أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الله أوجلان - هل للمدنية الدولتية أن تتوافق مع الحضارة الديمقراطية؟ (24)















المزيد.....



هل للمدنية الدولتية أن تتوافق مع الحضارة الديمقراطية؟ (24)


عبد الله أوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 2922 - 2010 / 2 / 19 - 02:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هل للمدنية الدولتية أن تتوافق مع الحضارة الديمقراطية؟ (24)


عبد الله أوجلان

1- لا نستطيع القيامَ بنشاطٍ سوسيولوجيٍّ سليم، ما لَم نُحَلِّلْ نشوءَ السلطةِ على مرِّ التاريخ. إنَّ العلومَ الاجتماعيةَ المُراد تطويرَها بمفهومِ العلم الوضعي، أو بتعبيرٍ آخَر ببراديغماه، بَقِيَت عالقةَ في ردبٍ مسدود. وإلا، فلن نستطيعَ إيضاحَ ظاهرةِ الاستعمار والحروبِ المتصاعدة لهذه الدرجة. محالٌ أنْ يَكُونَ رجلُ العلم أقلَّ مسؤوليةً إزاءَ المجتمع من رجلِ دينٍ أو رجلِ أخلاق. ما دامَ العلمُ يُشَكِّلُ قوةَ معانٍ أرفعَ مستوىً مقارنةً بالميثولوجيا والدين والفلسفة، ورغمَ إنجازه ثورتَه وإعلانِ انتصارِهِ (في القرن السابع عشر)؛ فلماذا إذن عَجِزَ عن إبداء قدرتِه وتفوقه هذا تجاه ظواهرِ الحربِ والاستغلال؟ بالمقدور الإشارة إلى سلطويةِ العلم كعلةٍ أساسيةٍ في ذلك. فعندما يَغدو العلمُ سلطة، يَفقُدُ حريتَه دون بُد.
إذا ما عرَّفنا العلمَ بأنه التفسيرُ الأرقى للمعاني، فإما أنْ يَكُونَ تكامُلُ العلم بهذه السرعة مع السلطةِ فشلاً ذريعاً باسمِ العلم، أو ثمة مشكلةٌ جديةٌ في إيلاءِ المعنى على ما عُرِّف بأنه العلم. رَغِبتُ في عقدِ العلاقةِ بين هذه المشكلةِ والوضعية. فرغمَ توجيهها الانتقاداتِ اللاذعةَ، لكنّ كونَ الوضعيةِ متخلفةً حتى عن الدين والميتافيزيقيا، وخليطاً يتداخلُ فيه الدينُ والميتافيزيقيا مع الماديةِ الأكثر فظاظة؛ إنما يتضحُ بجلاءٍ ساطعٍ مِن خلالِ مستوى اللامبالاةِ الكبرى للمنهجياتِ المسماةِ بالعلومِ الوضعية (حيث لم تفعل شيئاً مقابل الاستغلال والحروب، ولم تَعتَبرها مشاكل معنية بها، لتصبح فيما بعد علوم السلطة). النتيجةُ الأهمُّ الواجب استخلاصَها من ذلك هي مدى حاجةِ العلمِ الماسة لإعادةِ تفسيرِ معانيه. ثمة حاجةٌ ماسةٌ للعلمِ بثورةٍ براديغمائيةٍ جديدة. لقد امتَحَنتُ قوتي في التفسير من خلالِ هذا العملِ كتطبيقٍ لمهارتي في المعنى والإدراك. والنتائجُ متعلقةٌ بهذا الامتحان.
2- ينبغي التفكير بالسلطة باعتبارها تقليداً، بل هي إحدى أقدمِ التقاليد، وليست تكامُلَ الأعمالِ التي يَسري حُكمُ ولادتِها على المجتمعات يومياً. فضلاً عن ضرورةِ الإدراكِ بمنوالٍ أفضل بكثير أنها ليست مجردَ دولةٍ وحسب. فاختزالُ السلطة إلى الدولةِ وأشكالها، يُشَكِّلُ أساسَ الأخطاءِ اللاحقة، مثلما يحصل ذلك بكثرة. سِيّما وأنّ توحيدَ وعَرضَ الممارساتِ والأنشطةِ الحربيةِ مع تطبيقاتِ السلطةِ الأخرى الضاربةِ للنظر، سيَكُون التفسيرَ الأكثرَ انتهازيةً للسلطة. كثيراً ما استَخدَمتُ عبارةَ "الرجل الماكر والقوي" في عملي هذا كمصطلحٍ تَصَوُّرِيّ. أَوَلا يَدورُ الحديثُ عن "اليدِ الخفية" المرتِّبةِ لشؤونِ الأسواق؟ تلك العبارةُ أيضاً أَشبَهُ بشيءٍ كهذا، لكني على قناعةٍ بِقِيمَتِها التعليميةِ المفيدةِ بدرجةٍ عُليا من حيث استيعابِ أساسِ السلطة. فكلُّ العلاقاتِ وأصحابها الذين يَطفون على الوجهِ أحياناً، ولكنهم غالباً ما يَبقَون عائمين تحت السطحِ المكشوف للمجتمع، ويُرَتِّبون شؤونَ السلطة من هناك؛ إنما هم مؤسِّسو السلطة.
السلطةُ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تعني الاستعدادَ أكثر للتعمق والديمومة. ربما كان النصيبُ الأولُ والأعظمُ فيها من حصةِ الرجلِ المُرَوِّض والمُدَجِّن للمرأة. حيث أنّ الشامانيين الذين أَسَّسوا الاحتكارَ اعتماداً على قوةِ المعنى، واكتَسَبوا الهويةَ الدينيةَ بِالرَّهْبَنَة؛ قد طغى تأثيرُهم على تقديسِ القوةِ العلنية للسلطة، وخلعِ مسحةٍ من السِّرِّية عليها. بالإمكان ربط ميثولوجيا السلطةِ وجميعِ اصطلاحاتِ التأليه بهذه المجموعة. فالعباراتُ المثيولوجيةُ والدينيةُ أَثَّرَت بنسبةٍ قصوى في إنشاءِ السلطةِ وشَرْعَنَتِها. وثالوثُ النظامِ الأبويِّ الهرمي المؤلَّف من الراهب + الإداري الحاكم + القائد العسكري، هو بمثابةِ المجموعةِ الناشرةِ لأرضيةِ السلطةِ بين صفوفِ المجتمع على أوسعِ نطاق. وهم مبدعو تقاليدِ تأسيسِ أولِ عرشٍ للسلطة وترميزها. وما المصطلحاتُ مِن قَبيل: الألوهيةِ، العرشِ، السمو، الفصلِ بين الإله والإنسان، الحطِّ من شأنِ الإلهة الأنثى، والعبودية؛ سوى رموزُ السلطةِ المنيعةِ المتبقية من تلك المرحلة.
3- سلطةُ الدولةِ شكلٌ من أشكالِ السلطةِ الهرمية، راسخٌ وملموسٌ بشكلٍ أكبر تأسيساً على أرضيةِ تدجينِ المرأة واستعبادِ العِبَاد. ويُعَبِّرُ عن ترتيبِ علاقاتِ السلطةِ المستشرية للغاية في المجتمع، والوصولِ بها إلى حَدٍّ مُعَيَّن من المسؤولية، واستخدامِها بتأثيرٍ واقتصاديٍّ أكبر. السلطةُ تحتوي الدولة، ولكنها تحتوي الكثيرَ جداً عداها. فالدولُ عبرَ التاريخ هي المؤسساتُ الاحتكاريةُ التي تُصَيِّر نفسَها على نحوِ مصطلحاتٍ بالأكثر، وتَبتَدِئُ التاريخَ مِن نفسِها. وهي في نهايةِ المطاف تُعَبِّرُ عن إخراجِ القوةِ الاقتصادية المتزايدةِ للمجتمع من كونِها موضوعاً للسياسةِ الديمقراطية، وعن تأسيسِ الاحتكارِ عليها بهيئةِ قوةِ السلطة، وبالتالي الاستيلاء على فائضِ الإنتاجِ والقيمة. وكلُّ الأمورِ الأخرى المتعلقةِ بالدولة خَلا ذلك، كالميثولوجيا والفلسفة والدين والعلم والحربِ والسياسة، إنما تَكُون مرتبطةً بهذا الهدفِ الأصلي. ولن تتغيرَ النتيجة، حتى لو غَدَت دولةً شيوعية. تَحظى السلطةُ بالرسميةِ بين صفوفِ المجتمع بوساطةِ الدولة، وتُطَوِّر من شرعيتها.
كلُّ ما له معنى بالنسبةِ للمجتمع من نشاطاتٍ وأعمالٍ وحروبٍ وأقوال، يُكَوِّن المواضيعَ التي يُعنى بها الناطقون باسمِ الدولة بالأكثر. وعلى الصعيدِ الحقوقي، فالدولةُ كلٌّ متكاملٌ من القواعد. وبالمستطاع استخدام تعريفٍ آخَر للدولة بِكَونِها حالةَ القواعدِ المعزَّزةِ بقوةِ التقاليد. وبهذا المعنى، بالإمكان القول أنها مجموعُ العلاقاتِ المجرَّدةِ الأكثر تطوراً أيضاً. وبالرغم من الفوارقِ الشكلية التي تتضمنها التسمياتُ مِن قَبيلِ دولةِ الدين، الدولةِ الاستبدادية، المَلَكية، الإمبراطورية، الجمهورية، دولةِ الحُكمِ المطلق، الدولة الوطنية، الطبقية، الأثنية، دولةِ الحقوق، الدولة العلمانية، الديمقراطية، والاجتماعية؛ لكنّ جميعها من حيث الجوهر ليست سوى ترتيبٌ للسلطة، ووضوحٌ ملموسٌ لعلاقاتها. وكلما زادَ تعقيدُ المدن اجتماعياً، وتنامى التحولُ الطبقي فيها، كلما أدت دوراً رئيسياً في نشوءِ الدولة والسلطة. لكنْ، لا يمكن تكافؤ المدينة مع الدولة فقط.
4- المدنيةُ هي التعبيرُ الشموليُّ للتحكم والسيطرة الاجتماعيةِ التي تَكتَسِبُها الدولةُ ضمن إطارِ تركيزها على المدينة. وإدارةُ الدولة للمدينة هي أولُ مبادرةٍ مدنيةٍ جدية. وكلمةُ "المدنية" نفسِها بالأصل تُوَضِّحُ معناها هذا بصفاتِها المتحورةِ حول المدينة كالمديني والتمدن. وللمدنيةِ بعضُ خصائصِها التي تتجاوز الدولة. وأواصرُها وثيقةٌ مع الزمان والمكان. وتشتمل في داخلها على عددٍ جمٍّ من الأثنيات، الأقوام، الأمم، الأديان، العقائد، والأفكار. الدولةُ نَواةُ المدنية، لكنها ليست كلَّ شيءٍ فيها. وكذلك، فالمدينةُ أيضاً مكانٌ أصليٌّ بالنسبةِ إلى الدولة، لكنّ المدينةَ ليست مجردَ دولةٍ ولا حتى سلطةٍ وحسب. بمقدورِ المدنيات أنْ تتعددَ في الأماكن والأزمنةِ المختلفة، مثلما هي حالُ المدنياتِ المصرية، السومرية، البرسية، الإغريقية – الرومانية، المسيحية، الإسلامية، الهندية، الصينية، الأزتكية، والأوروبية. ووجهُ الشَّبَهِ فيها جميعاً هو التمدن، التحولُ الطبقي، والمدينة. قد تَكُونُ العلاقاتُ داخلَ المدنيات أو فيما بينها سلميةً أو حربية، حسبَ مضمونِ الاحتكار الاقتصادي والسياسي. فإذا ما ارتَضَت بِحِصَّتِها منه، فهي تَصِفُ ذلك بالتقاسمِ العادل، فتتصالحُ وتتسالم. وفي حالِ عدم الرضى، فإنّ الحربَ تَكُونُ وسيلةَ العدلِ التي تَلجَأُ إليها المدنيات، وبالتالي الدول، بالأكثر. ثمة صلاتٌ وطيدةٌ بين كلٍّ من الحرب، العنف والشدة، المدنية، الدولة، والعدالة والحقوق. وهي مِن حيث الجوهر إما أنْ تُعَبِّر عن تَبَنّي المجموعاتِ الاجتماعية أو الأفرادِ لأعمالِهم وممارساتهم الذاتيةِ (الاقتصادية، السياسية، والأيديولوجية) باسمهم، أو أنْ تَتَبَنّاها المجموعاتُ والشخصياتُ الأخرى. والمدنيةُ هي تَكامُلُ علاقةِ مجموعِ هذه التقاليد والمؤسسات والقواعد. أحياناً يُعَبَّر عنها بناءً على أنماطِ تكوينِ الطبقةِ وفائضِ الإنتاج، مثلما المدنياتُ العبودية، الإقطاعية، والرأسمالية. أما مجموعُ المرأة المُدَجَّنة + النظام الأبوي الهرمي + الدولة + المدنية؛ فيُساوي (=) صياغةً تَدُلُّ على مدى تكامُلِ السلطةِ بكلِّ مُكَوِّناتها ومستوياتها كمجموعِ علاقاتِ قوةٍ شاملةٍ للغاية.
5- الحضارةُ الديمقراطية صنفٌ اجتماعي مختلفٌ عن المدنيةِ الدولتية. فهي تَهدِفُ إلى إضفاءِ المصطلحات على الأشكالِ الاجتماعية التي سَبَقَت التدولَ والتمدن، أو على بُناها اللاحقةِ الباقية خارجَ نطاقِ الدولة. تَحرص الدولُ على الالتزام بتوازنها وتكافؤِها مع المجتمعِ طيلةَ سياقِ التاريخ، وتضعُ في زاويتها الركن الأقوالَ والعباراتِ الأيديولوجيةَ القائلةَ باستحالةِ وجودِ مجتمعيةٍ منفصلةٍ عن الدولة. أما الإشارةُ إلى أنّ المجتمعَ مختلفٌ عن الدولة، وأنّ له تناقضاتُه الجذرية معها؛ فهي أكثرُ العباراتِ التي تثير السخطَ وردودَ الفعلِ لدى أصحابِ الدولة. لكنْ، من المهم بمكان إيضاحَ كونِ الدولة تعني احتكارَ المصالحِ الضيقةِ للغاية من حيث الجوهر، وأنها لا تَهدِفُ أساساً إلى الاعتناء بالأعمال المسماةِ بالعامة (الأعمال المشتركة للمجتمع)، وأنها حَوَّلَتها إلى غلافٍ لشرعنةِ ذاتها.
لا ريب أنّ المجتمعَ أَخَذَ شكلاً أكثرَ تعقيداً بعدَ العصر المشاعي البدائي، وظهرَت للوسطِ العديدُ من الأعمال المشتركة الخاصةِ بالمجتمع، والتي تقتضي إدارتَها وتوجيهها. وبينما تَقُومُ الدولةُ بِتَصيير هذه الأعمالِ ذريعةً لِشَرعيتِها هي، وبِنَبذِ المجتمع ودحضِه؛ فالديمقراطيةُ تقترح بدورها – أو تُحَقِّق – تنفيذَ هذه الأعمالِ المشتركة مِن قِبَلِ المجتمعِ نفسه. هذه هي الظاهرةُ الرابضةُ في أساسِ الاختلافِ بين المدنيةِ الدولتية والحضارةِ الديمقراطية. وهي تتميز بأهميةٍ حياتية. إذ مِنْ غيرِ الممكن التحدث عن كونِ الجماعاتِ ديمقراطية، إلا عندما تَبلغُ مستوىً يُخَوِّلُها لِتَكُونَ صاحبةَ القولِ والقرار بشأنِ كافةِ الأعمال المتعلقة بها. وفي حالِ العكس، أي عندما تَقُومُ الدولةُ أو المجموعاتُ الأخرى بتأديةِ غالبيةِ تلك الأعمال، فإنّ الجماعاتِ حينئذٍ تتعرض لفقدانِ المهارةِ والحرية والمساواة والوعي. فالأفرادُ أو الجماعاتُ العاجزةُ عن جعلِ نفسِها صاحبةَ القولِ والعمل، يستحيل عليها التحلي بالوعي، أو اكتساب المهارات، أو العيش بحريةٍ ومساواة. إنّ الاختلافَ الظاهراتيَّ يسفر عن نتائجَ هامةٍ لهذه الدرجة.
من الظواهر الأساسية الواجب تبيانها بخصوصِ المجتمع، هي سيادةُ النظام المشاعي للكلانات والقبائل البدائية على مرِّ ملايينِ السنين. بمقدورنا العثور ضمن هذا النظام على الحالة الأكثر بدائيةً للديمقراطية. فكيفما أنّ الدولةَ نواةُ المدنية، فالنظامُ المشاعي البدائي أيضاً هو نواةُ الحضارةِ الديمقراطية. هذه الظاهرةُ بمفردِها كافيةٌ لتوضيحِ مدى متانةِ الأرضية الديمقراطية. التاريخُ المُدَوَّنُ يتحدث دائماً عن المدنياتِ الدولتية. أما كيف عاشت الجماعاتُ طيلةَ ملايينِ السنين ضمن الأنظمة المشاعية، وكيف دَبَّرَت شؤونَها وأعمالَها، فلا يندرجُ ضمن إطارِ هذا التاريخ. بَيْدَ أنه ينبغي أنْ يَكُونَ هذا هو التاريخُ الأصلي، باعتبارِ كونِ الحياةِ المشاعية التي عاشها النوعُ البشري مدةً طويلةً من حيث الزمانِ وضمن أوساطٍ شاملةٍ من حيث المكان، إنما تُعَبِّرُ عن المجتمع نفسه. هذا هو المجتمعُ الأصلي. أما الدولةُ والمدنية، فمُصطَنَعَتان وتأتيان بعدَ زمنٍ طويلٍ جداً. إنهما ثِقَلٌ بمثابةِ الزينةِ الموضوعة على ظهرِ المجتمع دون جدوى. فالمجتمعُ كان سيستمر بوجوده من دونهما أيضاً. علماً أنه استمرَّ فعلاً، لكنه حُكِم عليه بسيرورةٍ منحرفةٍ ومعلولةٍ ودمويةٍ ومستغَلة.
إذا ما ألقينا نظرةً على تاريخِ ولغةِ المجتمعِ المدوَّن والدولتي، فسنجد أنّ المصطلحاتِ الفنيةَ المستخدَمةَ على الدوام هي لغةُ الكذبِ والرياءِ والحيلةِ والظلمِ والقمع. حيث أُسِّسَ عالَمٌ من التصورات وكأنّ حياةً خاليةً من القمع والاستعمار والسحقِ والاضطهاد والعبودية والاستعباد محالةٌ من أجلِ المجتمع. هكذا كُبِّلَت طفولةُ حياةِ الجماعات باعتبارها حالةَ التدفقِ الطبيعي في العبور مِن التصورِ نحو الواقع، أي باعتبارها الطاقةَ الديمقراطيةَ الكامنة. الأمرُ غيرُ الطبيعي إنما هو هذا الوضع، أي المدنيةُ ذات السلاسلِ والقيود. والقول بأنّ هذه المدنيةَ قد فَجَّرَت القنبلةَ الذَّرِّية، وخاضت غمارَ الحروب دائماً بحيث لَم تَشهَد السلامَ من عمرها البالغِ خمسةَ آلافِ سنة سوى مدةَ ثلاثةِ قرونٍ فقط، وأنها هي المسؤولةُ عن حالةِ البيئة التي لا تُطاق وعن إجماليِّ المشاكلِ الاجتماعية البالغةِ حالةَ الغرغرينا؛ إنما يُشَكِّل الدفاعَ الوطيدَ عن دواعي الانطلاقةِ الديمقراطية. الوضعُ الشاذُّ هو التضخمُ المفرط للمدنيةِ الدولتية، وتَقَزُّمُ الحضارةِ الديمقراطية مقابلَ ذلك. هذا هو التناقضُ الأُسُّ الذي تَحمِلُه كافةُ المجتمعاتِ بين أحشائها. وهو وباءُ المدنيةِ الدولتية العاجزةِ عن التطور بالديمقراطية، والخاويةِ من قوةِ القول والعمل. ينبغي اعتبار حالاتِ المرحِ والهيام للمجتمعات أمراً طبيعياً بقدرِ حالاتِ الألم والحزن واللاهيامِ بأقلِّ تقدير. وهنا، فالحضارةُ الديمقراطية تعني المجتمعَ المُتَوَجِّهَ نحو هذه الحضارةِ المفعمةِ بحالاتِ المرح والهيام. إنها ليست خَياراً وحسب، بل وهي الصفةُ المميِّزةُ للحياةِ الحرةِ الطبيعية الأكثر تناغماً وتناسُباً مع طبيعةِ النوعِ البشري، والقادرةِ على توحيدِ ذكاءَيه العاطفي والتحليلي.
6- نظامُ رأسِ المال ليس – كما يُعتَقَد – منتوجاً للرأسماليةِ القائمة خلالَ القرون الأربعة الأخيرة، بل هو منتوجُ المدنيةِ الدولتية المعمرةِ خمسةَ آلافِ عام. وفائضُ الإنتاج البارز في الزراعة يُشَكِّلُ الأرضيةَ الماديةَ لنشوءِ رأسِ المال، حيث مارسَ أولَ تنظيمٍ له على أرضيةِ المعبد. فهذا النظامُ الذي يَكُون فيه الطابقُ الأعلى للإله (الحاكم الأعلى)، والطابقُ الأوسط للراهبِ كقوةٍ تشريعية (نائب الحاكم الأعلى، وسفيره المعني بالجماعات والعبيد)، والطابقُ الأسفل للعبيدِ العاملين مقابلَ إشباعِ البطن؛ إنما تَكاثَرَ، وانقسَمَ وتفكَّكَ، وتضاعفَ تصاعدياً إلى أنْ وَصَلَ راهننا. أما التمدنُ والتحولُ الطبقي والتدول، فهي في نهايةِ المطاف من ثمارِ فائضِ الإنتاج. إنّ تعريضَ المجتمعِ لتقسيمِ العمل الدائم بهدفِ مضاعفةِ فائضِ الإنتاج، وتصنيفَه إلى مراتب، وتسليحَه بالقوة، وزَجَّه في وضعِ الدفاعِ والهجوم؛ إنما يفيد بِكَونِه الظاهرةَ المسماة بالتمدن، ويسلطُ الضوءَ بكلِّ سطوعٍ على روابطها مع رأسِ المال. وبالرغم من كونِ رأسِ المال يُعَرِّف نفسَه من حيث معناه الضيق بأنه مضاعفةُ الذات اقتصادياً خلال فتراتٍ قصيرة، لكنه مطابقٌ من حيث الجوهر مع معناه الشامل الذي يعني مضاعفةَ الذات خلال فتراتٍ طويلة. فبقدرِ ما يَكُونُ الزائدُ اليومي للتاجرِ رأسَ مال، يمكن – وبكلِّ سهولة – تعريف فائضِ الإنتاج السنوي بالنسبةِ لاحتكارِ الأراضي (الدولة الزراعية) بأنه رأسُ مال أيضاً.
يشير التاريخُ إلى أنّ عصرَ التجارةِ أطولُ عمراً من المدنية (حيث يبدأ من عصر أوروك في 4000 ق.م إلى يومنا الراهن)، واستمرَّ ستةَ آلافِ عام. ومدنيةُ التُّجّار، التي بَقِيَت في المرتبةِ الثانية على الدوام نِسبةً للحضارةِ الزراعية، لم تَجِدْ لها منفساً أو رواجاً في المجتمعاتِ بشكلٍ عام، وإنْ كانت تسفر من حيث الزمان والمكان عن حضاراتٍ مدينيةٍ باهرةٍ بين الفينة والأخرى. وللطابعِ الاستغلالي للكسب دورُه الهام في ذلك، حيث تَعَشَّشَ بالأغلب في دهاليزِ التاريخ الاجتماعي وزواياه النائيةِ المعتمة. وقد صَعَّدَ من تناميه دائماً على مدى العصورِ الحضارية. أما القطاعُ التجاري، الذي صار قوةً مهيمنةً لأولِ مرةٍ في التاريخ لدى المدنِ الإيطالية فيما بين القرنَين الثالث عشر والسادس عشر، وَعَمَّ المدنَ الأوروبية برمتها فيما بين القرنَين الخامس عشر والثامن عشر؛ فلَعِبَ دوراً أساسياً في ولادةِ المدنية الأوروبية. ومثلما ارتقى إلى مرتبةِ الممثلِ الجديدِ للمجتمع، فقد بَسَطَ تأثيرَه على المحافلِ السياسية أيضاً. كما لَعِبَت الاحتكاراتُ التجاريةُ الكبرى وعملياتُ النهبِ والسلبِ الاستعماري دوراً محَدِّداً في زيادةِ رأسِ المال، وعَرِفَت كيف تَمُدُّ هيمنتَها على حركةِ النهضة والإصلاح والتنوير.
ومع الثورةِ الصناعية والتصنيع في القرن التاسع عشر، بات التصنيعُ ساحةَ الربحِ الأولية لرأسِ المال. واندراجُ الإنتاجِ والمواصلات والاستهلاك تحت مراقبةِ الاحتكاراتِ الصناعية، شَكَّل قمةَ المدنيةِ الأوروبية. وقد مهَّد هذا الوضعُ الطريقَ أمام ظهورِ الطبقاتِ داخلياً والحروبِ التحرريةِ الوطنيةِ خارجياً. وقد نَجَحَت أيديولوجيةُ النظامِ السائد في تحييدِ كِلتا حركتَي المقاومة تحت سقفِ النظام مقابل بعضِ التنازلات. أما الأزماتُ التي تمخضت عن الصناعوية، وعلى رأسها مشاكل المدينة والبيئة، فاكتَسَبَت طابعاً بنيوياً مع نهاياتِ القرن العشرين. وحصيلةَ ذلك كانت عصرَ التمويل. هذه المرحلة، التي تَحَرَّرَ فيها رأسُ المال من الإنتاج، والمالُ من احتياطيِّ الذهب، واستَفحَلَت فيها اللامسؤوليةُ التامة؛ قد تَحَوَّلَت إلى أزمةٍ شاملةٍ لسياقِ المدنية. هكذا استَنفَذَ رأسُ المال طاقتَه الاجتماعية، ويسعى لتأمينِ سيرورتِه بتحديثِ نفسه في هيئةِ الأنظمةِ الافتراضية. أما نظامُ رأسِ المال – الربح، الذي بَلَغَ حالةَ الاعتمادِ على اللفائفِ الورقية، فيَجهَدُ للإبقاءِ على المجتمع بلا ردودِ فعل عبر الأزماتِ المتواصلة. أما الظاهرةُ المسماة بحملةِ العولمة الثالثة، فليست في حقيقةِ الأمر سوى طَور الأزمة البنيوية للمرحلة الثالثة والأخيرة من المدنية.
رَأَينا من المناسب نعتَ عصرِ الرأسمالية نفسه بالأزمةِ الاجتماعية. وشَدَّدنا على الأطروحةِ الأساسية التي مفادُها أنّ الرأسماليةَ – التي يُقال فيها أنها المدنيةُ الاقتصادية بالأكثر – ليست اقتصاداً، بل هي قوةٌ احتكاريةٌ تَفرضُ نفسَها من الخارج، وبالتالي، من المحال النظر إليها بعينٍ شرعية. إنّ شروعَ قوةٍ كالرأسمالية المتسمةِ بأقصى درجاتِ الأنانية والمنفعية واللجوءِ إلى الحرب، ببسطِ سيطرتها وتَحَكُّمِها على ظاهرةٍ كالمجتمع المتميز بكونه مجموعاً شاملاً جداً للجماعات؛ إنما يعني وضعاً "طارئاً"، في التاريخ، أي أنه لا يمكن إلا أنْ يُعَبِّرَ عن حالةِ الأزمة. وعصرُ التمويل يعني انبثاقَ هذه الحقيقةِ بكلِّ جوانبها من جميعِ أجزاءِ المجتمع. أما مؤشراتُ نفاذِ النظام القائم وانتهائه، فتتجسد في: الإنتاج الدائم للإرهاب، تَرك سواد المجتمع عاطلاً عن العمل، اختزالِ ظاهرةِ العمل إلى حالةٍ شبيهةٍ بالبطالة، إفساحِ الطريق لمجتمعِ الحشد المتراكم والرعاع، تصنيعِ الفن والجنس والرياضة، وتسريبِ السلطة حتى أدقِّ الشرايين الشعرية للمجتمع. لقد خُلِقَت أجواءٌ وكأنّ التاريخَ برمته والمستقبلَ بأكمله لا يمكن أنْ يَكُونا إلا بالتأسيس على نظامِ رأسِ المال.
أما الدورُ المِحوَرِيّ للقطاعِ المسمى بالإعلام، فيَكمُنُ في عرضِ هذا المجتمعِ الافتراضي القائم على التَّشَبُّهِ والمحاكاة وكأنه حقيقةٌ واقعة. في حين يُبقى على المجتمعِ الواجب تَحَقُّقه ومعايشته خارجَ المداولةِ دوماً، بالزعم دوماً بكونه عقيماً وخيالياً ومجردَ يوتوبيا. بالمقابل، فرأسُ المال – وعلى النقيض مما يُعتَقَد – ليس سوى احتكارُ قوةٍ ونظامُ عنفٍ تَرَبَّع على الاقتصادِ منذ البداية، وحَرَّفه لأبعدِ الحدود، واستفحلَ في الميادين حتى الموت بهدفِ تضخيمِ الأرباح كالورم، عوضاً عن تلبيةِ الاحتياجات الضرورية.
7- الاقتصادُ ساحةٌ لتأمينِ احتياجاتِ المجتمعِ المادية، على العكسِ من نظامِ رأسِ المال. وبقاؤه مدةً طويلةً ضمن حدودِ قيمةِ الاستخدام مرتبطٌ بالنظام المشاعي. فالتكامُلُ الاجتماعي يُدار بمبدأٍ من النمطِ الذي يضمن حياةَ الجميع. وطبيعةُ النوعِ البشري تقتضي ذلك، حيث لم يتم التفكير بالإنتاج بغرضِ الربح في أيِّ وقتٍ من الأوقات. وبعدَ ترددٍ طويل (اقتصاد العطايا)، تَمَكَّنَ اقتصادُ المقايضة من العثور على مكانٍ له، حصيلةَ تَزايُدِ تقسيمِ العمل ضمن المجتمع. كما أنّ نشوءَ قيمةِ المقايضة بالإضافة إلى قيمةِ الاستخدام لم يَكُن بهدفِ الربح. بل تشتمل في ثناياها على تلبيةِ الاحتياجاتِ بناءً على التنوعِ المتزايد والتبعيةِ المتبادلة. أما العلاقةُ بين التبضيعِ والسوق والمال، فلَم تَهدِفْ إلى الربح في البداية، بل طُوِّرَت في سبيلِ تلبيةِ تنوعِ الحاجات وترابطها ببعضها. واقتصادُ السوق ليس اقتصادَ رأسِ المالِ – الربح، مثلما يُعتَقد، بل هو الاقتصادُ الذي تَسُوده المقايضة. والتجارةُ نشاطٌ اقتصاديٌّ ناجعٌ وضروري، في حالِ وَجَدَت مرادفاً نظيراً على شكلِ معدلِ السيولةِ مقابل جهدٍ معين. والسوقُ التي تُحَدَّدَ فيها الأسعارُ بالمنافسة الخارجةِ عن الاحتكار، تغدو ميداناً ينبض فيه الاقتصادُ بالحياة. أما المال، فهو أداةٌ لتسهيلِ المقايضة، لا غير. وشتى أنواعِ الزمر، التي تُسَمّى بأصحابِ المِهَن الحرة وصغارِ الكَسَبَة، تؤدي دورَها كعناصر اقتصاديةٍ لازمةٍ ومفيدة، ما دامت لا تَعمَد إلى الاستغلالِ ضمن السوق. وانقسامُ الاحتياجات إلى قطاعاتٍ مختلفة، من قبيلِ المأكل والملبس والمسكن وشبكة المواصلات والترفيه، إنما هو مؤشرٌ على نماءِ الاقتصاد وتطورِه. وكلُّ الجهودِ المتعلقةِ بتلك القطاعات تَكتَسِبُ معناها كنشاطاتٍ اقتصادية. كلُّ هذه الأمور مفهومةٌ وقَيِّمةٌ وأخلاقيةٌ بالنسبةِ للمجتمع بحالاتها الطبيعية.
أما الظاهرةُ التي طالما قُوبِلَت بردودِ الفعل والاعتراض، ونُظِرَ إليها على مرِّ التاريخ بأنها لا تَعني سوى السوءَ والقبحَ والطغيانَ والظلم والباطلَ وما ينبغي ألا يتواجد؛ فهي الإرغاماتُ الاحتكاريةُ المفروضةُ على الاقتصاد من الخارج، سواءً عنوةً وبالعنف، أو بأساليبِ الخداع الدقيقة (الفقر والفاقة، تكديس السلع، التلاعب بالأسعار وقيمة المال). يُسَمّى نظامُ تأسيسِ الاحتكار هذا عموماً بنظامِ رأسِ المال – الربح. ومبدأه هو جنيُ البعضِ مكاسبَ كبرى مهما كَلَّفَ الأمر، والإبقاءُ على القسمِ الأكبر المتبقي يتخبط على حدودِ البطالةِ والفقر المدقعِ والمجاعة، لِضمانِ بقائه محتاجاً دائماً لنظامِ رأسِ المال. أما مبررُه، فهو أنّ المنافسةَ ستبدأُ في النقطةِ التي تُتاح فيها فرصةُ الكسبِ الكبيرِ للجميع، وأنّ هذا بدوره سوف يُنَمِّي الاقتصادَ ويطوره. يُلاحَظ مدى كون ذلك رياءً شنيعاً من خلالِ عدم اعتناءِ أو اهتمامِ المتربعين راهناً على قمةِ عصرِ التمويل بالاقتصاد بتاتاً (فيما خَلا مسائلِ المضارَبة من قَبيلِ البورصة والربا وسعر المبادلة والصرف). أما عقدُ هؤلاء علاقاتِهم مع الاقتصاد، فهو مرادفٌ للأزمةِ من حيث المعنى. ذلك أنه لا هَمَّ لهم سوى الربح.
وبينما تُحجَبُ النشاطاتُ الاقتصادية الحقيقيةُ عن الأجندة وتُستَبعَد عن الاقتصاد تحت ظلِّ منهجٍ علميٍّ كذاك المسمى بالاقتصادِ السياسي، فإنّ النشاطاتِ الخارجةَ عن الاقتصاد تُعرَضُ على أنها المقدساتُ الاقتصادية التي لا غنى عنها (مرةً أخرى مواضيعُ المضارَبة كالبورصة والربا وأسعار المبادلة والصرف)، وتجري محاولاتُ الخداع بكونها الاقتصادَ الأعلى. بمعنى آخر، فاحتكارُ القوة يَقُومُ علانيةً وجهاراً بتقديمِ ما هو اقتصاديٌّ على أنه ليس اقتصاداً، وما هو غيرُ اقتصادي – بل وحتى مضادٌّ له – على أنه الاقتصادُ الأعلى ومقدساتُ الاقتصاد. وإذا ما سُئِل: ما المشكلةُ الأوليةُ للاقتصاد؟، فالجواب – بالطبع – هو الخلاصُ أولاً من احتكارِ النهب والسطو هذا. أي، وكي يتواجدَ الاقتصادُ الحقيقي، ينبغي الخلاصَ مما ليس اقتصاداً، ومن التضادِّ والعداءِ المفروضِ على الاقتصادِ بِيَدِ احتكارِ القوةِ من الخارج ، ومن ألاعيبِ المضارِبين في الربا والبورصة وأسعارِ الصرف والمبادلة تحت اسمِ الأخبارِ الاقتصادية. إنّ الاقتصادَ الحقيقي يعني إنتاجَ الحاجاتِ الحقيقية، وتوفيرَها، واقتسامَها واستهلاكَها بالاستثماراتِ والتقنياتِ السليمة والمعقولةِ والممكنة والصديقة للبيئة. ولإنشاء اقتصادٍ سليمٍ نستطيع تعريفه على المنوالِ الآنف الذكر، فإنّ الخطوةَ الأولى اللازمة هي العمليةُ المخطَّطةُ والممنهَجةُ والمنظَّمة للتخلصِ مما ليس اقتصاداً.
8- في البداية، تَمَرَّدَت وقاومَت الأنسابُ والقبائلُ في مواجهةِ بربريةِ العصرِ الرأسمالي الذي أراد إخضاعَها وإتباعها لسياقِ الاستعمار وشبهِ الاستعمار. فقبائلُ الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وحضارةُ الأزتك في أمريكا الجنوبية قد قاومتا حتى النهاية. والحضارتان الآسيوية والأفريقية، وقبائلُها وأقوامها أيضاً (حضارات الصين والهند والحبشة وآلاف القبائل) أَبدَت مقاوماتِها وتمرداتِها المتواصلة. والمقاوماتُ الأكثر وعياً وتنظيماً ظَهَرَ أغلبُها على شكلِ الحركاتِ التحررية الوطنية في القرن العشرين، لِتُحرِزَ الانتصاراتِ الهامة، وإنْ كانت تعاني النواقصَ والأخطاء. أما المنبهاتُ الكبرى في الداخل، فكانت مرحلةَ التحولِ البروليتاري بذاتها. فبيعُ الجهد في السوق لا يعني الخلاصَ من القِنانة وشبهِ العبودية، كما يُعتَقَد. بل، وعلى النقيض تماماً، يعني الحكمَ على مَن لا خَيار له سوى الأَجر بالخنوع للعبوديةِ الأفتكِ ظلماً. فالعجزُ عن العثورِ على عمل، وضآلةُ الأجرِ على الدوام، يُظهِر على الفور الطابعَ المُهَوِّلَ لنظامِ الطغيان والاستبداد الجديدِ بما هو أسوأُ وأنكى من سابقه.
اندلعت كلُّ التمردات الكبرى تجاه الرأسمالية بهدفِ عدمِ الوصول إلى حالةِ العمال تلك. أي أنّ تلك التمرداتِ لم تَكُ نضالاً يَرمِي إلى التحولِ لِعُمّال، بل إلى مناهَضته. والتمسكُ بتعريفٍ خاطئٍ بالقول "يحيا كفاحُ العمال"، إنما هو رديفٌ للقول "تحيا العبودية". الأمرُ الصحيحُ الذي تؤيده الحياةُ أيضاً هو مناهَضَةُ الاستسلامِ للأجر. إنّ تمرداتِ أشباهِ القرويين وأشباهِ الصُّنّاع، والتي تنامت تلقائياً كالتيهور، قد تَداخلَت على الدوام مع تاريخِ الرأسمالية. من جانبٍ آخَر، فالمتنورون المتشائمون من مستقبلِ النظام الإقطاعي، وغيرُ الجازمين بمسارِ تطورِ النظامِ الجديد، قد بحثوا دائماً عن وطنِ الشمس. وأصحابُ اليوتوبياتِ الأولى لَم يُنَبِّئوا بتاتاً بالرأسمالية. بل على النقيض، لم يَتَوانَوا أبداً عن عرضِ مشاريعهم بشأنِ مستقبلٍ واعدٍ مفعمٍ بالأمل – حتى لو كان خيالياً – تجاه هذا الكابوسِ المستفحل. أي أنّ عصرَ الانتقالِ إلى الرأسمالية كان في الوقت نفسِه عصرَ الكفاحِ في سبيلِ المساواة والحرية والنظامِ الكوموني (المشاعي) لجيلٍ بطوليٍّ واسعِ النطاقِ يتصدره اليوتوبياويون العِظام من أمثالِ سانت سيمون ، كامبانيلا ، فوريير ، وأراسموس.
وبريادةِ كارل ماركس وفريدريك أنجلز، رُفِعَت أولُ رايةِ للكفاح وفقَ الأسسِ العلمية تجاه الرأسمالية. هذه الحركةُ الأولى المناهِضةُ للنظام باسمِ الاشتراكية العلمية، باتت الكابوسَ الذي يَقُضُّ مضاجعَ الرأسماليةِ طيلةَ مائةٍ وخمسين عاماً، وإنْ كانت تشتمل في ثناياها على أخطاء ونواقص هامة. لقد أَبدَت أسمى آياتِ البطولة، واكتسبَت مواقعَ هامة، وباتت الأيديولوجيةَ الرسميةَ للاتحاد السوفييتي طيلةَ سبعين عاماً، واستَنهَضَت حتى دولةَ الصين في القارة، وغَدَت منبعَ إلهامِ الحركات التحررية الوطنية. أما سوءُ طالِعِ هذه الحركة المناهِضةِ للنظام، فكان يَكمُنُ في عجزها عن تحليلِ الحداثة الرأسمالية وعن تحقيقِ الانقطاع الجذري عنها، ذلك أنّ براديغماها العلميةَ كانت وضعية. وقَلَّما استَوعَبَت كون المدنيةِ الدولتية وتقاليدِ السلطة ليست سوى استمراراً للمدنيةِ الرأسمالية. ومع ذلك، فهي أكثرُ من جديرةٍ بأنْ تَكُونَ إحدى اللَّبَناتِ الأساسيةِ للحضارة الديمقراطية.
ينبغي عدم استصغارِ مناهضةِ الفوضويين للرأسماليةِ إطلاقاً. فقد كانوا الثوريين الماهرين في توحيدِ انتقاداتهم للنظام مع الكومونالية (المشاعية) الديمقراطية، وفي مقدمتهم برودهون، باكونين، وكروبوتكين. والحريةُ والكومونيةُ مَدِينةٌ لهم بالكثير. أما النواقصُ والأخطاءُ الأساسيةُ التي انزَلَقَت فيها هذه الحركة، فكانت تتجسد في حصرِ الرأسماليةِ في النظامِ الاقتصادي فقط، وعجزِها عن رؤيةِ دعائمِ المدنية والسلطة التي ترتكز إليها، وعن تحطيمِ قوالبِ الحداثة.
حركةُ الشبيبةِ والمتنورين، التي حَقَّقَت طفرةً في أعوام 1968، كانت أعظمَ حركةِ احتجاجٍ أثناءَ ولوجِ عصرِ التمويل، وباتت مشعلَ الحريةِ والتنوير تجاه أحلكِ وأقذرِ العصور، وإنْ كان الجانبُ اليوتوبياويُّ طاغياً عليها. أما الحركاتُ الثقافيةُ والفامينية والبيئوية – الأيكولوجية المتصاعدةُ على التوالي، فقد شَقَّت معها طريقَ التيهور بإرشاداتِها وتوجيهاتها الأولى المناهضةِ للحداثة، ووَسَّعَت آفاقَ الكفاحِ لأجلِ المساواةِ والحرية والديمقراطية، دون الاعتمادِ على السلطة. أما مناهِضو النظامِ القائم، والذين تَمَكَّنوا من إسماعِ اسمِ المجتمع العالمي وإلقاءِ خطوتِه مقابلَ الرأسمالِ العالمي، فقد تَعَزَّزَت حركتُهم لأولِ مرةٍ بتقديمِ نقدِها الذاتي بشأنِ الماضي، وباتَ بمقدورها التسلح بمفهومٍ شاملٍ منسَّقٍ ومنتَظَمٍ بصددِ التاريخ والمجتمع، للتقدمِ في مسارها على دربِ الحرية والمساواةِ والكومونالية، مُحَقِّقَةً التكاملَ مع الحضارةِ الديمقراطية مقابلَ الانقطاعِ التامِّ عن المدنية الرأسمالية.
9- ما كان يَكمُنُ في أساسِ فشلِ ثوارِ القرنَين التاسع عشر والعشرين هو ضلالُهم بشأنِ السلطةِ وواقعِها العصري الملموسِ المتجسدِ في الدولةِ القومية. حيث كانوا يَرَونَ بلوغَ السلطةِ حلقةً أساسيةً في حلِّ القضايا الاجتماعية، وكان الهدفُ الأولي في مناهجهم يشير إلى الاستيلاءِ على السلطة. وكانت كلُّ أشكالِ الكفاحِ مُعَلَّقةً بهذا التصور. علماً أنّ السلطةَ نفسَها تعني اللاحريةَ، اللامساواةَ، واللاديمقراطية. إنّ الأداةَ ذاتها تتسمُ بخصائصَ تقليديةٍ قادرةٍ على إمراضِ أكثرِ الثوريينِ سلامةً وعافيةً بمجردِ انتقالِ عدواها إليهم. علاوةً على افتقارهم لأيِّ تحليلٍ تاريخيٍّ وسوسيولوجي حولَ السلطةِ التي اعتَبَروها أداةَ الخلاص. بل ولَم يَضَعوا في جدولِ أعمالهم مداولةَ مواضيعَ مِن قَبيل: كيفيةِ نشوءِ السلطة على مرِّ التاريخ، المراحلِ التي مَرَّت بها، علاقاتها مع الاقتصادِ والدولة، الدورِ الذي أدته ضمن الحضاراتِ والمدنيات، وكيفيةِ احتلالها مكانَها داخلَ المجتمع. وكأنها "العصا السحرية" التي إذا ما وَقَعَت في قبضةِ الثوريين، كانت ستُحَوِّلُ أيَّ شيءٍ تَلمَسُه إلى جَنَّة، وستَزُجُّ بكلِّ مشكلةٍ في طريقِ الحلِّ بمجردِ ملامستِها إياها. بل وحتى النمطُ الديكتاتوري كان بمقدوره أنْ يصبحَ جذاباً عندهم. حيث كان أُعلِنَ عن ديكتاتوريةِ البروليتاريا مقابلَ ديكتاتوريةِ البورجوازية. ما كان ثمة أفضل من هذا المنوال للوقوعِ في المصيدة. هكذا اختَنَقَت الكفاحاتُ البطوليةُ المستمرة قرناً ونصف، وغَرِقَت في دواماتِ السلطة وضاعت. وأخيراً أُدرِكَ في نهايةِ المطاف أنّ السلطةَ المتبقيةَ في حوزتهم ليست سوى آليةُ الرأسماليةِ الأكثر رجعيةً وخُلُواً من المساواةِ والحرية والديمقراطية. لكنّ الكثيرَ كان قد ضاعَ آنئذ. كان قد تَكَرَّرَ مثالٌ مشابهٌ لمرضِ السلطةِ خلالَ تاريخِ المسيحية.
أما تعاطي الدولةِ القومية، فأخذَ حالةً كارثيةً أفظع. حيث أُجمِعَ على قبولِ لوياثانِ الحداثةِ ذاك، والمعجونِ بأقصى درجاتِ القومويةِ والجنسانوية والدينوية والعلموية بأنه الإطارُ الأساسيُّ السليمُ القابل للكفاح في دواخله. وعُرِضَت الدولةُ القوميةُ المركزية على أنها الأداةُ – أو بالأصح الهدف – الأكثر تقدميةً وقدرةً على حلِّ المشاكلِ مقارَنةً بالكونفدرالية الديمقراطية. كما لَم يتم القيام آنذاك بأيِّ تحليلٍ بشأنِ الدولة القومية، التي اتضحَ جلياً أنها أساسُ بنيةِ السلطة المتورمةِ في أحشائها بالمتاجرةِ الإجمالية بالقوموية، وبالجنسوية المجتمعية والتعصبية الدينوية والوضعية العلموية، والمبتدعةِ لأعجبِ أشكالِ المواطن في التاريخ، والصاهرةِ للمجتمعِ كلياً في بوتقةِ الدولة، والمؤديةِ إلى الفاشية في نهايةِ المطاف. كان قد اتضحَ مصيرُ الاشتراكية، عندما صارت تلك الأداةُ المُسَرِّبةُ للسلطةِ حتى أعمقِ أنسجةِ المجتمع ومساماته الخَيارَ المُفَضَّلَ للاشتراكيةِ العلمية أيضاً. لذا، فالانهيارُ الرسمي المُعلَنُ في 1989، كان شكلياً. إذ كان واجباً الإدراك أنه، وبمجردِ فقدانِ السوفييتات لماهيتها الديمقراطية منذ بداياتِ ثورةِ أكتوبر، فما كان سيتمخض عن ذلك هو الرأسماليةُ، لا الاشتراكية. وعجزُ التحررِ الوطني عن منحِ ما كان مأمولاً منه، كان مرتبطاً عن كثبٍ بهذا الشكل من السلطة. كيف كانت ستُنشَأ الحرياتُ والمساواةُ بهذه الأداةِ التي تُشَكِّلُ الركيزةَ الأساسية لقمعِ الحريات والمساواة والديمقراطية؟ بالأصل، ونظراً لرؤيةِ الديمقراطية بأنها أداةٌ تتسبب في رخاوةِ السلطة، فقد كانت استُبعِدَت من الأجندة منذُ مستهلِّ استلامها السلطة.
كانت الدولةُ القومية – من حيث كونها النموذجَ الأولي للفاشية – تَمُرُّ كالجَرّافةِ على الغِنى الذي اكتَسَبَه المجتمعُ طيلةَ التاريخ، لِتَخنُقَ آمالَه المستقبليةَ في الظلماتِ الحالكة، فلا يبقى شيءٌ سوى الدولةِ القومية المؤلِّهةِ لذاتها، والتي تَحمي نفسَها بدينِ القوموية الوضعية ذي الطابعِ الوثني الشيئاني، وتُنشئُ نفسَها وكأنها الصحيحُ الأوحد، والمعروفة بِتَجَرُّدِها من المشاعرِ وبظلمها وجُورها البالغِ حَدَّ الإبادات العرقية. احتكارُ القوة ذاك نفسُه كان مصدرَ كلِّ تلك المشاكل، حيث ظهرَ حصيلةَ صهرِ الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأيديولوجيا في بوتقةٍ واحدةٍ لأولِ مرةٍ في تاريخِ رأسِ المال المعمرِ خمسةَ آلافِ سنة. واضحٌ جلياً أنّ نضالَ الاشتراكية كان لن يعنيَ شيئاً عدا خداعِ الذات، ما لَم يتخطَّ الدولةَ القومية اصطلاحاً وتطبيقاً. ومن دون تحليلِ الصناعوية من حيث كونها توأمَ الدولةِ القومية، فمن المحال سدّ الطريقِ أمامَ تسرطنِ المدينة ودمارِ البيئة قبلَ كلِّ شيء. فالصناعويةُ، التي يُشار إليها بأنها هدفٌ ثوري، ليست سوى شكلُ الربحِ الأعظمي لاحتكارِ الدولة. بالتالي، فلا معنى لها أبعد مِن اشتراكيةِ فرعون كَحَدٍّ أقصى. إنّ الاتحادَ السوفييتي حتى وقتِ انهياره واشتراكيةَ الصين في يومنا الراهن قد سَقَطَا إلى مرتبةِ النظام المُغَذّي للنظامِ الرأسمالي أكثر من غيرهما، كونهما المُطَبِّقَين الأكثر فظاظةً للصناعوية. وبلوغُ كِلَيهِما حالةَ حداثةِ الدولةِ القومية والصناعويةِ الأكثر صرامة، لم يَكُن سوى انتصارٌ للرأسمالية الليبرالية.
إنّ القراءةَ المعكوسةَ للنظام الذي يَعرضُ نفسَه بأنه اقتصاديٌّ بالأكثر كعصرِ التمويل، ستَكُونُ طريقةً تعليميةً ناجعةً أكثر. فعندما يَقُول هو بالتمويل، علينا الإدراكَ أنه سلطةٌ مستفحلةٌ حتى مساماتِ المجتمع، وأنه خارجٌ عن الاقتصاد بل وضده لدى قولِه بالاقتصاد، وأنه تعصبيةٌ صارمةٌ فظةٌ لدى قولِه بالليبراليةِ المحدثة. فذلك سيؤدي بنا إلى تفاسير وشروح أسلم.
الدولةُ القوميةُ والصناعوية والاحتكارُ المالي أدواتٌ ساعيةٌ لإيقافِ انهيارِ بُنيةِ الحضارة المعمرة خمسةَ آلافِ عام، وليس الحداثةَ الرأسماليةَ وحسب. وإلى حينِ تَمَكُّنِها مِن إعادةِ بناءِ نفسِها بشكلٍ أكثر رسوخاً وديمومة، فستتشبث بأدواتها، وستلجأ إلى إرغامِ نظائرها من البدائل على تحقيقِ انطلاقاتٍ خاطئةٍ وناقصة، وبالتالي تأهيلِها وترويضِها فيما بينها لاستخدامها كسلاحٍ فتاك.
10- لقد راهَنَت الشرائحُ الاجتماعيةُ الديمقراطية الفقيرة والمقهورة على "الفرسِ الخطأ" طيلةَ كفاحِها الشاقِّ في التاريخ. حيث اعتَقَدَت أنها ستتغلبُ على أعدائها بمجردِ استخدامِ أسلحتِهم تجاههم، وعجزَت عن تطويرِ أسلحتها المتناسبةِ وبُناها ذات الطابعِ التحرري العادلِ والديمقراطي. وحتى لو أنها طَوَّرَتها، فقد تَراجعَت وتَخَلَّت عنها بسهولةٍ في حالِ إحرازِ نجاحٍ ما أو تَكَبُّدِ فشلٍ ما، لأنها رأَت استخدامَ أسلحةِ منافسيها المتطورة أسهل لها. ليس التقنيات والأدوات العسكرية وحسب، بل بدءاً من صياغاتِ الآلهة إلى الملبس والهيئة، من العمارِ إلى نمطِ التفكير، ومن أشكالِ الاستغلال إلى كيفيةِ تصوراتِ السلطة. هكذا وَرِثَت كلَّ ما أُنشِئ سابقاً من ذهنيةِ المدنية ومؤسساتها كما هي عليه، أو انحلَّت فيها واستُحدِثَت بالترميم. هذه هي نتيجةُ المراهنةِ مع المنافسين على الفرسِ عينه.
ورؤساءُ القبائلِ الساميّة والآريةِ المهاجِمةِ على المدنيةِ السومرية من الجهات الأربعة، إما أنها تَرَبَّعَت على الذهنيةِ السومرية ومؤسساتِها كما هي، أو انصَهَرَت فاستُعبِدَت ضمنها. هكذا فكُلُّ آياتِ وأنغامِ البطولاتِ الملحميةِ لآلافِ الأنساب والقبائل على مرِّ آلافِ السنين، والتي لا تنفكُّ قلوبُنا ترتعشُ لألحانِها المعزوفةِ على إيقاعِ الطبل والمزمار، قد ذَهَبَت سُدى.
غالبيةُ قبيلةِ عابيرو المهاجِمةِ على المدنيةِ المصرية باتت من العبيد، والقِلَّةُ النادرةُ منها لَم تذهبْ أبعدَ من الانتماءِ إلى بيروقراطيي القصور. كما أننا نَعلَمُ بوجودِ قبيلةٍ عِبريةٍ تُعَدُّ إرثاً متبقياً من المدنيتَين السومريةِ والبابلية من جهة، والمصريةِ من جهةٍ أخرى. هي أيضاً أصبحت بلاءً على نفسها وعلى العالَمِ في الوقت نفسه. فلا تَحَوَّلَت إلى عبيدٍ تماماً، ولا تَحَرَّرَت تماماً.
الأنسابُ الميديةُ والإسكيتية أيضاً قاومت ثلاثةَ قرونٍ بحالها تجاه الإمبراطوريةِ الآشورية، وهاجمتها. لكنها في المحصلة شَقَّت الطريقَ نحوَ إمبراطوريةِ أورارتو والإمبراطورية البرسية، اللتَين كانتا نسخةً طبقَ الأصلِ عن الآشورية، بل ولَم يَنجُ أغلبُ القادةِ العسكريين من التحولِ إلى عبيد لها.
فضلاً عن أنّ مقاوماتِ القبائلِ الكلتية والنوردية والقوطية والهونية وغاراتِها على المدنية الإغريقية – الرومانية من الخارج، وتمرداتِ العبيد ومقاوماتِ المسيحية (التي كانت حزب جميع الفقراء المعدومين من جميع الأصول الأثنية المختلفة) إزاءها من الداخل، قد استمرت خمسةَ قرونٍ برمتها دون انقطاع. أما الإنجازُ المكتَسب، فلَم يذهبْ أبعدَ من أنْ يَكُونَ نسخةً باهتةً من تاجِ روما تُزَيِّنُ رؤوسَ الباباواتِ وبعضِ رؤساءِ القبائل. هكذا تَجَمَّدَت ذكرى ملايينِ المقاوِمين من المُقَدَّمين لقمةً سائغةً للأُسُود والمحروقين والمصلوبين، وعَلِقَت في جليدِ حساباتِ المدنية.
كذلك فالأنسابُ والأقوامُ العربيةُ والتركية والكردية والأرمنية والآشورية والشركسية والهيلينية المقاوِمةُ والمهاجِمةُ على المدنيتَين الساسانيةِ والبيزنطية (ووارثيهما) على مدى سبعةِ قرونٍ كاملة، لم تُخَلِّفْ وراءها سوى تيجان السلطنات، التي هي نسخٌ باهتةٌ من المدنياتِ القديمة، إضافةَ إلى الملايين من القبائلِ البائسة المقهورة، وخادمي الآغوات، والعبيد.
أما ما حَلَّ بالمقاوِمين والمتمردين على المدنيةِ الأوروبية الرأسمالية، فكنتُ – بالأصل – قد ذكرتُه سابقاً، وبالتفصيل.
أما الزخمُ المتراكمُ من إرثِ الأنساقِ الكومونالية المفعمة بالقدسيةِ للمجتمعات الثورية العظمى السائدة في العصرِ النيوليتي، والذي لا تزال جميعُ المدنيات عاجزةً عن إنهائه رغمَ قَضمِها إياه (مادياً ومعنوياً) على مرِّ تاريخها؛ فلا يَفتأ يَعتَصِرُ قلوبَنا، وقلبي ألماً. علينا اعتبار التاريخِ الملحمي لأولئك المقاوِمين والمهاجِمين الأسطوريين المذهلين تاريخاً لنا. أي، "تاريخ الحضارة الديمقراطية". ولكنْ، علينا تنقيةَ هذا التاريخِ المنسيِّ المسلوب، ومن ثَمَّ تدوينَه وتَبَنّيه. كما علينا ألا ندافع البتة عن تاريخِ أصحابِ التيجان الباهتةِ وعبيدِ القصور، الذين افتُتِنوا وانغَرّوا بِزينةِ تيجانِ المدنية، فخَانوا كدحَ ونضالَ المعدَمين والمقهورين من جميعِ القبائل والأثنيات والأقوامِ بتمرداتهم ومقاوماتهم وبطولاتهم وحِكَمِهم ومَعارفِهم. إذ من المحال تدوين تاريخِ الحضارة الديمقراطية دون القيام بهذا التمييز. وإنْ لَم يُدَوَّنْ هذا التاريخ، يستحيل تسيير كفاحِ الحرية والمساواة والديمقراطية الراهن بنجاحٍ مظفر. فالتاريخُ جذر. وكيفما يستحيل على أيِّ كائنٍ حيٍّ الاستمرارَ في حياته ووجوده، إنْ لَم يعتمدْ على جذره؛ فالنوعُ البشريُّ أيضاً لن يستطيعَ اختيارَ دربِ الحياة الحرة والكريمة المشرِّفة، إنْ لَم يرتكزْ إلى تاريخِه الاجتماعي.
يَعمَلُ تاريخُ المدنيةِ المهيمنةِ أساساً بالأطروحة القائلةِ أنه التاريخُ الأوحد، وأنه محالٌ وجودُ تاريخٍ آخَر. من هنا، لن يتطورَ وعيُ التاريخ الديمقراطي – الاجتماعي، ما لَم يتحققْ الانقطاعُ عن مفهومِ ذاك التاريخ الاختزالي الدوغمائي. يجب ألا يَسُودَ الاعتقادُ بأنّ التاريخَ الديمقراطي يفتقد للأحداثِ والعلاقاتِ والمؤسسات الخاصة به، أو أنها ناقصة. على العكس من ذلك، فهذا التاريخُ مشحونٌ بأغنى الموادِّ والمواضيع. إذ له ميثولوجياه، دينُه، فلسفته، علومُه، فنونه، حكماؤه، فنانوه، وكُتَّابُه بقدرِ ما لتاريخِ المدنية منها بأقلِّ تقدير. يَكفينا فقط أنْ نَعرِفَ كيف ننظر إليه مِن وجهةِ نظرنا البراديغمائيةِ الذاتية، ونعرف كيف نُنَقّيه ونُمَيّزه، ونُدَوِّنه! لا أقول باستحالةِ الاستفادةِ من أسلحةِ الأعداء والمنافسين ومؤسساتهم وذهنياتهم. لكنْ، إنْ لَم يتم تكوين الذهنياتِ والمؤسسات والأسلحة الذاتية، والعمل بها أساساً بقدرِ الاستفادة من الأخرى بأقلِّ تقدير؛ فلن يَكُونَ ثمة خلاصٌ من الهزيمةِ إزاء ذهنياتهم ومؤسساتهم وأسلحتهم، ومن التَّشَبُّهِ بهم ومحاكاتهم.
11- خلاصةً، ومِن جميعِ أطروحاتي وحلولي تلك، لا يمكن استخلاص حُكْمٍ مفاده أنّ "المدنياتِ تتحاربُ وتتصارعُ إلى أنْ تُفنيَ بعضَها، وتتغلبَ على بعضها، دون أنْ تتوافق". فمثلما سعيتُ للشرحِ في مفهومي الفلسفي، أنا لا أرى مثلَ ذاك النوعِ من الأحكامِ النابعة من تعاطي المفهومِ الجدلي المُفني متناسبةً مع ديالكتيكِ الجريانِ الكوني. وحتى لو تَواجَدَت الأطرافُ المُهلِكة والمُفنية، إلا أنّ الأساسَ هو التطورُ بالارتباطِ المتبادَلِ والتغذيةِ المتبادلة (العلاقة التكافلية). هذا الجوهرُ الجدليُّ هو الذي يَسري بالأغلب في طبيعةِ المجتمع. أي أنّ الحالةَ الأساسيةَ للمجتمعات هي الحَيَواتُ المشترَكةُ المتخِذةُ من الوفاقِ والتغذيةِ المتبادلة أساساً، دون إفناءِ بعضها. والتاريخُ والحاضرُ يَعرِضان غالبيةً ساحقةً من الأمثلةِ بشأنِ هذه الطبيعة. أما أشكالُ العلاقاتِ المُهلِكةِ القائمةِ على الإفراطِ في نفيِ الآخر، فهي استثنائيةٌ، تماماً مثلما الأُسُودُ حالةٌ استثنائيةٌ في عالَمِ الحيوان.
بإمكانِ المدنيةِ الدولتيةِ والحضارة الديمقراطية أنْ تتواجدا معاً وتتوافقا، دون أنْ تُفنِيا بعضَهما. الشرطُ الأولُ في ذلك هو الاعترافُ بهويةِ بعضِهما البعض، واحترامُها. ففرضُ إحداهما هويتَها الذاتيةَ على الأخرى عنوةً أو استناداً إلى مختلفِ العواملِ المواتية والأولويات، لا يعني الوفاقَ، بل هو أسلوبُ الإفناء والإهلاك. وهذا الأسلوبُ هو سبيلُ السلطةِ والحرب، الذي يَظهَرُ أمامنا على طولِ مِحَكِّ التاريخ، والمُرَوَّجُ له والمُسَلَّلُ حتى مساماتِ ونسيجِ المجتمعات في راهننا أيضاً. لقد استَخلَصَت أوروبا، وقسمياً أمريكا، الدروسَ والعِبَرَ اللازمةَ من أسلوبِ السلطة والحرب المطَبَّقِ طيلةَ أربعةِ قرونٍ بحالها، بالتالي، تَسعَيان لإعادةِ إنشاءِ الدولةِ القومية على شكلِ اتحاداتٍ فيدرالية، دون هدمِها كلياً (ذلك أن هذا النمط من تنظيم السلطة هو السبب الأساسي وراء جميع الحروب الداخلية والخارجية)، وبِخَلطِ حججِ حقوقِ الإنسان والمجتمعِ المدني والدمقرطة. ساطعٌ بوضوحٍ أنّ المَرامَ هو تليينُ الشكلِ القديم المتحجرِ للدولة القومية، للبلوغِ بها إلى أداةٍ أكثر ملاءمةً للحل بالنسبة للدولة. ثمة مستجداتٌ شبيهةٌ في روسيا والصين أيضاً. في حين يتم التحاملُ بقساوةٍ أشد على المُتَعَنِّتين في التصلب، مثلَ كوريا الشمالية والعراق وسوريا وتركيا وإيران وأمثالها. واختِيرَ العراقُ كي يَكُونَ عِبرةً لِمَن يَعتَبِر. ومن الآن فصاعداً يَرغبون في الخروجِ منه قبلَ انطباعه بحالةِ الفوضى العارمة، وبأقلِّ الخسائر والجروح.
يَدورُ الجدلُ حول إنْ كان النظامُ القائم يحيا إمبراطوريةً على نمطِ روما أم لا. ما مِن شكٍّ في أنه ثمة إدارةٌ حاكمةٌ كونيةٌ أكثر اقتداراً من روما بفارقٍ شاسع. وسواءً كانت مهيمنةً أم إمبراطورية، فقوةُ هذه الإدارة الحاكمةِ ذات شأنٍ ووزنٍ لا يَقبَلُ الجدل. وستسعى دائماً لترميمِ نظامها والحفاظِ على سيرورته. والترتيباتُ القاريةُ من نوعِ الاتحاد الأوروبي مطروحةٌ في أجندةِ آسيا وأفريقيا وأمريكا أيضاً. بينما يُطَوَّرُ مشروعُ الشرقِ الأوسط الكبير BOP فيما يتعلق بمنطقةِ الشرق الأوسط. ويتم التفكير في إطراءِ الإصلاحاتِ على هيئةِ الأمم المتحدة. كما أنّ إعادةَ الترتيباتِ الاقتصادية والثقافية والاجتماعية مستمرةٌ على قَدَمٍ وساق. أي أنّ نظامَ المدنيةِ المنتصبَ أمامنا، والذي لا نزال نَدُورُ في فَلَكِه، لا يَعرِفُ الهدوءَ أو السكون، وإنْ كان يَمُرُّ بأكثرِ مراحله فوضوية.
وإذا قيل: هل ثمة ردُّ فعلٍ منعكس لديه إزاء الوفاق؟، فقناعتي هي أنه لا يُنقِصُ من سلوكِ هذا الأسلوب أيضاً. علماً أنه الأسلوبُ الأولي الذي طالما اختَبَره في كثيرٍ من مراحلِ تاريخه، وحَظِيَ من خلاله بالنتائج. فكلما بقيَ الطرفُ المقابل ضعيفاً وهزيلاً بوعيه وتنظيمه ومبادرته في الحرية، كلما خَرَجَ النظامُ بنجاحٍ مظفر من مراحلِ الوفاق. على سبيل المثال، فالاشتراكيةُ المشيدة قد تَمَّ تحييدها وشلّ تأثيرها بهذا الأسلوب، مثلما نشاهد في مثالِ الاتحاد السوفييتي والصين بالمرتبة الأولى. حيث نالت الحداثةُ هذا النصرَ باستغلالِ نقاطِ ضعفها (الدولة القومية، الصناعوية، والوضعية). في حين استطاعت صهرَ وتحييدَ الحركاتِ التحررية الوطنية والديمقراطية الاجتماعية بسهولةٍ أكبر. مثلما نَجَحَت في تمييعِ وتدجينِ الحركات الفوضوية والفامينية والأيكولوجية، وبعضِ الحركات الراديكالية.
رغمَ كلِّ هذه المؤشرات، إلا أنّ قوةَ النظام ليست الكلَّ بالكل. بل، وأكثر من ذلك، فهو يمر من أضعفِ مراحله. فإنْ كانت جبهةُ الحضارة الديمقراطية لا تزال عاجزةً عن تحقيقِ مَرامِها من إنجازاتها الضرورية التي هي خليقةٌ بها، فالسببُ الأولي في ذلك يَعُودُ إلى عدمِ قدرتِها على تحقيقِ ثورتها البراديغمائية الواجب اتخاذها أساساً (التعاطي العلمي الأساسي)، وعجزِها عن بلوغِ البرنامجِ والمنهاج والتنظيم وقوةِ الممارسةِ الكافية. إنها ليست أهدافاً مستحيلةَ الوصول أو يصعب الحظي بها. حيث بإمكانِ حركةِ الحضارةِ الديمقراطية تَبَنِّي هويتِها الأصلية الذاتية (الحرية، المساواة، والديمقراطية)، والقيامَ بالتحليلِ التاريخي والاجتماعي الخاص بها، وتشكيلَ مختلفِ أشكالِ منهاجها وتنظيمها وقوتها العملياتية، ونشرَها على الأصعدة العالمية والإقليمية والمحلية. بالإمكان طرح الكونفدرالية الديمقراطية العالمية، والكونفدراليات الديمقراطية الإقليمية لأجلِ آسيا وأفريقيا وأوروبا وأوستراليا للمداولة. ونخص بالذكر مشروعَ الكونفدرالية الديمقراطية الشرقِ أوسطية من أجلِ منطقةِ الشرق الأوسط، والتي ستَكُونُ نشاطاً قَيِّماً ونفيساً للغاية في خضمِّ أجواءِ الفوضى العارمة السائدة حالياً.
ينبغي الابتعادَ تماماً عن المواقفِ التكتيكية القائلة "إما الكل أو لا شيء"، والتي طالما يتم الانزلاق إليها حتى الآن. فالثورةُ أو الحرب حتى الرمقِ الأخير، أو سلوكُ موقفِ سيدنا عيسى في "السلام" حتى النهاية كسبيلٍ معاكِسٍ للأول؛ لا يمكن أنْ يَكُونَ مؤثراً أو ناجحاً تجاه ظاهرةِ السلطة التقليدية جداً والمعقدة جداً. أما الأسلوبُ الباعث على التطور وإحرازِ المكاسب بالأغلب، فهو تصييرُ المقاومةِ والتمردِ ونشاطاتِ الإنشاء نمطاً للحياة، والتوصلُ إلى التوافقِ في الزمان والمكان المناسبَين مع كافةِ قوى النظام، دون التخلي عن زمامِ مبادرةِ الحرية. لكني أُكَرِّرُ مجدداً أنّ الحضارةَ الديمقراطية هويتُنا، وأنها قادرةٌ على الشروعِ بالوفاق، ولكنْ، بشرطِ أنْ نَبنِيَها ونصونَها، وأنْ نَعلَم يقيناً باستحالةِ انصهارها أو ضياعِها في بوتقةِ المدنية الدولتية بتاتاً!
12- أَوَدُّ إنهاءَ الخلاصةِ بالتطرقِ إلى عدةِ نقاطٍ فيما يتعلق بنمطِ كتابتي. كنتُ قد ذكرتُ في البداية أني سأُجَرِّب استخدامَ تصنيفاتِ المعنى الميثولوجية والدينية والفلسفية والعلمية بشكلٍ متداخلٍ من حيث الأسلوب. وأعتقد أني نجحتُ في هذا الموضوع نسبياً.
لا يمكننا التخلي عن العباراتِ الميثولوجية. خاصةً أنْ ما قبل التاريخ، والقسمَ الأكبر من تاريخِ العصر النيوليتي والعصور الأولى والحضارة الديمقراطية إنما هو ميثولوجي. حيث تُعَبِّر عن ذاتها من خلالِ الأساطير وأقوالِ الحكماء. فإذا ما صِيغَت التحليلاتُ الناجحةُ على الصعيدِ السوسيولوجي، فسيتقوى شرحُ التاريخِ وسيتضاعف غناه وتتكاثرُ ألوانُه بكلِّ تأكيد.
الرؤيةُ الدينية أيضاً – بالتأكيد – حجةٌ لا استغناءَ عنها في الشرحِ والتقييم التاريخي، بشرطِ تمريرها من التفسير السوسيولوجي، لا قبولها كما هي. حيث اختفى التاريخُ في القوالبِ الدينية بنسبةٍ هامةٍ لا يُستَهان بها. ولذلك أسبابُه العديدة. كما أنّ التطوراتِ الاجتماعيةَ تحتلُّ مكانَها في الدين بالأغلب، ولكنْ، بأسلوبٍ خاصٍّ من السرد. إنه منبعٌ رائعٌ من المعارفِ والمعلومات، في حالِ تعاطيه بمنوالٍ سوسيولوجي – تاريخي.
جليٌّ تماماً أنه محالٌ كتابة التاريخ بلا فلسفة. ورغم كونِ الوضعية ميتافيزيقيا محضة بأعلى الدرجات، فإنّ أطروحتَها القائلةَ بإمكانيةِ التأريخِ اعتماداً على الظواهر فقط، مجرد هذيانٍ وهراء. إنّ مِثلَ هذه المواقف التي تَسردها الوضعيةُ باعتبارها الرأيَ والدينَ الرسمي للرأسمالية، وكأنه لا وجودَ لرأسِ المال التاريخي، وكأنّ كلَّ شيءٍ نزلَ إلى أوروبا بزنبيلٍ من السماء؛ إنما هي ميثولوجيةٌ في حقيقتها. فعندما تَتَدَيّن تصبح ممثلةً لعصرِ الوثنية الشيئانية الحديث. من هنا، فاستخدامُ الفلسفةِ تكراراً ومراراً وبنحوٍ مُرَكَّز، هو بمثابةِ المصدر الذي لا غنى عنه في الشرح التاريخي – الاجتماعي.
مقصدي من الموقف العلمي ليس السرود التي يَغلبُ عليها الطابعُ الموضوعاني الشيئاني، ولا الذاتاني المثالي. فأنا مدركٌ ومنتبهٌ للتساوي أو التشابهِ بين الإدراكِ والظاهرة. بالأًصل، ونظراً لاستخدامي كلَّ المصادر التي ذكرتُها بشكلٍ متداخل، فبالإمكان وصف أسلوبي العلمي بـ"الطريقة التفسيرية". ومن خلالِ نمطِ تحليلي، يُدرَك بجلاءٍ ساطعٍ أني لا أُولي شأناً كبيراً للموضوعانيةِ الشيئانية، ولا أرى داعياً لذلك. هذا وبمقدورِ العديدِ من المعنيين المتمرسين في الأمر أنْ يُدرِكوا أيضاً أني لَم أنزلقْ نحو الذاتانيةِ المثالية كثيراً.
وبالإشارةِ إلى مساعيَّ الدؤوبةِ في تطويرِ قوةِ تفسيرٍ بمثابةِ تَخَطّي التمييزِ بين الذات والموضوع، دون إنكارِ وجوده؛ مع أمنيتي وأملي في غفرانِ نواقصي وأخطائي عموماً. وإنْ تَمَّ الإدراك أني أَضَفتُ قوةً إلى قوةِ الإدراك والمعنى لدى كلِّ المعنيين بالمجتمع، فسأَعتَبِر نفسي سعيداً.



[email protected]



#عبد_الله_أوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عصر التمويل – المال السيد (23)
- الثورة الصناعية وعصر الصناعة (22)
- زمان الحداثة الرأسمالية (21)
- الحداثة الرأسمالية والدولة القومية (20)
- السلطة في الحداثة الرأسمالية (19)
- اليهود والمدنية (18)
- المدنية الرأسمالية (الحداثة)، أيديولوجيتها وتديينها (17)
- ظاهرة الأمة وتطورها (16)
- اللوياثان العصري (الدولة القومية) (15)
- وضع أوروبا أثناء ولادة الرأسمالية (14)
- أين، وفي أي زمانٍ هي الرأسمالية من الواقع الاجتماعي والحضاري ...
- معطياتٌ حول عدمِ كونِ الرأسمالية اقتصاداً (12)
- الرأسمالية سلطة، لا اقتصاد (11)
- الرأسمالية والحضاراتُ التاريخية والاجتماعية (10)
- زمكانُ الرأسمالية (9)
- لا مجتمع من دون أخلاق (8)
- السلطة السياسية وعلاقتها مع الحقوق (7)
- الاقتصاد والاقتصادوية الرأسمالية (6)
- الدين، الفلسفة والعلم (5)
- الذكاء العاطفي والذكاء التحليلي (4)


المزيد.....




- في دبي.. مصور يوثق القمر في -رقصة- ساحرة مع برج خليفة
- شاهد لحظة اصطدام تقلب سيارة عند تقاطع طرق مزدحم.. واندفاع سا ...
- السنغال: ماكي سال يستقبل باسيرو ديوماي فاي الفائز بالانتخابا ...
- -لأنها بلد علي بن أبي طالب-.. مقتدى الصدر يثير تفاعلا بإطلاق ...
- 4 أشخاص يلقون حتفهم على سواحل إسبانيا بسبب سوء الأحوال الجوي ...
- حزب الله يطلق صواريخ ثقيلة على شمال إسرائيل بعد اليوم الأكثر ...
- منصور : -مجلس الأمن ليس مقهى أبو العبد- (فيديو)
- الطيران الاستراتيجي الروسي يثير حفيظة قوات -الناتو- في بولند ...
- صحيفة -كوريا هيرالد- تعتذر عن نشرها رسما كاريكاتوريا عن هجوم ...
- برلمان القرم يذكّر ماكرون بمصير جنود نابليون خلال حرب القرم ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الله أوجلان - هل للمدنية الدولتية أن تتوافق مع الحضارة الديمقراطية؟ (24)