أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - لهاث ..















المزيد.....

لهاث ..


جلال نعيم

الحوار المتمدن-العدد: 889 - 2004 / 7 / 9 - 09:14
المحور: الادب والفن
    


إلى نرمين ..
" اعرف نفسك .. ! "

قالها سقراط يوماً .. بالمناسبة سقراط ليس أحد أصدقائي ، ولم أتقاسم معه طاولةٍ في بار ٍ منطفيء الأضواء ذات مساء . ومع ذلك لن أفاجأ كثيراً إذا ما صادفته هائماً في زقاقٍ ضيق من أزقّة بغداد . بل أني سأصافحه وأقبّله وكأنه أحد شيوخ قريتنا البائسة البعيدة .

" اعرف نفسك .. ؟ "

.. والعالم ثور هائج .. ولكن هل عرف سقراط نفسه..؟ سألت وكعادتي أجبت نفسي بإستهتار مَنْ يُمسُك العالم من فخذيه : " بالطبع لا .. وإلا لمات منتحراً مثل أيّ بغلٍ جسور ! "
وسمعتُ خطوات وأنا أمسّدُ لحيتي التي أطلقتها منذأكثر من ستّة أشهر .. ستّة أشهر إغتنت بالتطواف والصراخ والضياع في أزقة هذه المدينة البكماء .
يوم غادرت قريتنا البعيدة حاملاً طوق أمي الذهبي وأسئلتي ومخلّفاً أسراباً لا متناهية من الأسئلة الشرسة العنيدة . أوقفني "حسن" بوجهه الطفولي المُغطّى بالنمش المزمن : " عن أي شيء تبحث هناك ؟ "
أجبت دون وعي : " إسأل سقراط .. فمعه ستكون رايتي ومصيري ..." .
كان شارع الرشيد غاصاً بالأقدام الهادرة والوجوه المُقفلة .. يا لبؤسهم ..أنهم يدورون في كل مكان ، كل شارع ، كل ساحة ، حتى المقابر لو قلبت بطونها لوجدتهم يدورون فيها كالديدان الضالّة .. أتراهم يبحثون عن شيء ؟ عن السعادة أو عن موتها ؟ عن الغنى ؟ .. عن الوهم ..؟ ..
مسكين قلبي تحاصرك الوجوه والعضلات والأقدام ، ووسط عالم يغوص في حيرته تتيه أتراهم يبحثون .. ؟ وأيّ شيء يستحق كل هذا البحث والعناء ؟
- أتعرف ما هو سر الحياة ؟
همس بأذنك أحدهم وهو يتلفّت كلص خبير :
- الخبز والموت !
العالم مشنقة في صحراء ...
سئمت التسكّع ، وقفت أمام " كابينة " كهرباء بدت كتابوت يُشجّع على الموت المريح . " أنه مثل المدينة .. قبر مُحكم الإغلاق . واتتني رغبة لذيذة بارتقاءه والقاء خطبة عصماء من أعلاه .. سأصرخ وأنا أمسّدُ لحيتي بين جملة
وأخرى كخطباء العصور السحيقة بينما يداي تشيران الى هنا وهناك .
" تعالوا يا أزلام الزمن المُتعَب .. تعالوا إلي ..أنت أيها العربي المتأبط عباءك البنية ودموع سباياك .. طوح بعقالك الأسود بعيداً وتعال هنا .. وأنت يا أمرأة من جمر ونار .. يا من تحملين وجه وصمت حبيبتي الموعودة . حطّمي أقفال شفتيك الصدئة وتعالي .. وأنت مزّقي ثوب حدادك الأبدي وتعالي .. تقيأي التوابيت الخمسة المترسّبة في رئتيك..
أيها الناس : هيا معي لنغادر ملابسنا اللّعينة في عرض الشارع .. هنا في الحدائق وعلى الأرصفة ولنكن عُراة كالأنهار أو كما أراد لنا ذلك ألماغوط ألبعيد ! هيّا ولتكن مدينتنا أجمل مدن هذا العالم الكونكريتي .. مدينة العُري والصفعات الثقيلة " .. و ...
.. ولكنني انتبهت فجأة . ثقُلَ في رأسي وخَفّتْ قدماي وأخذت عيناي تتأرجحان كبندول ساعة قديمة وهما تتابعان مِؤخّرة ممتلئة لأمرأة في الثلاثين. تقدّمتُ منها بخطوات وسرتُ الى جانبها حتى لامست يدي مرتفعات زنديها . قلت لها بجوع سحيق :
- يا صاحبة الجلالة المعظّمة . انني أشتهيك !
ولكنها أستدارت نحوي بوجهها الملكي وعرّتني حتى من جلدي بنظراتها
ووجدتني واقفاً أزاءها كهيكل عظمي منسي في مختبر مجهول ، بينما ظلت ابتسامتي البلهاء منحوتة على شفتي .
- ومَن أنت حتى .. ؟ هاااااا ؟
دهمني عطر أنفاسها فنسيتُ كل تلك العيون التي أخذت تحدّقُ فيّ من كل
إتجاه بساديّة موروثة :
- صعلوك .. انظر في المرآة وستعرف مَن أنت !
تركتني مبتعدة وهي تؤرجح قُبّتين من قباب اللحم المقدس خلفها وهما ترقصان مع كل خطوة تخطوها . تابعتها بنظراتي حتى غابت وسط القطعان التي يضجُ بها الشارع في مثل هذا الوقت .
" مَن أنت .. ؟ " إبنة ال ... أنا رجل هدّم كل القلاع القديمة خلفه كي يبحث عن أفق آخر .. رجلٌ تواجهه أبسط مفردات هذا العصر وكل عصر ويقف أمامها عاجزاً مطأطئاً رأسه كفأر مهزوم .. رجل يبحث عن الثورة أحياناً وعن السعادة والجنّة أحياناً أخرى .. ووحده الجحيم ما يُلاقيه في كل مكان .. أين
أولّي وجهي ؟ .. وقبل أن أستطرد في تأملي اتخذتُ قراراً كنت بعده في أحد التاكسيّات . وصفتُ المكان للسائق وها هو الآن متجه إليه . كان يثرثر أحياناً أو يُدندن بأغانٍ لم تطرق أذني من قبل وفي أحدى المرات أوقف التاكسي بقوة وصرخ بينما تموء عجلات سيارته وشممت الرائحة المنبعثة إثر احتكاكها بالإسفلت " سوّاق آخر زمن .. ! " صرخ ، وهو ينظر نحوي يستحثني على الكلام أو التعليق فبعثت له إبتسامة صفراء وفرشت الجريدة
في حضني متجاهلاً توسل نظراته .
و ما أن أغلقت باب التاكسي حتى رأيتها . كانت بثوبها الداخلي الأبيض واقفة على الشرفة . لوحتُ لها بيدي ، فقذفت لي قبلة هوائية باردة .. إستللت النقود من جيبي وعددتها .. انها كافية وتزيد . اعدّتها الى جيبي وأخذتُ أعدّ درجات السلّم وأنا أفكرُ .. واحد .. اثنان .. لماذا أنا صاعد ؟ .. ثلاثة .. للقبض على لحظات سعادة ؟ .. وأية سعادة هذه ؟ .. سأدخل لأجدها كما في كل مرة ، ممدة على فراشها القذر كجثّة مُشهرة ساقين بلون الغُبار .. خمس ، ست . وكأي برجوازي سأم تأدية دوره كشحّاذ في مسرحية بذيئة سألهث ، نعم سألهث على صدرها الدبق . لحظات . ثم تصفع مؤخرتي بباطن كفّها . ستصرخ في وجهي من دون أن تتخلى عن علكها النتن : " قم يا إبن أل... ألم تشبع ؟ "
عندها سأنهض كلصّ مذعور وأخرج كما أنا الآن ..
عدتُ أدراجي . عدتُ كالهارب وما هي غير دقائق حتى وجدت نفسي في المقهى حيث عاد سقراط يُطلق علىّ مدفعيته الثقيلة " اعرف نفسك "
.. وهي " أتعرف نفسها " ؟ .. أنها بغي ..وأنا ؟ .. نهض الرجل ذو العينين الباكيتين . بدلّ الأسطوانة وأدارها في جهاز التسجيل فأنطلق صوت أم كلثوم .. آه أيتها السيدة ! الفن ، الحزن والحب معاً .. الحب ؟! ومن جلب هذا المجهول إلينا ؟
انهم يحبّون أنفسهم .. وأنت ؟! . أنهم يعرفون أنفسهم .. وأنت ؟!
كان " أبو عباس " النادل العجوز يحمل أقداح الشاي ويدور بها من أول النهارحتى آخر الليل . ها هو قادم نحوي . الآن سأسأله " ألا تفكر يا أبا العباس بأن تتتقيأ هذه النكتة اللّعينة التي يسمّونها الحياة ؟ " ولكني لمحتُ في عينيه غضباً مكبوتاً فأدركت بأني لو سألته لرماني بكل ما تطاله يداه من أقداح وأباريق ومنافض والا فأنه سيحطّم أحدى الأرائك على رأسي .. حينذاك سيصفّق له الجميع بهستيريا مألوفة .
نفذتُ بجلدي كي لا أحقّق هذه الرغبة المشنوقة فعادت قدماي لتضربان
أرض الرصيف الذي اعتادته منذ أكثر من ستة أشهر . كان اللّيل قد أنزل ظلاله السود على الشوارع . إنعطفتُ لأدخل أحد الأزقة الضيّقة متجهاً الىغرفتي الرطبة المنزوية في فندق متهالك حيث تختلط رائحة التبغ برائحة
الكتب وروائح أخرى عديدة . توقف ضرب مطارق الأسئلة على رأسي وأنفتحت نافذة أخرى ليندسّ في أعماقي شعور طاغ بالغثيان .
أنصتُ لخفق خطوات خلفي . ظننتُ للحظة بأن سقراط ما زال يطاردني .
توقفت وأنا أرتعش لكن الرجل القادم تجاوزني بخطوات ثابتة دون أن يلتفت ، مخلّفاً شعاعاً ضوئياً خافتاً عكسته صلعته الصفراء .
- عمّو . بيش الساعة ؟
انتبهتُ فجأة على صوت ممطوط لطفل يمدُ حروف كلماته بعذوبة نادرة . كان الطفل جالساً على صندوق بلاستيكي وقد صُفت أمامه عدة صناديق بيبسي كولا فارغة . أجبته مبتسماً :
- السابعة .. الساعة السابعة .
أردتُ أن أمضي مسرعاً الى غرفتي غير اني شعرت بعطش مباغث ،
سألته : " عندك بيبسي ؟"
فأجاب بفرح غامر :" نعم .. نعم . آخر وحدة .. ! "
كرعت كل ما في القنينة دفعة واحدة وأعدتها له ثم دسستُ في كفّه الصغيرة حزمة أوراق نقديّة . وقلت له بلا مبالاة مصطنعة :
خُذ الباقي لك ..
سأل الطفل بخجل : " إلي .. ؟"
أجبته بنظرة موحية أن نعم فانفرجت أساريره وأضيئت عيناه بفرح متدفق وأرتسمت على محيّاه لوحة لم أرَ في حياتي أجمل منها .. أخذ يحرك يديه وكتفيه بتناسق رائع وكأنه يبدع رقصة بدائية جديدة وهو يغنّي كلماته :
" هيْ .. هيْ بعت آخر بُطل وأعطاني عشرين "
شرعت بالتحديق الى عينيه اللتين أندلعت فيهما شعلة من فرح حقيقي نادر لا تشوبه آهة واحدة .. حينها أخذت أشكال عديدة بالتداخل في رأسي . وجوه تنهار وتذوب وأخرى تنبعث هادئة ، جميلة ، مرفرفة في عيني طفل " هي الجنّة إذن !! " هتفتُ في سرّي وأنا أنطلق بسرعة الى غرفتي . ارتقيتُ السُلّم بطفرات متلاحقة وما أن فتحت الباب حتى رأيته..كان سقراط نفسه بوجهه الشهير وصلعته اللامعة متربعاً على فراشي .
كان هو بعينيه المبتسمتين يحتسي سُمّهُ
ويتجشأ
بإستمتاع أزليّ ..

بغداد 1993



#جلال_نعيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألدنيا ألخضراء
- نص ونقد : (ألعاصور) أو شارلي ألعراقي مُتمرّداً على آلهة أزمن ...
- إنوثة...!
- فيفا كولومبيا ..! - قصّة
- سياط .. - قصّة
- إحتراق ..! - نصّ
- حوار شخصي مع عبد ألهادي سعدون ..!
- خمسة مسافرين .. في خمسة زوارق ورقيّة ..
- إنّهم يقتلون الجياد .. !
- روزاليندا ..!
- اليوم ألأخير للمطر ..!
- وقت للحب .. !
- مجانين
- إستمناء آخر
- محاجر


المزيد.....




- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - لهاث ..