أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الصبّار الأزرق ) بين مخيلة النص المفتوح وتعدّد الأبنية السردية















المزيد.....

الصبّار الأزرق ) بين مخيلة النص المفتوح وتعدّد الأبنية السردية


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 888 - 2004 / 7 / 8 - 06:44
المحور: الادب والفن
    


عدنان حسين أحمد / أمستردام
الصبّار الأزرق ) بين مخيلة النص المفتوح وتعدّد الأبنية السردية

تنطوي رواية ( الصبّار الأزرق ) للقاص والروائي العراقي عبد الرؤوف البصري على قراءات متعددة لواقع المجتمع العراقي. ولعل أبرز ما يميز هذا النص هو قوة الرصد، وعمق الالتقاط، ودقة المعالجة على الصعيدين الفني والفكري. وأكثر من ذلك فهي رواية أحداث وشخصيات ومواقف تعاطى معها الكاتب بعين نقدية صارمة، تدرس الحدث وتحلله لتستخلص منه النتائج والعبر، وتستغور الشخصيات وتفككها لتلامس مرجعياتها المستعارة والمكتسبة، وتسلط الضوء على المواقف العامة والخاصة لتستجلي الأبعاد الفكرية والسياسية التي هيمنت على متن النص وحركته الداخلية التي تعتمد على بنيتين أساسيتين، وهما بنيتا التتابع والتداخل، مع الاتكاء قليلاً على بنية الاستعادة الذهنية التي أمدت النص بعنصر قوة مضافة، وهو التنويع الزمني الذي انتشل النص من محنة الخوض في زمن روائي واحد قد يتطابق مع الزمن الواقعي، الأمر الذي يفضي بالعمل الروائي إلى السقوط في مطب الرتابة. لقد انتقى عبد الرؤوف البصري موضوعاً روائياً كبيراً وهو حرب الخليج الثانية، لكنه لم يَخُضْ في التفاصيل الدقيقة التي لا تستوعبها مئات الكتب، بل ركّز على الظروف والملابسات التي أججتْ هذه الحرب الكونية وتداعياتها المأساوية على الشعب العراقي برمته. فمن خلال متابعته للحياة اليومية لبضعة أسرٍ عراقية استطاع عبد الرؤوف البصري أن يضعنا في دوّامة حرب الخليج الثانية، بدءاً من الرؤية الضبابية والمعوّجة للسلطة التي تمركزت في عقلية واحدة، تتوفر على مخيلة مريضة أو مجنونة لا تتورع من أن تركب المخاطر والأهوال إذا ما انتابتها نوبات الهستيريا الهوجاء، وانتهاءً بالثلة المتحلقة حوله من المرائين والكذابين والمتخلفين الذين لا يعرفون كم هو ثلث الثلاثة! إن العمل الروائي، كما هو معروف، هو الأقدر على استنطاق وجدان الأمة، وتصوير مشاعرها الداخلية العميقة من خلال حركة الشخوص في حيّز الوحدات الثلاث الواسع نسبياً ( الزمان، المكان، الحدث ). لم يستعن عبد الرؤوف البصري بالأساليب المقنّعة لتمرير الرموز والإشارات التي تحيلنا إلى الهدف المقصود مباشرة. فمنذ الأسطر الأولى للفصل الأول في الرواية نكتشف أن الحوار يدور بين صدام حسين وعبد الأمير معلة ليصوّر لنا طبيعة العلاقة المرتبكة، والمهزوزة، وغير المتوازنة بين رموز النظام أنفسهم، أو بالتحديد بين الحاكم وحاشيته. فالروائي يتهكم بشكل صريح من بعض المفردات والجُمل التي كانت تتردد على لسان الحاكم وهو يخاطب ضباطه وجنوده إن ( اقفلوا الهدف ) و ( تمسكوا بالأرض ) وغيرها من الأوهام، والتوصيفات المهلهلة، والتشبيهات الركيكة التي لا تعكس سوى عقم عقلية صاحب هذا التفكير، ورؤيته المشوشة للأفق السياسي، وقراءته المعوّجة للأحداث. إن صنعة الروائي الأمهر لهذا العمل تتجلى في قدرته الفائقة على خلق شخصيات أخرى تتمترس خلف رؤية ثقافية حادة تستطيع قراءة الواقع بحيادية عالية، وتتمكن من الغوص فيه بأسلوب عقلاني لا يحتاج إلى مبالغة أو تفخيم، ولا يلتجأ إلى الزيف والكذب أو ذر الرماد في العيون. وكما قال ماركيز: ( إن الرواية العظيمة هي سبر لأغوار هذا العالم. فالروائي يجب أن يعبّر عن الواقع، ويهرب إلى الماضي، ويجابه المستقبل )، وهذا ما تجسّد في رواية ( الصبّار الأزرق )، فهّم الروائي كان منصباً على تعرية الواقع العراقي، والكشف عن ملابساته، وتسليط الضوء على شخصيات أخرى تمتلك سر وجودها، وتشترط الرهان على الحقائق الدامغة مثل شخصية خالد عبد الدايم وزوجته فاتن وابنه أحمد وابنته نادية، وجمال، والسيد عبد الحافظ، وعائلة أبو زينب في الشامية، وغيرها من الشخصيات المتعاطفة مع العراق أرضاً وشعباً. في حين تصطف بعض الشخصيات الانتهازية المشوّهة إلى جانب السلطة مثل الرفيق، وبائع الدجاج، وسلمان الحرشان، وأبو روحي، وفؤاد وغيرهم. ناهيك عن وجود بعض الشخصيات الأخرى التي تقف على الحياد أو لا تحاول أن تحرّك ساكناً كي تدفع عنها الشبهات والمخاطر في ظل نظام يضطرك لأن تضع روحك على راحة يدك.

• التمركز حول الشخصيات المستديرة

يذهب دي. إج. لورنس إلى القول: ( بما أنني روائي، فأنا أعد نفسي أسمى درجة من القدّيس والعالم والفيلسوف والشاعر. فالرواية هي كتاب الحياة المشع الوحيد ). ولا يحتاج القارئ الحصيف إلى أدلة وبراهين دامغة ليقطع شكه باليقين من أن الرواية هي أقدر الأجناس الإبداعية على احتواء وصهر المعطيات الأدبية والفنية، وتذويب العلوم والمعارف الأخرى مثل علم النفس والفلسفة والسياسة والتاريخ والميثولوجيا والأسطورة والخرافة والسحر ضمن فضائها الإبداعي. فالروائي المبدع بإمكانه أن يتعامل مع هذا الخليط المعرفي غير المتجانس ويصنع منه نصاً أدبياً تتلاشى فيه الحواجز المعرفية الصارمة أو ترتدي فيه الفكرة الفلسفية أو السياسية حلّةً أدبية. في رواية ( الصبّار الأزرق ) ثمة إحالات سياسية، وفكرية، ودينية، وخرافية جاءت ضمن نسيج النص الروائي، بل أنها أصبحت جزءاً من لحمة الشخصيات وسداتها. لا شك أن شخصية الحاكم بما تنطوي من عليه من تناقضات خطيرة هي شخصية ( روائية ) تحتمل الاسترسال، أما بعض الشخصيات الذيلية، المداهنة، المزيّفة التي تؤثث المكان الروائي ولا تدفع بسياقاته الفنية والفكرية إلى أمام مثل عبد الأمير وأبو روحي وسلمان وفؤاد فهي لا تؤثر في حركة القص أو الروي، لكنها تعطي تصوراً دقيقاً لواقع الحال الراهن، وما آل إليه من خراب روحي وفكري وأخلاقي ناجم عن الطروحات والتقاليد الجديدة التي أرستها السلطة في العراق. غير أن الشخصيات المستديرة هي التي أسهمت في تدعيم الأركان والمحاور الأساسية للهيكل العام للبناء المعماري للرواية. وبالذات شخصية خالد عبد الدايم، الرجل، المثقف، الذي يبدي امتعاضه مما يجري على أرض الواقع بسبب السلطة التي تتخبط خبط عشواء، وتقود البلاد والعباد إلى نفق مظلم ليس في نهايته بارقة أمل. الشخصية المستديرة ترتكن إلى خزين معرفي كبير، وقدرة على التشخيص، والتأويل، والتحليل، الأمر الذي يجعلها محط اهتمام القارئ لعدة أسباب لعل أبرزها أن هذه الشخصية المركّبة هي الرئة التي يتنفس من خلالها الجميع لأنها تمثل الصوت العام المقموع والمهمّش والمُصادر. وهي الأقدر على استخدام السخرية اللاذعة، والتهكم الظاهر والمبطن، واللعب على الكلمات. كما أنها تتحكم بمشاعر القارئ الجياشة، وتستعين به عندما تنفتح على شخصيات النص الأخرى التي تتعاطف مع الخير، وتقف بكل ثقلها المعرفي والسياسي والإنساني ضد الشر عندما تسفّه آراء الشخصيات الممسوخة والآيلة للسقوط. خالد عبد الدايم مثقف عضوي، ناجح في حياته الزوجية، ويسعى لأن يعيش حياته بحرية تامة تنسجم مع مزاجه النفسي والفكري والسياسي. أليس الإنسان سيد مصيره؟ لهذا فإن القارئ يتعاطف مع أراء هذه الشخصية، ويتبنى طروحاتها، ويقف إلى جانبها، لأنها مرآة عاكسة للإنسان الحر، والنموذج النقي الذي لا تشوبه شائبة. فاتن، زوجة خالد عبد الدايم هي شخصية ( مستديرة ) أيضاً، ومثقلة بمحمولات رمزية كثيرة. وهي فضلاً عن ذلك شخصية مثيرة لبعض الأسئلة الفكرية والإنسانية حتى أن عنوان الرواية ينبجس من أحد تساؤلاتها المحيّرة عندما تخاطب زوجها خالد عبد الدايم قائلة: ( هل تصدّق أنني أرى غابات النخيل غاباتَ صبار أزرق !؟ ). من هنا يتأسس سؤال الرواية، ويتبلوّر سرها الذي يظل منتظراً مَنْ يفك طلاسمه. وعندما يوغل في إلحاحه لمعرفة حكاية الصَّبار الأزرق ( يلوح في عينيها شبح ابتسامة شقية ) فيتذكر أن الصَّبار ( هو الصحراء . . الغموض والمخاطر ) ويتذكر مطلع القصيدة التي بعثها ذات يوم.
( من غابة الصًّبار عُدتُ يا حبيبتي لعلني في مقلتيكِ واجداً مزار ). أما الشخصية الأكثر احتجاجاً وتمردا فهي نادية التي وصلت إلى درجة كبيرة من اليأس لأنها ترى أن في العراق ( رجلاً واحداً يحرّك الأحداث والناس والأشجار! ). وعندما يلتمس منها العم فاضل أن تكون أكثر إيماناً على اعتبار أن قدرة الله لا حدود لها، فترّد عليه: ( ولكن هذه القدرة ستتوقف عند أبواب القصر الجمهوري! ). إن شخصية نادية تكاد تشكّل العصب النابض في جسد الرواية لأنها الشخصية الوحيدة التي تثير أسئلة جوهرية على درجة كبيرة من الخطورة. فهي لا تتورع من القول: ( هل سيريحنا الله من هذا الرجل؟ ) أو ( أين يتحرك المحترم الآن؟ ) أو ( هل قرأ التاريخ حقاً كما يدعي؟ وإذا كان قد قرأه فهل استوعبه؟ ). إن الملامح التي رسمها رؤوف البصري لشخصية نادية هي ملامح قوية، وجذابة، ولا تغادر ذاكرة القارئ بسهولة، لأنها شخصية رصينة ،وثرة، وقادرة على البقاء والمقاومة. وهي تستمد قوتها من دون شك من خلال ثقافتها، ومعرفتها، وقراءتها الثاقبة للأحداث. فالمرأة التي تقرأ لسيمون دي بوفوار وسارتر، وتتعمّق في دراسة الفلسفة والتأريخ من أجل اكتشاف الحقيقة أو ملامستها في الأقل، وتقوم بمطاردات شعرية مع محبي الشعر ومريديه من الأصدقاء والأقارب، وتستمع بقراءة ( الجحيم هم الآخرون ) أو ( زمن الحب، زمن الحرب )، وتجد لذة في شرح حركة التاريخ الاجتماعي أو الحديث عن الجدل عند هيغل أو أثر الوجودية في الفكر الماركسي في فرنسا وما إلى ذلك من إنشغالات فكرية وثقافية. هذه الشخصية لابد أن يتعاطف معها القارئ، ولابد أن يعزّز تذمرها واحتجاجها، ويقتنع بآرائها المُربكة، فهي لا تميل إلى النظام مطلقاً، ولكنها لا تُحب الأمريكان أيضاً وتنتقد أغلب آرائهم، وطرق تعاطيهم مع القضية العراقية. إن هذا التألق الدائم لشخصية نادية هو الذي يجعلها تعيش لأطول مدة ممكنة خلافاً لشخصية أحمد التي تفتقر إلى مقوّمات الاستمرار على الرغم من اتكاء هذه الشخصية على قصة حب لم تأخذ حقها الطبيعي من النمو والتوهج بسبب الظروف الشائكة والملتبسة التي كان يعيشها العاشقان معاً. ومع ذلك فإن المحمولات الفكرية والثقافية لأحمد هي اضعف بكثير من الخصائص والمعطيات التي أمدّت شخصية نادية بأسباب الحياة، والتوهج الدائم الذي يأسر اهتمام القارئ، ويحفّز الناقد على البحث والتقصي والتأويل. هناك شخصيات أخرى تؤثث النص الروائي، وتعكس صوراً مختلفة للشرائح الاجتماعية التي تكوّن المجتمع العراقي في ظل هذه الظروف الاستثنائية. فشخصية جمال لا يمكن الاستغناء عنها في هذا النص لأسباب كثيرة من بينها أنها شخصية تهكمية، ساخرة، مجازفة لأنها لا تستخدم التورية المبطنة، وإنما تتفوّه بالتوصيفات العارية والإحالات التي انكشف أمرها للناس. فعندما ينادي على ولده الصغير ( صادق ) باسم ( بطيحان ) أمام الضيوف فإنه يحيلنا مباشرة إلى الشخصية الشرّيرة والخبيثة في مسلسل ( بطيحان الأردني ) الذي عرضه التلفاز العراقي آنذاك، ولكن دلالات الشر والخبث والجريمة قد انتقلت من ( بطيحان الأردني ) إلى ( بطيحان العراقي ) الذي نعرفه جميعاً. فمن خلال نجاح المؤلف في ( ترحيل الدلالة ) عبر آلية ذكية استطاع أن يزرع في ذاكرتنا شخصية خفيفة، ومرحة، تعربّد، وتجازف، وتشخّص مواطن الخلل، وتنتقد بشجاعة نادرة، وهي تدرك جيداً أن هذا الانتقاد قد يفضي بها إلى ما لا تحمد عقباه. إن ( جمال ) هو ذاكرة جمعية لشريحة واسعة من الناس البسطاء. هذه الشخصية وسواها من الشخصيات الشعبية الأخرى هي التي ترفد النص بأسباب الحياة، وتمده بعناصر التنوع والاختلاف الذي يثري النص، ويمنحه نهكة خاصة. جمال يمتلك ذاكرة خارقة، ويحفظ أسماء الناس الذين يلتقيهم بطريقة عجيبة، ويعرف كل الذين يرتادون مقهى ( جزيرة العرب ). بمعنى آخر أنه العين الراصدة، المراقبة لحركة والأحداث على حد سواء. إن العمل الروائي ليس تسجيلاً فوتوغرافياً للواقع، وإنما هو تصوير فني لحركة الحياة بكل تناقضاتها وتفاعلاتها، وهو امتداد أفقي وعمودي في تفاصيلها الدقيقة التي لا يلتقط نبضها إلاّ الكُتّاب المبدعون. فخلال أسفار ومكابدات خالد عبد الدايم المتعددة إلى عمّان والنجف والشامية والكوت يصوّر لنا بأمانة الحيوات الحقيقية لشخصيات وأسر عراقية عديدة تمثل روح العصر بكل تناقضاته الشديدة، وهذا ما منح الرواية مصداقية نادرة. ففي بغداد نتعرف على عوائل منقاة بعضها بغدادية، وبعضها الآخر وفد إلى العاصمة منذ وقت طويل مثل عائلة جمال، وأبو شهلة، وسلمان الحرشان، والمدير العام، والرفيق الذي كانت أسرته مغيّبة عن قصد. وفي عمان نتعرف على عائلة ( أبو روحي ) الذي شاهد بأم عينيه وجه القائد في القمر! وفي المحافظات العراقية نلتقي بالعديد من الأسر التي تمثل وجدان الأمة وضميرها الحي مثل عائلة أبو فاضل في النجف، وأبو زينب في الشامية، وعائلة جاسم في الكوت التي نتعرف عليها من خلال بوحه واسترساله في الحديث عن الفواجع التي ألمّت بأسرته وغيرها من الشخصيات الكثيرة التي تظهر وتختفي ضمن سياقات النص وضروراته البنائية الفنية والفكرية. ومع ذلك تبقى شخصية خالد عبد الدايم هي وأسرته المفتاح الذي نفتح من خلالهم أبواب الجحيم وهم يسردون لنا عبر مشاهداتهم وقائع الانتفاضة المجيدة التي حدثت في مدن الجنوب العراقي. إن هذه الانتفاضة هي رسالة النص الروائي الأساسية. وأستطيع أن أجزم بأن ( الصبار الأزرق ) هي واحدة من أصدق الروايات التي كُتبت حرب الخليج الثانية، وانتفاضة آذار الخالدة، وتداعياتها الخطيرة على الشعب العراقي تحديداً.

• النص المفتوح


لا تخضع رواية ( الصبّار الأزرق ) إلى شروط الكتابة الأرسطية، أي أنها لا تتبنى آلية التأليف المغلق الذي يقوم على مبدأ ( السبب والنتيجة ) بحيث يقدّم للقارئ حلولاً جاهزة، ولا يدعه يشارك في مجرى الأحداث، ويحد من تشظيات المخيلة التي تتوهج عندما يتماهى القارئ العضوي في بعض المواقف والشخصيات التي تخرج من إطارها الفردي، لتأخذ طابع الظاهرة أو بُعد شريحة كبيرة من الناس. إن النص المفتوح هو الذي يحوّل القارئ العادي إلى كائن متفاعل مع مجرى الأحداث بحيث تنسجم مشاعره وأحاسيسه الداخلية مع مشاعر البطل في تعاطيه مع تطورات الأحداث، وتصاعدها الدرامي. ففي النص المفتوح لا وجود للقارئ السلبي الذي يتلقى نمو الأحداث بحيادية، ويقبل بما يمليه عن الكاتب من رؤى ونتائج جاهزة. رواية ( الصبّار الأزرق ) هي أنموذج للنص المفتوح، ليس على صعيد الشخصيات المحورية التي تلفت اهتمام القارئ، وتستدعي فضوله حسب، وإنما يمتد هذا الانفتاح ليشمل أغلب شخصيات الرواية، هذا ناهيك عن أن الحدث نفسه ما يزال مفتوحاً وقابلاً لتأويلات عديدة. فشخصية أحمد الذي تربطه علاقة حب خجلة بآمال لم تتطور إلى الحد الذي ينتظره القارئ من حبيبين في عنفوان شبابهما، ولهذا تظل مخيلة القارئ مفتوحة على مديات وتصوّرات ربما لم يفكّر بها مؤلف النص نفسه. شخصية نادية هي الأخرى مفتوحة لاقتراحات وتوقعات القارئ الذي يتساءل عن السر الذي كان يدفع بها لأن تتمترس خلف حاجز يمنع اتصالها الحميم بزملائها في الكلية أو بمعارفها في الحي الذي تسكن فيه. وحتى شخصية سلمان الحرشان السلبية التي تسلط الضوء على نماذج ممسوخة من هذا المجتمع ارتضت أن تبني حياتها على ما تسرقه من الكويت أو من المدن العراقية أيام انتفاضة آذار. هذه الشخصية ظلت مفتوحة على أفق مبهم، سواء في زواجه الذي لم يشهده القارئ بالرغم من تطوّر معطيات تحققه مثل بناء الفيلا، واستكمال الاستعدادات الأخرى. إن عناصر الاتصال أو التراسل في النص الأدبي تقوم على ثلاثة ركائز أساسية وهي ( المُرسل، الرسالة، والمُرسَل إليه ). وإذا كانت شخصيات النص الروائي التي يختبئ خلفها المؤلف نفسه هي ( المُرسِلات ) التي تبث أفكارها وطروحاتها فإن ( المُرسَل إليهم ) هم القُراء من دون شك. غير أن هؤلاء القراء يحتلون مساحة مهمة في حركة النص المندفعة إلى أمام، وهم يحملون جزءاً كبيراً من ( رسالة ) النص الذي يظل مفتوحاً على تصوراتهم ومقترحاتهم الذهنية والعاطفية في آن معاً.
إن بنية التقابل أو التضاد تتحقق في هذه الرواية من خلال بعض الإستعادات الذهنية التي تفتح النص ، بقدر أو بآخر، على الماضي، كما أنها تقدّم صورة إستشرافية للمستقبل. ولتوكيد إفادة الكاتب من آلية ( الفلاش باك ) وتوظيفها في متن النص سنتوقف عند ذكر حالتين إسترجاعيتين أبقيتا الباب مفتوحاً على الماضي، الأولى في الفصل الأول عندما ( تتذكر ) فاتن أحداث 1963، وكيف كانت طائرة محلّقة في سماء بغداد تنقّض على وزارة الدفاع، ودبابة تحرث الإسفلت في الوزيرية، وتفكر بخالد الذي كان معتقلاً وانقطعت أخباره. والثانية في الفصل الخامس عندما تذكر خالد رائحة مخلفات الشاي العفنة المنبعثة من الصفيحة القذرة المركونة قرب الموقد بالصفيحة العطنة الموجودة في غرفة التحقيق أيام الحرس القومي، ثم تتداعى ( حفلات ) التعذيب القاسية في ذاكرته ليمد القارئ بصور حقيقية مروّعة حدثت في التاريخ السياسي للعراق الذي ظل ينزف دماً عبر مراحله المختلفة. وهناك مواقف إسترجاعية كثيرة يتذكر بها جاسم صاحب المقهى في الكوت قصة اختطاف أخيه حسن وإعدام ابنه الكبير حميد بحجة انتمائه لحزب الدعوة. وفي الختام نستطيع القول إن رواية ( الصبار الأزرق ) هي نص روائي مفتوح بجدارة وتمكّن على الأزمنة الثلاثة، مثلما استطاع أن ينفتح مكانياً على مساحة واسعة جداً تمتد من بغداد إلى عمان، مروراً بكل مدن الفرات الأوسط والجنوب، وانتهاءً بالكويت. كما ركزت الرواية على أبرز التصريحات السياسية والفكرية لقادة دول التحالف الذين تمادوا في لهجتهم العدوانية التي تخبئ خلفها منجماً من الحقد الدفين على شعب بريء لا ناقة له ولا جمل في هذه الحرب العبثية التي لم ينطفئ أوراها حتى هذه اللحظة. إن رواية ( الصبار الأزرق ) هي شهادة أمينة وصادقة أسقطت الكثير من الأقنعة الزائفة التي يرتديها أدعياء هذا الزمن الرديء. كما أنها قطعة أدبية رصينة تستحق القراءة والتمثّل وإطالة النظر



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في إختتام الدورة السابعة لمهرجان السينما العربية في باريس
- الطيب لوحيشي: في السينما استطيع أن أكون واقعياً وحالماً
- إختتام الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام
- المخرج طارق هاشم في فيلمه التسجيلي الطويل 16 ساعة في بغداد. ...
- فوز الشاعر السوري فرج البيرقدار بجائزة - الكلمة الحرة - الهو ...
- الكاتبة الهولندية ماريا خوس. . قناصة الجوائز، ونجمة الموسم ا ...
- التعالق الفني بين التناص والتنصيص ..قراءة نقدية في تجربة الف ...
- رفعت الجادرجي يسطو على تصميم لعامر فتوحي في رابعة النهار
- بعد أربعين من صدوره يسبّب- منهاج المسلم - بترجمته الهولندية ...
- التابو في المشهد الثقافي العربي والإسلامي إشكالية التحريم وا ...
- مهرجان السينما العربية في باريس يحتفي بالسينما العراقية، ويك ...
- مهرجان الحلقة التونسي في روتردام
- حوار مع الفنانة عفيفة العيبي : العمل الفني أشبه ببناء عمارة ...
- الفنان صادق الفراجي في معرضه الشخصي الجديد يدوّن ذكريات المد ...
- عفيفة العيبي في معرضها الشخصي الجديد: فنانة ترسم بتقنيات نحت ...
- صالة Ezerman في مدينة دوكم الهولندية . . تحتفي بأعمال الفنان ...
- المخرج السينمائي طارق هاشم: - 16 ساعة في بغداد - مليئة بالذه ...
- التعالق الفني بين التناص والتنصيص قراءة نقدية في تجربة الفنا ...
- حوار مع الفنانة التشكيلية رملة الجاسم
- جائزة إيراسموس لعام 2004 يتقاسمها ثلاثة مفكرين: صادق جلال ال ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الصبّار الأزرق ) بين مخيلة النص المفتوح وتعدّد الأبنية السردية