد تداخلت معه قوات من فرسان صلاح الدين، إضافة إلى أنه كان من بين عناصره أفراد أشوريين من منطقة الجزيرة السورية المحاذية للعراق ، وهذا يثبت أن القتال لم يكن له بسمة عنصرية أو عرقية، ورغم ما حققه الجيش من انتصارات، إلا أن انقلاب عبد السلام عارف حال دون القضاء النهائي على المقاومة الشيوعية والكردية، التي استمرت بضرب الجيش( ).
كما حاول الشيوعيون على محاولة استعادة السلطة بقيادة حسن سريع في منتصف يونيو 1963 كرد فعل لما تعرضوا له من تعذيب وإعدامات من قبل البعث ، فبدؤوا ينظمون صفوفهم داخل المؤسسة العسكرية، رغم أن السلطة الحاكمة عملت على القيام بحملة مداهمات ضدهم، وضبطت في مقراتهم ملابس عسكرية عليها شارات (الحرس القومي)، حيث كان الكثير منهم قد اخترق الحرس القومي، وعلى هذا الأساس قاموا بحركة انقلابية، واعتقلوا قائد الحرس القومي (منذر الونداوي)، إضافة إلى عضوين آخرين من مجلس قيادة الثورة وهما (حازم جواد وطالب الشبيب)، وهاجموا السجن العسكري في معسكر الرشيد جنوب بغداد، حيث كان فيه عدداً كبيراً من الضباط الشيوعيين المعتقلين، وكان هذا النجاح لهم بسبب تموههم بملابس الحرس القومي، إلا أن قوات الحرس القومي مع بعض قوات الأمن الداخلي، إضافة لتدخل قوات عسكرية من خلال أحمد حسن البكر وطاهر يحيي وعبد السلام عارف، ساهم في إنقاذ الموقف، وحيث كان عبد السلام عارف عنده عقده ثأرية ضد الشيوعيين، ويؤيده بعض العسكريين ، وهذا ما دفعه لمخاطبة المعتدلين من أعضاء البعث بقوله: " هذه نتيجة سياسية التساهل ودفاعكم عن الشيوعيين ليلاً نهاراً، لو أن التصفيات استمرت لما حدثت مثل هذه الحركة"( ) ، وفي أعقاب هذه الحركة صرح رئيس مجلس قيادة الثورة، طاهر يحيي، الذي كان في هذه الفترة قائداً له، وللأركان معاً، ببيان قال فيه:
" جرت محاولة بائسة من قبل فلول الحزب الشيوعي العراقي للسيطرة على معسكر الرشيد، وتصدت لهذه الفئة قوات الجيش والحرس القومي، وجماهير غفيرة من أبناء الشعب والطلبة والعمال التي أحاطت بمعسكر الرشيد، وباءت المحاولة بالفشل الذريع، وقمعت بعد قيامها بمدة وجيزة"( ).
كما استفاد عارف من التصدع الذي حصل بين الضباط البعثيين أنفسهم، خاصة بين وزير الدفاع صالح مهدي عماش، وبين وزير المواصلات: عبد الستار عبد اللطيف، إضافة إلى التصدع الذي حصل عقب انقلاب الحرس القومي على القيادة القطرية الجديدة بقيادة حازم جواد، حيث قام الحرس القومي باعتقال كل من أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش، ووجهوا كلاماً قاسياً لهما، ثم أطلقوا سراحهما بعد تدخل بعض الضباط البعثيين، وإطلاق بيان باسم الحزب سمي (بيان الآخوين) الذي تحدث عن وحدة الحزب وإنهاء الأزمة بوصول وفد القيادة القومية( ).
كما كان استياء الشعب من تصرفات بعض الضباط العسكريين الذين كان من الواجب أن يكونوا قدوة لهم، مثل تقاضي الرشاوي من وزير الدفاع صالح مهدي عماش إضافة لمقاسمته لغنائم الحرس القومي، وانتشار الروح العشائرية بين ضباط الجيش، إضافة للروح الإقليمية، وإعطاء رتب عسكرية وترقيات لبعض الضباط الذين لا يستحقون، مثل إعطاء رتبه (رائد) لأحد المهربين للسلاح، وهو علي عبد السلام، وترفيع عبد السلام عارف من رتبة عقيد إلى رتبة مشير ركن، أيضاً ترفيع صالح مهدي عماش من رتبة عقيد إلى رتبة فريق ركن( )، كل هذه الأشياء أضعفت ولاء الشعب والكثير من الضباط للقيادة، وجعلت فجوة بين المؤسسة العسكرية والشعب، وبين العسكريين فيما بينهم بسبب ما ساد بينهم من حساسية وحقد، حيث تأثير الكثيرين من هذه التصرفات، وخاصة بعد توسيع مجلس قيادة الثورة من(9) أعضاء إلى (14) عضو، ودخول بعض الضباط صغيري السن، مثل الرائد أنور الحديثي، والنقيب منذر الونداوي، إلى المجلس مما أثار كبار الضباط في الجيش( ).
وضعفت الأعراف العسكرية في ظل النظام، بسبب إخضاع هذه الأعراف، إلى أعراف طائفية، أو أيديولوجية، فرغم عدم وجود طائفية دينية في الجيش، على اعتبار أن البعث عملياً ونظرياً يدين فكرة الطائفية الدينية، وهذا ما جعل أول وزير للدفاع في زمن البعث هو الفريق (سعيد طعمة الجبوري)، وأول قائد أركان للجيش العراقي، كان (عبد الواحد شنان)، وكلاهما من المسلمين الشيعة، إلا أنه رغم ذلك فإن الأيديولوجية كان لها تأثيراً سيئاً عند الضباط، فقد يتلقى ضابط برتبة جنرال لكنه غير بعثي أوامره من ضابط أقل منه رتبة عسكرية، كما مورست في ظل النظام بعض الأخطاء مثل شراء العسكريين الكبار بمنحهم القدم العسكري، والمكافئات المالية والامتيازات ، وتسرع بعض الضباط الغير موالين بدل نقلهم إلى قطعات أخرى( ).
ومما يدل على أن الجيش لم يكن يمثل جميع فئات المجتمع العراقي، هو المطالب التي طالب بها الملا مصطفى البرزاني في إطار المحادثات بين البارتي والنظام الحاكم، حيث طالب بعدة أشياء أهمها( ):
1- أن يكون هناك نسبة من الأكراد بين ضباط الجيش المركزي، يتناسب مع عدد الأكراد في العراق، وأن تكون قيادة الوحدات في كردستان، من أبناء كردستان، سواء كانوا ضباطاً أم صف ضباط، أم جنود.
2- أن يكون الجيش الكردي، المتواجد في الشمال، فيه جميع القوات، سواء أكانت جوية أم مشاة أم مدرعات أم إشارة، أم هندسة مدفعية مضادة للطائرات، وأن يكون له مؤسسات عسكرية على غرار المؤسسة العسكرية المركزية، وأن يحتفظ بقوات كردية (فصائل الأنصار) لحين إكمال تنظيمات ومرتبات العسكريين الأكراد، مع تخصيص رواتب وطعام ولباس لهم.
فلو كان الجيش العراقي ومؤسسته العسكرية تشمل بشكل عادل جميع فئات المجتمع العراقي بما فيهم الأكراد، لما تجرأ الملا مصطفى البرزاني على هذه الدعاوي الإقليمية، والتي فيه تنويه واضح لفصل وتقسيم المؤسسة العسكرية إلى أجزاء إقليمية، وعرفية، فلو تتبعنا تشكيلات مجلس قيادة الثورة من العسكريين فلن نجد منهم أحد من الأكراد، ورغم أن علي صالح السعدي من أصول كردية، لكنه متأثر بأيديولوجية البعث لدرجة أنه يصعب أن يكون تأييده غير عربي.
ولم يكتف الوفد الكردي المتفاوض مع الحكومة بتلك المطالب بل طالب أيضاً أن يكون لإقليم كردستان وكيل لوزير الدفاع في الحكومة المركزية، وأن يكون نائب قائد الأركان كردياً، وأن يكون مقره في كردستان، وأن تكون قواته موجودة في كردستان، بشرط أن يكون جميع العسكريين فيه من ضباط وصف ضباط وجنود من الأكراد، وعدم إرسال أية قوات حكومية إلى هناك، إلا في حالات التهديد الخارجي، كما لا يحق للجيش المركزي إجراء مناورات في شمال كردستان، دون موافقة الحكومة الإقليمية في كردستان، وخضوع تعيين قائد القوات الموجودة في كردستان للحكومة الإقليمية هناك، ويكون للبرلمان الكردي حق الفيتو في تعيين ذلك القائد من قبل الحكومة المركزية في بغداد، كما يجب على المؤسسات العسكرية المركزية قبول عدداً من طلاب الأقاليم يتناسب مع نسبة سكان تلك الأقاليم، ريثما تقام مؤسسات مماثلة في تلك الأقاليم، ويستثنى من ذلك الفنيين العسكريين الذين من الممكن أن يكونوا من خارج إقليم كردستان ريثما يتم تدريب أكراد يستطيعون القيام بهذه المهمة( ).
يلاحظ أن هذه المطالب تحتوي على دعاوي انفصالية مستقبلية، وكأن الجيش العراقي ليس معبراً عن الشعب أمام طموحات البارتي، رغم أن الكثير من الأكراد كانوا قد تولوا مناصب عسكرية مهمة في الجيش، وأكبر دليل على ذلك، الفريق بكر صدقي، الذي كان قائداً للأركان عام 1936، وقام بانقلاب عسكري كان الأول من نوعه في المنطقة العربية، إلا أنه يجب ألا يفوتنا أن الجيش العراقي لم يمثل بشكل عادل كل الأقاليم والفئات العراقية، بحيث لا تثار بقية الأقاليم العراقية الأخرى، فالجيش المركزي كان يجب أن يكون أكثر تعبيراً عن الأقاليم والفئات العراقية المشكلة للمجتمع العراقي.
كما أنه بعد اجتماعات الوفد العراقي مع الوفدين المصري والسوري، للاتفاق حول لوحدة الثلاثية بينهم، زاد البارتي بعض المطالب إضافة للمطالب السابقة الذكر، وأهم هذه المطالب:
1- أن يحتفظ الجيش العراقي باسمه، وفي حالة تبديل الاسم بأن يطلق على الأسهم الكردي منه اسم (فيلق كوردستان)، ويكون هذا الفيلق من تجمع الجنود والضباط الموجودين في الجيش العراقي من أهالي كردستان.
2- يؤدي أبناء كوردستان خدمة العلم فيها، ويعاد الضباط وصف الضباط المفصولين لأسباب سياسته قومية إلى الجيش العراقي، ويعادون إلى وحدات الجيش في كوردستان.
لذلك فقد رفضت الحكومة هذه المطالب، ووجهت إنذاراً للبرزاني في العاشر من يونيو 1963، أشار بيانها إلى ما تعرض له الجيش على يد جماعة حزب البارتي، ودخلائهم من الشيوعيين، وأشار أيضاً إلى القرى التي تعرض لها هؤلاء وسلبوها المؤمن والسلاح، وفتحهم النار على قطعات الجيش العراقي في الشمال، ومهاجمتهم للقوات الكردية المتعاونة مع الحكومة وهي التي تسمى بـ(فرسان صلاح الدين)، وتصديهم وإحراقهم لسيارات الجيش وقوافل التموين، وتحيرضهم لبعض أفراد الشرطة والجيش من الأكراد على الهروب بأسلحتهم من الجيش العراقي( ).
وهكذا اندلع القتال بين الطرفين، وتكلف الجيش الكثير من التكاليف، وتضررت المناطق الكردية، والأكراد أنفسهم من جراء هذه الحرب، التي كانت سبباً في إضعاف الجيش، وصعود بعض المعارضين للحكم إلى السلطة بعد انقلابهم عليها من خلال عبد السلام عارف، كما أثبتت هذه الحرب أن ما تعرض له الجيش على أيديهم أو أيدي الشيوعيين أو بعض الأقليات، يبين أنهم لا يعتبرون هذا الجيش هو جيشهم، وأن حربهم معه تعبر عن استياءهم منه، وعداواتهم له، وهذا مما يضعف الوحدة الوطنية، بسبب المشكلة بين بعض فئات الشعب مع النظام الحاكم، كم يؤكد الهوة العميقة بين معارضي النظام من قبل كثير من الفئات وبين النظام نفسه.
رغم أن البعث كان قد أصدر قبل حركته في 8 مارس 1963 بياناً يبين حل فيه حل هذه القضية وأسبابها واستراتيجية التعامل معها، ومما أصوره في ذلك:
" منذ الانحراف الرجعي الذي قاده عبد الكريم قاسم بمعونه وإسناد الحزب الشيوعي، والقوى الشعوبية، والاستعمار وعملائه لعزل العراق عن الحركة التحررية العربية، وإبعاده عن المساهمة الفعلية في هذه الحركة، ظهرت في شمال العراق نزعات عنصرية مشبوهة تدعو زيفاً باسم الأكراد ومصلحتهم لتجزبة أرض العراق وتفتيت وحدته النضالية، وقد غذى هذه النزعات حكم قاسم الذي وجد فيه أداة تستخدم لضرب الاتجاه العربي القومي من جهة، ولتفتيت وحدة الشعب النضالية من جهة ثانية"( ).
وهذا يعني أنه كان يدين الحركة المسلحة الكردية منذ البداية، ولكن لماذا تحالف بعدها لإسقاط قاسم؟، هذا ما جعل الحركة الكردية في موضع الشك من ولاءها للنظام، وأهدافه القومية، إضافة لرغباتها الاستقلالية، وعشية انقلاب البعث في 8 فبراير 1963 حدد مجموعة من الأشياء لحل مشكلة التمايزات العرفية والإقليمية والطائفية، ومما أصدره في ذلك:
" والاستعمار الغربي الذي يقف دائماً وراء التفرق العنصرية والاقتتال كان وما يزال دافعاً ومغذياً لكل حركة عنصرية أو طائفية، فالاستعمار في كل مكان كان يسعى دوماً لاستغلال الأقليات القومية والطائفية ... إن الحركة القومية العربية التقدمية حركة إنسانية تشكل حلفاً طبيعياً لكل حركة تقدمية وسنداً نضالياً للأماني القومية المشروعة، واليوم منذ الحادي عشر من هذا الشهر تدور معارك بين قوات الجيش العراقي ورجال العشائر الكردية الذين أعلنوا العصيان المسلح ورفعوا شعار تجزئة العراق، والجبهة القومية تحمل حكم قاسم مسؤولية ما يصيب الجيش والشعب من وراء هذه الأحداث الدامية، فقاسم هو الذي أراد ومهد لمثل هذه المأساة لكي يجد فيها وسيلة لتحويل أنظار الشعب ونقمته عن حكمه المجرم البغيض، ولكي يغطي فشله في إثارة قضية الكويت ...." ( ).
وعلى ذلك فالبعث رغم أنه قد أكد على استطاعته حل هذه القضية سلمياً إلا أنه قام بنفس ما قام به قاسم من حرب مسلحة على الأكراد، وما زاد من ذلك أنه ربط قضية الأكراد بفشل قاسم في ضمه للكويت، رغم أن البعث نفسه هو أول من اعترف بالكويت كدولة مستقلة، وهو أول من قبل بالحكم الذاتي للأكراد، وفشلت قواته العسكرية في إنهاء مقاومتهم، وفي ذلك يقول أحد الشيوعيين الأكراد وهو عزيز الحاج :
" وما زاد من تشبح الموقف غموض المطالب الكردية والتصريحات التي كان يطلقها عصمت شريف والي، وشوكت عقراوي، التي كانت تستفز أوساطاً عربية واسعة بدلاً من مد الجسور معها، والواقع أن اليمين القومي العربي الهرم، كان يقابله يسار قومي كردي طفولي، وبين ذعر الأكراد والأقليات وتحفظهم على العروبة من جهة، وتخلف الفكر القومي العربي وعنصريته من الجهة الثانية، ضاعت إمكانياته التفكير في إنشاء مجتمع موحد في دولة متعددة القوميات والمذاهب والأديان"( ).
وبذلك فلم يكن الأكراد مسؤولين فقط عن الحالة المتردية التي وصلتها المشكلة الكردية في شمال العراق، بل إن التيار القومي العربي له بعض المسؤولية عن المشكلة بسبب تحفظه على العروبة، وعدم رؤيته أن هناك قوميات أخرى تشاركه في أرض الوطن ومن الواجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وعلى هذا الأساس تأزم الموقف بين التيارين بما أسهم في سد الطريق أمام إنشاء مجتمع موحد في دولة مختلفة المذاهب والقوميات.
كما حدث خلاف بين وزير الدفاع صالح مهدي عماش، ورئيس القيادة القطرية لحزب البعث العراقي علي صالح السعدي ، واتهما بعضهما بالعمالة، كما حدث اصطدم بين السعدي والبكر، وكل ذلك في نفس الوقت الذي كان فيه تآمر من عبد السلام عارف على الحزب، وقد تأكد هذا التآمر بعد وصول وفد القيادة القومية لحزب البعث إلى العراق، فكان إصرار قيادة فرع بغداد على إزاحة عارف، ودعوة السعدي للرجوع، قد آثار عارف، إلا أن ميشيل عفلق وأحمد حسن البكر أكدا ولاء القوات المسلحة للحزب، وقدرتهما على الإمساك بالسلطة، رغم أن البكر كان قد أمر بخطة لإسقاط الحرس القومي من خلال الجيش كحركة تصحيحية لمسار الحزب، دون إسقاطه وذلك بعد أن كلف طاهر يحيي ـ الموالي لعارف ـ على وضع تلك الخطة لاستعادة الشرعية، بعدما سيطر الحرس القومي على المراكز الحيوية في بغداد، فاعتقد البكر أن انسحابه من الخطة سيوقفها، إلا أن عارف كان قد اتفق مع بعض العسكريين الآخرين على عدم الرجوع عن الخطة، وإسقاط البعث ككل( )، لذلك لم يوافق الضباط على رأي البكر بتأجيل التدخل العسكري، مما دعا البكر إلى مخاطبة قادة الجيش بقوله لهم: " اسمع يا رئيس أركان الجيش، وأنت يا قائد القوة الجوية، وأنت يا مدير الحركات العسكرية .. إني أترك مقدرات البلاد في أيديكم وأنا غير مسؤول عن أي دم يسيل غداً "( ) ، وحول هذا الموقف يقول وزير الداخلية في عهد عارف، صبحي عبد الحميد حيث كان قد أعد خطة الانقلاب لعارف:
" إن الضباط البعثيين في الجيش كانوا حانقين جراء تصرفات الحرس القومي, الذي كان بمثابة ميليشيا تابعة لحزبهم, ولذلك فقد تحالفوا مع حازم جواد, القطب البارز في القيادة القطرية لحزب البعث في العراق, بمواجهة علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية الذي كان يتبادل الدعم مع الحرس القومي......إن موقف البكر أكد تحول الحركة من حركة تصحيحية داخل الحزب إلى حركة هزت كيان الحزب، وعصفت به، لأنه رأس الحركة التصحيحية، وانسحابه منها في أخر لحظة، فسح المجال لعبد السلام عارف أن يصبح رأسها، وكانت حجة تمسك بها عبد السلام، وحردان التكريتي، لإبعاد البكر عن رئاسة الوزراء، بعد نجاح الحركة، حتى أنه لم يحتج أي ضابط بعثي على إبعاده عن رئاسة الوزراء بعدئذ"( ).
وعلى هذا الأساس بدأ عبد السلام عارف بتنفيذ ما كان يرتبه منذ أمد طويل فقام بزيارة للشمال، واتصل مع قائد الأركان، ومدير الحركات العسكرية حيث تم إرسال قوات من الشمال، مع بعض الطائرات، وتحركت قوات من كركوك، والموصل نحو بغداد، كما تحركت الفرقة الأولى بقيادة عبد الكريم فرحان، والفرقة الخامسة بقيادة شقيقه (عبد الرحمن عارف)، والشرطة العسكرية بقيادة، قريبة (سعيد الصليبي)، وقام قائد سلاح الجو حردان التكريتي، بقيادة أسراب الطائرات، لضرب مقرات الحرس القومي بالصواريخ، وبعد ذلك تحركت الدبابات، وسيطرت على بغداد، وأخضعت كل نقاط الحرس القومي( ) ،وفي ذلك يقول وزير الداخلية في عهد عبد السلام عارف ، صبحي عبدالحميد :
" لكن البكر انسحب من الحركة عشية تنفيذها, فانفرد بقيادتها عبد السلام عارف رئيس الجمهورية الذي كان مسلوب الصلاحيات, وكان يشجع الصراع داخل حزب البعث بأمل أن يطيح به وينفرد بالسلطة. وهذا ما حدث، وعارف لم يعرف بخطة الحركة إلا قبل يومين من تاريخها"( ).
وكان عارف، قد أعد البيان الأول لانقلابه، وحرص على إذاعته بنفسه، وضمنه فقرة تنص على إعلان الجمهورية الرئاسية، لأن رفض بعض الضباط لها جعله يعدل عنها ، إلا أنه بالمقابل فاجأ الجميع بإعطاء نفسه صلاحيات المجلس الوطني لقيادة الثورة جميعها لمدة عام، قابلة للتجديد تلقائياً بحسب تقديره الشخصي، وعين نفسه رئيساً للمجلس، وقائداً عاماً للقوات المسلحة( )، واتهم في بيانه قوات الحرس القومي بالشعوبيون والسفاحون والعابثون واللاقوميون، وذكر بما قاموا به من أعمال مخلة بالأخلاق والالتزام العسكري، وأن الشعب هو الذي دعا الجيش للتدخل من أجل إنقاذ الأمة والشعب والوطن، وأعلن أنه سيباشر بحل الحرس القومي، قيادة ومقرات، مع إلغاء كافة القوانين والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة بخصوصه، وحل المجلس الوطني لقيادة الثورة المتشكل في الثامن من فبراير 1963، وتشكيل مجلس جديد بقيادته، وأن يكون هو المهيمن على قراراته من خلال الصلاحيات التي أعطاها لنفسه، كما أعلن أن المجلس الوطني الجديد سيشكل مجلساً استشارياً يختارهم من المواطنين من ذوي السمعة الطيبة، والسيرة الحسنة، والكفاءة والخبرة والاختصاص( )، وحرصاً على عدم تذمر الضباط البعثيين الذين اشتركوا معه في الانقلاب، أعطى منصب نائب الرئيس لأحمد حسن البكر، كونه هو من أمر بوضع الخطة في بدايتها - رغم انسحابه منها قبل التنفيذ- كما أعطى قيادة الأركان لحردان التكريتي، وأعطى طاهر يحيي رئاسة الوزراء، كما شملت الحكومة بعض الوزراء البعثيين، مثل عبد الستار عبد اللطيف، بسبب ما كان يشكله هؤلاء الضباط من قوة سياسية وعسكرية، إضافة لإعطاء نفسه شيئاً من الشرعية والولاء في صفوف الضباط النفاذين.
مما سبق نجد أن الأخطاء التي ارتكبها الحرس القومي، وتذمر بعض الأحزاب الدينية، والشيوعية، وضعف الصلات بين البعث والناصرييين وحركة القوميين الرعب، وخلافات الضباط مع بعضهم البعض، وسيادة روح المصالح الشخصية والعشائرية والإقليمية، وخلافات الضباط البعثيين مع القيادة المدنية للحزب، واستغلال المواقف من قبل بعض الأطراف المعادية للبعث،وذلك بتحريض من جهات خارجية، وقيام حركات عسكرية معادية للنظام كالشيوعيين، والأكراد، والقوميين الناصريين، وانهيار الروح الأيديولوجية في الجيش، كل هذه الأشياء أدت إلى ابتعاد الكثير من الضباط المؤهلين عن أمكنتهم المناسبة، إضافة للترفيعات الاستثنائية للبعض الآخر، وذلك بناءاً على اعتقادات أيديولوجية سياسية أو شخصية، كل هذه الأمور جعلت هناك فجوة بين الشعب والنظام الحاكم، ومهد بالتالي لإسقاط البعث من خلال الضباط البعثيين أنفسهم، بعد أن استغلتهم جهات من خارج لحزب، لأجل إسقاط الحزب نفسه.
ونخلص من هذا المبحث إلى أن البعث لم يستطع خلال فترة حكمه عام 1963، أن يحقق وحدة وطنية وفقاً لمحددات الدراسة، فلم يتحقق في عهده احترام للبلاد ووحدتها ولغتها الرسمية، وثقافتها الوطنية، كما أن الحرية والمساواة والعدالة، قد تأثرت سلباً بسبب تجاوزات بعض أعضاء النظام، وخاصة في الحرس القومي، ولم يحدث تفاعل سياسي واقتصادي واجتماعي بين الشعب والنظام، بسبب التخبط الذي عاناه النظام خلال فترة حكمه، إضافة إلى الهوة العميقة التي كانت بين الشعب والجيش، حيث أن كثير من الفئات قامت بحركات عسكرية ضد الجيش، إضافة لأخطاء ضباط الجيش، وعدم شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، كل هذه الأشياء كانت من العوامل الأساسية التي ساهمت في سقوطه على أيدي كانت تتحفز للسيطرة على الحكم مستفيدة من أخطاء النظام واستغلالها لأجل كسب قدراً من الشرعية في انقلابها، وعلاوة على ذلك إذا كان البعث قد سلم عبد السلام عارف الرئاسة، ولو بشكل شرفي، إلا أنه قد انهار أمامه بسبب أخطاءه التي أضعفت تأييد الشعب له، فما هي تداعيات فترة حكم البعث على الوحدة الوطنية، كون عهد الأخوين عارف (عبد السلام وعبد الرحمن) كان نتيجة حتمية لسلطة البعث 1963؟، وهل يستطيع البعث استعادة سلطته، من خلال اتباع نفس الأسلوب الذي اتبعه عارف في السيطرة على السلطة ، وذلك بالاستفادة من الأخطاء والتجاوزات، وضعف الشعبية، بنتيجة انهيار أو ضعف الوحدة الوطنية ؟ هذا ما سيبينه المبحث القادم، الذي سيبحث عن دور فترة الأخوين عارف في الوحدة الوطنية في العراق.





المبحث الثاني
تداعيات فترة حكم البعث 1963 على الوحدة الوطنية
فترة الأخوين عارف 1963-1968م
فترة الأخوين عارف التي ابتدأت في المراحل الأخيرة لعام 1963 وبالتحديد منذ الثامن عشر من نوفمبر عام 1963، وحتى سقوط النظام على يد البعث في السابع عشر من يوليو عام 1968، تعتبر من تداعيات الفترة السابقة أي فترة حكم البعث، لكن تميز البعث خلالها أي خلال هذه الفترة بأنه أصبح من الفئات المعارضة لهذا الحكم، وعمل على استغلال كافة أخطاء النظام، تمهيداً لإسقاطه في النهاية وخاصة فيما يخص تداعي النظام الذي ضعفت خلاله الوحدة الوطنية، حيث استغل البعث هذا الضعف لاستعادة السلطة، وما يؤكد أن هذه الفترة هي من تداعيات الفترة السابقة، أن النظام الجديد عمل على تبنني شعارات البعث، في الوحدة، حيث سعى للوحة مع مصر، وفي الحرية، حيث سعى لإبعاد العراق عن التبعية الاقتصادية والسياسية للخارج ولو نظرياً، أما الاشتراكية، فمن خلال تبنيه لإجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، إلا أن ضعف هذا النظام في الآونة الأخيرة نتيجة قلة اعتماده على فئات الشعب المختلفة، واعتماده على الأشخاص المؤيدين له، إضافة لتذمر الكثير من الضباط والفئات الاجتماعية، نتيجة الأزمات الاقتصادية التي عاناها ، إضافة لأسباب أخرى كثيرة، سهلت المهمة لإسقاطه من خلال البعث عام 1963م.

المطلب الأول
احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية
وثقافتها الوطنية
بعد سقوط البعث على يد عبد السلام عارف، عمل هدنة مع الأكراد، نتيجة تدخل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، رغبة منه في حل المشكلة الكردية، وأصدرت الحكومة الجديدة بيان وقف إطلاق النار والسعي لتحقيق ما يلي( ):
1- إقرار الحقوق القومية للشعب الكردي ضمن الوحدة العراقية، وإقرار ذلك في الدستور.
2- إطلاق سراح الموقوفين والمحجوزين ورفع القيود عن الأموال المنقولة وغير المنقولة.
3- رفع الحصار الاقتصادي عن شمال العراق.
4- إعلان نظام الإدارة المحلية في شمال العراق، وإعادة الموظفين والمستخدمين الذين فصلوا أو تركوا الخدمة بسبب حوادث الشمال.
5- تعمير المنطقة الشمالية وتعويض أصحاب الأملاك بسبب الأعمال العسكرية والفيضانات ، واتخاذ التدابير الكافية لاستقرار المنطقة من خلال قيامها بإجراءين هما : الأول: اتخذت الحكومة في الرابع من أبريل 1964- عندما أصدرت الدستور المؤقت ـ الذي نص في مادته الأولى أن الشعب العراقي جزء من الأمة العربية، ويستهدف الوحدة العربية الشاملة، وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت ممكن مبتدأة بالوحدة مع مصر ، وفي المادة التاسعة عشرة نص على أن العراقيين متساويين في الحقوق والواجبات، ولا تمييز بينهم بسبب جنس أو دين، ويتعاون العراقيون بما فيهم الأكراد والعرب لما فيه مصلحة الوطن.
وقد اشترك الأكراد في مباحثات الوحدة، من خلال ممثل البارتي لدى الحكومة وهو جلال الطالباني، كما أن هذه الهدنة بالرغم من أهميتها لتحقيق الاستقرار للنظام، إلا أنها لم تستمر سوى لمنتصف فترة عام 1964، حيث كانت الحكومة تجري مفاوضات جادة مع حزب البارتي، إلا أن الشكوك التي كان يحملها كل جانب للآخر، والاستراتيجية الدولية والإقليمية في المنطقة، عملت على تصديع هذه المفاوضات، فمثلاً قام شاه إيران محمد رضا بهلوي بإغراء قيادة حزب الباري بالأموال ؛ بسبب تخوفه من التقارب بين النظامين العراقي والمصري( ).
ويلاحظ من خلال المفاوضات التي أجراها عبد السلام عارف، مع البارتي، والتي أوقفت القتال لفترة محدودة، أن عارف قد تبنى جميع البنود التي توصل إليها البعث مع الأكراد، كما أنه قد اعترف بزعامة الملا مصطفى البرزاني حيث أدلى بموجب هذا الاتفاق ببيان قال فيه:
"قررنا المبادرة إلى إيقاف إطلاق النار محافظة على الصف الوطني لإفساح المجال أمام السلطة الوطنية ؛ للمبادرة إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة بإعادة الحياة الطبيعية والأمن والاستقرار إلى المنطقة، وتهيئة الفرصة لإقرار الحقوق القومية للمواطنين الأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة وطنية واحدة، وإرساء الأخوة الوطنية العربية الكردية، على أمتن القواعد بما يصونها من الوهن، ويحصنها من دسائس المستعمرين والمتصيدين والطامعين"( ).
لكن تدخل دول لها مصلحة في إنهاء هذا التقارب كإيران الشاه، جعلت مساعي عبد السلام عارف لإعمار الشمال رغبة منه في حل القضية الكردية من خلال ذلك، من دون التحقيق العملي للاتفاق مع البرزاني، صاحب التأثير الأيديولوجي والديني على الأكراد، إضافة لأهدافه المحددة، مما جعل القتال يعود من جديد منتصف عام 1964، وصرح عبد السلام عارف في ذلك ببيان يناقض بياناته السابقة بقوله: " على أن جميع الذين حاولوا الظهور في حياة الأكراد كزعماء وحاولوا بذر بذور الشقاق بين الشعب الواحد في الوطن الواحد ، قد باؤوا بالفشل، ولم يحظوا إلا بتأييد القلة من بعض الأكراد والنفعيين والانتهازيين واللاعبين على الحبال"( ).
وعلى هذا الأساس ساد القتال في الشمال، بسبب انعدام الثقة والنوايا العدوانية لدى الجانبين، وقد اتسمت العلاقات بعد ذلك بالتطرف والحدة، بسبب أن عبد السلام عارف أخذ يصور الحركة الكردية بأنها حركة انفصالية معادية للأمة العربية، ويحاول استقطاب التأييد الشعبي من بقية أفراد الشعب وخاصة من التيار القومي العروبي، والظهور بمظهر الداعية القومي الوحدوي، كما حاول البارتي بالمقابل التخلص من الاتفاق مع الحكومة، بادعائه أن هناك خلافات في حزب البارتي، حيث اتهمت قيادات في حزب البارتي يقودها تيار جلال الطلباني، بأن البرزاني قد أنهى القتال في فبراير 1964 مع النظام من دون الرجوع إلى قواعد الحزب، فرد عليهم البرزاني بأن ذلك من صلاحياته كونه القائد الأعلى للقوات الكردية، بعد أن انخفضت معنويات الأكراد بسبب تخلي مصر عن تأييد البارتي بعد سقوط البعث العراقي، كما أن البرزاني اتهم معارضيه بأنهم على علاقة بالمعاهدة المركزية (السنتو) وهي عبارة عن حلف بغداد القديم، بعد أن غيرت اسمها إلى هذا الاسم بعد انسحاب العراق منها، عقب ثورة العراق عام 1958، ودلل البرزاني على هذه العلاقة، بسبب زيارة جلال الطلباني لإيران، وعلى هذا الأساس قام البرزاني بفصل جلال الطلباني ومؤيديه، بالرغم من علاقة المصاهرة• بينه وبين الطلباني( ).
ورغم حالة الحرب بين النظام العراقي والأكراد إلا أن الأكراد ظلوا يطالبون الحكومة ببعض الأمور لإنهاء حركتهم المسلحة، فقد تقدموا بمذكرة في الحادي عشر من أغسطس عام 1964 طالبوا فيها بتعديل المادة التاسعة عشرة من الدستور العراقي المؤقت الذي أعلن عنه عبد السلام عارف عام 1964، والتي تنص على تعاون المواطنين كافة في الحفاظ على كيان هذا الوطن بما فيهم العرب الأكراد، ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية، وتبديلها بـ : "يقر الدستور حقوق الشعب الكردي على أساس الحكم الذاتي ضمن الوحدة العراقية"( ) ، كما استنكرت المذكرة حل الأحزاب العراقية وحصرها بالاتحاد الاشتراكي لعربي، وقالت حول ذلك:
" من البديهي أن الكردي، أسوة بالعربي، لا يمكن أن ينعزل بالعمل السياسي المشروع كجزء من حق المواطنة، ولكن الواقع يشير أن العزل السياسي فرضه الحكم القائم على الشعب الكردي بطريقة غير مباشرة.. إن الحكم يريد أن يكون الكردي عربياً أو على الأقل هادراً لكرديته، لكي يتمتع بأبسط حقوق المواطنة في وطنه العراق"( ).
كما انتقدت المذكرة قرار الحكومة أنها لا تستطيع تنفيذ الاتفاق الذي حصل بينها وبين الأكراد ؛ بحجة عدم وجود برلمان منتخب ، وأن الأكراد مستعدون للتضحية من أجل الحفاظ على حقوقهم وتحقيق أهدافهم، وأنهم يطالبون بالحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية الدستورية الديمقراطية، أسوة بما حققته الحكومة اليوغسلافية والسويسرية، وغيرها من الحكومات، من خلال تحقيق المساواة القومية لجميع القوميات بداخلها، وهذا جعل الحكومة تعمد إلى تقديم مشروع حكومي يقر بالاعتراف بالحقوق القومية للأكراد ضمن الوحدة العراقية، دون تذويبها أو تقريبها، وتعديل الدستور العراقي على أساس:
" إن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية على أساس مبدأ المشاركة الفعلية في الحكم ضمن الوحدة العراقية، وأن لهم من الوظائف ما للعرب، وبالنسبة للغة الكردية، فمن حقهم تعليمها في المدارس الابتدائية والإعدادية مع اللغة العربية"( ).
إلا أن البارتي رفض هذه المقترحات، وأصر على مطالبة وفق المذكرة التي بعثها، ووجه رسالة للحكومة في الثامن عشر من فبراير 1965 يقول فيها: "وعليه فإننا نتطلع إلى أن تعيد الحكومة النظر في حلولها المقترحة بشكل يؤمن الحد الأدنى من مطالب الثورة الكردية، ويحفظ في الوقت نفسه هيبة الدولة، ويعزز وحدة الشعب الوطنية لما فيه خير وصلاح المواطنين جميعاً"( ).
لكن الحكومة العراقية، لم تعر أي اهتمام لتلك المطالب وذلك النداء واتسمت بعدم المصداقية في معاملتها مع الأكراد، واتهمت البرزاني بالعمالة للغرب، نعتته بأنه انفصالي، وزعيم عصابة، ومحترف شغب، وبالمقابل فقد اتهم البرزاني الحكومة بالتميز العنصري ضد الأكراد في شغل الوظائف العامة وفي الجيش، وقيامها بتهجير السكان من القرى الكردية وإحلال عشائر عربية محلها، وأن الدستور الذي وضعته - دستور مؤقت- هو دستور غامض في مجال الحقوق القومية للأكراد، وأن حجة الحكومة العراقية إرجاء توضيح الحقوق القومية للأكراد على أساس عدم وجود برلمان منتخب، يتناقض مع إصدارها لقوانين اشتراكية تخص الأكراد وكيانهم ، إضافة لما أصدرته من قوانين قومية وحدوية، دون الرجوع لاستفتاء شعبي، وأن الاتحاد الاشتراكي العربي الذين تشكل لا يتيح المجال للعمل السياسي لدى الأكراد، لأنه تنظيم قومي عربي، لا مكانة للأكراد فيه، كما أن هذا التنظيم هو الوحيد في العراق، وأن الحكومة قد فرضت على كثير من المناطق الكردية موظفون عرب كممثلين للأكراد( ).
وقد رفضت الحكومة القيام بأي تنازلات تجاه البارتي على أساس أن مطالبه انفصالية، بسبب المطالبة بجيش خاص في الشمال يتبع الأكراد، وتكون المنطقة الكردية محافظة لوحدها ولها تنظيم خاص بها، وبمعنى أخر نفس المطالب التي طالب بها البعث، وكان قد رفضها البعث قبل ذلك والتي بسببها اندلعت حرب البعث مع الأكراد، ونتيجة رفض الحكومة لمطالب البرزاني عدَّل البعض تلك المطالب، وأكد أن مطالبه تنحصر فقط في عودة الموظفين والعاطلين والجنود الأكراد إلى أعمالهم السابقة، وأن الأكراد سيشتركون في الاتحاد الاشتراكي العربي، على صورة معينة، من ذلك التنظيم، مع ضرورة أن ينص الدستور على أن: "الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، ويقر الدستور الحقوق القومية الكردية على أساس مبدأ المشاركة الفعلية في الحكم ضمن الوحدة العراقية"( ).
ورغم قبول الحكومة بهذا التعديل إلا أن البارتي سرعان ما عاد ورفض تلك المطالب، مطالباً بالمطالب التي رفضتها الحكومة سابقاً، ورفضها البعث قبل ذلك، وقال حول ذلك : " إن ذلك أقل من المستوى الأدنى لما تطلبه الثورة، .. وهذا ما لا يمكن"( )، وأكد أنه في حال قيام وحدة أو اتحاد بين العراق ودول عربية أخرى، تصبح محافظة كردستان إقليمياً يتمتع بنفس الحقوق التي تتمتع بها الأقاليم المكونة لتلك الوحدة أو الاتحاد، وتلتزم، بنفس واجباتها، وتسمى بإقليم كردستان، مع إضافة وزارة تسمى وزارة الشؤون الكردية، وترتبط بالمنطقة الشمالية، وأن تعتبر اللغة الكردية هي لغة التعليم والدوائر والمحاكم في المنطقة الكردية، كما تستعمل اللغة العربية عند الضرورة، أما المخابرات مع المراجع الرسمية خارج حدود المنطقة الكردية فتكون باللغة العربية، وللشعب الكردي الحق في تكوين تنظيم سياسي خاص به، وإقامة تعاون بينه وبين التنظيمات السياسية العربية المعترف بها قانونياً( ) ، وبالنسبة للبيش ماركة، فيعودون إلى ماكانوا يعملون سابقاً ، سواءاً في سلك الشرطة، أو الجيش، أو الإدارات المحلية، أو حرس الحدود ( ).
إلا أن الحكومة رفضت ذلك على أساس أن تعيين وزير مسؤول عن المناطق الكردية، هو إقرار لانفصال، كردي مبطن، ولا يمكن إقامة محافظة تشمل جميع المناطق الكردية باقتطاع أجزاء من محافظات أخرى، كما لا يمكن الموافقة على استمرار البيش ماركة، والاعتراف بها كقوة ثالثة، كما يطالب بذلك البرزاني، إضافة إلى أن البارتي لم يلتزم بالهدنة التي وقعها مع الحكومة سابقاً عام 1964 ، حيث قام بتجاوزات عددية من اغتيالات ضد الجنود العراقيين في الشمال من خلال البيش ماركة، إضافة للممارسته أعمالاً تسيء إلى سمعته وذلك ضد المسؤولين الأكراد المتعاونين مع الحكومة، مثل اغتيال العقيد المتقاعد (بدر الدين علي) الذي كان يشغل منصب متصرف (لواء) أربيل، واغتيال المذيع الكردي في إذاعة بغداد (شاهين الطالباني) الذي كان يعمل بالقسم الكردي في تلك الإذاعة، وحوادث النهب والسلب، وفرض الرسوم الجمركية على البضائع، وإيقاف السيارات وتفتيشها، وحرق الجرارات المرسلة لمساعدة السكان لفلاحة الأرض وإصدار منشورات معادية للحكومة، وتحدي السلطة القائمة والمراكز الحكومية، وفرض الإتاوات على الأكراد، من أجل دفع مرتبات البيش ماركة( ).
وهكذا بدأت حرب الشمال مرة أخرى، بعد جمود المفاوضات بين الجانبين واتهام بعضهما البعض بنقض الهدنة بينهما، وقد استطاع الجيش العراقي منذ بدء هذه الحرب منتصف 1964 وحتى مقتل عبد السلام عارف في الثالث عشر من ابريل عام 1966 أن يستولي على معظم المناطق التي كانت بيد البرزاني، إلا أن حادث مقتل عارف، أضعف من معنويات الجيش العراقي، بسبب تصدع الأوضاع في بغداد، وتسليم المسؤولية لآخرين، مما أدى لخسارة الجيش العراقي مع الأكراد في معركة (هندرين) بشكل مهين، وبسبب هذه الهزيمة، أعلنت الحكومة الجديدة برئاسة عبد الرحمن البزاز في التاسع والعشرين من يونيو عام 1966 بياناً تضمن التزامها ببعض الأمور دون أن تلزم البارتي بشئ، رغم أن تلك الأمور هي نفس الأمور التي رفضتها الحكومات السابقة، والتي من الممكن أن تؤدي إلى فصل الشمال عن جسم الوطن، وأصدرت قانون العفو عن المتمردين ممن يسلم سلاحه، رغم أن البارتي ظل يسيطر على سبعة أقضية بنواحيها، ولديه حكومة خاصة به، ولا يستطيع أي كان الذهاب إليها إلا بإذن منه، أما الجزء الآخر من الشمال الذي يسيطر عليه الجيش، فإن جماعة جلال الطلباني الذي انشق بشكل غير رسمي عن الملا مصطفى البرزاني، فهو يشارك بالسيطرة على هذه المناطق، ويبث دعايته بين الجنود الأكراد في الجيش، وله مكاتب في جميع الأقضية الكردية، ورغم ذلك زادت نفقات الحكومة على مناطق الشمال، بسبب أن الحكومة أصبحت تصرف على جماعة البرزاني والطالباني، مقابل عدم تمردهم بعد أن كانوا يتلقون مساعدات من الخارج( ) ، كما عدل رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز المادة التاسعة عشرة، والتي كانت أهم مطالب الأكراد، حيث نص بعد تعديلها على:
"إن المواطنين العراقيين متساوون في الحقوق العامة والواجبات دون أي تمييز على أساس من العنصر أو الأصل أو اللغة أوالدين، أو أي سبب أخر، إن هذا الدستور يؤكد على الحقوق القومية للأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة قومية أخوية"( ).
وبغض النظر عن محاسن مشروع البزاز لإنهاء لقتال في الشمال إلا أنه لم يكن سوى تكرار لمشروع البعث الذي اقترحه على البارتي، لكن يختلف في مادته الأولى التي تقر بأن :
" الحكومة قد عدلت الدستور المؤقت واعترفت بالحقوق القومية للأكراد، وهي مستعدة لتأكيد هذا الاعتراف وتضمينه بالدستور الدائم، بحدث تصبح القومية الكردية والحقوق القومية للأكراد في الوطن العربي معترف بها، وسيتساوى العرب والأكراد في الحقوق والواجبات"( ).
ورغم محاسن مشروع البزاز، إلا أنه لم يكن سوى هدنة مؤقتة، لأن القتال لم يحسم لصالح أحد، وأصاب العراق بأضرار فادحة اقتصادياً واجتماعياً خصوصاً في الشمال، كما أن هذا القرار لم يعد الأكراد بالحكم الذاتي، وهو المطلب الرئيسي للأكراد، وقد حدد البزاز الحقوق القومية للأكراد بقوله:" إننا نحترم القومية واللغة الكردية، ونعترف بحقوق الأكراد، لكننا نرفض التخلي عن جزء من أرض الوطن"( ) ، وبذلك أراد البزاز تطمين العناصر العربية القومية، أن الاعتراف بالحقوق القومية وبنوع من الاستقلال الإداري للأكراد لا يعني انفصالهم، كما أراد تطمين تركيا وإيران حول ذلك، بسبب تخوفهما من حكم ذاتي يهددهم أيضاً، بالرغم من أن الحكم الذاتي لا يعني انفصال الأكراد عن العراق أو استقلالهم عنه.
إلا أن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، رفضت مشروع البزاز الذي اتفق مع البارتي لإنهاء القتال في الشمال، وأعلنت من مقرها في بيروت في يونيو 1966، أنها وإن كانت تؤيد الحل السلمي، إلا أنها لا تؤيد هذه الخطة، وأصدرت بياناً حول ذلك قالت فيه : " إن القيادة القومية ترى أن كل اتفاقية، إذا لم تبتعد عن روح المناورة، وعن الروح الانفصالية، لا يمكن أن يكتب لها النجاح"( ).
وقد صدق حدث القيادة القومية، إذ لم تستطيع الحكومة الالتزام بتطبيق الاتفاقية، كما أن البارتي نفسه لم يلزم بها، وسرعان ما أصبحت حبراً على ورق حتى أن البرزاني، اتهم الحكومة بأنها تعمل على استخدام خصومه في محاولة منها لشق الحركة الكردية، وإن قانون العفو لم يطبق حسب الأصول المتفق عليها، وأن ممثل وزارة الدفاع، كان يعترض على نصوص الاتفاقية والقوانين التطبيقية، بالرغم من أن المنهاج الوزاري لحكومة البزاز أعلن:
" أن هذه الوزارة ستعمل كل ما في وسعها لإعادة الأمن التام إلى ربوع العراق كافة، والحفاظ على وحدة ترابيته وإن قانون الإدارة المحلية الجديد سيؤكد ذاتيته القومية الكردية، ويمكن مواطنينا في الشمال من الحفاظ التام على لغتهم وتراثهم الفكري، وتمكينهم من النشاطات المحلية التي لا تتعارض مع وحدة البلاد، ولا تمهد بأي حال من الأحوال لانتقاص جزء من أطراف وطننا العراق"( ).
كما أن البزاز كان قد صرح ببيان أخر في التاسع عشر من يونيو 1966 قال فيه:
"إننا مستعدون إلى الاعتراف بالقومية الكردية، وبحقوق مواطنينا الأكراد القومية كاملة غير منقوصة، وإننا وهم أخوة سواء في هذا الوطن الواحد .. إننا قد أعددنا منهاجاً كاملاً لسياستنا بالنسبة لإخواننا الأكراد وهو منهج يقوم على:
- الاعتراف الكامل بحقوقهم القومية.
- وبتمكينهم من الإدارة اللامركزية في كل نوحيهم وأقضيتهم وألويتهم.
- وتمكينهم من النشاطات التي تتصل بذاتيتهم.
مع الاعتراف الكامل بلغتهم وتراثهم الفكري وكل متطلبات قوميتهم مع إصدار العفو عن الذين يلقون سلاحهم مع العمل الدائب من أجل إعمار كل القرى وكل المدن وكل البيادر وكل المزارع التي اتلفت بسبب العنف القائم، وعندئذ يعود العرب والأكراد أخوة متحابين في هذا الوطن الواحد الذي تجمعهم فيه هذه التربة الواحدة التي هي تربتهم، وهم قبل ذلك أخوة يجمعهم دين واحد، ويحميهم تراث واحد، ومصلحة واحدة.....إن العراق ليس عراق العرب وحدهم، أنه عراق العرب والأكراد على حد سواء، .... ليعود العراق مزدهراً بقوميته العربية والكردية... إن الوضع في شمال الوطن ما لم يتم عن طريق الرضى والتسوية المعقولة، والاعتراف الكامل بالحقوق المتقابلة، لا يمكن أن ينتهي نهائياً، ذلك لأننا لو أبقينا ألفاً أو خمسمائة ، أو حتى خمسين غير راضين فيستطيعون أن يقلقوا المنطقة، ويحدثوا من الاضطراب ما يقض مضاجع الأهلين ، إذا ما علمنا وراء الحدود أناساً لا يريدون لهذه البلاد أمناً ولا استقراراً، أناساً يريدون أن يستغلوا الحرب بين الأخ وأخيه، أناس قامت مصالحهم على تشتيت هذا القطر الواحد، أناس يطمحون ببعض أراضيه وبعض ثرواته وبعض مياهه...... ما أحسن أن نرجع شعباً واحداً من قوميتين، ما أحسن أن نرجع أخوة نعمل في سبيل الإعمار، والإنشاء والبنيان ، لا فرق بين عربيهم وكرديهم وغيرهم من المواطنين على اختلاف أجناسهم وأديانهم"( ).
وكان البرزاني نفسه، قال حول هذا البيان ـ بالرغم من أنه يتضمن نفس بيان البعث عام 1963 – ما مفاده : " إن ما جاء في هذا البيان هو تعبير صادق عن رغبة أبناء الشعب عرباً وأكراداً لتحقيق ما يصبوا إليه العراق، من سلم وازدهار وتحقيق لوحدته الوطنية"( ).
وقد أذاع البيان كل من رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز، وممثل البرزاني (حبيب كريم) في التاسع والعشرين من يونيو 1966( )، وقد تضمن عدداً من النقاط هي :
(1) اعتراف الحكومة بالقومية الكردية في الدستور الدائم، بحيث تصبح هناك قوميتين رئيسيتين هما: العرب والأكراد، وكذلك الاعتراف بها في قانون المحافظات على أساس من اللامركزية بحيث يكون لكل لواء، ولكل ناحية شخصية معنوية معترف بها.
(2) اعتراف الحكومة باللغة الكردية كلغة رسمية مع اللغة العربية في المناطق التي تكون غالبية سكانها أكراداً، وتكون هذه اللغة لغة التعليم مع العربية.
(3) تمثيل الأكراد في المجلس الوطني القادم بالعدد الذي يتناسب مع مجموع السكان الهيكلي، كما يشارك الأكراد أخوانهم العرب في كافة الوظائف العامة بنسبة سكانها.
(4) تخصيص عدد من البعثات، والمنح الدراسية في مختلف الفروع، وعلى كافة المستويات للأكراد، لإرسالهم للتخصص في خارج البلاد، واهتمام جامعة بغداد بدراسة اللغة الكردية.
(5) السماح للأكراد بإنشاء التنظيمات السياسية في حدود القانون، وحق التعبير عن رغباتهم في الصحف الكردية والعربية.
(6) إصدار عفو عام عن كافة الذين ساهموا في أعمال العنف في الشمال عندما تنتهي هذه الأعمال، وإعادة جميع الموظفين الأكراد إلى وظائفهم السابقة.
(7) إصدار التعليمات إلى أفراد القوات المسلحة والشرطة بالبدء في العودة إلى وحداتهم بأسلحتهم عقب صدور هذا البيان على أن يتم ذلك في خلال مدة أقصاها شهران.
(8) تسليم الأكراد أسلحتهم ومعداتهم إلى الحكومة التي ستعمل على عودتهم إلى الحياة الطبيعية وستكون الحكومة مسؤولة عن إعاشتهم في هذه المدة.
(9) عودة الحكام الأكراد إلى أماكنهم ومناصبهم بعد إحلال الأمن واستعادة السلام.
(10) تأليف هيئة خاصة لإعمار المنطقة الكردية، على أن يخصص لها المبالغ اللازمة، وإسناد إدارة مصالح الشمال إلى وزير مسؤول، وصرف الأموال التي تبذل في مقاومة العنف في الشمال على إعمار المنطقة.
(11) تعويض كل الذين أصابهم أضرار من أعمال العنف في الشمال، والعناية بكل ضحايا هذه الأعمال.
(12) الحكومة وحدها هي المسؤولة عن أمن البلاد الداخلي، والخارجي، وأن لها من جيشها وقواتها المسلحة، ما يمكنها من أداء هذا الواجب المقدس.
كما أنه بعد هذا البيان قام الرئيس عبد الرحمن عارف بزيارة الملا مصطفى البرزاني في الشمال، وقال حول ذلك: " لقد كان لقاءاً أخوياً، وسيؤدي إلى مزيد من النتائج الحسنة"( ) ، وبدوره أكد البرزاني أهمية هذا الاتفاق بقوله : "إن علينا أن نكتل جهودنا، من أجل البناء، في ظل وطن كريم ..... إن القوميتين العربية والكردية، تتعاونان، وأن كل منهما سنداً للآخر"( ).
كما حدث صراع بين أنصار البزاز، الذين يرون تقارب العراق مع كل من بريطانيا وإيران لحل القضية الكردية، وبين أنصار ناجي طالب، الذين يرون وجوب استدعاء قوات مصرية تتدخل بشكل مباشر في إقرار السياسة الناصرية في العراق، خاصة بعد أن أكد الرئيس المصري جمال عبد الناصر في لقاءه مع عبد الرحمن البزاز مساندة مصر للعراق لإنهاء التمرد القائم في جزء منه، حيث كان أول تصريح مصري يصف الحركة الكردية بالتمرد، رغم وجود إذاعة كردية في القاهرة، وفيها ممثل للبارتي( )، لهذه الأسباب قدم البزاز استقالته، وتولى الحكومة اللواء ناجي طالب، الذي لم يهتم بالقضية الكردية، ولم يلتزم ببنود اتفاقية البزاز، وقالت صحيفة الجمهورية الرسمية: "شعبنا سيكتم أنفاس من يخرج عن إرادته"( ).
وتخوفاً من قطع جسور التواصل مع الأكراد بسبب تشدد حكومة ناجي طالب، قام الرئيس عبد الرحمن عارف بزيارة البرزاني في الشمال، وفسر المشكلة الكردية بقوله : " إن مشكلة الأكراد نتيجة سياسية وسوء إدارة"( )، وبالمقابل قال البرزاني: "القومية العربية هي شقيقة القومية العربية على مر التاريخ"( ).
لكن رغم ذلك استمرت المناوشات بين البارتي والقوات الحكومية، كما استمرت بعض التصريحات المتشددة من بعض العسكريين في الجيش العراقي مثل وزير الدفاع الأسبق اللواء عبد العزيز العقيلي، حيث كان يرى أن هذه الحرب ضرورية، لأنها لا تقوم بين الحكومة والأكراد، وإنما بين الحكومة، وبعض المرتدين الذين لا يمثلون الأكراد مثل الملا مصطفى البرزاني، والدليل على ذلك عدم حرصه على مصلحتهم، واضطهاده للأكراد غير المؤيدين له، ومقاسمته لأرزاقهم، كما رأى أن الجيش العراقي يخوض حرباً مشروعة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن حربه إنسانية وطنية، بعد رفض البرزاني التقيد بمبادرات السلام، وتعريضه الوطن العراقي لعملية استنزاف عسكري ومالي واقتصادي وسياسي يؤدي بالعراق إلى الخراب والدمار( ).
ورغم توقف الأكراد خلال حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل، والتي اشترك فيه الجيش العراقي، وإعلان الحكومة الجديدة التي شكلها الفريق طاهر يحيي أنها (حكومة حرب)، خاصة في ظل توقف ضخ النفط العراقي عبر سوريا، بسبب تأخر دفع شركة (أي بي سي) الأنكلو أمريكية الرسوم المستحقة للحكومة السورية، كرسوم مرور أنابيب النفط المار عبر سوريا، إضافة للأزمة الاقتصادية، التي حصلت في العراق، بسبب الفيضانات ورغم ذلك أخذ البارتي يستغل هذه الأوضاع الشاذة، ليطالب بكيان كردي ذو حكم ذاتي، رغم كل الوسائل الدبلوماسية التي عملتها الحكومة على إقناعهم بالعدول عنها، ولم تنجح مباحثاتها معهم، وهدد الوزير الكردي الذي كان بالحكومة، أنه إذا لم يحصل ذلك فإنه سوف يستقيل، مما حذا بالحكومة، إلى إجراء محادثات من خلال لجنة وزارية مع الأكراد لحل الأزمة، والسماح للأكراد بالعودة إلى قراهم بسبب العمليات العسكرية التي حدثت بين الجيش والأكراد( )، ودعت الحكومة أيضاً، رؤساء العشائر الكردية في الموصل إلى عدم الالتفات للدسائس التي تثير الشك بين أبناء الوطن الواحد، وأن الحكومة ستلتزم بمبدأ سيادة القانون وسترعى جميع المواطنين عرباً وأكراداً، وستحافظ على مصالح الجميع، وستلتزم باتفاقية البزاز مع البارتي، وأكد على ذلك رئيس الحكومة طاهر يحيي بقوله: " ليس من سياستنا أن نهمل أحد أو نفرط بحقوق أحد ويهمنا أن تشعروا ويشعر كل مواطن بالأمان أو الحرية"( ).
كما قام رئيس الحكومة بزيارة الملا مصطفى البرزاني في مقره في (راندوز) في السادس عشر من سبتمبر 1967، وبحث معه قضايا إعمار الشمال، واستغلال ثروات البلاد، بما يضمن الرفاهية والخير للجميع، وقال البرزاني حول ذلك: " إن واجبنا جميعاً يفرض أن نتصرف إلى العمل المثمر لبناء بلدنا وتطوره"( )، وتم تعيين أحد الأكراد ـ إضافة للوزير الكردي في الحكومة وهو إحسان سيرزاد وزيراً للبلديات والأشغال، وعلى هذا الأساس ساد نوع من الهدوء المنطقة الشمالية، لكن عدم قدرة الحكومة على تنفيذ الاتفاقية المبرمة، إضافة إلى عدم التزام البارتي، بها أيضاً، أتاح نوعاً من المناوشات في بعض الأحيان بين الجيش العراقي، والحركة المسلحة الكردية، وهذا يعني أن الحرب لم تتوقف بشكل نهائي في الشمال، واستمر هذا الوضع حتى سقوط النظام العارفي في السابع عشر من يوليو 1968م.
وبذلك نجد أن النظام العارفي، لم يستطع أن يقدم أي إنجاز نهائي لحل القضية الكردية، بسبب أنه لم يستطع إزالة انعدام الثقة بين الأكراد والحكومة، واستغلال عبد السلام عارف المسألة الكردية لإنجاح سياسته الداخلية، ومطامحه الشخصية، وما يدل على ذلك، قول المبعوث المصري إلى العراق صلاح نصر، حيث كلفة جمال عبد الناصر ببحث حل لهذه المشكلة مع عبد السلام عارف، فيقول صلاح نصر حول ذلك:
" وفي حديث لي مع عبد السلام عارف أشار إلى المشكلات الكردية التي تواجه الثورة داخلياً وخارجياً، فذكر لي مشكلة الأكراد، وقال أنه بالرغم من أنهم مسلمون فإنهم ليسوا عرباً كما أن موقعهم في الجبال وفي شمال العراق وشرق العراق سبب صعوبة التعامل معهم"( ).
فهذه العقلية من رأس النظام العراقي تؤكد أنه غير جدير بحكم العراق، ما دام غير قادر على إيجاد مشكلة من أهم المشاكل التي يتعرض فيها كيان الوطن للتشقق، بسبب هذا التفكير السطحي ، أيضاً كان ضعف نظام عبد الرحمن عارف، وتحكم بعض العسكريين في سياسة النظام من خلال الحكومات السكرية، وعدم التزاماتها باتفاقياتها مع البارتي، بشكل يجعل الثقة تستمر بينهما، مما زاد من الهوة بين النظام والحركة المسلحة الكردية.
وفي كلا حكمي عبد السلام عارف، وشقيقه عبد الرحمن، لم يكن هدف البارتي الانفصال عن الجسم العراقي، والدليل على ذلك هو رفض هذا الحزب وجود حزب شيوعي يعمل على مستوى كردستان العراق، مؤكداً أن لكل دولة حزب شيوعي خاص بها، ويعمل على كل مستوى الدولة، ويؤكد هذه الحقيقة أحد أعضاء هذا الحزب، وهو جلال الطالباني بقوله: " إن وجود فرع للحزب الشيوعي في كوردستان هو بدعة تختلف عن التنظيمات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، أو في تشيكوسلوفاكيا، حيث يوجد لكل شعب حزب شيوعي، هو جزء من الحزب الشيوعي في الدولة الواحدة" ( ) ، وهذا أكبر دليل أن مطالب البارتي لم تكن انفصالية خلال كل هذه الفترة.
وحول الاعتراف بالكويت وعلاقات العراق معها، فقد أثبت المبحث السابق، رأي عبد السلام عارف، بموضوع الكويت حيث طاب أن يتخلى عن الرئاسة مقابل قيادته لإحدى فرق الجيش لضم الكويت للدولة العراقية بالقوة ، لكن خفت حدة لهجته هذه خلال فترة حكمه للعراق، بسبب ارتباط نظامه بالنظام الناصري في مصر، الذي يرى عدم إتاحة الفرصة للتدخلات الخارجية، من خلال إثارة العلاقة الخاصة للعراق مع الكويت، وقد سار على هذا النهج الرئيس عبد الرحمن عارف، بالرغم من إيمانه الضمني بأنها أرض عراقية•، وبسبب أهمية الكويت بالنسبة للعراق، عمل النظام العارفي على محاولة جذب الكويت له، من خلال توقيع بعض الاتفاقيات الاقتصادية معه، فأجرت الحكومة العراقية برئاسة طاهر يحيي اتفاقاً مع الحكومة الكويتية بداية 1968، تؤجر بموجبه جزيرة بوبيان ذات الموقع الاستراتيجي المهم بالنسبة للساحل العراقي على الخليج العربي، واتفق الطرفان أن تكون هذه المدة تسعة وتسعين عاماً، وبمبلغ رمزي، وقد قال أحد أعضاء الوفد الكويت حول ذلك الاتفاق: " أننا أجرنا بوبيان لاعتقادنا بأن الوحدة العربية آتية في المستقبل القريب"( ).
كما أجريت مباحثات حول الاستثمارات الكويتية في العراق، من أجل تحقيق التنمية بين البلدين، وتم الاتفاق أيضاً على تزويد الكويت بالمياه العذبة العراقية من شط العرب، وضرورة التنسيق الإعلامي بين البلدين، مع انتقال الأيدي العاملة العراقية للعمل في الكويت، وتبين أحوال العمالة العراقية في الكويت( ).
كما صرح مسؤول في وزارة التخطيط العراقية في السابع يوليو 1968 أنه تم الاتفاق مع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، من أجل تمويل كهربة مشروع سد سامراء ومشروع ورقة البصرة، والتنقيب عن الكبريت في شمال العراق، من حقل المشراق الذي يزيد احتياطه عن مائتين وخمسين مليون طن( ).
وعلى هذا الأساس كانت علاقة العراق مع الكويت خلال فترة النظام العارفي تتسم بالإيجابية، والتعاون التكاملي بين الطرفين ومن دون أي حساسية تثير أي منهما تجاه الآخر، وربما يعود السبب بسبب المشكلة الأكثر حساسية بالنسبة للعراق، وهي قضية الشمال الكردي وما يثيره من عدم استقرار سياسي للنظام.
وحول مشكلة التمايز المذهبي في العراق، فقد اتسم النظام العارفي، في شقه الأول ـ حكم عبد السلام عارف ـ بأنه كان طائفياً بسبب طائفية عبد السلام عارف تجاه الشيعة( )،وهذا ما أثار الشيعة في العراق ضد نظامه، وعلى هذا الأساس يقول أحد السياسيين البارزين من الشيعة وهو محمد رضى الشبيبي في مذكرة قدمها إلى الحكومة العراقية في الثامن والعشرين من أكتوبر 1965 ،حيث كان رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز، معبراً فيها عن الاستياء الشيعي من سياسة التمييز المذهبي ضدهم، فيقول في ذلك:
" وقد تسنى أخيراً أن أتصل بجمهرة من أبناء البلاد، وأن ألمس مواقع الألم منهم، والإحساس بما يخالجهم من سخط وتذمر ... ولم تكن التفرقة الطائفية مشكلة سافرة من مشاكل الحكم كما هي اليوم، ولم تكن مصدراً باعثاً على القلق المستحوذ على الشعب، وطالما تنادى المخلصون باتباع نهج آخر تراعى فيه المساواة المطلقة، التي أكدت عليها الشرائع المساوية والقوانين والوضعية ... ولا نذيع سراً إذا قلنا أن كثرة الشعب ساخطة جداً من جراء ذلك، وأنها تعتبر كرامتها مهانة وحقوقها مهضومة، ولاسيما وقد ترافق ذلك بسوء اختيار من يمثلونها في جهاز الحكم ..... وإذا كان من الممكن أن تغض هذه الكثرة الشعبية نظرها عن بعض حقوقها في وظائف الدولة، وترك شابها المثقف من حملة الشهادات العالية وغيرهم دون عمل، إذا كان من الممكن أيضاً أن تغض هذه الكثرة النظر عن التقصير المتعمد في إنعاش مرافقها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا كان من الجائز أن تغض نظرها عن مواقفها المشرفة في الجهاد والتضحية فإنها لا يسعها غض النظر عن التعريض بعروبتها وآصالتها، وكرامتها وإخلاصها للوطن وللدولة التي أقامتها على جماجم شهدائها الأبرار، ذلك التعريض المثير الذي يلوح به بعض المسؤولين والصحف الأجيرة ........ ولعل الدواوين الكبيرة في الدولة، ومن يشغلها تكفي دلالته على سياسة محاباة خصوصاً، وإن كثير من المقربين محرومون غالباً من المؤهلات والكفاءات والإخلاص"( ).
يلاحظ من هذه المذكرة أن النظام كان يمارس سياسة المحاباة تجاه الطائفة السنية في العراق، ويفضلهم في الدوائر الحكومية، على غيرهم من أبناء الوطن، من الشيعة، اعتماداً على أن رئاسة الدولة والحكومة خلال فترة عبد السلام عارف كانت سنية، حتى وإن كان معظم وزراء الحكومات خلال هذه الفترة من الشيعة، كما أن اهتمام الدولة كان في المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، كان متركزاً على السنة دون الشيعة، إضافة لما كان يثيره هذا النظام من تعريض بأصول الشيعة وتشكيك في إخلاصهم للوطن ويستدل على ذلك بأن أكثر مسؤولي الدواوين من السنة.
كما أن محاولة عبد السلام عارف، التدخل الديني ضد الأكراد من خلال دعوة المرجع الشيعي الأعلى في العراق محسن الحكيم، بأن يصدر فتوى أن الحرب ضد الأكراد هي حرب مشروعة، هي محاولة لبث الشقاق في المجمع العراقي، وقد رفض محسن الحكيم ذلك، مؤكداً أنه كمرجع أعلى لشيعة العراق، لا يمكنه أن يفرق بين جماعات الشعب وهذا إن دل فإنما يدل أن نظام عبد السلام عارف، كان يفرق بين جماعات الشعب، وهذا ما جعل (جماعة العلماء) الشيعية إلى أن تطالب بضرورة تحقيق المساواة بين المواطنين وتجنب ممارسة الظلم ضد الشيعة( ) ، لأن المذهب أو الدين هو ثقافة دينية للفرد في المجتمع ويجب على بقية أفراد المجتمع احترامها بغض النظر عن مناصبهم ومستوياتهم في الدولة، خاصة أنه قد عملت بعض العناصر المعارضة لنظام الحكم على إثارة العاطفة الدينية ضده( ).
ومما يدل على عدم احترام الرئيس عبد السلام عارف لثقافة الآخرين وعقائدهم أنه كان يرفض زيارة المراجع الشيعية، إضافة إلى أنه دعا الملا مصطفى البرزاني للتحالف معه ضد الشيعة( )، وعلى هذا الأساس فيعتبر عبد السلام عارف بنزعاته المذهبية والطائفية، فاشلاً في إحداث الوحدة الوطنية في العراق، بخلاف من سبقه من الرؤساء وخاصة عبد الكريم قاسم الذي اتسم بتسامحه تجاه الجميع، وهذا مما أثار الشيعة في العراق ضد نظامه، ونعتهم إياه بالطائفي.
لكن قد اختلف الوضع في ظل نظام شقيقه عبد الرحمن عارف، الذين كان رغم ضعفه، أكثر انفتاحاً على الشعب من خلال تسامحه المذهبي والديني، والقومي، فلم يذكر له أي بادرة أساء فيها لطائفة من الطوائف أو مذهب من المذاهب، وهذه نقطة حسنة تسجل لنظامه.
وفي ميدان احترام الدولة لثقافة المجتمع، فقد شرعت بعض الحكومات خلال هذه الفترة، بالنهوض بمسؤوليات التربية الثقافية والقومية لبعض الفئات المجتمعية كالعمال، بتدعيم ثقافتهم القومية، من خلال قانون المؤسسة الثقافية العمالية، لإعدادهم ليكونوا مواطنين لهم دورهم الرئيسي في بناء وطنهم وتنمية الوعي الثقافي سواء كان قومياً أو دينياً.
وبناءاً على ذلك فقد أعفت الحكومات العراقية خلال هذه الفترة المعابد والمساجد والكنائس الدينية من أجور الماء والكهرباء، وافتتحت بعض الكنائس عام 1964 مثل كنيسة الرسولين (مار بطرس) و(ماربولس) في بغداد، وسمحت لمواكب العزاء المتجهة إلى كربلاء من مختلف أنحاء العراق في ذكرى عاشوراء، بعد أن ألغاها نظام عبد الكريم قاسم، إضافة لاستمرار الدولة في دعم الخدمات التعليمية بغية الاستفادة من الكادر الثقافي والتعليمي لتحقيق التطور في المجتمع( )، لكن هذا الدور لم يحقق قفزة نوعية فظل تطوره واستمراره خاضعاً للوضع الاقتصادي للدولة.
يتبين لنا مما سبق أن النظام العارفي بشقيه، الشق الأول نظام عبد السلام عارف، والشق الثاني نظام شقيقه عبد الرحمن، كلاهما لم يستطع الحفاظ السلمي على وحدة البلاد، والحفاظ على التنوع الثقافي والمذهبي فيها، فكانت ممارسات النظام الطائفية في بعض الأحيان مدعاة لأحداث الشقاق داخل الدولة، وإن كانت هذه الممارسات تمثلت بالشق الأول من النظام العارفي، لكن بما أن الشق الثاني يتبع الشق الأول فكلاهما يمثل نظاماً واحداً، كما أن النظام لم يعن بالاهتمام بالقضية الكردية، وتداعياتها، بسبب عدم التزام الحكومات العراقية خلال هذه الفترة بتطبيق اتفاقياتها مع الأكراد، لكن لابد أن نشير هنا إلى الروح الانفصالية لبعض الأعضاء في حزب البارتي، وأحياناً مطالبها التي تهدد وحدة البلاد بدل أن تسعى إلى الاندماج معها، إضافة لعدم احترامها الرئيسي للغة الرسمية للبلاد وهي اللغة العربية، فالكثير من الدول فيها تعدد قومي ولغوي، لكن تبقى اللغة الرسمية هي أساس التعامل والتعليم بالنسبة للجميع، لكن البارتي كان يسعى لأن يجعل اللغة الكردية هي أساس التعامل والتعليم في المنطقة الكردية، ضارباً عرض الحائط بالتاريخ المشترك للعرب والأكراد في العراق، كما أن مطالبه كانت ذات تأثير سلبي على تطور الثقافة والتعليم والاندماج في المجتمع لجميع الفئات فيه بسبب أن مطالبه تثير القوميات الأخرى في العراق، وعلى هذا الأساس فيتحمل النظام العارفي والبارتي مشكلة إضعاف الوحدة الوطنية فيما يتعلق باحترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية، وبالتالي يكون المحدد الأول للوحدة الوطنية في هذا المبحث لم يتحقق، وهذا يعني انتفاء أحد الشروط الأساسية للوحدة الوطنية في العراق، كما حددتها الدراسة.

المطلب الثاني
الحرية والعدالة والمساواة في ظل النظام العارفي
بعد انقلاب عبد السلام عارف في 18 نوفمبر 1963، اتبع سياسة قاسية تجاه معارضيه، بسبب أنه كان يهدف إلى حكم البلاد حكماً أتوقراطياً، فأبعد نائبه أحمد حسن البكر ووضعه في الإقامة الجبرية، وفرض عليه أن يوقع إقراراً بأنه لن يمارس السياسة بعد ذلك، كما رفض رجوع أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث- التي حلها ميشيل عفلق عندما جاء لحل أزمة الحزب في نوفمبر1963-، فجرى نفي حازم جواد مرة أخرى عند وصوله بغداد، بطائرة غير مجهزة بالأنوار أو البوصلة، حتى أنها حلقت فوق إسرائيل، وكان بإمكان إسرائيل إسقاطها، وعلى هذا فيتحمل مسؤولية الأرواح التي كان من الممكن أن تقتل بسببه، وقد يكون فعل ذلك في إطار محاولته لتصفية حزب البعث نهائياً من العراق، حتى أنه أبعد النائب العام للجيش والقوات المسلحة، وقائد الأركان، حردان التكريتي، عن الجيش وعين بدل منه أحد الناصريين وهو عارف عبد الرزاق، كما أنه أخذ يثير البعثيين بسبب نعته الأمين القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي ميشيل عفلق بأنه مسيحي وملحد ، رغم علمانية البعث والبعثيين، وكان قبل ذلك قد حرض على قتل أعضاء القيادة القومية لحزب البعث، الذين جاؤوا لحل أزمة البعث في العراق عام 1963( ).
وبدل أن يرأب الصدع الذي حصل بين أبناء الشعب، بسبب ممارسة بعض أعضاء الحرس القومي، لبعض الأعمال القاسية تجاه الشعب، فأنه استغلها لنعت كل البعثيين بأنهم هم أساس هذه العمليات والمحرضين عليها، في إطار محاولاته لإبعاد الشعب عن هذا الحزب، ففتح أبواب السجون، وأماكن التعذيب أمام المواطنين، وسجن البعثيين بالمنحرفين، وأصدر كتيب حولهم سماه "المنحرفون"( ).
بالرغم من أن أحد أهم مؤيديه وهو طاهر يحيي، والذي جعله رئيساً للوزراء بعد انقلابه كان أحد أعضاء القيادة القطرية للبعث العراقي، إضافة إلى أن عبد السلام عارف وطاهر يحيي كانا ضمن النظام القديم حيث كانا أعضاء في مجلس قيادة الثورة ، حتى أن طاهر يحيي نفسه أخذ يهاجم حزب البعث قائلاً:
" أن ما لاقاه المواطنون من محاولات الفئة الحزبية التحكم في مصير العراق على حساب الأكثرية، ما آلت إليه من تناصر حزبي يريد تخطي الأسس الوطنية السليمة، وما وافق ذلك من انحرافات عن الأهداف القومية الكبرى أحدث فجوة بين الحكومة والشعب، فتمزقت وحدة القوى الوطنية وزرعت الأحقاد بين المواطنين وتركت جروحاً عميقة في نفوسهم"( ).
ثم أحد يدعو لوحدة الصف وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية طبقاً لمفاهيم الاشتراكية العربية، وضمان الحريات الأساسية التي تكفل للمواطنين الإنسانية والكرامة، وتحميهم من العنف والطغيان، من أجل تحقيق الازدهار والتقدم، وضرورة إقامة جبهة قومية مفتوحة على جميع القوى الوطنية دون أي تمييز أو تفرقة، من أجل تحقيق العدالة وسيادة القانون، وضرورة دعم القضاء، وضمان استقلاله وحياده، لتمكينه من توطيد أركان العدل في ظل القوانين والنظم المرعبة، وتعديل القوانين بما يكفل إحقاق الحق وصيانة حقوق الأفراد وتسهيل المعاملات ورعاية المنظمات والجمعيات، وأن القانون هو فوق الشبهات. وقال حول ذلك :
"برنامجناً في الداخل يستهدف إسعاد كل فرد من أبناء هذا الشعب لا يفرق بين شخص وآخر، والكل سواسية أمام القانون متساوون في الحقوق وعلى الجميع تترتب الواجبات ... إن هدفنا هو تقليل الفوارق بين الطبقات وتقليص الفجوات الاجتماعية والمعاشية فيما بينها في حدود العدل والقانون"( ).
رغم أن عبد السلام عارف عمل على استمرار العلاقات التقليدية في المجتمع العراقي، وهو الذي غذاها وشجعها من خلال استرضاء قطاعات المجتمع المحافظة اقتصادياً ودينياً، حيث شكل المشايخ في الأرياف والملاك والمقاولون في المدن ورجال الدين، شبكة من العلاقات بين سيد وتابع، ووفرت لها عائدات النفط العراقية فرصاً أكثر للنمو، من خلال المكافئات الحكومية، وكل ذلك بهدف جعل الحكم موالياً له بشكل مطلق( ).
أيضاً عمل عبد السلام عارف على تشكيل حرس جمهوري من أبناء قبيلته (الجُميلة)، وهذا ما جعله يطمئن إليهم، حيث أصبحوا يدعمونه بسبب انتمائه لقبيلتهم، وليس بسبب برنامجه السياسي، حتى أنه أصبح يخص أبناء قبيلته بمعاملة خاصة، ويستفيدون بشكل أكبر من موارد الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية( ).
كما صدر في ظل حكم عبد السلام عارف قانون السلامة الوطنية العراقي، في نهاية يناير1965، حيث يبيح هذا القانون لرئيس الوزراء ـ الموالي ضرورة لرئيس الجمهورية ـ لفرض قيود على حرية الأشخاص في التنقل والمرور ومنع التجول في أماكن مخصصة وفي أوقات محددة، ويحق له اعتقال الأشخاص الذين يشتبه بهم، وحجزهم، وفرض الإقامة الجبرية عليهم في بيوتهم، وتفتيش الأماكن والأشخاص الذين يشتبه بهم وفرض قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع وتفريق الاجتماعات والتجمعات بالقوة إذا كان يخشى منها الإخلال بالأمن العام، كما يحق له حل التجمعات والجمعيات والنوادي والنقابات، إذا ثبت أنها تعارض الدولة، ويحق له منع سفر من يراه معادياً للنظام وللحاكم، وفرض القيود على السفر إلى الخارج، وفرض الرقابة على الصحف والمجلات والكتب والنشرات والأشرطة الصوتية والمرئية، إذا كانت تعارض مبادئ وسياسة الدولة، كما أجاز هذا القانون الحق لرئيس الدولة في إسقاط أو تخفيف العقوبة، وقد ظل هذا القانون ساري المفعول حتى سقوط النظام العارفي عام 1968( ).
ويلاحظ من هذا القانون أنه ينتهك أبسط حقوق الإنسان عندما يعطي لرئيس الوزراء السلطات المطلقة، فرغم أن تحقيق الأمن القومي ضرورة وواجباً على النظام، إلا أن هذا القانون، يمنع أن يكون هناك أي معارضة للنظام، وهذا يعني أن هذا النظام يتجه إلى الفاشية، خاصة أن عبد السلام عارف منع وجود أي حزب سياسي في البلاد، وبالتالي تكون تصريحات النظام حبراً على الورق، في ظل وجود هذا القانون( ).
وفي ظل هذا النظام حاول الملا مصطفى البرزاني، الذي كان له اتفاقاً مع عبد السلام عارف، لإسقاط البعث العراقي، تحت تأثير ضغوط خارجية عليه، وتخوفاً من الوحدة السورية العراقية، بعد ما قام المجلس الأعلى للدفاع المشترك بين سوريا والعراق، وأعلن عن اتفاقية عسكرية وقيادة موحدة للجيشين العراقي والسوري، كما تم الإعلان في أواخر يوليو 1963 عن قيام وحدة فيدرالية سورية عراقية، وحاول البرزاني أن يحصل على أشياء يراد منها تقليل اندماج الشمال العراقي بالوطن الأم، من خلال طلبه لإنشاء وزارة تسمى بوزارة الشؤون الكردية، وترتبط بها ألوية المنطقة الشمالية في كافة النواحي وتشرف على القضايا الإدارية والثقافية في المنطقة، لكن الحكومة رفضت ذلك على أساس أن هذا يعتبر استقلالاً( )، وعلى هذا الأساس فإن عارف في إطار تحالفه مع البرزاني، لم يكن يدرك أن هذا الاتفاق قد يؤثر على المصلحة العليا للبلاد وتحقيق العدالة بين جميع أقاليم البلاد، وهو يعلم النوايا الاستقلالية للبرزاني ، كما أنه في ظل نظام عبد السلام عارف تشكل المجلس الوطني لقيادة الثورة في العاشر من مايو 1964تحت مرسوم رقم 61 ، والذي ينص على أن يتولى هذا المجلس السلطة التشريعية للدولة والإشراف العام على شؤون الجمهورية لحماية الثورة وتحقيق أهدافها خلال الفترة الانتقالية ، وأن يمارس رئيس الجمهورية صلاحيات المجلس الوطني لقيادة الثورة لمدة عام قابلة للتجديد تلقائياً كلما تطلب الأمر ذلك، وهذا يعني الأوتوقراطية التي عمل من أجل تحقيقها عبد السلام عارف ، والتي تتناقض مع حرية البلاد والمواطنين وتحقيق المساواة والعدالة ، كونه يجعل البلاد ومصيرها في يد رجل واحد .
أيضاً في ظل نظام عبد السلام عارف، تشكل الاتحاد الاشتراكي، الذي أراد عارف، أن يجعله يضم جميع القوى السياسية الموالية له في البلاد، ورغم ذلك ظل هذا التنظيم حبراً على الورق، إضافة إلى تأسيسه للدستور المؤقت، والذي حدد فيه الحقوق القومية للأكراد، لكنه لم يحدد ماهيتها ومظاهرها، مما دعا برئيس الحزب الوطني الديمقراطي سابقاً، (كامل الجادرجي)، إلى انتقاد هذا الدستور، من خلال مذكرة قدمها للرئيس عبد السلام عارف( ).
وفي ظل هذا النظام، لم تستطع الحركة الدينية الشيعية، أن تعبر عن نفسها رغم أن القيادة الدينية السياسية ظلت في يد المرجع الديني محسن الحكيم، إضافة لما أصدره النظام من قانون التنظيم الضريبي للأوقاف، حيث استخدم أموال الأوقاف لتمويل المؤسسات الدينية السنية، وهذا مما أثار الشيعة الذين طالبوا أن يخصص جزء من الإيرادات لصالح المؤسسات الشيعية، حتى أن المرجع الشيعي محسن الحكيم سلك سياسة هجومية ضد السياسة الطائفية للنظام( )، وقال موجهاً كلامه لرئيس الحكومة طاهر يحيي عام 1964:
" إن من الواجب على الحكومة أن تعامل القوميات والطوائف المختلفة على قدم المساواة حتى يشعر الجميع أن اهتماماتهم تراعى، وأنه ليؤلمني حدوث هذه الهوة بين الشعب والحكومة، وطبقاً لهذه الحقيقة وطبقاً للعقلية السائدة في الحكومة يمكن للمرء أن يعتقد أن الأمور الخاصة بعبد القادر، قد انتهت، وتلك الخاصة بعبد الحسين(*) والآخر تكريتي أو نجفي أو كوفي، إن هذه تعد مسألة بسيطة، إذا نظرنا إليها بسطحية، إلا أنها يمكن أن تستغل من بعض الأشخاص للوصول إلى أهداف هامة، وفي رأيي أن تلك المسألة تؤدي إلى الإعراض، وإلى إبعاد الشعب عن الحكومة، إن هذه المشادات للدولة التي نعيشها هي نتيجة لابتعاد الشعب"( ).
ويلاحظ من هذا الكلام أن النظام كان يمارس سياسة إقليمية ومذهبية، وعرفية تجاه فئات الشعب العراقي، وهذا مما يتناقض مع الحرية والمساواة العدالة التي كان من الواجب أن يراعيها النظام، هذا إذما علمنا أن رجال الدين السنة في فترة عبد السلام عارف، ومن بعده شقيقه عبد الرحمن، كانوا يتلقون أموالاً من الأوقاف الدينية، بينما رجال الدين الشيعة لا يتلقون ذلك( )، وهذا مما يثير مجموعة من أكبر فئات المجتمع العراقي ضد النظام.
كما اتهم المرجع الديني الأكبر لدى الشيعة في العراق محسن الحكيم، الرئيس عبد السلام عارف بالطائفية، لأنه يعمل على استئثار السنة بالحكم من خلال بعض الإجراءات وأهم هذه الإجراءات التي ذكرها هي( ):
1- تكوين الطبقة العليا السياسية (عرقياً ومذهبياً) كان يقتصر على السنة العرب ، وكان معظمهم ناصرية، لأن البعث كان يمثل الشيعة بشكل أكبر.
2- اعتماد عبد السلام عارف، على قبيلة الجميلة، وتقليد أفرادها أهم المناصب الحساسة في الدولة، مثل المخابرات، والدفاع، ولم يستثن سوى ناجي طالب الذي كان من المؤيدين لعارف.
3- كان موقف عارف من الجماعات الإسلامية، متوقفاً على المذهب الذي ينتمون إليها، فقد أعطى حزب الإخوان المسلمين في العراق ـ بالرغم من حظر حزبهم ـ حريات أكثر ما كان لهم قبل ذلك، على أساس أنه يمثل حزباً إسلامياً سنياً.
كما اتهم الكثير من أصحاب رؤوس الأموال من الشيعة، أن النظام عمل إجراءات التأميم للصناعة والتجارة عام 1964، بهدف استبعاد الشيعة من الاقتصاد، حيث كانت التجارة هي مجال عمل الطبقات الشيعية المتوسطة والغنية، كما أنه حلت غرف التجارة والصناعة، التي كانت تمثل أكثر الشيعة، إضافة لقيامه بتأسيس مؤسسات اقتصادية متخصصة تحت رئاسة سياسيين سنيين معينين، وعلى هذا الأساس كان تخوف الشيعة من الاتحاد مع مصر الذي كان يعمل له عارف، على أساس أن هذا الاتحاد، سيجعل الشيعة أقلية، بالرغم من أن جمال عبد الناصر اشترط عليه ضرورة تلاؤم البيئة الاجتماعية والسياسية العراقية مع مثيلتها في مصر، بسبب تخوفه أن يحصل في العراق كما حصل في سوريا عام 1961 عند انهيار الوحدة بين سوريا ومصر( ).
كما تذمر الشيعة من المادة (41) من الدستور المؤقت الذي أعلنه عبد السلام عارف عام 1964، من أن رئيس الدولة لابد أن يكون ناشئاً من أسرة عراقية تحمل الجنسية العثمانية في عام (1900)، رغم أنه حتى عام (1900) كان معظم شيعة العراق يحملون الجنسية الفارسية بسبب تهربهم من أداء الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، ومطالبتهم بحماية الدولة الفارسية الشيعية لهم، وعلى هذا الأساس حرم القسم الأكبر من الشيعة من الترشيح لرئاسة الدولة العراقية، كما أجاز نفس الدستور، سحب الجنسية العراقية ممن منحوا الجنسية العراقية، حيث كان قد صدر قانون الجنسية العراقية عام 1963، وأكثر هؤلاء الذين منحوا كانوا من الشيعة، على اعتبار أن السنة يعتبرون مواطنين أصليين، أما الآخرون فمجنسون( ).
كما قدم أحد السياسيين الشيعة البارزين وهو محمد راض الشبيبي مذكرة لحكومة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز عام 1965 قال فيها :
" إن الشعور الوطني في العراق يتجلى بالغيرة الوطنية والحب العميق لأرض الآباء والأجداد، وكان هذا الشعور الحافز الأول لصيانة وحدة البلاد، ولكن الأحداث والكوارث التي حلت بها نتيجة تصارع الأهواء وتشجيع التفرقة عصفت بهذا الشعور النبيل، وأقصته إلى أبعاد وأعماق سحيقة، يخشى أن تتيح للأجنبي المتربص الفرصة للنيل من وحدتنا الوطنية المقدسة... إننا نؤكد على ضرورة القيام عاجلاً بوضع أسس قانون الانتخابات المباشرة خلال فترتها المحددة في الدستور المؤقت، على أن يجري ذلك بإشراف سلطة معروفة بالحياد والاستقامة سلطة تضمن للجمهور حرية الصحافة والرأي والتعبير... إن الوحدة العربية في رأينا هدف يتم باستفتاء الشعب عليه، وأن التضامن العربي وسيلة لحمايته"( ).
يتبين من هذه المذكرة أن النظام قد حد من حرية المواطنين، وشجع التفرقة بين المواطنين، ولم يعر أي اهتمام لرأي الشعب في القضايا الحاسمة، التي كان من الواجب أن يكون للشعب رأي فيها .
كما تخلى عبد السلام عارف عن الأعراف العسكرية، من خلال استخدامه لمنصبه في تعيين شقيقه قائداً للأركان، ورفعه إلى رتبة فريق في الجيش، رغم أنه لم يكن عنده شهادة دورة الأركان، كما تقتضي التقاليد العسكرية، إضافة إلى أن تعيينه رئيساً للبلاد بعد مقتل أخيه عبد السلام عارف، كان لاعتبارات شخصية من خلال لجنة من الضباط المتنافسين ذوي الرتب الكبيرة، والتي لا تملك أي صفة دستورية( )، خاصة أن شخصية عبد الرحمن عارف هي شخصية ضعيفة، وذات إمكانيات ذاتية محددة، كما لم يكن للشعب أي رأي في تعيينه رئيساً للبلاد.
وفي إطار محاولة عبد السلام عارف لتحسين صورة النظام، أتاح لحكومة عبد الرحمن البزاز ، على إتباع بعض الخطوات، التي تقلل من السخط الشعبي تجاهه، فحل مجلس قيادة الثورة، وأحيلت سلطاته التشريعية إلى الحكومة، ووعدت الحكومة بإطلاق الحريات السياسية، والحد من اعتقال المعارضين السياسيين، ووقف إجراءات التأميم، وإعطاء فرصة للقطاع الخاص، والشركات الخاصة، والسعي لرفع قيمة التعويضات التي تدفع للملاك، من أصحاب الأراضي المصادرة تحت شعار "الاشتراكية الحذرة"، كما عملت على تأسيس اقتصاد مختلط وفعال، إلا أن تخوف أصحاب رؤوس الأموال من استثمار أموالهم، بسبب الميول الاشتراكية لبعض الناصريين من أفراد الحكومة والجيش، إضافة لتخوف بعض المستثمرين في الزراعة من ذلك أيضاً، وهذا ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، حيث ظل العراق مستورداً للحبوب وبعض المنتجات الغذائية، إضافة لما أدت إليه الهجرة من الريف إلى المدينة، قد عقَّد مشاكل الإنتاجية الزراعية، وأثقل كاهل الحكومة في مجال الإسكان، وتوفير الرفاه الاقتصادي( )، وعلى هذا فإن عدم توفر العدالة والمساواة والحرية التي كانت في ظل النظام كان لها تداعياتها المؤسفة التي أدت إلى استمرار شك أصحاب رؤوس الأموال في كل إجراءات الحكومة حتى وإن كانت عادلة، وبالتالي استمر ضعف الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري في الدولة.
وفي ظل حكم الرئيس عبد الرحمن عارف، عملت حكومة عبد الرحمن البزاز على إطلاق سراح كثير من الأشخاص المتهمين بجرائم القتل والسرقة، واستغلال النفوذ والتجسس، رغم أن الكثير منهم كان من ذوي المكانة العالية في المجتمع، وهذا مما شجع الموظفين الصغار على انتهاج نهج الرشوة، والاستغلال والفساد، لأن من يدان بمثل هذه الجرائم كان يجب على الحكومة أن لا تدخله ضمن نطاق العفو، لأنه يسبب إضعاف الوحدة الوطنية في المجتمع، فحرية الإنسان تتوقف عن حرية الآخرين، بالرغم من أن الحكومة نفسها قد عملت على رفع القيود عن الصحافة، والعمل على تحقيق الضمانة لحرية الرأي والنشر في الصحف، وحري الاجتماع والكلام، بحيث يتسنى للناس الإطلاع على مختلف الأفكار، إضافة لما وعدت به من أنها ستجري انتخابات حرة يتم على أثرها تشكيل برلمان يشارك في الحكم، حيث يستطيع ممثلوا الشعب التكلم باسم الشعب، حيث لا تمثيل للشعب من دون إجراء انتخابات حرة، وكان الغرض من ذلك هو أن البزاز كان يبغي حل مشكلة التمرد الكردي، الذي بدوره سيقلل من التكاليف المالية على الحكومة، وبالتالي يفسح المجال للشعب للانخراط في تكتلات سياسية علنية بالشكل الذي يتفق مع ميولهم( )، إلا أن سقوط الحكومة بسبب رفض البعض لهذه الإجراءات كان له دوره في عدم نجاح البرنامج الإصلاحي للبزاز، حيث اتهمته هذه الفئات بالرجعية، وباستيراد مبادئ الغرب.
وكان قيام حكومات عسكرية بعد ذلك من خلال ناجي طالب، وطاهر يحيي وعبد الرحمن عارف قد أرجع العراق إلى عهد عبد السلام عارف، من إضعاف للحريات والعدالة، حيث قامت حكومة طاهر يحيي عام 1967، بالعمل لتحسين صورة النظام على أساس تمثيل الأكراد في الحكومة من خلال أحد الوزراء، الذين لا ينتمون للبارتي، ما أثار الملا مصطفى البرزاني الذي اتهم الحكومة بالديكتاتورية وأنها لا تمثل الشعب وقال حول ذلك:
" إن الوزارة لا تمثل الأكراد وأنها وليدة ظروف غير ديمقراطية ... ومن الضروري إحياء المؤسسات الاقتصادية خدمة للعراق والتعايش الكردي العربي .. يأتي انعدام الحكم الديمقراطي في البلاد وإطالة فترة الانتقال، وانعزال الحكم عن الشعب وعدم قدرته على العمل معه ؛ لأن تشكيل الحكومات المتعاقبة، لم يكن طبيعياً أو مستنداً على قاعدة شعبية ولا انبعثت عن إرادة الشعب ورغبته عن طريق نظام حكم برلماني صحيح ... لهذا فإن الحل الوحيد للخروج من الأزمات المستحكمة في رأينا هو تأليف حكومة وطنية تضم مختلف فئات مع نفوس الأكراد في العراق، واستجابة لمبدأ الشراكة في الوطن، وتأخذ هذه الحكومة على عاتقها التمهيد للحياة الديمقراطية البرلمانية، وتحصر مهمتها الرئيسية في تصفية الأوضاع الاستثنائية الشاذة التي هي السبب المباشر والرئيسي في أزمة الحكم المستعصية... أننا لا نريد مواصلة تحمل مسؤولية استمرار الأوضاع الشاذة وتكريس التشتت في وحدة الصف الوطني"( ).
يتبين من هذا القول أن الحكومة لم تكن تمثل جميع أطياف الشعب العراقي، وأنها لم تكن في ظل حكم ديمقراطي سليم، ولم تكن تمثل مختلف اتجاهات الشعب العراقي.
كما قامت الحكومة في الرابع من ديسمبر 1967 بإصدار قانون إنشاء المؤسسة العامة للصحافة والطباعة، مما أثار احتجاج الصحف الخاصة، بسبب إلغاء ذلك القانون لجميع صحف القطاع الخاص وعددها ستة عشر صحيفة، وحصر إجازات الصحف بموافقة مجلس الوزراء، حيث حصر إصدار الصحف بـ (الجمهورية ، والثورة، والمواطن، والمساء، والمرقب)، وباللغة الإنكليزية (بغداد، برزفر)، وعينت الحكومة موظفين حكوميين لرئاسة تحرير هذه الصحف، وحول هذه الخطوات الديكتاتورية قالت صحيفة (صوت العرب) البغدادية ، " إننا لا نملك سوى أن ننبه إلى خطورة هذا القرار الذي لا ترى فيه الجماهير إلا محاولة لإزالة معالم الحرية التي يضمنها الدستور العراقي وتؤكدها أبسط القواعد والقوانين الدولية"( ) ، حتى أن بعض الصحف المحايدة قد انتقدت هذا القانون، فقالت صحيفة الحياة البيروتية :
" إن تأميم الحكومة للصحافة قد أفقدنا أخر وسائل التعبير عن حريتنا العامة مما اضطر الفئات السياسية المعارضة للحكم القائم الآن في البلاد أن توجه سيلاً من المذكرات السياسية لرئيس الجمهورية محذرة من مغبة تمادي الوزارة القائمة في سياستها الديكتاتورية المنافية لروح ثورة الرابع عشر من تموز/يوليو"( ).
وبسبب السخط الشعبي من السياسية الديكتاتورية للنظام، اقترح عدداً من السياسيين على الرئيس عبد الرحمن عارف في آواخر ديسمبر 1967، تشكيل حكومة انتقالية تعمل على إقامة حكم ديمقراطي نيابي، وإنهاء الأزمة الخطيرة، والتأزم النفسي الذي يعانيه الشعب، وحذروه من تفاقم الوضع القائم في العراق، وطالبوا في بيانهم بضرورة إحكام مبدأ سيادة القانون ، والقضاء على الأسباب التي تؤدي إلى الفرقة والتمايز والتعصب، والنظر إلى الشعب كله نظرة واحدة بغض النظر عن معتقداته أفراده، أو أصولهم أو مسالكهم، وجعل مغانم هذا الوطن لهم كلهم، وضرورة إلتزام الحكومة، ببيان حكومة البزاز في التاسع والعشرين من يونيو 1966 نصاً وروحاً، وضرورة إنهاء الفترة الانتقالية للنظام، وتشريع قانون جديد للانتخابات يضمن حرية الانتخاب المباشر ويعبر عن إرادة الشعب الحرة من أجل انتخاب مجلس تأسيسي يضع الدستور الدائم الذي يجب أن تضاف فيه الحريات العامة بصورة جلية، لتقديم أسس الحياة الديمقراطية السليمة في هذا الوطن، وضرورة وضع قانون لمحاسبة الذين أثروا على حساب الشعب بأية كيفية كانت، أي بتطبيق قانون (من أين لك هذا)، بقصد صيانة الأموال العامة، ووضع حد للعبث والاستغلال والتحزب والاختلاس، وإلغاء الضرائب على غير القارين على دفعها، وتخفيف الأعباء عن كاهل صغار الموظفين وأصحاب الدخل المحدود من العمال والفلاحين وضمان مكاسبهم، وإيجاد موارد حقيقية من ثروات البلاد الطبيعية، وتمكين الشعب من الإطلاع على ما يجري بهذا الشأن بشكل واضح، وتحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية باتباع سياسة اقتصادية رشيدة، والعمل على إقامة حكم ديمقراطي نيابي( ).
إلا أن النظام رفض هذا البيان واستمر في إجراءاته للحد من الحريات، وعدم تصحيح المسار الذي جعل الحكم ينحو نحو الفردية وانعدام العدالة والمساواة، وقالت صحيفة (الإمام) البيروتية في إطار تحليلها للوضع العراقي:
"نرى الحكم في العراق يسير سيراً متصاعداً نحو القضاء على الحريات الديمقراطية، ويزيد من اضطهاده للقوى التقدمية بأسرها، ويفتح أبواب السجون، والمعتقلات أمام دفعات جديدة من أحرار العراق وتقدميه ويسد الآذان عن سماع الصيحات المحذرة له من مغبة هذه الأعمال والاستمرار فيها، كما يفتح المجال واسعاً أمام القوى الرجعية للقيام بنشاطها ويحاول التعاون مع بعضها وشركائها في الحكم .... إن الحكم يحاول إعادة الحرب مع الأكراد وإضعاف مقدرة الشعب العراقي وشل مقدرته العسكرية والبشرية والمادية في عمليات داخلية يقاتل الأخ أخاه.. وأمام القوى التقدمية العراقية بعد استعمال النشاط الرجعي اليميني وانحدار الحكم وعزلته مهام صعبة وجساماً فإذا لم يستطع التغلب عليها بوحدتها ونضالها فمصير العراق سائر نحو عهد أسود يصيبها كلها بالأذى والضرر الشديدين"( ).
وبسبب هذا الوضع من مصادرة لحريات الفكر والعدالة، مما أدى لانفجار الوضع في العراق باضرابات الطلاب في جامعة بغداد، والمدارس الثانوية، إضافة للمحامين والمهندسين، في الثالث عشر من يناير 1968، والتحمت هذه الظروف بممارسات النظام الطائفية والعنصرية، تجاه أفراد المجمع، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي الزراعي والصناعي والتجاري( ).
في ظل هذا الوضع انتشرت الشائعات ضد النظام، سواء ما كان منها صحيحاً أم زائفاً، واشتد عود الحزب الشيوعي الذي أخذ يتهم النظام بالضغط على الأحرار، وتعذيبهم، رغبة منه-النظام- في جعلهم يتركون الحزب الشيوعي، واتهم النظام بالرجعية ، حتى أن الحكومة ضبطت أسلحة محملة للحزب الشيوعي في العراق، في الأول من يوليو 1968( ).
في ظل هذه الأوضاع كان حزب البعث قد أعاد تشكيلاته الحزبية، وأرجع المبعدين البعثيين، وأخذ يقوى نفوذه في الجيش، حتى أنه شكل قوة رئيسية في البلاد، فأخذت بعض الصحف تثير النظام مرة أخرى ضد البعث( )، لإبعاد خطره عن الاستيلاء على الحكم، مستفيداً من انعدام الحرية والمساواة والعدالة في النظام، بالرغم مما أصاب البعث خلال هذه الفترة، من انقسامات بسبب انقلاب 23 فبراير 1966 في سوريا، ضد القيادة القومية، حيث انقسم البعث أيضاً في العراق إلى موال للقيادة القومية، وهو جناح أحمد حسن البكر، وموال لقيادة القطرية في سوريا، إضافة لما قام به علي صالح السعدي بعد طرده من القيادة القطرية، من تشكيل لتنظيم بعثي آخر أطلق عليه اسم (الحزب اليساري)( )،حيث انضم إليه بعض البعثيين في العراق.
يتبين لنا مما سبق أن النظام العارفي بشقيه، لم يستطع تحقق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة، فطبيعة نظام عبد السلام عارف الفردية والديكتاتورية والطائفية، واللامسؤولة والتي ترى تحقيق مصلحة النظام بالدرجة الأولى، بغض النظر عن تحقيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، جعلت الوحدة الوطنية تتعرض لهزات عنيفة، أثرت سلباً على وجودها في العراق، كما أن نظام عبد الرحمن عارف بحكوماته المتعاقبة، لم يستطع إصلاح ما أفسده نظام شقيقه بالقضاء على الطائفية والإقليمية، وتحقق الحرية والعدالة والمساواة لجميع أبناء الشعب، كل حسب الكفاءة والمقدرة، وكان بوسع هذا النظام التخلص من ترسبات الفترة السابقة، لكن طبيعة التركيبة المجتمعية للنظام وسيطرة فئات محددة ذات أبعاد طائفية وإقليمية وعشائرية، وطبقية، جعلت هذا النظام، يضعف الوحدة الوطنية بدل أن يزيدها قوة، وعلى ذلك فالنظام العارفي أضعف المحدد الثاني من الوحدة الوطنية حسب هذه الدراسة من هذا المبحث وهو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لجميع فئات الشعب أمام القانون.


المطلب الثالث
التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي
بين الشعب والنظام
لم يتغير كثيراً مدى التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب العراقي ونظامه السياسي خلال فترة تداعيات حكم البعث في فترة الأخوين عارف، فكان ضعف هذا التفاعل سبباً في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق، وبالتالي ساهم ذلك في سقوط النظام العارفي ، ففي إطار التفاعل السياسي بين الشعب والنظام أهمل عبد السلام عارف معظم فئات الشعب العراقي ليعتمد على التيار الناصري في حكمه وذلك بعد تخلصه من البعثيين الذين شاركوه في انقلابه، فأجبر أحمد حسن البكر الذي كان نائبه، على أن يوقع إقراراً بعدم ممارسة السياسة، وأن يتفرغ لشؤون الزراعة وتربية الماشية، وأجبره على نشر إقرار في الصحف العراقية، حتى أصبح العراقيون يلقبون البكر بأبو الهوايش أي الأبقار، وأبعد حردان التكريتي، عن قيادة الأركان، وأبعده عن القوات المسلحة بعد أن كان النائب العام لها، وأخذ يصف البعثيين بالشذوذ ، والقبح ، والإجرام، والانحراف( )، وبذلك فقد عمل على إهانة تياراً سياسياً كبيراً من الفئات المجتمعية في العراق.
لكن ما لبث أن أخذ يبتعد عن الناصريين(*) مما حذا برئيس الوزراء (عارف عبد الرازق) للقيام بمحاولة انقلابية، فكان رد فعل عارف، أن أبعدهم عن الحكم، كما أن من الأسباب التي دعته للإبتعاد عنهم هو بسبب تقاربهم من حركة القوميين العرب، الذين سموا بالحركيين، والذين كانوا يوالون جورج جيش، وكان ممثلة في بغداد (هاني الهندي)، وكان أكثر أعضاءها من الطلبة القوميين، حيث كانوا يؤيدون وحدة العراق مع مصر، إلا أنهم بعد هزيمة 1967، انحرفوا نحو الشيوعية، وأطلقوا على حركتهم اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ، وهي منظمة ماركسية تعتمد على حرب العصابات، لكن في العراق استعمل اسم "حركة القوميين العرب" ، التي اجتذبت بعض العمال العراقيين، مما جعل لها سلطة قوية مؤثرة في السياسة العراقية.
لكن مالبث عارف للعودة للاتجاه نحو مصر الناصرية، بعد تحالف الناصريين مع الحركيين ، حيث وجد نفسه بلا دعم ، فشكل مجلس رئاسي مشترك في السادس والعشرين من مايو 1964، كان الهدف منه تخطيط وتنسيق عمل الطرفين، في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتنفيذ الخطوات الضرورية لقيام اتحاد دستوري بين البلدين، ثم شكل تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق على غرار ما هو معمول في مصر، حيث سمي "الاتحاد الاشتراكي العربي : الإقليم العراقي"، وقد ضم هذا الاتحاد كل من الاستقلاليين والناصريين والحركيين، إضافة للبعثيين الذين تحولوا إلى ناصريين( ) ، ثم عمل على حل المجلس الرئاسي المشترك وشكل جهاز تنسيق سمي " القيادة السياسية الموحدة للعراق : الجمهورية العربية المتحدة " ، على أساس اتحاد القطريين في مدة أقصاها سنتين، إلا أن هذه القيادة ظلت دون فعالية، بسبب مخاوف عبد الناصر من فشل التجربة مع العراق كما فشلت مع سوريا، ولإدراكه أن القاعدة الشعبية لنظام عبد السلام عارف كانت صغيرة جداً، فالكثير من الطائفة التي ينتمي إليها وهي السنية لم يكن يدعمه، إضافة إلى الفئات المذهبية والطائفية الأخرى، فعلى سبيل المثال، لم تستمر الهدنة بين نظامه وبين البارتي، سوى لخمسة أيام، بالرغم من تدخل مصر لتحقيقها، وهذا ما أضعف من وضع الناصريين في العراق( ).
كما أنه في ظل نظام عبد السلام عارف، هرَّب الكثير من الرأسماليين العراقيين أموالهم إلى خارج البلاد، بسبب التأميم والإجراءات الاشتراكية التي اتبعها نظام عارف، وهذا مما هزَّ الاقتصاد العراقي، فازدادت البطالة، حتى وصلت إلى أكثر من عشرين ألف عاطل، وحدث التعارض بين الناصريين والمحافظين -الرافضين للتحولات الاشتراكية-، حيث قدم بعضهم استقالاتهم في الرابع من يوليو 1964، بسبب ميول عارف تجاه المحافظين، وهذا مما كان له أثر في تعيين عارف عبد الرازق ـ القريب لأحد قادة الحركيين وهو باسل الكبيسي – رئيسياً للوزراء في السادس من سبتمبر 1965، وتعيين السياسي المحافظ الدكتور عبد الرحمن البزاز، نائباً له، وبذلك حاول أن يوفق بين الناصريين والمحافظين، لكن إبعاد عارف عبد الرازق عن الحكومة بعد فشل محاولته الانقلابية، جعل عارف يكلف عبد الرحمن البزاز رئيساً للحكومة بدلاً منه، وهذا مما أثار الناصريين ضد نظم عارف رغم السمات القيادية للبزاز، فهو قد ترأس المنظمة المصدرة للنفط الأوبك، وشغل قبل ذلك منصب وزير النفط، إضافة لشغله أيضاً سفير العراق في لندن، وعميداً لكلية الحقوق في بغداد، ورئيساً لمعهد البحوث والدراسات العربية، وبذلك فقد اختلف عن العسكريين في تعدد سماته العلمية والقيادية ، وقد حاول أن يعيد الحكم إلى الديمقراطية النيابية، كونه مدنياً وليس عسكرياً، فقام برنامجه الوزاري على العمل على تحقيق وحدة العراق والحفاظ على سيادة القانون، واتباع سياسة عربية اشتراكية حكيمه، تستهدف مزيداً من الإنتاج والتوزيع العادل مع مراعاة مصالح القطاعيين الخاص والعام.
إضافة إلى الاستمرار في التعاون مع مصر مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة مع مصر( )، وحول رؤية عبد الرحمن البزاز للاشتراكية فقد أوضح ذلك في برنامج الحكومة بقوله :
"إن الاشتراكية التي تفيد العراق هي الاشتراكية التي تنبع من الطبيعة العربية للشعب العراقي، هي اشتراكية تطمح إلى رفع مستوى المعيشة الفردي، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية، .. نحن نؤمن بالاشتراكية كوسيلة، وليست كفاية، نحن لا نخشى التأميم، لقد أممت الدولة في الماضي، ولا أقول إننا ننوي أن نؤمم في المستقبل"( ).
وكان هذا الإجراء لاستقدام رؤوس الأموال العراقية، من خلال أصحابها، وتشجيع الاستثمار بدل تهريبها إلى خارج العراق، بسبب إجراءات التأميم التي جعلتهم يتخوفون من إقامة أي مشروع في العراق، إلا أن عدم استقرار عبد الرحمن البزاز رئيساً للحكومة، وتولي أحد العسكريين بدلاً عنه ، أعاد الأمور إلى سابق عهدها، فعادت مخاوف المستثمرين من إجراءات التأميم، ومن ديكتاتورية الحكم وفي ذلك يقول البزاز: "من الأحسن كثيراً للشعب أن يخطأ في ممارسة حقوقه الديمقراطية حتى يصل ولو بعد وقت ما إلى الطريق الصحيح، من أن يحتكر السلطة شخص واحد أو جماعة واحدة تدفع إلى مهاوي الخطر بإدعائهم النخبة القادرة وحدها على معرفة ما هو صالح الشعب"( ).
وبسبب ميول عارف للانفراد بالحكم، عمل على إبعاد الناصريين مرة أخرى عن المشاركة في الحكم، ورفض طلبهم بضرورة السيطرة الحكومية على التجارة الخارجية، كما أنهم بالمقابل رفضوا النظام الدستوري الذي دعا إليه على أساس أنه نظام فردي ديكتاتوري، يتحكم فيه هو( )، كما رفضوا سيطرته على الجيش بشكل كامل، إضافة إلى تدخله في أعمال وزارة الداخلية والإرشاد دون الرجوع إلى الوزيرين المختصين، إضافة لاتفاقاته مع الشركات الأجنبية( ).
فقد تدخل عبد السلام عارف في التاسع عشر من يونيو 1965 لدى الإذاعة، ليبين رأيه من انقلاب هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بيلا، حيث تم نشر ما يريده من قبل المذيع، دون أن يرجع إلى الوزير المختص، مما حذا بمدير الإذاعة والتليفزيون عبد اللطيف الكحالي أن يرفع رسالة إلى رئيس الحكومة جاء فيها :
" إن واجبات الإذاعة والتليفزيون خطيرة، وفي مقدمها بناء الإنسان وتعميق المفاهيم القومية والإنسانية، وتوعية المواطن وتربيته، لكني لمست أن بعض المسؤولين مازالوا يتصورون أن هذه الأجهزة وجدت للدعاية للحكام، والمسؤولين فأخذوا يضغطون على الموظفين والمذيعين، فأربكوا أمور هذه الأجهزة وأثروا على مناهجها فكرهها الشعب وغرب عنها، أرجو تفضلكم بإصدار الأمور للمعنيين والمسؤولين لتقدير هذه الناحية، وعدم الاتصال بأي من موظفي المديرية المذكورة ما عدا مديرها"( ).
فندد عبد السلام عارف بهذه المذكرة واعتبرها إهانة لشخصه، مما حذا بوزير الإرشاد عبد الكريم فرحان، إلى تقديم استقالته، وتضامن معه بعض الوزراء الناصريين ، ومنهم وزير الداخلية صبحي عبد الحميد، الذي استقال من منصبه، وأرسل رسالة إلى رئيس الحكومة الفريق طاهر يحيي يبين فيها سبب استقالته، حيث قال فيها:
" لقد تردت أوضاع البلد في الفترة الأخيرة بشكل أصبح حتى أقرب الناس للحكم وهم القوميون على اختلاف فئاتهم وأشخاصهم يتذمرون ؛ منتقدين تصرفات السلطة، وضعف الحكم، ورغم تحذيرنا ونصحنا، لم نجد أي استجابة لإصلاح الوضع بل استمر التدهور، وأخذ الحكم يجنح نحو الفردية، متبعاً سياسة - فرق تسد ـ هذه السياسة التي أدت إلى تعميق الروح الطائفية، وتفتيت الوحدة بخلق الإقليمية، وبعثرة الصف القومي، ولقد استهين أخيراً بالوزراء، واعتبروا مجرد آلات تنفيذية، وبلغ الحد إلى توجيه الإهانات إلى وزير ثائر ومكافح معروف بشكل لم يسبق له مثيل في أي عهد من العهود التي مرت على العراق، لقد فكرت ملياً في الأمر فوجدت أن البلد يحترق، وأن الشعب يحملنا هذا الحريق، ولما كنا لا نستطيع إخماد الحريق فقد قررت تقديم هذه الاستقالة مستنداً إلى الأسباب التالية:
(1) فقدان الثقة والانسجام بين الثوار.
(2) انعدام الحكم الجماعي والاتجاه نحو الحكم الفردي.
(3) تفتيت الوحدة الوطنية.
(4) الاعتماد على العناصر الانتهازية الساذجة والمطبلة.
(5) التدخل في شؤون الوزارات وفرض الموظفين على الوزراء دون اعتبار رأيهم الخاص.
(6) تشجيع التكتلات في صفوف القوات المسلحة وإثارة الحقد في نفوس الضباط بعضهم ضد بعض.
(7) عدم الالتزام ببرنامج العمل المتفق عليه في القاهرة في اجتماعات القيادة السياسية الأخيرة وذلك :
- لم يلزم بمبدأ القيادة الجماعية.
- لم يقبل بحث موضوع إنهاء التكتلات في الجيش.
- لم تسد الثقة والانسجام بين الثوار.
(8) أصبح في اعتقادي أن الطريق إلى الوحدة بعيد المنال، وذلك لأن شروط إقامتها التي تستند على وحدة الجيش ووحدة الصف القومي لم ولن تتحقق لذلك أصبح مبرر وجودنا كوزراء وحدويين غير وارد"( ).
يتبين من هذه الرسالة، عدم التوافق بين الشعب والنظام ؛ بسبب ممارسات النظام الفردية، واعتماده على بعض الأفراد الغير أكفاء في قيادة البلاد، وإثارة الشقاق بين صفوف المجتمع العراقي، وخاصة بين العسكريين، وابتعاد الحكومة عن البرامج التي وعدتها بالوحدة العربية، وبالفعل فقد أعلن جميع الوزراء الناصريون في يوليو 1965 استقالتهم، وهذا السر في تعيين العقيد عارف عبد الرازق رئيساً للحكومة، حتى لا يفقد عبد السلام عارف، أهم العناصر القيادية في الدولة وهم الناصريون، كون عارف عبد الرازق كان ناصرياً، ورغم ذلك، فقد عمل عبد السلام عارف، على ضرب الناصريين ببعضهم البعض، وهذا من أسباب قيام عارف عبدالرزاق بانقلابه الفاشل، في 15/9/1965 ، حيث حدث ذلك عندما كان عبد السلام عارف يحضر مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء، لذلك شكل الحكومة بعد ذلك عبد الرحمن البزاز( ).
أيضاً يؤكد أحد السياسيين وهو محمد رضا الشبيبي أسباب ابتعاد الشعب عن النظام والفجوة بينه وبين الشعب بقوله:
" إننا نرى في القانون رقم 80 سنة 1963 مكسباً وطنياً يلزم الحفاظ عليه، لذلك نهيب بالسلطة أن تعرض نتيجة المفاوضات قبل الالتزام بها على ممثلي الشعب حين تعود الحياة الدستورية إلى البلاد ليقول الشعب كلمته فيها، كان الهدف الأساسي من تكوين الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق، أن يضم منتسبي النقابات، ومختلف الفئات العاملة، غير أن هذه المنظمة لم يحالفها التوفيق على الرغم من إسناد السلطة لها مادياً ومعنوياً، ذلك لأن الأهواء تنازعتها منذ البداية، يضاف إلى ذلك أنها قامت على مبدأ احتكار العمل السياسي وفكرة الحزب الواحد، ولا نقر ذلك منهجاً للحكم في البلاد، ولهذا نطالب بأن تبادر الحكومة إلى تعديل القانون الذي قامت بموجبه هذه المنظمة لتتمكن الفئات الوطنية التي تستمد آراءها من صميم هذا البلد من ممارسة نشاطها السياسي"( ).
يتبين من هذه المذكرة أن الحكم الذي ادعى أنه يسعى للديمقراطية من خلال إقامة الاتحاد الاشتراكي العربي على أساس أن يضم جميع فئات المجتمع، لم يحقق المرجو منه، وقد استغله النظام، لإقامة حكم فردي، معتمد على نظام يشبه نظام الحزب الواحد المرفوض لدى الشعب العراقي، رغم أن عبد السلام عارف اعتمد فيه على الناصرين، الذين لم يشكلوا كتلة سياسية متماسكة، فكانت أفكارهم مختلفة حول القومية العربية والاشتراكية، والعالم الثالث، كما أن الكثير منهم ذو طموحات سياسية وشخصية أكثر من انتماءاتهم الأيديولوجية( ).
كما أنه في ظل هذا الحكم ، ضعفت الإجراءات على الشيوعيين، لإعطاء حكمه نوعاً من الانفتاح على بعض فئات الشعب، إلا أن الشيوعيون استغلوا هذه الحالة، وتسلل قسماً منهم عبر المناطق الكردية، وبدؤوا بتوزيع المنشورات التي تصف الحكم بالرجعي العسكرية، ثم عملوا على تشكيل منظمات شيوعية، وأسسوا إذاعة سميت "إذاعة صوت الشعب العراقي"، ثم شكلوا "اللجنة العليا لحركة الخارج للدفاع عن الشعب العراقي" ، تلك اللجنة التي كانت توجهها "لجنة تنظيم الخارج" التابعة للحزب الشيوعي، ثم دعوا إلى ضرورة تشكيل "جبهة اتحاد وطني"، وإنهاء الأحكام العرفية، وإطلاق سراح السجناء، وإعادة الموظفين والعمال إلى عملهم، ودعم الاستقلال الذاتي للأكراد، وتقوية الروابط مع الجمهورية العربية المتحدة، وتشكيل حكومة وطنية دستورية ديمقراطية( )، كما أخذوا ينتقدون بعض الفئات الحاكمة مثل حركة القوميين العرب، حيث تقول إحدى الصحف الشيوعية العراقية وهي "صحيفة العمل والعمال" البغدادية في عددها في 7/10/1965 : "إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بحركة القوميون العرب، ومن لف لفهم لن يستطيعوا إخفاء علاقتهم بالدوائر الاستعمارية، والمخابرات الأجنبية فإلى اليقظة والحذر يا جماهير الوحدة والاشتراكية المناضلة، والخزي والعار لحركة القوميين العرب عملاء الدوائر الاستعمارية الأجنبية"( ).
ولم يقتصر دورهم إلى هذا الحد بل طرحوا في 9 أكتوبر 1965 مسالة إسقاط حكومة عارف ، واستلام السلطة في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب ، وقُدم خلال الاجتماع مشروعان حول الموضوع( ) :
1-المشروع الأول ، قُدم من قبل عامر عبد الله ، الذي رأى أن سلطة عارف قد أصبحت معزولة بعد أن خرج منها الناصريون . كما أن عودة الحرب إلى المنطقة الكردية ، وزج ثلثي الجيش العراقي فيها من جهة ، واشتداد الخلافات بين عبد الناصر وعارف من جهة أخرى ، جعلت الظروف في صالح الحزب لتوجيه الضربة القاضية للنظام وإسقاطه واستلام السلطة .
2-أما المشروع الثاني ، فقد طرحه بهاء الدين نوري الذي شكك في استطاعة الحزب لوحده القيام بالتغيير ، وتخوف من تشكيل جبهة واسعة ضد الحزب ،ورأى أن مؤيدي الحزب غير مستعدين لمثل هذا العمل كما أن الأوضاع الدولية والعربية لا تساعد على ذلك ، رغم اعترافه بإمكانية نجاح التغيير ، لكنه رأى أن يسبق ذلك تعاون القوى السياسية المعارضة لحكم عارف ،وقد أيده في موقفه بعض أركان الحزب ، وفي نهاية المناقشات خرج الحزب بستة قرارات ،كان أهمها القرار المتعلق بمسألة قلب سلطة عبد السلام عارف .
وقد جرى الاتفاق في ذلك الاجتماع على الإعداد للانقلاب ، على أن يبذل كل جهد ممكن لقيام تعاون مع القوى الوطنية الأخرى ،كالحزب الديمقراطي الكردستاني ، والضباط القاسمون والعناصر القومية ذات التوجه الاشتراكي" الناصريون "،وأن لا يقوم الحزب بمفرده إلا في حالة عدم حصول التعاون المنشود على أن يكون المكتب السياسي مقتنعاً بان الظروف ملائمة والنجاح مؤكد ، وفي ختام الاجتماع تقرر إرسال رسالة من قيادة الخارج إلى اللجنة المركزية للحزب في العراق جواباً على رسالة الحزب ، وكانت وجهة نظر القيادة في الخارج ، تمثل تياراً وسطاً بين جناحي اللجنة المركزية ، ولكنها حذرت اللجنة المركزية من مغبة الإقدام على أي خطوة متسرعة مغامرة ، دون نضوج الشروط الموضوعية اللازمة للتغيير الثوري .
ورفضت لجنة تنظيم الخارج الرأي القائل بإلغاء فكرة العمل المستقل للحزب ورأت أن على الحزب أن يحاول تحقيق التعاون الوطني كهدف ثابت له في جميع الأحوال والظروف ، حتى ولو بدت تلك المحاولات صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة وما يعتريها من صعوبات ، كما رأت أن آفاق التعاون ستكون أوسع نطاقاً كلما زاد نفوذ الحزب بين صفوف الجماهير ، ورأت أيضاً أن على الحزب أن يلجأ إلى خطة مستقلة ، إذا كانت مؤيدو الحزب على استعداد كامل للإطاحة بالسلطة ، لكن إذا تلكأت القوى الوطنية في استيعابها لهذه الإمكانية ، أو رفضتها ، فعلى الحزب في هذه الحالة أن يسعى لتعبئة قوى واسعة من المؤيدين له ،كما أيدت لجنة تنظيم الخارج مسألة الإعداد لانتفاضة ضد النظام من خلال مؤيديه ، مع عدم الاستهانة بقوة النظام وأساليبه القمعية تجاه الحركات الشعبية ، وأيدت فكرة الاعتماد على الجهد الفعال لتنظيم الحزب ، داخل صفوف القوات المسلحة،في لحظة تطور الحركة الجماهيرية ووصولها إلى حالة الثورة ،أي استخدام عناصر الجيش الحزبية في الوقت المناسب تماماً لدعم الحركة الانقلابية ،وإسنادها نحو تحقيق أهدافها( ) .
كما رأت أن على الحزب أن يأخذ في الحسبان ،احتمال تطور الأوضاع إلى قيام حرب أهلية ، بسبب تواجد القوى الرجعية على الساحة من جهة ، وكون الحزب الشيوعي يمثل الاتجاهات اليسارية التقدمية ، ورأت أن الواجب في هذه الحالة يقتضي الإعداد الجيد للحرب الأهلية ، ووضع الثورة الكردية بعين الاعتبار كعنصر مساعد ، وحذرت لجنة تنظيم الخارج من التسرع بشكل مصطنع ، أو محاولة القفز فوق المراحل الضرورية للتطور والنضج الطبيعي للحزب ، والانتباه الدقيق لمحاولات النظام توريط الحزب للإقدام على خطوة متسرعة ، لكي يوجه له الضربة ، وفي الختام حددت الرسالة الأهداف الآنية للحزب ذات الأهمية الضرورية وهي( ):
1 ـ السعي لتقوية مواقع الحزب داخل الجيش ، دون محاولة إحداث أي ضجة ، والعمل على حماية التنظيم العسكري ، وتطوير إمكانياته جنباً إلى جنب مع تطوير إمكانيات الجماهير الشعبية
2 ـ بذل الجهود المتواصلة من أجل التعاون الوطني ، والسعي لتشكيل التحالفات مع القوى الوطنية التي لها الاستعداد للتعاون من أجل الإطاحة بالنظام .
3 ـ تثقيف جماهير الحزب ورفاقه ، بشكل هادئ وتدريجي ، دون إحداث ضجة حول طرق نضال الحزب في المرحلة الراهنة ، وتنشيط الحركة الجماهيرية ومنظماتها كافة ،وتوحيد جهودها ، وحثها على التحرك الجماهيري ، كالإضرابات والاحتجاجات على الحرب في كردستان ، ودفع الفلاحين إلى مقاومة النظام ، والعصيان .
4 ـ التغلب على حالة القصور البارزة في الحزب ، وأهمية إصدار صحيفة الحزب على فترات غير بعيدة ومنتظمة ، والاهتمام بالكادر ، وأهمية إجراءات الحماية لقيادة الحزب وكوادره ، من أجل حماية أسرار الحزب الهامة .
وفي نهاية المطاف وجهت قيادة الخارج انتقاداً إلى الإجراءات التي اتخذتها لجنة الحزب المركزية في الداخل ، حول الانتخابات ، وإخراج بعض الأعضاء من عضوية اللجنة المركزية ، وإدخال أعضاء جدد في اللجنة ، بالإضافة إلى بقاء كافة الأعضاء السابقين ، سواء الموجود منهم في الداخل أو الخارج .
أيضاً عمل البعث في ظل حكم عبد السلام عارف، على معارضة الحكم، فبدأ بإنشاء قيادة قطرية جديدة في الثالث عشر من فبراير 1964، ضمت كل من: "أحمد حسن البكر، وطاهر يحيي-الذي كان مندساً فيهم لصالح عبدالسلام عارف-، ورشيد مصلح، وصدام حسين، وعلي غريم، وفؤاد شاكر مصطفى، وعبد الكريم الشيخلي" وتم إبعاد علي صالح السعدي وحازم جواد وطالب الشبيب عن القيادة القطرية في الفترة ما بين 5 ـ23 تشرين الأول ، وذلك بعد عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث ، في دمشق ، حيث كان قد جرى تعاون بين السعدي والأمين القطري في سوريا حمود الشوفي ،بعد أن ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين ، والسوريين ، وسيطرا على المؤتمر ، وقراراته ، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب ـ ميشيل عفلق ـ ، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي ، وحول المزارع التعاونية للفلاحين ( )، ثم قام البعث بمحاولة انقلابية ضد عبد السلام عارف في سبتمبر 1964، لكن فشلها أدى إلى سجن القائمين بها ومن ضمنهم صدام حسين المجيد التكريتي وإجبار أحمد حسن البكر على عدم التدخل في السياسة، والإقامة الجبرية عليه، مما أدى لنشوء قيادة أقوى، وعناصر سرية تعمل بشكل أكثر فعالية( ).
لهذه الأسباب جميعها لم يكن نظام عبد السلام عارف منسجماً مع الشعب، حتى أنه بعد مقتله بحادثه الطائرة في الثالث عشر من أبريل عام 1966، قد لقي كثيراً من التشفي من قبل معارضيه، وحول مقتله يقول فيصل حسونة: " ليس الحديث عن مصرع عبد السلام محاولة للكشف عن معالم جريمة غامضة كان ثمنها حياة بضعة رجال، وإنما هو مدخل إلى أحد الخيوط التي نسجت منها مؤامرة تعرضت فيها أمه بأكملها لمأساة رهيبة"( ).
وقد تولى الحكم أخوه الفريق عبد الرحمن عارف، وذلك بعد مقتله كونه مرشحاً وسطاً بين ضباط الجيش الذين اتفقوا على توليته الحكم، بعد اختلاف بينهم دام عدة أيام، وبسبب ذلك برز التيار الإسلامي الشيعي بشكل أكثر فعاليةً ليملأ الفراغ، وليكون بديلاً للأحزاب السرية العلمانية " الشيوعي والبعث"، وعلى هذا الأساس أصبح محسن الحكيم وحزبه "حزب الدعوة" الممثل الأول للشيعة في العراق، وجذب إليه الكثير من الأوساط الشعبية والطلبة( ).
وقد قام الشيوعيون ـ وأكثرهم من الشيعة ـ في ظل حكم عبد الرحمن عارف بتنظيم حركة مقاومة مسلحة ضده، معتبرين حكمه هو استمرار لحكم أخيه على أساس أنه بنظرهم نظاماً رجعياً عسكرياً، بالرغم مما قام به من إجراءات اشتراكية من تأمينات وإصلاح زراعي، حتى أن هذا الحزب رأى ضرورة إسقاط هذا النظام من خلال الحزب الشيوعي، وتسخير الجيش لتحقيق ذلك، وعلى هذا الأساس اقترح أعضاء الحزب مايلي( ):
1- الارتباط مع الأكراد الذين يقاومون الحكم العارفي.
2- تسليح أنصار الحزب الشيوعي، وتقوية تنظيم الحزب الشيوعي داخل الجيش.
لكن بالرغم من أن عدد أنصار الحزب الشيوعي بلغ الخمسة ألاف عضو فعال، إلا أنه لم يكن له تأثير على وحدات الجيش الهامة، بعكس أعضاء حزب البعث الذين لم يتجاوزوا الأربعة مائة عضو، إلا أن تأثيره على الجيش والحكومة كان أكبر بكثير ؛ بسبب انتساب الكثير من أفراده إلى الجيش( ).
كما أدت هزيمة العرب في يونيو 1967 إلى انقسام الحزب الشيوعي، بسبب أن السكرتير العام للحزب الشيوعي "عزيز محمد" كان يود إسقاط النظام، بينما تيار القيادة المركزية للحزب بقيادة عزيز حاج حيدر كان يرى ضرورة تسليح الشعب وقيادة الكفاح الشعبي، ومن ثم إقامة حكم شيوعي من خلال سيطرة طبقة العمال على السلطة، بالرغم من عدم شعبية هذا الحزب، من منطق أن الشيعة كان لهم شعور ديني تجاه المرجعية الشيعية، إضافة للسنة سواءاً كانوا عرباً أم أكراداً، حيث كان هناك توافق سني شيعي غير حكومي بين فرعي الإخوان المسلمين وحزب الدعوة في العراق، تجاه عدداً من القضايا، فقد أكد أحد قادة حزب الإخوان المسلمين، وهو الشيخ محمد محمود الشواف، أن العلماء الشيعة كانوا يكتبون مقالات تنشر في مجلة (الأخوة الإسلامية) التي كان يصدرها الإخوان المسلمين( ).
كما أنه في ظل حكم عبد الرحمن عارف قام الحزب الشيوعي ـ جناح عزيز الحاج(اللجنة المركزية) ـ بحركة عصيان مسلح، حيث احتلوا فيها عدداً من المخافر ومراكز الشرطة في جنوب العراق، وقامت السلطات المحلية باعتقالات واسعة ضدهم، وكان من أهم أسباب ذلك هو سياسة الانفتاح على فرنسا التي قام بها النظام، في مجال التعامل مع الخارج، كما قام الحزب الشيوعي بمداهمة دائرة حكومية في السليمانية، واستولى على أموالها لتحويل نشاط حركته داخل الأهوار في الجنوب، إضافة لقيامه بعمليات اغتيال في صفوف قوات الأمن العراقي، كما أنه قام بمحاولات لاغتيال قيادات من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث في العراق، على أساس الانتقام منهم ؛ بسبب ما لحقه من أذى في ظل حكم البعث عام 1963، إلا أن السلطات العراقية استطاعت السيطرة على الحركة الشيوعية المسلحة واعتقال الكثير من أفرادها،وقتل قائدها وهو خالد أحمد زكي( ).
كما قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي تشكيل وحدات عسكرية مسلحة صغيرة وثابتة في مختلف مناطق العراق، تقوم بتصفية أكثر قادة الشرطة قسوة، ثم تشكلت في سبتمبر 1967 منظمة شيوعية مستقلة اتخذت اسم الحزب الشيوعي (القيادة المركزية) ، حيث تبنت خطأ معادياً لنظام الحكم، ودعت إلى تسليح الجماهير والعنف الثوري المنظم، والنضال الشعبي المسلح في المدن والريف بهدف إقامة حكم شيوعي( ).
أما البعث فقد عاش سلسلة مراجعات في علاقات أفراده وحياتهم الداخلية وفشله في قيادة السلطة والجبهة القومية، وأسلوب معالجته للأحداث الطارئة والمخطط لها، وقد وجهت المؤتمرات القطرية والقومية نقدها له خلال هذه الفترة، مؤكدة على أنه كان من الواجب التعبير عن الحزب بالممارسة العملية وليس من خلال التنظير قبل الفعل، وعلى هذا الأساس عمل على التخطيط لتسلم السلطة مرة أخرى، منطلقاً من ضرورة التعامل مع الحركات والأحزاب السياسية الأخرى الموجودة على الساحة، ففتح الحوارات قبل حركة 17يوليو 1968 مع الشيوعيين ومع الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الجادرجي، ومع الحزب الديمقراطي التقدمي الكردستاني، بقيادة جلال الطلباني، وفتح حواراً آخر مع الحزب الوطني الديمقراطي (البارتي) بقيادة الملا مصطفى البرزاني، ومع الفئات القومية الأخرى من أجل مشاركتهم في إقامة حكم جديد يقوم على الائتلاف، لكن هذه الأطراف لم تتعاون معه، بسبب عدم إدراكها لأهمية تلك المرحلة، أو لأنها لم تكن تمتلك إمكانيات المساهمة المباشرة لتغيير الوضع ؛ بسبب ضعف قواعدها الشعبية، وتخوفها من فشل الانقلاب المزمع قيامه، وما سيترتب عليه من نتائج، لذلك اضطر البعث للقيام بالانقلاب لوحده من خلال الاتفاق مع بعض العسكريين، ثم عمل بعد ذلك على إبعادهم بسبب ارتباطهم الخارجية مثل عبد الرزاق النايف( )، الذي كان له اتصالات خارجية مع بعض الدول الغربية، إضافة لأنه كان قد حاول الاتصال ببعض البعثيين من خارج القيادة القطرية، مثل عبد الستار عبد اللطيف، ومن جماعة " الوحدويون الاشتراكيون الديمقراطيون" برئاسة فؤاد الركابي، الذي انفصل عن البعث مشكلاً هذا التنظيم، حيث وعده بأن يجعله رئيساً للوزراء، إلا أن الركابي رفض هذا العرض( ).
كما عمل أحمد حسن البكر، قبل انقلابه، بدعوة السياسيين المؤثرين، والضباط النافذين، للاجتماع في بيته في الأول من أبريل عام 1968 للاتفاق معهم على اتفاق مشروع للتوفيق بين جميع الأطراف السياسية بما يحقق الوحدة الوطنية، وقد اتفق الجميع على مايلي:( )
1- تشكيل حكومة انتقالية.
2- ضرورة وجود فترة انتقالية معينة مدتها عامان.
3- قيام الحكومة الانتقالية بإجراء انتخابات برلمانية، لكن اشترط البكر ضرورة حل الأزمات الداخلية قبل ذلك.
4- حل مشكلة الشمال من خلال التقاء الحكومة مع الشعب الكردي نفسه وليس مع زعمات تقليدية تدعي تمثيله.
5- تشكيل مجلس وطني يتألف من (30-50) عضو من العناصر الوطنية والثورية.
6- ضرورة إقامة جيش عربي موحد لحماية الحدود العربية المحيطة بفلسطين من أجل تحقيق الأمن القومي العربي والعراقي.
7- ضرورة الاهتمام بالجيش وزيادة كفاءته وقوته وتسليمه.
إلا أن عبد الرحمن عارف رفض تحقيق هذا الاتفاق، متذرعاً بأن الوقت غير مناسب لتحقيق ذلك، وبالرغم من محاولة حكومة طاهر يحيي في بداية عام 1968، إقامة جمعية تأسيسية تقوم بدور مجلس النواب، وتمارس الإشراف التشريعي على الحكومة، إلا أنها لم تستطع تحديد القوى السياسية التي تمثل جميع فئات الشعب العراقي ؛ فالأكراد مثلاً قوة منقسمة على نفسها ، كما أن جماعة الملا مصطفى البرزاني تعارض وجود الطالباني، وجماعة الطالباني ترفض الاجتماع بالبرزانيين وهناك فئة ثالثة ترفض الاجتماع بالطرفين، وحزب البعث منقسم على نفسه فبعض الأعضاء موالين للقيادة القطرية في سوريا والتي انقلبت على القيادة القومية في 23 فبراير 1966، وآخرون ـ جماعة البكر ـ موالين للقيادة القومية، والحزب الشيوعي منقسم عل نفسه بين مؤيدين للنظرية السوفياتية أو للنظرية الصينية، أما الفئات القومية واليسارية فتعمل لأهداف معينة، ومنها من يتبع أشخاصاً وكل هؤلاء من الصعب الموافقة بينهم( ).
في ظل هذه الظروف تراجعت حملة النظام العارفي ضد البعث؛ بسبب أن النظام أصبح منهمك القوى، وعاجز عن السيطرة على القوات المسلحة والنفاذ إلى داخلها، فعمل البعث على استقطاب عدداً من الضباط في الحزب، كما كان قد تم تعيين "صدام حسين" في خريف 1966 نائباً للأمن العام للقيادة القطرية للحزب ، وذلك عقب هروبه من السجن ، وتمكن استناداً من موقعه من تشكيل ميليشيا الحزب المسلحة، التي أعطت الانطباع بسيطرة البعث على الشارع، ثم عمل بعد هزيمة يونيو 1967، على توسيع منظمة الحزب، وبرز البعث بقوة أمام الشيوعيون، وأخذ بمعاداة النظام والحكومة، مبيناً عجزها في شأن الصراع العربي الإسرائيلي واتهامها بالفساد، وبدأ بوضع خطة لإقامة نظام بعثي من جديد، وعلى هذا الأساس كان تحالفه مع كبار الضباط المقربين من الحكم، وهم نائب قائد المخابرات العسكرية العقيد عبد الرازق النايف، وقائد الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن الداود، وقائد كتيبة دبابات القصر، المقدم سعدون غيدان، حيث أن هؤلاء لم يكونوا يستطيعوا القيام بالانقلاب لوحدهم، وذلك لعدم وجود أتباع لهم في القوات المسلحة، بحيث تكون قادرة على إمدادهم بتأييد كاف يضمن لهم ولاء بقية عناصر القوات المسلحة بعد تنفيذ الانقلاب، وعلى هذا الأساس قبلوا التحالف مع البعث( )، كما كان هؤلاء العسكريون، يخططون لإسقاط النظام منذ أكثر من سنة على انقلابهم، بسبب طموحاتهم الشخصية رغم أنهم كانوا المتحكمين عملياً بالنظام، ويستطيعون إسقاط أو تعيين أي حكومة يريدونها( ).
وبالنسبة للناصريين فقد حاولوا مرة أخرى -في ظل حكم عبد الرحمن عارف- السيطرة على الحكم من خلال العقيد عارف عبد الرازق بعد مجيئه من مصر 1967 ، مما هز الثقة بين النظامين العراقي والمصري، بسبب علاقة مصر بهذا الانقلاب، حيث أن فشل هذا الانقلاب، ترك فجوة بين النظام المصري وبين النظام العراقي، وهذا ما عزز من ضعف النظام، وسمح للمعارضين للنظام تنظيم صفوفهم من أجل إسقاطه ، خاصة بعدما حدث من تخلخل ما بين حكومة ناجي طالب، والحركة الكردية، بعد رفضها لسياسة عبد الرحمن البزاز، واتفاقيته معهم، حيث أتهم البرزاني بخرق الاتفاقية التي وقعت مع البزاز، كما اتهم البرزاني الحكومة بعد تقيدها بوعودها تجاه الأكراد ، وتحالفها مع بعض العشائر الكردية ضدهم، وتعزيزها للقوات الكردية الموالية للحكومية وهم "فرسان صلاح الدين"، إضافة لما ظهر من تعدد في اتجاهات أعضاء الحكومة، والنظام، وظهور الخلافات الكثيرة وزيادة قوة المعارضة للنظام بعد تخلي الناصريون عن النظام السياسي، مما أدى لسقوط الحكومة في 26 مايو 1967، فاضطر عبد الرحمن عارف لتشكيل حكومة برئاسته ، لكن رغم ذلك لم تستطع هذه الحكومة تقوية حالتها أمام المعارضة التي قدمت عدة مطالب حيوية هي( ):
1- تعيين مجلس وطني مؤقت لحين إجراء انتخاب مجلس الأمة.
2- تأليف وزارة ائتلافية تتولى تسوية المشاكل العالقة مع الأكراد.
3- اتخاذ وسائل أكثر فعالية تجاه المخاطر الصهيونية.
4- تقوية العلاقات مع الأقطار العربية المواجهة لإسرائيل.
5- المسارعة لإجراء انتخابات عامة خلال مدة لا تتجاوز السنتين.
6- اتخاذ الخطوات الجادة لتحقيق الوحدة العربية.
7- وضع إجراءات فعالة لمعالجة القضايا والمشاكل المالية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار والأمن وتساوي الفرص أمام المواطنين.
لكن لم تستطيع الحكومة تحقيق ذلك أو وعد المعارضة بتحقيق هذه المطالب، فكلف الرئيس عبد الرحمن عارف، الفريق طاهر يحيي لتشكيل حكومة، وحدة وطنية، فحاول أن يجعل حكومته تضم ثلاثة عناصر قومية اشتراكية، وهي حركة القوميين العرب، والناصريون، وتجمع الاشتراكيون العرب، إضافة للأكراد حيث مثلهم مصلح النقشبندي بيد أنه غير منتسب للبارتي، مما حذا بالملا مصطفى البرزاني، إلى انتقاد الحكومة مقدماً بعض النصائح لها لأجل تحقيق الوحدة الوطنية حيث قال في ذلك( ):
" إن عدم وجود برلمان منتخب من قبل الشعب يلزمنا إيجاد جو من التعاون بين مختلف قطاعات الشعب واتجاهاته، وطوائفه وبين السلطة ؛ للخروج بالبلاد من الوضع القائم وتشريع قانون انتخاب ديمقراطي يضمن للعراقي حق الترشيح والانتخاب، وإن قيود تحمل في طياتها مبدأ العزل السياسي ، أو استمرار حصر التنظيم والعمل السياسي بين فئة واتجاه واحد في البلاد ... ولهذه الاعتمادات لم نساهم في الحكومة لاعتقادنا أنها غير قادرة على إنجاز هذه المهام التي يتوقف عليها حل أزمة الحكم، وهذا يعني أننا سنقف من الحكومة الجديدة موقف العداء ...أن تصفية الأوضاع الاستثنائية لا يمكن أن تتم بدون الإيمان بالديمقراطية، وانتهاجها كنظام للحكم، وبقدرة هذا الشعب على تمحيص مصالحه وتقديرها، والتمتع بكامل حقوقه في التنظيم السياسي والمهني والنقابي، وتمتعه بحق التعبير عن رأيه من صحافة حرة وطنية لا رقيب عليها إلا ضمائر المشرفين على إصدارها ... وطبيعي أن تصفية الأوضاع الاستثنائية تتطلب أولاً إطلاق سراح كافة السجناء والمعتقلين السياسيين، والاعتراف للقوى القومية العربية والكردية الديمقراطية بحقها في تنظيم صفوفها وتوجيه نظرها في القضية التي تهم مجموع الشعب والركون إلى العدل في كافة العلاقات بين السلطة والفئات السياسية وبينها وبين الأفراد"( ).
ورغم محاولة تصفية الأوضاع الاستثنائية، وتخفيف الضغط عليها من خلال إصدارها لقانون السلامة الوطنية القاضي بإلغاء جميع قرارات الأبعاد والحجز الصادرة عن الحاكم العسكري ؛ بسبب حوادث الشمال، وإلغاء أحكام الإعدام بحق ضباط العهد الملكي الذي صدر بحقهم حكم الإعدام في عهد قاسم -ولم يعدموا- ومنهم قائد الأركان اللواء محمد وفيق عارف، ونائبه اللواء غازي الداغتساني ووزير الخارجية برهان الدين باشي، واللواء عمر علي، إضافة للضباط والقادة البعثيين مثل منذر الونداوي، الذي كان لاجئاً في سوريا، وحردان التكريتي، وعلي صالح السعدي، وهاني الفكيكي، وحميد خلخال، وعمار علوش، حيث كانت قد صدرت بحقهم أحكام غيابية ( ).
كما ساد حكومة طاهر يحيي انقساماً واضحاً وتبلور داخلها تياران هما:
1- التيار المحافظ: الحريص على البقاء وإرضاء رئيس الجمهورية ناتج على أي قرار أو إجراء إصلاحي.
2- التيار الثوري، المتحمس للإصلاح بهدف استغلال ثروات العراق من نفط وكبريت لمصلحة العراق، وتخفيف الأعباء المالية عن المواطنين العراقيين.
إلا أن ميل رئيس الحكومة لإرضاء كبار الضباط من التيار المحافظ، جعل الشارع العراقي يمتلأ بالشائعات، واتهام الحكومة بالفساد والرشوة، من خلال بعض الضباط مثل العقيد عبد الرزاق النايف الذي شكل حركة الثوريين العرب، وإبراهيم الداود، وعملا هؤلاء على الاتصال ببعض السياسيين، للتحدث إليهم بشأن الوضع القائم، وكان من بين الحاضرين أحمد حسن البكر الذي نقد سياسة الحكومة، وسياسة الرئيس عارف، مما حذا بالحكومة إلى أن تسرع في تقديم استقالتها، فتخوف النايف والداود، من تشكيل حكومة جديدة برئاسة طاهر يحيى حيث كان سينتقم منهما لما أصابه من أذى بسببهما، إضافة لتخوفهما أن تأتي حكومة جديدة تفسد عليهما خططهما ، وتخوفهما من العفو الذي صدر بحق عارف عبد الرزاق ومؤيديه ، حيث كان من الممكن أن ينقموا منهما كونهما ممن أفشل الانقلاب الناصري( ).
وقد تهجم الرئيس عبد الرحمن عارف على الأحزاب السياسية العراقية وقال عنها في التاسع من يناير 1968:
" أنها تساعد المخططات الإسرائيلية بلغهما الوحدة الوطنية عن طريق الاتهامات الخاطئة والإشاعات الكاذبة ... يتهمنا بعض زعماء الأحزاب السياسية بأننا أحياناً نميل إلى فرنسا وأحياناً نميل إلى الولايات المتحدة، أو إلى الاتحاد السوفياتي، هذه كلها أكاذيب رخيصة، إن الاتفاق الذي عقدناه مع إيراب يعتبر مرحلة مهمة من مراحل استغلال مواردنا الطبيعية، وهذا الاتفاق هو نقطة انطلاق وستتبعه اتفاقات أخرى مفيدة مثله مع دول صديقة، لكن الأحزاب السياسية السابقة تحاول أن تزرع التجزئة بيننا للقضاء على وحدتنا الوطنية مسهلة بذلك مناورات إسرائيل"( ).
في ظل هذه الأوضاع استغلت المعارضة الضعف العسكري للقوات المسلحة في المنطقة الشمالية، إضافة لتخوف التيارات الإسلامية من الخطر الشيوعي الذي بدأ يظهر في الجنوب، فاندلعت المظاهرات في بغداد وبقية المدن العراقية، واستغل حزب البعث الفرصة لإحياء شعبيته وانضم إلى المظاهرات، وأظهر نفسه وتأييده لها، وآثار الطلاب ضد نظام الحكم( )، ثم كان من سعي أحمد حسن البكر للاتصال مع كبار الضباط في القصر والذين كان لهم اتصالات مع المعارضة بالمخارج من خلال السفير العراقي في بيروت ناصر الحاني، الذي كان يطمح للعودة سفيراً في الولايات المتحدة، بعد أن قطع العراق علاقاته مع الولايات المتحدة عقب حرب يونيو 1967، منسِّقاً مع قائد الحرس الجمهوري السابق الذي أبعده عبد الرحمن عارف ملحقاً عسكرياً في بيروت، وهو بشير طالب، حيث نظما كلاهما المعارضة في الخارج، ضد النظام المفتقر إلى التنظيم الحزبي والشعبي( ).
مما سبق يتضح أنه لم يكن هناك تفاعل سياسي بين النظام السياسي والشعب العراقي، فلا توافق مع الأحزاب السياسية، ولا توافق مع الأكراد، ولا توافق بين أعضاء الحكومة بتياراتها المختلفة، وعدم وجود نظام ديمقراطي شعبي يمثل الشعب، من خلال برلمان، ووجود الكثير من الانتهازيين في صفوف نظام الحكم، مما أتاح المجال لتقوية المعارضة السياسية ضد النظام فنشاطات الأحزاب السياسية، واستعانة بعضها ببعض الضباط لإسقاط النظام.
وعلى الجانب الاجتماعي فلم يكن التفاعل بين الشعب والنظام بأحسن حال من الجانب السياسي، فرغم أن بعض المسؤولون مثل عبد الرحمن البزاز، كان يصف أكثر الفئات الاجتماعية كبراً في العراق وهي فئة الشيعة، بأنهم الشيعة العرب، إشارة منه إلى الأخوة التي تربطهم مع إخوانهم السنة العرب، وكثيرة مديحه لهم، حتى أنه قد اشترك في حكومته الأولى عام 1965 إحدى عشر وزيراً شيعياً، وهذا يعني أنه كان بعيداً عن الطائفية، إلا أنه كان له زلة يؤاخذ عليها كونه يمثل الشعب العراقي بكل فئاته، ففي إحدى الاجتماعات العراقية المصرية من أجل الوحدة، وصف البزاز الشيعة بالشعوبيون، وأنهم أشد قسوة من الشيوعيين( )، وما كان يجب أن يفعل مسؤولاً مثله هذا العمل أو القول، لأنه إن كان بعض الشواذ شعوبيون، إلا أن الأكثرية كانت على مدى تاريخ العراق، تسودها الروح الوطنية والقومية والدينية.
كما أن رئيس الوزراء طاهر يحيي، رغم أن معظم وزراء حكوماته كانوا من الشيعة إلا أن له بعض المواقف التي كانت تثير بعض الفئات المجتمعية كالشيعة ضد النظام، ومثال على هذه المواقف أنه عندما حضر إلى مكتب أحد أصدقائه من التجار في سوق الشورجة ببغداد، في إحدى ليال الأيام العشرة الأولى من محرم، حيث كان التجار الشيعة يقيمون مجلس عزاء الإمام الحسين (رض)، وكان هناك خطبة لأحد المشايخ الشيعة تسمع من إحدى المساجد، وبدل أن يستحسن هذا الأمر إلا أنه ترك مكتب صديقه التاجر، وأقسم أن يضرب سوق الشورجة، وتواكبت هذه الإجراءات مع استيلاء الحكومة على التجارة الخارجية، وتقليص الاستيراد الذي كان يمنح للقطاع الخاص، والذي كان معظم كوادره من الشيعة ومنحت تلك المصادرات لمؤيدي السلطة( )، وفي هذا الأمر نقول أن شعور الشيعة سيكون ضد النظام في أمر مثل هذا، لأنهم سيعتبرون أن الأمر هو ضدهم، رغم أن الشارع العربي كله كان يسير بنفس الخطوات، من تأميم وإصلاح زراعي، لكن ظن الكثير من الشيعة أن قادة السلطة قد استغلوا نفوذهم للثراء، وفي ذلك يقول أحد السياسيين الشيعة وهو محمد رضا الشبيبي في مذكرته للحكومة العراقية عام 1965:
"ما أنفك حكم العراق في عصرنا هذا بالذات مشرباً بالأهواء ، والأغراض، وإن كانت الأغراض مقنعة أو مغلفة بألفاظ خلابة...... ولم يكن الطعن في الحكم المذكور سهلاً، لأنه في ظاهره مستعد من مبادئ بنيت عليها القوانين المرعية، وقد اعتبرت الطائفية بموجب هذه القوانين جريمة يعاقب عليها، ولكن العبرة ليست بالألفاظ المجردة والتشريعات المقنعة، بل بالتطبيق السليم والإدراك الصائب لروح تلك القوانين، ولم تكن التفرقة الطائفية مشكلة سافرة من مشاكل الحكم كما هي اليوم، ولم تكن مصدراً باعثاً على القلق المستحوذ على الشعب طالما استنكرت التفرقة وكافتحتها بالإقلاع عن هذا الأسلوب الممقوت، وطالما ننادى المخلصون بإتابع نهج أخر تراعى فيها المساواة المطلقة التي أكدت عليها الشرائع السماوية والقوانين الوصفية، ومن الواضح أن الشعب العراقي انتفض أكثر من مرة على سياسة التفرقة النكراء، وعمل منذ ثورته الأولى عام 1920 على إقامة حكم وطني ديمقراطي يسهم بإقامته وينعم في خيراته أبناء الشعب كافة لا يفرقهم عنصر أو دين أو مذهب، وقد بارك الشعب ثورة الرابع عشر من تموز وعلَّق عليها أمالاً كبيرة، وتوقع المخلصون أن تستأصل جذور النعرات المفرقة باستئصال قواعد الاستعمار وركائزه، غير أن الأحداث الأخيرة، برهنت مع بالغ الأسف على انبعاث روح التفرقة، بشكل أشد وأعنف من ذي قبل، ولا نذيع سراً إذا قلنا أن كثرة الشعب ساخطة جداً من جراء ذلك، وأنها تعتبر كرامتها وحقوقها مهضومة، ولاسيما وقد رافق ذلك سوء اختيار من يمثلونها في جهاز الحكم"( ).
فتبين هذه المذكرة أن التفرقة الطائفية قد شملت معظم المسؤولين أو القائمين بأمور الحكم، وهذا مما كان له أثراً بالغاً ضد النظام، من قبل أكبر الطوائف المذهبية في العراق وهي الطائفة الشيعية، فلم تنفع زيارات رئيس الحكومة طاهر يحيي للمراجع الشيعية مثل السيد محسن الحكيم، وهو أكبر المراجع الشيعية آنذاك في العراق، حيث رافقه عدة مرات للمطار في سفره من أجل أداء فريضة الحج ، كما لم ينفعه أن معظم وزراءه من الشيعة، فزلة واحدة قد تسيئ إلى النظام لأنها تصدر من مسؤول يمثل الشعب، لكن طاهر يحيي الذي وصل إلى الحكم اعتماداً على صداقته من عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن، يتسم بالتملق الشديد، فرغم أنه كان بعثياً وترك البعث عام 1964، إلا أنه أخذ يصف انقلاب عارف عام 1963 بأنه ثورة تصحيحية لمسار البعث( )، وعلى هذا الأساس فكانت دعوته لتشكيل الحركة العربية الواحدة، التي ضمت مجموعة من الأحزاب الموالية للنظام بحيث تكون حزباً واحداً، يتيح له فيما بعد دمجها ضمن تنظيم الحكم الذي شكله وهو الاتحاد الاشتراك العربي، حيث تشكلت هذه الحركة، وأعدت مشروعها وميثاقها ونظامها الداخلي في التاسع من أبريل من عام 1964، ولم يشترك فيها حزب البعث حيث أصبح في موضع الملاحقة السياسية من النظام، وكانت الأحزاب والكتل التي اشتركت فيها هي: (حركة القوميون العرب، والحركة الوحدوية الاشتراكية، والوحدويون الاشتراكيون الديمقراطيين، والرابطة القومية العربية، والحزب العربي الاشتراكي، وكتلة الضباط الأحرار) ، وحددت أهدافها بالوحدة والحرية والاشتراكية والديمقراطية، إلا أن عبد السلام عارف، ما لبث أن عارض ميثاقها ووصفه بالعلماني( )، وأخذ يثير الشقاق بين أعضائها بما يؤدي إلى القطيعة بينها رغبة منه في الاستئثار بالحكم، وهذا مما ساهم أيضاً في زادة نفرة الكثيرين من حكمه ، فلكل كتلة مجموعة من أفراد الشعب الموالين لها، وخاصة حزب البعث الذي كان له الكثير من المؤيدين في صفوف الطلاب والضباط في الجيش، فإبعاده وملاحقته بشكل كامل لابد أن يثير الكثير من أبناء الشعب ضد النظام.
لكن بالمقابل رأت بعض الشخصيات الشعبية والمراجع والدينية الشيعية –على خلاف ما يشيعه البعض من ميوله الطائفية-في عارف الرجل المتدين الملتزم بمباديء الاسلام والعروبة والذي يكن حب واحترام لرجال الدين الشيعة ، وعلى هذا الأساس كان أرسالها له بيانات التأييد وأخرى للتنسيق والمناشدة بغية تحقيق تطلعات الجماهير وقد تطورت هذه العلاقة إلى علاقة تنسيق واجتماعات متبادلة مع الشخصيات والمراجع الشيعية ، من خلال استطاعته بناء علاقات احترام خاصة متبادلة مع بعض الشخصيات الشيعية البارزة في عهده ، مثل السيد محمد كاشف الغطاء رئيس جمعية منتدى النجف الأشرف لآل البيت والذي عمد-عارف- إلى تقديمه إلى الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى زياراته للقاهرة في حفل استقبال خاص أعد لكاشف الغطاء في قصر عابدين ، وذلك للتباحث بشأن مشروع الوحدة الثلاثية . وكذلك المرجع الديني السيد عبد المحسن الحكيم الذي كان يناديه "بالرئيس الحاج" و "ابننا الحاج"، حيث كان يكن تقدير خاص للسيد الحكيم، فكان يبعث رئيس الوزراء وبصحبته عدداً من الوزراء عند رغبته بالاتصال بزعيم المرجعية الشيعية في الحوزة ، وما يؤكد ذلك أنه بعث عدة مرات رئيس الوزراء طاهر يحيي للنجف الأشرف لاستشارة الحكيم في أمور الدولة ، كما كان يبتعث رئيس الوزراء لاستقبال المرجع الديني عند عودته من السفر خارج العراق ، وموافقته على استقبال المرجع الديني الشيعي الإيراني روح الله الخميني الذي طلب اللجوء السياسي إلى العراق ، كما يذكر مؤيديه أيضاً أنه كان في جلساته الخاصة ينتقد بعض رجال الدين لبعض التيارات المتشدده لتطرفها في بعض المسائل قائلاً: " أنا لست ضد الشيعة أو أي طرف أو فئة عراقية ولكني ضد السلوك الطائفي" ، كما اتصل بالمرجعيات الدينية الشيعية إضافة للسنية بغية تحديث القانون العراقي من خلال اقتباسات من الشريعة الإسلامية ، وهو أول من أقر رسمياً احتفالات عاشوراء ومن خلال الإذاعة والتلفزيون ، كما كانت لديه علاقات مع شخصيات وساسة ورجال دين مسيحيين فكان يتردد عليه بانتظام المطران رئيس طائفة الأرثوذوكس ، وكان دائم المزاح معهم فعلى إثر حملة التعريب التي أشرف عليها مصطفى جواد صرح عارف مازحاً : " لا يوجد بعد اليوم جون وججو" ويقصد بضرورة نبذ الأسماء الأجنبية والوافدة والتوجه نحو الوحدة الوطنية التي دعا لها( ).
إلا أن سياسة النظام الوحدوية مع مصر، كانت تثير الأكراد، والشيعة معاً، حيث كان يرى الأكراد أن الدولة القادمة ستكون ذات منطق عروبي ليس للأكراد فيها رأي، أما الشيعة فرؤوا أنهم سيصبحون أقلية غير حاكمة – برغم أنهم أكثرية في ظل دولة العراق- أمام دولة ذات أكثرية سنية وحاكمة ( )، بعد ما لمسوا سياسة بعض أفراد النظام الطائفية تجاههم في بعض الأمور.
كما أنه من المفيد الإشارة إلى أن النظام العارفي وإن كان له بعض الأخطاء إلا أنه لم يميز بين أفراد الشعب في أشياء كثيرة منها تشريعية لقانون الضمان الاجتماعي لجميع أفراد الشعب على حد سواء، حيث يضمن هذا القانون إعانات الحكومة للعمال، ومنح الأمومة للعاملات، وحق المرتب التقاعدي ففي حالات المرض والعطل والشيخوخة، وإعانات الأرامل، واليتامى، وإنشاء صندوق الصحة والترقية الاجتماعية، وتشريع قانون المؤسسة الثقافية العمالية، وتنمية الوعي الثقافي، من أجل قيام الحركة النقابية والعمالية على أعمدة أساسية من الوعي السليم الذي يتجه بها وجهةً قومية بناءة ، وإعداد القادة النقابيين لينهضوا بمسؤولياتهم تجاه الحركة العمالية، وتم تحقيق التلاقي بين الشيوعيين والناصريين والبعثيين في تمثيل النقابات، فأقاموا جبهة وطنية واحدة، رغم ما كان بينهم من خلافات قبل ذلك( )، كما اهتمت الدولة برعاية الشباب والعمل على الارتقاء بهم ثقافياً، وصحياً، وإعلامياً، وتحفيزهم على التمسك بالتراث العراقي وتطويره بما يواكب العصر الحديث.
لكن رغم ذلك فإن ممارسات بعض مسؤولي النظام اللامسؤولة، في عدم المساواة بين أبناء الشعب، ووجود بعض الأحزاب في ظل حكم عبد الرحمن عارف، حيث شهد عهده نوعاً من الانفتاح على الأحزاب السياسية، وأخذ بعضها يثير الشعب ضد النظام على أساس أنه قومي عربي –بالنسبة للأكراد ، ومذهبي -بالنسبة للشيعة – وكل ذلك بهدف إضعاف الحكومة، وعلى هذا الأساس قام أحد الطيارين العراقيين وهو منير روفا باختطاف الطائرة المقاتلة ميغ 21 وتمكن في عام 1966 من الهروب بالطائرة وإعطائها إلى إسرائيل في عملية جاسوسية اشتهرت بالمهمة ( 007)، وبعد هبوط الطائرة عقد مؤتمراً صحفياًً سمح له بالتحدث لفترة وجيزة تحدث فيها عن دوافعه لخيانة بلده وسلاحه مدعياً بأنه كان يعاني من التفرقة الدينية وأنه كان يشعر بان العراق ليس بلده لذلك طلب اللجوء والهجرة إلى الولايات المتحدة ، كما كانت الإضطرابات الطلابية في جامعة بغداد في يناير 1968، وحدوث اشتباكات بين النظام والطلبة، ووقع بعض الطلاب قتلى ؛ بسبب هذه الاضطرابات، حيث وصفت صحيفة المواطن هذه الاضطرابات ؛ بأنها من تدبير عناصر مخربة تريد إثارة عدم الاستقرار في العراق حيث قالت: "إن هذه الفئات تريد خلق المشاكل لتعكير الجو ليتسنى لها الظهور على مسرح الأحداث مستغلة التذمر المشروع وغير المشروع الذي لا يخلو منه بلد مثل العراق فيه من القوميات والمذاهب والطوائف ما ليس في بلد غيره"( ).
في ظل هذه الأوضاع، ضعف التأييد الشعبي للنظام، وانتشرت الشائعات حول الفساد، وأتهم التجار أن الضباط يبيعون علناً رخص الاستيراد، ويهدرون الأموال العامة لاستعمالاتهم الخاصة، وفقد النظام هيبته، فأخذ بعض الأفراد يتهمون النظام بالإقليمية على أساس أن قادة النظام كانوا من إقليم (عانه، والفلوجة، وتكريت، وراوة، وهيت)، كما أخذ البعض يصف الحكومة بأنها لا قانونية( ).
كل هذه الأشياء جعلت إصلاحات النظام الاجتماعية، ومحاولة بعض قياداته التفاعل الاجتماعي مع الشعب، تذهب سداً في ظل عدم شعور النظام بمسؤولياته تجاه الشعب، وتجاه تناقضات المجتمع العراقي، حيث لم يحدث تفاعل اجتماعي بين الشعب والنظام، لهذه الأسباب، إضافة إلى وجود روح لا مسؤولة عند بعض المسؤولين، الذين كان من الواجب أن يكونوا قدوة من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، لا أن يكونوا عبئاً عليها، وأداة من أدوات الشقاق الاجتماعي بين النظام والشعب.
أيضاً لم يحدث تفاعل اقتصادي بين الشعب والنظام السياسي، مثلما لم يحدث تفاعل سياسي واجتماعي كما ذكر سابقاً، بسبب عدم وجود سياسية اقتصادية رشيدة يتبعها النظام مع الشعب، فقد عمل النظام على تأميم جميع المصاريف وشركات التأميم، والمؤسسات الصناعية والتجارية، وأنشأ الهيئة الاقتصادية للمصارف التابعة للدولة على أساس إدارتها للمصالح المؤممة، وتخصيص 25% من أرباح الشركات المؤممة لصالح العمال والموظفين العاملين، وتمثيلهم في مجالس إدارة الشركات( ).
ورغم أن بعض الحركات الاشتراكية قد أشادت بقرارات التأميم، التي أعلنتها حكومة طاهر يحيي، مثل حركة القوميين العرب، التي وصفت هذه الإجراءات بأنها بداية التحول الوحدوي للاشتراكية، إلا أن غرفة تجارة بغداد هاجمت قرارات التأميم، بسبب ما أدت إليه من تردي في الوضع الاقتصادي، واقترحت تشكيل لجنة استشارية لوضع مقترحات لرسم معالم سياسية اقتصادية جديدة في البلد تنجيه من مزالق الخطر ولتحقيق الاستقرار السياسي( ).
كما نشأ صراع بين دعاة إلغاء القطاع العام وإحلال الحرية الاقتصادية وبين الحكومة، بسبب هذه التأميمات التي أحدثتها الدولة، على أساس أن ذلك هو في صالح الشعب، وحلاً للأزمة الاقتصادية، واتهمت الحكومة معارضيها بالرجعية والتخلف، رغم أن إجراءات التأميم قد أدت إلى إضعاف الاقتصاد العراقي، وتسارع في نقص رؤوس الأموال، وارتفاع معدل البطالة، وأدت مصادرة الأراضي إلى تراجع الاستثمار في الزراعة، وعلى هذا الأساس بدأت مفاوضات الحكومة مع شركة النفط العراقية (أي بي سي)، في محاولة منها للتوصل إلى تسوية للمسائل العالقة، وعلاج بعض الآثار السلبية التي خلَّفها قانون الاستثمار رقم (80) على الإيرادات الحكومية، ذلك القانون الذي تم بموجبه انتزاع 95% من الأراضي التي كانت في حوزة هذه الشركة في العراق، حيث كان هذا القانون ضربة لمصالح هذه الشركة، لذلك عملت هذه الشركة على إضعاف النظام العراقي، من خلال تخفيض معدلات الزيادة في الإنتاج العراقي، بما يحدث أزمات اقتصادية( ). وعلى هذا الأساس ضعفت معدلات التنمية الاقتصادية في العراق، وبين الجدول رقم (3-3) ذلك:
الجدول (3– 3) يبين معدل التنمية في العراق في العهد العارفي
السنة نسب التغيير في التنمية الاقتصادية
1963 + 3.8%
1964 + 9.9%
1965 + 7.4%
1966 + 5 %
1967 - 7.1%
1968 - 5.7%
وعلى هذا الأساس كان النمو الاقتصادي بطيئاً ووسطياً بلغ 2.9%، بسبب عدم الاستقرار السياسي، وطبيعة النظام السياسي الفردية، وجمود علاقات الإنتاج وقوانين الإدارة الاقتصادية، وتخلف قوى الإنتاج وعلاقاته مع استمرار النمط شبه الإقطاعي في الزراعة وشبه الرأسمالي في الصناعة( ).
كما تبين بعض الدراسات أن زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي والنفطي خلال فترة الأخوين عارف، لم يحصل فيها زيادة تذكر، رغم ادعاء النظام وحكوماته المتعاقبة ذلك، فبقيت نسبة عدد العاملين بالصناعات التحويلية في المصافي بين (1.8 – 1.9)% من مجموع العاملين في العراق، انخفضت صادرات العراق النفطية، خلال نفس الفترة (1964-1968) إلى (47.3%، 44.6%، 43.5%، 38.4%، 45% )، رغم أنها كانت عام 1963 قد وصلت إلى 50%( )، وبين الجدول (2-2) مدى الزيادة في الناتج القومي للنفط والصناعات التحويلية والتعدين، وبين نسبة الناتج القومي للزراعة بالنسبة للناتج العام، وعلى هذا الأساس فلم تتحقق أي زيادة في التنمية الاقتصادية بل تناقصت في أواخر عهد النظام، وسجل الميزان التجاري خلال هذه الفترة عجزاً وانخفاضاً، بلغ 20% عام 1964، 3.4% عام 1965، و 9.2% سنة 1966( ).
ا لجدول (3-4) يبين نسبة الناتج القومي للزراعة بالنسبة للناتج القومي للنفط والتعدين والصناعات التحويلية
السنة نسبة الناتج القومي للزراعة النسبة للناتج العام (النسبة المئوية) نسبة الناتج القومي للنفط والتعدين والصناعات التحويلية (النسبة المئوية)
1963
1964
1965
1966
1967
1968 16.3%
19.5%
19.4%
19.4%
20.5%
19.2% 45.8%
43.4%
42%
41.7%
36.4%
42%
وقد أدى الضعف الاقتصادي إلى نتائج اجتماعية خطيرة تمثلت في الهجرة من الريف إلى المدينة، فانخفض سكان الريف من 44.8% خلال فترة الأخوين عارف، وازداد عدد العمال في المشاريع الصناعية( ) ، وحدثت اضطرابات عمالية، وتعرضت منشآت النفط في كركوك لأعمال تخريب في نهاية عام 1967، واعتقلت الحكومة عدداً من الناشطين ضدها، كما تعرضت منشآت أخرى لذلك، ولم يقتصر إجراءات التأميم في تأثيراتها السلبية على المواطنين والتجارة والاقتصاد، فقد عارضتها أيضاً، الفئات الدينية الإسلامية في العراق، من كلا المذهبين السني والشيعي، اللذين عبرا عن احتجاجهما على هذه الإجراءات على أساس أنها تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي، بالرغم من أن عبد السلام عارف حاول أن يصدر عدداً ن التشريعات على أساس تقيده بالإسلام، إلا أن المنظمات الدينية الشيعية أكدت استقلالها عن نظامه، ونددت بالتأميم والإصلاح الزراعي معتبرة أنها انتهاكاً لمبدأ الملكية الفردية ومخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، مما حذا بعبد السلام عارف إلى إنشاء وحدة أمنية خاصة لمراقبة المنظمات الشيعية والحد من تأثيرها( ).
وحول ضعف التفاعل الاقتصادي بين الشعب والنظام ؛ بسبب إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي يقول محمد رضا الشبيبي في مذكرته إلى الحكومة العراقية عام 1965 :
" تعرضت النقابات في العراق لمختلف أوجه الضغط السياسي، الأمر الذي حرفها عن خدمة منتسبيها في حدود صلاحيتها، وأغراضها المهنية، كما تحملت الفئات العاملة تبعات ذلك، ففصل وسجن كثير منهم، وحرمت عائلاتهم من مصادر عيشها، لذلك وجب على الحكومة أن تعيد النظر في إحكام قانون العمل ، آخذة بنظر الاعتبار الأخطاء التي ظهرت لدى تطبيق القانون المذكور، وأن تفسح المجال لقيام نقابات مهنية تراعي مصالح المنتسبين إليها رعاية حقه ... عند تطبيق القرارات الاشتراكية في 14/7/1964 نلاحظ أن أوضاع العراق المالية والاقتصادية، تزداد تخبطاً وارتباكاً زيادة في البطالة، وقلة في الإنتاج، وتبذيراً في أموال الدولة، وتهرباً لرؤوس الأموال الوطنية، وعجزاً في الموازنة، لقد أشار رئيس الوزراء إلى طبيعة هذه الاشتراكية بقوله في مؤتمره الصحفي: - إن هذه الاشتراكية لم تغير في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، بقدر ما تحسنت أحوال طبقة معينة من الموظفين والمنتفعين على حساب الآخرين - إننا نطالب الحكومة بتدارك مما أدت إليه تلك السياسة المرتجلة من بطالة، وذلك بإيجاد عمل للعاملين يكفل لهم مستوى من المعيشة يتلاءم وكرامة الإنسان، كما نطلب إعادة النظر في الأوضاع الاقتصادية مع تعيين مجالات القطاع العام والقطاع الخاص لكي ينصرف المواطنون إلى مزاولة أعمالهم بحرية تامة، واطمئنان كامل... لقد ظهرت في قانون الإصلاح الزراعي أخطاء أدت إلى تخلف الزراعة، لهذا نطالب إعادة النظر في أسس القانون المذكور، وذلك في ضوء الأخطار التي ظهرت في مرحلة التطبيق، وندعو للعمل على تطوير شؤون الزراعة، وحماية الإنتاج، وتحديد واجبات الزراع والعمل على تعويض المستولى على أراضيهم، ومنحهم أصحاب حق اللزمة، إذ أننا لا نقر مبدأ المصادرة مطلقاً... ونطالب بإعادة النظر في موضع الضرائب، خاصة ضريبة الدخل وضريبة الشركات، وللتعديلات التي جرت عليها أخيراً، ونحث على دراسة عملية مبنية على التجارب التي مرت بها تلك القوانين لدى التطبيق، ونطالب بإعادة النظر في القوانين الأخرى التي شرعت في ظروف مستعجلة فجاءت مخالفة لأحكام شريعتنا الإسلامية، وغير ملائمة لأوضاعنا، وتقاليدنا الاجتماعية، إن الشريعة الإسلامية هي الأساس الراسخ الذي يقوم التشريع عليه، وأن أي قانون أو نظام يتعارض معها يعتبر تحدياً لشعور الأمة وعقيدتها الراسخة"( ).
وعلى ذلك فكانت الإجراءات الاشتراكية عاملاً عمل على إحداث فجوة في علاقات التفاعل الاقتصادي بين النظام السياسي والشعب العراقي، ورغم أن بعض الحكومات مثل حكومتي عبد الرحمن البزاز، عملت على العمل على التقليل من هذه الإجراءات والانفتاح على الغرب من خلال محاولته إعادة الاعتبار لكبار ملاكي الأرض القدامى ، وتقديم خدمات امتيازات لهم كان قد حرمهم منها قانون الإصلاح الزراعي منذ عهد قاسم ، فقد رفع معدل الفائدة المدفوعة للإقطاعيين عن ثمن الأرض المستملكة منهم بموجب القانون ، من نصف بالمائة إلى ثلاثة يالمائة سنوياً ، وبذلك حمل كثير من الفلاحين الفقراء أعباء ليست لهم القدرة على حملها ، مما أدى لتدهور أوضاعهم الاقتصادية أكثر فأكثر ، كما أنه قام بتحديد قيمة مياه فروع الأنهر التي تتدفق لسقي تلك الأراضي ، وبذلك حقق للإقطاعيين دخلاً كبيراً ، أقتطعه من دخول الفلاحين الضعيفة أصلاً، وهذا بدوره أدى إلى معارضة التيارات القومية واليسارية ضد حكومته ونعتتها بالعمالة للغرب ، وكان ذلك من أسباب سقوطها عام 1966 ، .
وفي إطار معالجة المشاكل الاقتصادية عمل النظام السياسي على إصدار قانون تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية، التي تعمل في جميع أنحاء العراق، ما ماعدا أماكن الامتياز للشركات الأجنبية، على أساس أن يخصص 50% من عائداتها للمشاريع الصناعية والزراعية من خلال مجلس التخطيط، وقد أجرت هذه الشركة مفاوضات مع شركة (إيراب) الفرنسية و(سانيولا) الأسبانية، بغية استثمار آبار جديدة في العراق، كما وقعت الحكومة عقداً مع شركة (سوفركار) لاستخراج الغاز من حقول كركوك، إضافة لعقد اتفاقية بين الحكومة وإحدى الشركات السوفياتية للتنقيب عن الكبريت في العراق، وقد كانت هذه الاتفاقيات مع هذه الشركات بسبب ضغط المعارضة على إيقاف التعامل مع الدول التي ساندت عدوان يونيو 1967 ، وبسبب إيقاف سوريا مرور البترول العراقي عبر الأنابيب المارة بسوريا، بسبب عدم دفع شركة النفط الأنكلوأمريكية (أي بي سي) لرسوم الجمركة، مما أثَّر على الاقتصاد العراقي وأنتهى لتعطل العديد من المشاريع الاقتصادية والعمرانية( )، مما حذا بالحكومة إلى إصدار تشريعات ضريبية ورسوم جديدة، ومنها ضريبة المجهود الحربي، إضافة لفرض قيود شديدة على السفر للخارج حفظاً للعملات الصعبة، والدعوة إلى التفتيش( ).
وقد أثارت اتفاقيات الحكومة مع هذه الشركات، لاستثمار النفط، والغاز، والكبريت في العراق، الشركات الأمريكية، خاصة بعد أن رفض النظام العراقي استثمار الكبريت من قبل شركة (بان أمريكان) في منطقة الشروق، فعملت على إسقاط النظام السياسي من خلال رشوة بعض الضباط المقربين مثل : عبد الرزاق النايف، وعبد الرحمن الداود، وذلك عن طريق الملحق العسكري في السفارة العراقية في بيروت بشير طالب، إضافة للسفير العراقي في بيروت ناصر الحاني، خاصة وأن الناصريون عملوا على زيادة التوتر بين النظام والشركة الأمريكية، بتوجهاتهم المتشددة وضغطهم على النظام، لتأميم شركة نفط العراق (أي بي سي)( )، وبالفعل فقد أصدرت الحكومة القانون رقم (97) الذي ُعد امتداداً للقانون رقم (80) الذي وضعه عبد الكريم قاسم الخاص بتأميم الشركة الأنكلوأمريكية في العراق، وأن تحل محلها شركة النفط العراقية والاستثمار الوطني للنفط العراقي، وما يؤكد ذلك قول عبد الرحمن عارف في مقابلة مع الباحث حنا بطاطو حول الدور الذي لعبته هذه الشركات لإسقاط حكمه بقوله في 18 فبراير 1970 :
"إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال ،وإن شركات النفط العاملة في العراق ، والقوى التي تقف وراءها كانت قد سعت منذُ منحت حكومته عقداً لشركة [يراب ] الفرنسية ، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق ، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية ، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان ] الأمريكية ، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه ، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف ، هو الرجل الذي يحتاجون إليه ، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني و بشير الطالب وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة وليس مجرد شكوك"( ).
كما وقعت مجموعة من الأحزاب ضد اتفاقيات الحكومة مع الشركة الفرنسية (إيراب)، وأهم هذه الأحزاب كان الحركة الاشتراكية العربية بزعامة فؤاد الركابي، والحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي، والحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني (البارتي) بزعامة الملا مصطفى البرزاني وجلال الطلباني• ، والحزبان الشيوعيان السريان (القيادة المركزية، واللجنة المركزية)، وقد وصفت هذه الأحزاب اتفاقية الحكومة مع (إيراب) بصفقة الأغبياء، وأرؤوا أن يتولى العراق بنفسه استخراج بتروله( )، رغم أن الرئيس عبد الرحمن عارف تحدى المعارضة وقال حول هذه الاتفاقية في الرابع عشر من نوفمبر1967 : "إن هذا الاتفاق ستعود بالفائدة والوفاق على العراقيين خاصة والعرب عامة"( )، وقالت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية بعد زيارة الرئيس عبد الرحمن عارف لفرنسا ولقاءه بالرئيس الفرنسي شارل ديغول:
"أنه ينتظر صدور بيان حول عقد مع شركة البترول الوطنية الفرنسية، وهي فرع لشركة إيراب لاستثمار حقل الكبريت العراقي في المشراق القادر على إنتاج مليون طن سنوياً، وإنه إذا ما نجحت فرنسا في ذلك فإنها ستوجه صفعة إلى المصالح الأنكلوسكسونية، فإن الاتفاقيتين الخاصتين بالزيت تشملان مناطق اقتطعت من امتياز شركة نفط العراق الأي بي سي التي تملكها مصالح أمريكية وبريطانية بما فيها شركة شل الهولندية وشركة البترول البريطانية"( ).
وعلى هذا الأساس فإن هذا الاتفاق قد توافق مع ضرب المصالح الأمريكية والبريطانية، إضافة لإثارة المعارضة ضد النظام.
أما فيما يخص حقول الكبريت في الشمال، فبسبب ضغط المعارضة قررت الحكومة استثمار هذه المناجم وطنياً ورفض العروض الأمريكية، وقال حول ذلك الرئيس عبد الرحمن عارف في الثامن من إبريل 1968 : " قررنا أن نستعمل تلك المناجم بأنفسنا بمساعدة الخبراء الذين اتفقنا معهم من بولونيا" ( )، وهذا ما أصاب المصالح الفرنسية بخيبة أمل كبيرة وعلقت على ذلك صحيفة لومنرا الفرنسية بقولها : " لقد أصاب التعاون الفرنسي العراقي بخيبة أمل كبرى بعد فشل استثمار مشروع الكبريت في المشراق الذي كانت الشركة الوطنية للبترول (اليتانا) المتعاونة مع الأمريكيين تنوي استثماره"( ).
وهكذا انصبت على النظام العراقي المشاكل الاقتصادية، وزيادة قوة المعارضة، والضغط الخارجي لشركة نفط العراق (الأنكلو سكوسونية)، وتخلخل النظام من الداخل، لتساهم هذه العوامل في إضعاف التفاعل الاقتصادي بين النظام السياسي والشعب العراقي.
مما سبق نستنتج أنه لم يحدث تفاعل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي كبير بين النظام السياسي العراقي وبين الشعب العراقي، بحيث يزيد من قوة الوحدة الوطنية، فظل الشعب العراقي محروم من التمثيل والتعبير عن نفسه، وعدم خضوع الحكام العسكريين إلى المحاسبة عن أعمالهم خارج الحلقة الضيقة التي يعتمد استمرارهم عليها، وهذا مما أدى إلى تشجيع المؤامرات على النظام وعلى الزعامات الشخصية، كما عمل النظام بدوره على إجهاض أي محاولة لتغيير الوضع نحو المشاركة الشعبية، مثلما فعل العسكر إبان حكومة عبد الرحمن البزاز، وأصبحت الدولة أداة للسلطة بانشغال القيادة في إدارة الموارد التي تسمح لها بتعذية شبكات المحسوبية والجهاز القمعي الذي يضمن بقاءهم في السلطة، وهذا ما جعل هؤلاء يحصلون على الحصة الأكبر من الامتيازات الأكبر في المجتمع، أما المحرومون من السلطة فرغم محاولاتهم إيصال صوتهم إلى الشعب، إلا أنهم لم يستطيعوا الحصول على أية مكتسبات سياسية أو القيام بدور بارز في الدولة التي بقي أصحاب العلاقات التاريخية في الدولة يسيطرون عليها ، حتى أن الإجراءات الاشتراكية قد أفادت أصحاب السلطة أكثر مما أفادت البسطاء من أبناء الشعب، بالرغم من أنها قد أضعفت الوضع الاقتصادي في العراق، كما كان للتدخلات الخارجية بسبب محاولة العراق الخروج من التبعية الاقتصادية، واستثمار موارده بنفسه، كان لها دور في تحريض بعض فئات الشعب ضد النظام، كل هذه الأشياء عمقت الفجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين النظام السياسي والشعب العراقي، وساهمت في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق.








المطلب الرابع
الهوية الوطنية للجيش العراقي
اتسم قادة الجيش العراقي في العهد العارفي بأنه بعيد عن تمثيل هوية الشعب العراقي ككل، كونه كان ينتمي لطائفة محددة، وإقليم محدد، واثنية محددة، وعشيرة محددة، حتى أن بعض القطعات العسكرية كالحرس الجمهوري، كان الجنود محددين وفقاً لمعايير طائفية وقومية وعشائرية وإقليمية، رغم أن أول حكومة له كان من قبل طاهر يحيي، الذي كان عسكرياً، ودعا لعدم تدخل الجيش بالسياسة( ).
فقد اعتمد عبد السلام عارف خلال فترة حكمه الأولى الممتدة من 18 نوفمبر 1963 وحتى فبراير 1964 على الضباط العارفيين الموالين له إضافة إلى الناصريين، والبعثين وهم الذين شاركوه بانقلابه ضد البعث، رغم أنه اضطهد خلال هذه الفترة الحرس القومي، وأهم الضباط الذين اعتمد عليهم، كانوا من قبيلته الجميلة، التي تضم حوالي (1400) بيتاً، وتتواجد في منطقة الرمادي، وتتميز بحالتها الاقتصادية المتدينة ( ):
1- العقيد سعيد الصليبي، قائد حامية بغداد.
2- الزعيم عبد الرحمن عارف، قائد الأركان بالوكالة، وقائد القوات الميدانية، والفرقة الخمسة.
3- جعل نفسه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ، وأعطى نفسه سلطات استثنائية.
وقد حوَّل عارف، اللواء العشرين، إلى الحرس الجمهوري، حيث ضم هذا اللواء ثلاثة أفواج مشاة وكتيبة دبابات، وجعله الأداة الرئيسية في توفير الدعم الرئيسي له.
أما الضباط البعثيون الذين اعتمد عليهم فأهمهم:
1- النائب العام للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، اللواء حردان التكريتي.
2- رئيس الوزراء، الفريق طاهر يحيي.
3- وزير الداخلية، والحاكم العسكري العام، والزعيم رشيد مصلح.
4- نائب رئيس الجمهورية، الزعيم أحمد حسن البكر.
وكلهم كانوا أعضاء في المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، إضافة إلى كونهم كانوا جميعهم من تكريت، حتى أن البكر كان من قبيلة البكوات ذات النفوذ الاجتماعي الكبير، وكان لهم دور كبير في إسقاط البعث ونجاح انقلاب عارف، فالبكر هو الذي أمر بوضع الخطة للإطاحة بالحرس القومي، أما حردان التكريتي فهو الذي قاد الطائرات وقصف مقرات الحرس القومي وأضعفه.
أما الناصريون منهم فهم المؤيدين للوحدة العراقية المصرية وأهمهم:
1- مدير التخطيط العسكري الزعيم: محمد مجيد .
2- وزير الإرشاد الزعيم عبد الكريم فرحان.
3- قائد سلاح الطيران العقيد عارف عبد الرزاق.
4- وزير الخارجية المقدم صبحي عبد الحميد.
وقد عمل عبد السلام عارف على التحالف مع الضباط الناصريين لإخراج الضباط البعثيين، وعاملهم بكل قسوة واحتقار، ففي 4 ديسمبر 1963 أبعد وزير المواصلات عبد الستار عبد اللطيف وفي 16 ديسمبر 1963 أخرج حردان التكريتي عن قيادة سلاح الجو ثم أبعده عن وزارة الدفاع، وعن نيابته في قيادة القوات المسلحة ، وفي 4 يناير 1964 ألغى منصب نائب الرئيس، وأبعد البكر عن نيابته في الرئاسة وجعله سفيراً في الخارجية.
هذه الأسباب حملت البعث على العمل لإسقاط عبد السلام عارف، بعد طعنه إياهم بهذه الطعنه القاسية ، فحاولوا القيام بانقلاب عسكري في 4 سبتمبر 1964 على أساس أن يقوم الانقلابيون بنسف طائرة عارف عند اقلاعها إلى مصر، ثم شن هجوم بالمدرعات والطائرات على القصر الجمهوري، إلا أن الخطة فشلت، وأرسلت مصر قوة عسكرية قوامها ستة ألاف جندي للعراق لدعم حكم عارف في 5 سبتمبر 1964( ).
• وبعد ذلك عمل عبد السلام عارف على إبعاد الضباط الناصريين من خلال التمييز بين الضباط ، مما دفع بالضباط الناصريين إلى الاستقالة من الحكومة، حيث يؤكد وزير الإصلاح الزراعي عبد الكريم فرحان، أن أسباب استقالتهم، كانت سبب ضعف النظام السياسي أمام الضباط العسكريين، العارفيين، واستجابته لكل مطالبهم وثقته المطلقة بهم، وهذا ما يفسر عدم تقارب الحكومة مع الفلاحين والعمال وأهم هؤلاء الضباط الذين ذكرهم هم: (إبراهيم عبد الرحمن الداود، وعبد الرزاق النايف)، حيث كان إبراهيم عبد الرحمن الداود يأمل أن يصبح رئيساً للجمهورية بعد إسقاط النظام، وهذا ما حذا به إلى الاتصال مع بعض الضباط في الجيش، وكانت حجته في ذلك أن عبد الناصر حكم مصر وهو برتبة مقدم، أما هو فبرتبة عقيد، لكن لم يستطع أن يكشف عن نواياه إلا بعد مقتل عبد السلام عارف، بسبب ما كان لعبد السلام عارف، من شبكة واسعة من الأتباع داخل القوات المسلحة، حيث تجمعه بكثير من عناصرها، روابط النسب، أو روابط ناشئة عن تركيبات المجتمع الرجعي العراقي، إضافة لاستغلاله التنافضات المتنامية في صفوف الجيش( )، ورفعه للشعارات القومية المؤثرة على الشعب، خاصة أنه كان يرتكز على دعم إعلامي كبير من قبل النظام الناصري في مصر، الذي عمل على فضح أخطاء حقبة البعث عام 1963، وذلك بعد فشله في إبعاد البعث عن السلطة في سوريا عقب فشل حركة جاسم علوان في 18 يوليو 1963، فكان دعمه لعارف، رداً على إبعاد الناصريين عن المشاركة في الحكم في سوريا، وأملاً في حدوث انقلاب ناصري أخر في سوريا، وإسقاط البعث السوري( )، علاوة على ذلك، كان أفراد الحرس الجمهوري، من نخبة القوات المسلحة، وجعل قيادته لأحد أقربائه وهو سعيد الصليبي، وجهزه بمختلف أنواع الأسلحة، وجعله يتمركز في موقع استراتيجي قرب بغداد، لحماية النظام من أية محاولة انقلابية، كما حدّث الجيش بمعدات وتسليح معاصرين ومن ضمنها الصفقة الشهيرة باستيراد الطائرة المقاتلة ميغ 21 والقاصفة انتونوف ومنظومات الدفاع الجوي عام 1965 وأوعز لوضع الخطط والدراسات لتأسيس جهاز المخابرات العراقي وكخطوة أولى تم تهيئة إحدى المديريات التابعة للاستخبارات العسكرية بالقيام بمهام مكافحة التجسس لحين توسيعها وتدريب منتسبيها لتصبح مستقبلاً جهاز مخابرات وطني حيث زار العراق لهذا الغرض وفد عسكري مصري ضمن إطار الاتحاد الثلاثي متضمناً عناصر من المخابرات المصرية كان من بينهم الشخصية الاستخبارية المعروفة رفعت الجمال المعروف برأفت الهجان( ).
وعلى هذا الأساس لم يعط للتنظيم المدني أي أهمية أمام القوة العسكرية والأيديولوجية القومية التي تؤيده، خاصة بعد أن أطلق حملة إعلامية على الشعب العراقي، ادعى فيها أنه صاحب الفضل الأول في ثورة يوليو 1958 وليس قاسم( ).
لهذه الأسباب قام الناصريون 15 سبتمبر 1965 بمحاولة انقلابية عام 1965، ضد نظام عبد السلام عارف، من قبل رئيس الوزراء العقيد عارف عبد الرزاق حيث جهزوا الدبابات للوصول للعاصمة، وذلك أثناء وجود عبد السلام عارف في الدار البيضاء في حضوره القمة العربية عام 1965، إلا أن قائد خامية بغداد العقيد سعيد الصليبي وقائد الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود تدخلا وأحبطا المحاولة قبل تطورها، وهذا ما وتر العلاقات بين عبد السلام عارف، وعبد الناصر( ).
بعد ذلك أصبح أفراد قبيلة عبد السلام عارف، هم الحكام الوحيدين في الدولة، وأصبح سعيد الصليبي يشارك عبد السلام عارف في الحلول، كما أصبح مستشاراً له، إضافة للمقدم عبد الرزاق النايف الذي جعله مراقباً لأجهزة المخابرات العسكرية، وحل المجلس الوطني لقيادة الثورة، ونقل صلاحياته إلى حكومة عبد الرحمن البزاز، وأصبحت صياغة السياسية الدفاعية والإشراف على الأمن الداخلي من اختصاص جهاز عسكري جديد هو (مجلس الدفاع الوطني) ( )، ويلاحظ من هذا الإجراء أن هذه السياسة لم تكن سوى للتخلص من غير الموالين بشكل مطلق للرئيس عارف، والدليل على ذلك أن مجلس الدفاع الوطني هو له نفس صلاحيات المجلس الوطني لقيادة الثورة، مع تبديل بعض الوجوه، إضافة لاستمرار الضباط في تدخلاتهم في السياسة الحكومية، فبسبب اتفاقية البزاز مع البارتي على حل القضية الكردية، اعترض بعض الضباط في الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع اللواء "عبد العزيز العقيلي" الذي دعا في اجتماع المؤتمر الوطني في التاسع عشر من أكتوبر 1966 إلى ضرورة استمرار القتال، متهماً الحركة الكردية بالعمالة، وأن الحكومة قد أخطأت بثلاثة أخطاء هي( ):
1- التفاوض مع المتمردين.
2- إطلاق سراح المعتقلين الأكراد.
3- الموافقة على نظام اللامركزية، الذي أدى إلى إقامة ما يسمى بمحافظة كردستان.
وقد أيده في ذلك العديد من الضباط، وأخذوا يزايدون على القضية الكردية، بتصريحات عنيفة، رغبة منهم في طموحات سياسية، وهذا مما عمق الخلافات بين الحكومات السياسية والأكراد، خاصة أن قائد الأركان بالوكالة الفريق عبد الرحمن عارف كان قد أيد تصريحات العقيلي ( )، وهذا دليل على أن عبد السلام عارف، كان من أهدافه إثارة الخلافات حول القضية الكردية، إضافة لتأييده الضمني لتصريحات العسكريين.
وكان من أسباب تدخل العسكريين ومعارضتهم لحكومة البزاز، هو أن بعضهم كان ناصري، وبما أن عبد الناصر عارض توجهات البزاز، الاشتراكية الغربية، التي اعتبرها اشتراكية رجعية، وتهدف إلى الابتعاد عن الاشتراكية الناصرية التقدمية، خاصة بعد أن أقام البزاز، علاقات ودية مع إيران وتركيا، حيث اعتبر ذلك مهادنة للسياسة العربية، ولا يتفق ذلك مع سياسة البلدان الثورية، وقد يؤدي ذلك إلى استغلال الموقف من قبل البعثيين للسيطرة على الحكم( ) ، وحتى لا تصطدم الحكومة مع الجيش حاول البزاز استرضاء قادة الجيش من خلال بيانه في التاسع عشر من يونيو 1966 الذي قال فيه:
" إن جيشنا الشجاع الذي قام بواجبه ـ وما يزال قائماً ـ إن جيشنا هذا يدرك مسؤولياته، وسيحافظ على وحدة هذا الوطن، وسيقوم بدوره الأعظم في الإنشاء والتعمير ورعاية المواطنين كافة، فرجائي إلى المواطنين كافة، أن يثقوا بجيشهم، وأن يطمئنوا إليه، وأن يعلموا أنه الحارس لهم، وأنه لا يؤمن بالعنف حينما لا يكون للعنف ضرورة، وهو يريد السلم كما نريده، حينما يكون طريق السلم مفتوحاً ومرغوباً فيه من جميع الأطراف"( ).
وكان هذا التصريح بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش العراقي في الشمال، فاعتبر الضباط أن اتفاق البزاز التي أتى بعد هزيمة عسكرية، هو إهانة للجيش، خاصة أن الحكومة قامت بإطلاق سراح عدداً من جواسيس حزب البارتي التي اعتقلهم الجيش، حيث كانوا يراقبون تحركات الجيش وحكم عليهم بالإعدام، وهذا مما ساهم في تشجيع التجسس في الجيش ، وعلى هذا الأساس فقد رأى العديد من قادة الجيش أن الحكومة قد فرطت بتضحيات الجيش في الشمال وكافأت المتمردين، واستسلمت لهم رغم قدرة الجيش على هزيمتهم، حيث تعهد البزاز في 29 يونيو 1966 بتعويض ضحايا أعمال العنف في الشمال، مما اعتبر ذلك إهانة للجيش، على أساس أنه يجعله معتدياً، ويجعل المعتدين معتدى عليهم، وأن هذا ستكون عواقبه وخيمة، حيث سيشجع التمرد، ويثبط الجيش والشعب، ويستهين بدماء أبناءه ، ويستهين بدماء أبناءه( ).
رغم أن هذا يوفر على الحكومة الكثير من المتاعب، والأموال التي تصرف ؛ بسبب هذه الحرب التي لا فائدة منها، وما يدل على ذلك أن الحرب انتهت في الشمال في عهد البزاز، وتم إذاعة بيان الحكومة حول ذلك، وزار وزير الدفاع اللواء شاكر محمود شكري، زعيم البارتي الملا مصطفى البرزاني، مؤكداً أنه قد وجد أن الأكراد لا يفكرون بالانفصال، وهدفهم الوحدة الوطنية في العراق، ويؤمنون بالثورة العراقية، وقياداتها، وأن العرب والأكراد أخوة، ولا تستطيع قوى الشر أن تتسلل إلى صفوفهم، وتوقفت الإذاعة الكردية التي كانت تبث من مقر الملا مصطفى البرزاني، عن البحث بعودة السلام، حتى أن الملا مصطفى البرزاني قد أهدى وزير الدفاع مسدسه الشخصي، أما وزير الدفاع فقد قدم له نسخة من المصحف الشريف( ).
وتجدر الإشارة إلى أن إنهاء الحرب في الشمال قد أخاف بعض الضباط وأن ذلك سيقلل من امتيازاتهم المالية، وسيبعدهم عن التدخل في السياسة من خلال دعوته لإنشاء المجلس التشريعي، فأخذوا يدعون أن ذلك سيؤدي إلى استقلال المنطقة الكردية عن العراق، ثم أخذوا يضغطون على حكومة البزاز إلى أن استقالت وتسلم الحكم أحد العسكريين وهو الزعيم ناجي طالب( ).
وبسبب الحالة العشائرية والإقليمية والشخصية التي سادت ضباط الجيش خلال فترة حكم عبد السلام عارف، تم اختيار عبد الرحمن عارف رئيساً للجمهورية، بدعوى أن مجلس الدفاع الوطني، يتكون أعضاءه من مؤيدي عارف، إضافة لعدم فعالية مجلس الوزراء، رغم أن الاتجاه الشعبي المدني كان يرى أن يكون الرئيس هو عبد الرحمن البزاز كونه مديناً، بحيث تعود الشرعية الدستورية إلى البلاد، إلا أن الاتجاه العسكري رأى أن يكون الرئيس عسكرياً فإن لم يكن عبد الرحمن عارف، فوزير الدفاع السابق اللواء عبد العزيز العقيلي، أو الفريق طاهر يحيي، رغم أن البزاز قد فاز بالجولة الأولى من الانتخابات، حيث أنه في دورة الاقتراع الأولى ، حصل البزاز على 14صوتاً ، من مجموع 28صوتاً ، فيما حصل عبد الرحمن عارف على 13 صوتاً ، ونال عبد العزيز العقيلي على صوت واحد فقط ، هو صوته ، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11ضابطاً من مجموع 12، باستثناء العقيلي ، فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز ،وعضوان لعارف ، ولكون أي من الأطراف الثلاث لم يفز بأغلبية الثلثين ، بموجب الدستور فقد جرت دورة ثانية ، كان فيها تأثير الضباط حاسماً ، فقد أصروا على انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن ، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية ، مما أضطر البزاز إلى سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبد الرحمن عارف ، فقد كانت القوى المسيطرة على الجيش -وخاصة عدد من أقرباء عارف ، وفي المقدمة منهم العقيد سعيد الصليبي - لها القول الفصل في عملية الانتخاب ، كما أن عبد الناصر ، والناصريين ، حيث تدخل المشير عبد الحكيم عامر، وعبد الحميد السراج الذي كان لاجئاً في مصر، لأن يكون عبد الرحمن عارف رئيسياً، بحث يبقى النظام العراقي ناصرياً ؛ فوقفوا إلى جانب عبد الرحمن عارف ، ضد البزاز ، المعروف بنزعته القومية اليمينية، هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن عارف ، الذي يتسم بالضعف ، وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد ، وقلة طموحه ، جعل البزاز ورفاقه يرضخون لانتخاب عارف ، ويفضلونه على أي مرشح آخر ، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره على مراكزهم في السلطة( ).
بالرغم من أن عبد الرحمن عارف يتميز بضعف الشخصية أمام الجيش، وعجزه عن تأسيس شبكات محسوبية مثلما فعل أخوه ، ولم يتمتع الرئيس بخبرة واسعه في السياسية الدولية كان عبد الرحمن يفتقر إلى الدهاء والطاقة ، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات ، ويفتقد للحدس السياسي، والمعرفة بالشؤون العامة ، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة ، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة ، فكان مفتقداً لأي طموح ، ولذلك فقد كان ألعوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين ، الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية ، معتمدين على الولاءات العشائرية ، والإقليمية ، ولم تكن خلال فترة حكمه أي سياسة مميزة أو واضحة إلا بعض الإنجازات المحدودة على صعيد إكمال بعض مما بدأ به الرئيس السابق عبد السلام عارف في مجال العمران وكذلك في مجال التسليح، مما أدى لنشاط الأحزاب في عهده والتي اخترقت القوات المسلحة، وظهرت الخلافات بين ضباط الجيش، وهذا مما ساهم في سقوط الحكومات العسكرية، مثل حكومة ناجي طالب، أو طاهر يحيي، أو حتى الحكومة التي شكلها عبد الرحمن عارف، والتي جعلها كلها من العسكر، بعد اهتزت صورة النظام بعد هزيمة يونيو 1967، على أساس عدم مشاركة الجيش العراقي بشكل فعال فيها( ) ، حيث لم يكن العراق مهيأ، ولا مستعدا لتلك الحرب ،فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في الحرب ضد البارتي ، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك ،التي تزيد على ألف كم،ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة ، عند الحدود السورية الأردنية ،حيث أوعز لها عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة وهو العسكري الذي كان بالأمس رئيساً لأركان الجيش ، ثم أصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة ، بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد ، فقد وقف يخطب من دار الإذاعة والتلفزيون معلناً تحرك القوات العراقية إلى ساحة المعركة ، وكان ذلك التصرف خير منبه لإسرائيل لتهاجم طائراتها القوات العراقية وهي في طريقها عبر الصحراء منزلة بها الخسائر الكبيرة ، ومن الأخطاء الكبيرة في تصرفاته ، أنه وقف يخطب بعد نهاية الحرب مؤكداً بخطابه أن إسرائيل تعرف عن العرب أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.
في ظل هذه الأوضاع لم يستطع عبد الرحمن عارف أن يقيم علاقات سرية مع الكتل العسكرية المتنافسة، وظل يعتمد في استمرار حكمة على الحرس الجمهوري، معتقداً أن ولاء قبيلته التي معظم أفرادها من الحرس الجمهوري كاف لذلك، كما ترك للآخرين مهمة تنظيم الوحدات الأخرى في الجيش، لكنه فشل في دمجهم في دائرة المقربين له، وهذا ما جعله عاجزاً فرض سيطرته على الخلافات الحزبية بين الضباط، ولم يحسن استغلالها لصالح حكمه، كما لم يستطع حماية الحكم المدني من الانهيار في ظل حكومة البزاز الثابتة، أمام عداء ضباط الجيش لها( )
وبسبب اتجاهات نظام عبد الرحمن عارف، الابتعاد عن السياسة الناصرية في مصر، دعم النظام المصري العقيد عارف عبد الرازق الذي كان لاجئاً في مصر، على القيام بانقلابه، في 29 يونيو 1966، حيث تسلل سراً إلى العراق، ثم قام بحركة مسلحة في الموصل، واتصل بمعسكر أبو غريب، والتاجي غرب بغداد، وانضم إليه قائد الفرقة الرابعة في الموصل ومن خلال مطارها العسكري، توجهت عدة طائرات لقصف معسكر الرشيد في بغداد، لكنها فشلت، وأخفقت المحاولات الأخرى للاستيلاء على المعسكرات، وتم القبض على عارف عبد الرزاق في الموصل، وبعد فترة جرت تسوية سياسية مع مصر حوله، حيث أطلق سراحه بعد تدخل عبد الناصر بشأنه( ).
وفي ظل حكم عبد الرحمن عارف، تسنى للعسكر إسقاط حكومة البزاز ليتولى أحد العسكريين وهو الزعيم ناجي طالب، الذي وعد العسكر أنه سيعيد هيبة النظام والقوات المسلحة بعد اتفاقية البزاز مع البارتي، وعلى هذا الأساس أصبح ضباط الجيش لهم نوع من الوصاية على الحكومة والنظام، لكن تميزت هذه الحكومة، بأنها لم تستطع معالجة الأزمة الاقتصادية، مما أدى لسقوطها بعد أشهر قليلة من تشكيلها، فشكل الحكومة الفريق عبد الرحمن عارف، والتي قامت خلالها حرب يونيو 1967، ولم يشارك العراق إلا بقوات رمزية بسبب فوضى الحكم وضعف المعنويات والافتقار إلى السلاح الفعال، بعد استنفاذ القوة العراقية بسبب حرب الشمال، وفقدان الجيش لخيرة ضباطه ؛ بسبب عمليات الأبعاد والتسريح في إطار الصراعات على السلطة ، فكانت الشخصية الضعيفة للرئيس عارف في المشاركة الفعلية في هذه الحرب تعكس الأوضاع العراقية والفوضى فيها( ) ، فلم ينفعه تسامحه ومحاولاته في فسح المجال لمعارضيه بنوع من الديمقراطية وتأسيسه لما يعرف بالمجلس الرئاسي الاستشاري الذي ضم عدداً من رؤساء الوزارات السابقين وكان يعد بعضهم من الخصوم، واستقباله عدداً من القطعات العسكرية والأسراب الجوية المصرية والفلسطينية للقيام بعمليات عسكرية انطلاقاً من الأراضي العراقية ومن ضمنها عملية إيلات.
فازداد السخط الشعبي بعد هزيمة يونيو 1967، لذلك عمل النظام على قطع علاقاته مع بريطانيا والولايات المتحدة، وأبقى على القوات العراقية الرمزية في الأردن، لكن لم يستطع النظام رغم ذلك إنهاء الازدراء الشعبي بسبب ضعف الجيش وأوضاعه المتردية، مما دفع بالرئيس عبد الرحمن عارف لمعالجة الأزمة بتقوية الجيش من خلال زيادة تسليحه، فقام بسلسلة زيارات للدول الأوروبية، وعمل على زيادة عائدات النفط من خلال قيامه ببعض الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية النفطية( ).
وفي العاشر من يونيو 1967 كلف الرئيس عبد الرحمن عارف، الفريق طاهر يحيي بتشكيل الحكومة، إلا أنه رغم رئيس الحكومة الجديد عمل على جعل معظم أعضائها من المدنين، بحيث يستطيع إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة، بيد أنه واجه مشكلة انتساب العديد من قادة الجيش إلى الأحزاب السياسية، مما جعل الضغط على الحكومة كبيراً من قبل المعارضة، رغم الدعوات الوحدوية التي دعت إليها الحكومة، على أساس تجاوز هزيمة يونيو 1967( )، لكن من محاسن هذه الحكومة أنها عملت على تجاوز الأزمة الاقتصادية، من خلال اتفاقياتها مع الشركة الفرنسية (إيراب) لاستثمار النفط، فقامت الدوائر الغربية، بإثارة المعارضة في الداخل، والتي يخضع الكثير منها للعشائرية والطائفية والأمور الشخصية، وقاد الحملة المعارضة شقيق وزير الدفاع الأسبق عبد العزيز العقيلي وهو (غانم العقيلي) الذي قال: " إن الاتفاق مع إيراب هي في كل الأحوال بمثابة استعمار جديد للعراق أسوء من الاستعمار الكلاسيكي المتهمة به الأي بي سي"( ) ، كما بدأ السياسيون العسكريون يتدخلون في الحياة السياسية بشكل سافر وشكلوا لجنة سياسية على أساس حل الأزمة الحكومية، وعقدوا اجتماعهم في منزل اللواء المتقاعد أحمد حسن البكر، بعد السماح بعودته إلى الحياة السياسية ، وقرروا عدة أمور في بيانهم الذي قالوا فيه:
" الاستمرار في العناية في الجيش من كل الوجوه، وتعزيز قياداته بالأكفاء من الضباط الذين أدت ظروف الماضي إلى تركهم في الجيش حينما تكون الحاجة إلى خبراتهم أشد ما تكون اليوم، ونحن نقاوم خصماً شرساً، كما يجب العمل بدأت على تخليص الجيش في شؤون الأمن الداخلي ليتفرغ لمهمته الأصلية الكبرى، ويستعد لها الاستعداد اللازم لتحقيق آخر الأمر للعراق الأمن التام، والاحترام الدولي، ويمكنه من الإسهام في معركة العرب الكبرى في فلسطين"( ).
وفي نهاية مارس 1968 اجتمع الرئيس عبد الرحمن عارف مع هؤلاء العسكريين السياسيين وبحث معهم عن حل للمسائل السياسية والاقتصادية، على أمل تجديد الفترة الانتقالية لتشكيل مجلس تشريعي إلى سنتين آخرين، وتشكيل حكومة جديدة، إلا أنه في منتصف أبريل من نفس العام حدث انشقاق بين النظام من جهة وبين المعارضة السياسية العسكرية من جهة أخرى، حيث عقدت المعارضة، اجتماعاً، حضره رئيس الوزراء طاهر يحيي، في منزل اللواء أحمد حسن البكر، وقدموا مذكرة إلى الرئيس عبد الرحمن عارف، احتجوا فيها على الوضع الراهن من عدة نواح اقتصادية وعسكرية وسياسية واجتماعية، وأكدوا أن اجتماعاتهم السابقة لم يسفر عن أية نتائج إيجابية لذلك فقد اتفقوا على عدة أمور أهمها( ):
(1) تشكيل مجلس وطني من ثلاثين عضواً يمارسون اختصاصات السلطة التشريعية وتشارك في رسم سياسة البلاد داخلياً.
(2) تشكيل وزارة ائتلافية قوية تتصف بالكفاءة والنزاهة والماضي النظيف، والشعور بالمسؤولية لتحقيق حل المشكلة في الشمال وإجراء انتخابات عامة في البلاد بأسرع ما يمكن في مدة أقصاها سنتان.
(3) تأمين الاستقرار والأمن وتحقيق مبدأ سيادة القانون، وحماية الحريات العامة وتكافؤ الفرص بين المواطنين.
إلا أن الحكومة رفضت أي تبديل وزاري، كما رفض عبد الرحمن عارف، تغيير الحكومة، ورفض الاجتماع بالسياسيين العسكريين، على أساس أن مطالبهم متناقضة، وطالبهم أن يضيفوا مطالبهم على شكل ميثاق أو خطة محددة، ورغم أنهم قاموا بذلك، بعد اجتماعهم مرة أخرى في منزل البكر، إلا أن الرئيس عبد الرحمن عارف رفض تشكيل وزارة ائتلافية، واستصعب هذا الأمر.
وقد استاء هؤلاء السياسيون من إهمال مطالبهم، وبدؤوا بعقد اجتماعات سرية للانقلاب على النظام معتبرين أن مذكرتهم الأخيرة هي بمثابة إنذار أخير للنظام، إلا أن النظام أحس بالخطر فشرع بالعمل لإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، لكن مع نفس رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي، رغم أن كل الحكومات التي شكلها لم تستطع معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية في العراق، وهذا مما دعا لتخوف بعض الانقلابيين مثل نائب قائد المخابرات العسكرية (عبد الرزاق النايف) الذي كان قد شكل كتلة سماها (حركة الثوريين العرب) ، ومع قائد الحرس الجمهورية عبد الرحمن إبراهيم الداود، لذلك أجرى النايف عدة اتصالات مع بعض القادة العسكريين، ورأى أن أحمد حسن البكر هو أفضل من يحقق له مطالبه( ).
إضافة إلى ذلك أن من أسباب تحرك النايف هو أنه كان قد عمل مع الداود على إضعاف حكومة طاهر يحيي بإثارة الناصريين ضده، ورأى أنه فيما لو تشكلت حكومة جديدة برئاسة طاهر يحيي، فإنه سيشرع بتصفية الضباط الموالين للنايف، وبالفعل فقد بدأ مع قائد الأركان اللواء إبراهيم فيصل الأنصاري بعمليات تسريح لأنصاره، ورغم تدخل عبد الرحمن عارف لإيقاف هذه التنقلات إلا أنها لم تلغ، فكان هذا حافزاً للنايف للتعجيل بالانقلاب قبل تشكيل الحكومة الجديدة، خاصة بعد أن عرف الفريق يحيي طاهر بخطط النايف للقيام بانقلاب يطيح بالنظام ،وذلك بعد وصول أخبار اتصالاته مع القوات العراقية المتواجدة في الأردن، إضافة إلى اتصالاته مع الملحق العسكري في بيروت العقيد بشير طالب، والسفير العراقي في بيروت ناصر الحاني ، خاصة بعد أن رفض الرئيس عبد الرحمن عارف، أن يشكل الحكومة عبد الغني الراوي، ورفض السفير العراقي في موسكو (محسن حسين الحبيب) تشكيل الحكومة، بعد أن نصحه بعض السياسيين بأن انقلاباً وشيكاً لابد منه سيحصل قريباً( ).
وقد عمل النايف على عقد اجتماعاً في وزارة الدفاع مع بعض السياسيين العسكريين تداول فيه موضوع الأمن وسمعة الحكومة، وتفش الرشوة والفساد وتقاعس الموظفين وإهمالهم، حيث اتهم رئيس الحكومة الفريق طاهر يحيي، بالفساد( )، ورغم ذلك لم يتجاوب معه من الضباط إلا القليل.
في هذه الأثناء كان أحمد حسن البكر مع القيادة القطرية لحزب البعث يدرس طبقة التركيبة العسكرية التي تسيطر على أهم النقاط الحساسة في بغداد خاصة ، والعراق بشكل عام، وبعد هذه الدراسة التي استغرقت عدة اجتماعات رأى البعث: إن مدير الاستخبارات العسكرية شفيق الدراجي الذي كان على صلة بالقيادة القطرية لحزب البعث من خلال اللواء أحمد حسن البكر (المتقاعد)، إلا أنه كان شخصية ضعيفة ومترددة بينما معاونه العقيد عبد الرزاق النايف أكثر ذكاءاً وجرأة، وأنه لا يوجد بين الضباط البعثيين رتبة عسكرية أكثر من رتبة مقدم، لذلك فمن الضروري الاستعانة بضباط مؤثرين من خارج تشكيلات البعث، ورغم رفض قيادة البعث الاتصال بعبد الرزاق النايف كونه على علاقات خارجية مشبوهة بالخارج، لذلك فقد توجه البعث إلى العقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود، الذي كان يقود الحرس الجمهوري، على أساس توجهاته القومية، إلا أن تأثره بعبد الرزاق النايف حيث لم يكن يرفض له طلباً، ويعتبره مثله الأعلى ، لذلك فقد رأى البكر ضرورة الاتصال بضباط أخرين مثل اللواء سعيد صليبي، وهو آمر موقع بغداد، والعقيد مشحن الحردان آمر الانضباط العسكري، وكلفهما بإقناع الدود، على لقاءه بالبكر، وبالفعل فقد حصل اللقاء بينهما، ووافق الداود على العمل مع البكر، بعد أن اشترط عليه البكر بعدم إشراك (النايف)، كما اتصل البكر بالعقيد سعدون غيدان آمر كتيبة الدبابات في الحرس الجمهوري، الذي وافق على العمل مع حزب البعث، وأنه سيفتح أبواب القصر الجمهوري للانقلابيين، كما اتصل البكر مع بعض الضباط الآخرين ووعد بترقيتهم في حال نجاح الانقلاب، كما عمل الفريق المتقاعد صالح مهدي عماش على التنسيق في بيته مع الانقلابين، إلا أن الداود أخبر النايف بأمر الانقلاب، فاضطر البكر إلى إشراكه في الانقلاب ووعده برئاسة الحكومة، لكنه عمل على التنسيق مع مرافقه لمراقبة تحركاته ، وقتله إن هو تحرك وفقاً لخط غير الخط المرسوم له( ).
وعلى هذا الأساس استغل الضباط الثلاثة، العقيد عبد الرزاق النايف، والعقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود، والمقدم سعدون غيدان، فرصة غياب آمر موقع بغداد العميد سعيد الصليبي، وتحركوا مع حلفاءهم من القادة البعثيين العسكريين السابقين (أحمد حسن البكر، وحردان التكريتي، وصالح مهدي عماش ..إلخ)، للسيطرة على القصر، حيث فتح لهم سعدون غيدان، في ليلة السادس عشر من يوليو 1968 ،فتم السيطرة على القصر بإطلاق خمسة طلقات تحذير للرئيس عبد الرحمن عارف، ثم اتصل البكر بعبد الرحمن عارف قائلاً له: " إن التغيير لم يكن ضدك شخصياً، بل لإنقاذ البلد من الفتنة والأزمات، وأن حمايتك مطلوبة، وإن القيادة قررت تسفيرك إلى الخارج"( ) ، حيث تم أخذ عبد الرحمن عارف إلى بيته ومن ثم إلى المطار حيث نفى إلى لندن.
وفي صباح السابع عشر من يوليو 1968 أعلن البكر عن سقوط النظام، وتشكيل مجلس قيادة ثورة برئاسته، وتسلم مقاليد الحكم، واصفاً أن هذا الحكم هو ثورة بيضاء، وجاء في بيان الانقلاب:
" بعد الاتكال على الله وعلى الغيارى المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة، قامت الفئة المؤمنة بربها وبأهداف الأمة العربية من أبنائها البررة بتفجير ثورة 17تموز/ يوليو 1968 واستلام مقاليد الأمور وإنهاء الحكم الفاسد المتمثل بزمرة الجهلة الأميين والمنتفعين واللصوص، والجواسيس والصهاينة والمشبوهين العملاء الذين لا صلة تربطهم بتربة هذا البلد، والذين باعوا الوطن واستحلوا أموال هذا الشعب وأكل السحت الحرام، وادعوا الخبرة الكاذبة في شتى المجالات، وصيروا الوطن إقطاعيات اقتصادية، وبقرة حلوب لمآربهم الخاصة، دون أن يلتفتوا إلى مصالح الشعب والجماهير المناضلة، وقد تحكموا في خيرات الوطن ونهبها بشكل لم يسبق أن أقدمت عليه أشرس موجات الغزو الأجنبية في تاريخ العراق، وبناءاً على ذلك فقد قررنا:
- إقصاء الفريق عبد الرحمن عارف من مناصبه وإحالته إلى التقاعد.
- إقصاء حكومة الفريق طاهر يحيي.
- تشكيل مجلس قيادة الثورة يتولى شؤون البلاد"( ).
ثم أعلن مصدر عسكري رسمي بياناً أخر جاء فيه :
" إن العناصر التي قامت بالانقلاب هي عناصر قومية معتدلة، وإن الانقلاب هدفه القضاء على الفساد والرشوة وإجراء انتخابات نيابية لاختيار ممثلين حقيقيين عن الشعب، وأن رئيس الجمهورية، يجب أن ينتخب بواسطة صنادق الاقتراع لا بواسطة السلاح، وأن الرئاسة ستبقى بالتناوب بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حتى يتم انتخاب رئيس للجمهورية عن طريق الشعب ويوضع دستور دائم للبلاد........ وأن الانقلاب كان متوقعاً حدوثه منذ أكثر من عام، وقبل نكسة حزيران/ يونيو/ وأن جميع الأحزاب والشخصيات العراقية كان متفقة على مهاجمة حكومة الفريق يحيى، ولكن لم يكن باستطاعتها القيام بأي إجراء حاسم دون تأييد عسكري، وأن الحكم في العراق قد انحدر خلال الأشهر الأخيرة القليلة الماضية وأصبح هزيلاً، فالخلافات كانت تنفجر بين الوزراء والمعارضين في مكتب رئيس الجمهورية"( ).
يتضح من البيانين السابقين أن العسكريين ما كانوا ليقوموا بالانقلاب لولا مآخذهم على الفساد الذي طال أجهزة الدولة كافة( )،واستغلالهم لموارد الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، إضافة إلى ديكتاتورية الحكم، وابتعادهم عن الشعب، على اعتبار أن الانقلابيين هم من الشعب وللشعب، وبالفعل سيتبين أن جيش النظام في عهد عارف لم يكن يمثل كامل الشعب العراقي، حيث أن عدد ضباط الجيش خلال هذه الفترة :
20% من الشيعة العرب.
70% من السنة العرب.
10% من الأكراد والمسيحيين والأقليات الأخرى.
وهذا لا يمثل النسب الحقيقية لسكان العراق من هنا نجد أن جيش النظام لم يكن يعبر عن حقيقة وهوية الجيش العراقي بشكل عام، إضافة لما استشرى في ظله من علاقات شخصية وعشائرية وقرابية، وإقليمية،وعلى هذا الأساس فالجيش في مثل هذه الحالة ليس معبراً عن ماهية الشعب وبالتالي فدوره في الوحدة الوطنية كان ضعيفاً، والدليل على ذلك الانقلابات المتتالية التي كان نهايتها انقلاب 17 يوليو 1968 وسقوط النظام، إضافة إلى تدخل العسكريين بالسياسة، ورفضهم لأي حكومة تحد من امتيازاتهم وطموحاتهم.
وبذلك نخلص من هذا المبحث أن نظام الأخويين عارف، الذي يعتبر من تداعيات نظام البعث السابق عام 1963، لم يستطع أن يحقق الوحدة الوطنية بالمعنى الإيجابي لها، فلم يستطع حل مشكلة الأكراد في الشمال، والحفاظ على وحدة كيان الدولة بشكل سلمي، وبما يحقق احترام الثقافة الوطنية للبلاد ولغتها الرسمية، إضافة إلى الثقافات الوطنية لفئات العراق الأخرى، كما أنه لم يستطع تحقيق الحرية العدالة والمساواة في الدولة، بما يجعل المواطنين العراقيين على قدر المساواة، وبما يحقق لهم موارداً متساوية، بغض النظر عن الفئة، أو الطائفة أو الإقليم أو الطبقة، أو العشيرة أو العرق، أيضاً، لم يستطع هذا النظام تحقيق التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب العراقي ونظامه السياسي، بحيث يردم الهوة بين النظام والشعب، بحيث يكون النظام معبراً بشكل فعلي عن الشعب، إضافة إلى ذلك أن الهوية الوطنية للجيش العراقي لم تكن تعبر عن الشعب العراقي ككل، حيث اتسم قادة الجيش، بانتمائهم لإقليم وعشائر وطائفة وعرق محدد، فرغم أن القيادة كانت تضم جميع الفئات إلا أن عدم تساوي الفئات في المناصب جعل الجيش غير معبِّر عن تشكيلات المجتمع العراقي.
وعلى هذا الأساس نخلص من هذا البحث أن كلا نظامي البعث تداعياته -فترة الأخويين عارف- ، لم يستطيعا تحقيق الوحدة الوطنية في العراق وفق محددات الدراسة، فكلاها لم يستطيع حل المشكلة الكردية، إضافة إلى بروز النزعة الطائفية، في فترة الأخويين عارف خاصة في شقها الأول، كما أن كلاهما لم يستطع التعبير عن الثقافة الوطنية العراقية ولغتها الرسمية خاص بين الأكراد، ولم يستطعا تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، فالجيش الشعبي للبعث أعطى سمعة سيئة للنظام، وأضعف الوحدة الوطنية، أيضاً، انتهازية بعض المسؤولين في كلا العهدي البعث وعارف، ساهم في إضعاف الوحدة الوطنية، كما لم يحصل تفاعل سياسي واقتصادي واجتماعي بين الشعب والنظام السياسي في كلا العهدين، فبقيت الهوة كبيرة بين الشعب والنظام، وإن كانت أكبر في ظل النظام العارفي، كما أن الجيش لم يعبر في كلا العهدين عن الشعب العراقي، وإن كان تعبيره بشكل أكبر في ظل نظام البعث ، بسبب اعتماد النظام العارفي على فئات بعينها ذات خصائص عشائرية وإقليمية ومذهبية إضافة لعوامل شخصية، إلا أن ذلك لم ينجه من الانقلاب عليه من عناصر كان يعتمد عليها ويثق بها بشكل مطلق.



#عزو_محمد_عبد_القادر_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقات السعودية المصرية قي عهد الملك سعود
- حول العلاقات السعودية المصرية
- مقترح بحث عن موضوع الوحدة الوطنية في ظل حكم حزب البعث العربي ...
- المساعدات العربية للدول الإفريقية
- الجامعةالعربية ودورها في المساعدات الاقتصادية لإفريقيا
- المصالح الاقتصادية المشتركة بين العرب والأفارقة
- دراسات أفروعربية
- حول التُجّارِ الصوماليينِ في مجتمعِ جنوب إفريقيا
- ثقافة العنف بين الشباب
- العدوان على غزة : خريطة الحدث والدلالات الحضارية
- تداعيات الأزمة الاقتصادية في مصر وسبل حلها
- العلاقة بين الوحدة الوطنية والحزبية
- العوامل المؤثرة على الوحدة الوطنية
- محددات الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث (الجزء الثاني ...
- مفهوم الحزبية والنظام الحزبي (الأحادي، الثنائي، التعددي)
- محددات الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث (الجزء الأول )
- تأثير الانترنت على ثقافة الشباب العربي
- مفهوم الوحدة الوطنية قديماً وحديثاً
- الدور القومي للمناضل أحمد الشريف في المقاومة الليبية
- عدم الاستقرار السياسي في القرن الإفريقي (الجزء الثاني)


المزيد.....




- رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك بـ -الملياردير المتغطر ...
- إسبانيا تستأنف التحقيق في التجسس على ساستها ببرنامج إسرائيلي ...
- مصر ترد على تقرير أمريكي عن مناقشتها مع إسرائيل خططا عن اجتي ...
- بعد 200 يوم من الحرب على غزة.. كيف كسرت حماس هيبة الجيش الإس ...
- مقتل 4 أشخاص في هجوم أوكراني على مقاطعة زابوروجيه الروسية
- السفارة الروسية لدى لندن: المساعدات العسكرية البريطانية الجد ...
- الرئيس التونسي يستضيف نظيره الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي ال ...
- إطلاق صافرات الإنذار في 5 مقاطعات أوكرانية
- ليبرمان منتقدا المسؤولين الإسرائيليين: إنه ليس عيد الحرية إن ...
- أمير قطر يصل إلى نيبال


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عزو محمد عبد القادر ناجي - الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963وتداعياتها خلال العهد العارفي