أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة العاشرة)















المزيد.....


الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة العاشرة)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2918 - 2010 / 2 / 15 - 15:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(( الفلسفة الشرقية ))

في قسم مختلف تماماً من العالم، كانت الفلسفة قد تطوّرت وانعطفت في مسار مختلف تماماً. فبالنسبة للكثير من الغربيين، بدت الفلسفة الشرقية خارقة بالمقارنة مع فلسفتهم الخاصّة، لأنّها كانت أكثر تناغماً مع الكون، مع الطبيعة، مع الطبيعة الإنسانية، ومع طبيعة المجتمع الإنساني.
وهذا التناغم له دور في حقيقة أنّ الفلسفة الشرقية لا تميل إلى التعقيدات الميتافيزيقية التي تطوّرت في الغرب، وهي في عيون الكثير من الناس تقف عثرة أمام حقيقة الواقع. كما أنّ الفلسفة الشرقية تميل إلى الافتقار للاختلاف الحاد والتمايز الشائع في الفلسفة الغربية بين الذاتية والموضوعية. وكنتيجة لذلك، هناك في الفلسفة الشرقية محاولات قليلة للسيطرة على العالم الواقعي ومحاولات كثيرة لإدراك واستيعاب حقيقة أننا جميعنا جزء لا يتجزأ من العالم.
هناك ثلاثة تيارات رئيسية في الفلسفة الشرقية: أحدها قادم من الشرق الأقصى، وثانيها قادم من الهند، أمّا آخرها فهو من الشرق الأوسط. وهذه التيارات الثلاث تمثّل التقاليد والأعراف الهامّة لذاتها وكان لها تأثيراً بالغ الأهمية على أساليب التفكير الغربية.

۞ فلسفة الشرق الأقصى
في هذه الحلقة سنقرأ عن التيارين الفلسفيين الرئيسيين في الصين: الكونفوشية والتاوية... وكيف أنّ الفلسفة الكونفوشية حاولت تطوير المجتمع... وسنقرأ عن فكرة الطّقس الديني كممارسة في الحياة اليومية... وأخيراً سنتطرّق إلى موضوع الاتحاد التاوي مع الطبيعة...

كانت الفلسفة الغربية متأثرة بشكلٍ كبير باللاهوت والتفكير الديني. أمّا في الشرق الأقصى، فقد كان الأمر مختلفاً تماماً: كان الدين متأثراً بالتفكير الفلسفي. حيث كان للفلسفة تأثير بالغ الأهمية على الثقافات الآسيوية كما كان للدين تأثيره على الثقافات الأوروبية.
في الواقع، أثرت الفلسفة الشرقية على التفكير الغربي أيضاً. فقد بدأ الناس في أوروبا يسمعون عن الفلسفة الشرقية في القرن السابع عشر، وكان الفلاسفة الغربيون يستعيرون ويأخذون أفكاراً من الشرق منذ ذلك الوقت. وكنتيجة لذلك، كان كونفوشيوس يشبه أفلاطون بالنسبة لأغلب الناس في الغرب، وكان المفهوم الشرقي للتاو "الدّرب Tao" يشبه المفهوم الغربي "التجريبية Empiricism".
لقد كانت الكونفوشية والتاوية بمثابة الفرعان الرئيسيان للفلسفة الشرق ـ أوسطية. على الرّغم من أنهما كانتا على جانب كبير من الاختلاف عن بعضهما البعض، فقد بدأتا كلتاهما من فكرة أساسية أنّ الطبيعة والثقافة يجب أن تتفاعلا معاً.
كونفوشيوس: هو الاسم الذي أطلقه الناس في الغرب على فيلسوف شرقي معروف في الصين باسم "كونغ فو ـ تزو K ung fu-tzu" (551- 479 ق.م) الذي اهتمّ بشكلٍ خاص بمسألة الفساد في الدولة. فقد لاحظ أنّ الطّبقة الحاكمة في الصين، النبلاء الأرستقراطيين، قاموا باستغلال شعبهم، حيث فرضوا عليهم ضرائب ضخمة لتدعيم أساليب حياتهم الباذخة.
وبسبب التفاوت الكبير في الثروة في الصين بين مجموعة من الحكّام وبين باقي السكان، كان لبقية أفراد الشعب القليل لكي يعيشوا عليه وكم كبير من الهموم الحياتية. وكنتيجة لذلك، لم يكن أحداُ يثق بأيّ أحد. فالناس لم يكونوا يحترمون الحكّام الذين بدورهم أساءوا إليهم بإخضاعهم واضطهادهم.
كانت الأحوال بائسة جداً هناك...
عندما اطّلع الغربيون على الفلسفة الشرقية لأوّل مرّة، كان من المألوف جداً إضفاء الألقاب اللاتينية على الشخصيات الهامّة، لذلك فقد أطلقوا على "كنغ فو-تزو" اسم "كونفوشيوس". وهناك ألقاب لاتينية شهيرة أخرى مثل لقب "كريستوف كولومبوس" الذي أطلق على المستكشف الإيطالي العظيم "كريستوفورو كولومبو"، وأخيراً وليس آخراً هناك اسم "نيكولاس كوبرنيكوس" وهو اسم العالم الفلكي البولندي "نيكولاي كوبرنيك".
*******************
كونفوسيوش، الذي كان له مكانة كبيرة في قلوب الناس، طوّر طريقة في التفكير اعتقدَ أنها ستساعد في حلّ مشاكل بلده الصين. أمّا رؤاه فقد كانت بأن يجعل الحكّام والموظّفين الحكوميين الصينيين يتوقفون عن استغلال الناس وتشجيعهم على أن ينالوا احترامهم من دون اللجوء إلى استخدام القوّة والترهيب. فكرته التي كانت موجّهة بالأساس نحو المعضلات الحكومية قامت بمسّ الكثير من المشكلات في مجالات أخرى.
كانت فكرة كونفوشيوس حول الحكومة الفاضلة تتضمّن الجميع، وليس فقط الحكّام. بالرغم من أنّ بعض الناس في الصين (خصوصاً أولئك ذوي الدم الأزرق) كانوا يعتقدون أنّ الناس الذين ينحدرون من جذور أرستقراطية هم وحدهم الجديرون بالحكم، أمّا كونفوشيوس فقد رأى أنّ هذا الكلام مجرّد هراء. فالأشخاص الجديرين بالحكم هم الذين يجب أن يحكموا سواءً أكانوا قد ولدوا وفي أفواههم ملاعق من فضّة أو لا.
كانت تلك فكرة جديدة وغايةً في الأهمية. حتى ذلك الوقت، كان من الشائع الاعتقاد أنّ العائلات الحاكمة قد تمّ اختيارها من قِبَل السماء نفسها. وهذا الاعتقاد الراسخ كان عرضةً للهجوم، وبما أنّه كان من السّهل رؤية أنّ الحكّام لم يكونوا أخياراً وعلى قدر المسؤولية في الاهتمام بالأمور وأنهم يعتمدون على القوّة العسكرية، وليس على العناية الإلهية، للحفاظ على السّلطة.
ومع ذلك، ففكرة أنّ أشخاص معيّنين من عائلات محدّدة يجب أن يتولّوا الحكم، وخصوصاً وأنها مرتبطة بالعرف الصيني القائم على توقير الأجداد. فكان من المتوقع أنّ الأطفال سيكونون مثل آبائهم متمسّكين بالأعراف والتقاليد.
كانت فكرة كونفوشيوس أنّ وظيفة الحكم يجب أن تعطى ببساطة إلى هؤلاء الأقدر على ممارستها، وبمخاصمة التقليد القديم والراسخ منذ أمدٍ بعيد للحكم العائلي المتوارث. عرف كونفوشيوس أنّه إذا قام بالجهر بفكرته الجديدة فإنه لن يبلغ مسافة بعيدة، لذلك فقد قال أنّ عائلة الحكّام يجب أن تبقى كرموز وتترك عملها في الحكم وتتنازل عنه لأولئك المؤهّلين لذلك.
كان حلم كونفوشيوس هو أن يكون مسؤولاً حكومياً لكنه لم يرغب في إطاعة أوامر رؤسائه الجائرة، لذلك وبدلاً من ولوج سلك الحكم والسياسة، فقد أمضى كل حياته في تعليم الآخرين، حيث أصبح الكثير من تلامذته مسؤولين حكوميين.
*******************
يقول كونفوشيوس أنّ الناس لا يريدون أن يقوم الحاكم بترهيبهم أو إخضاعهم واضطهادهم ليطيعوه. فهم سيظهرون الطاعة والولاء للحاكم الذي تعلّم _من خلال التجربة والتعلّم_ كيفية الحكم الجيّد، والذي يفهم مطالب وحاجات الشعب.
بالنسبة لكونفوشيوس، ففكرة التأثير بالناس عن طريق المثال نجحت باتجاهين. لا يجب على الحكّام أنّ يكونوا قدوة فقط، بل يجب على الناس أن يظهروا للقادة كيف يحكمون بشكلٍ ممتاز عن طريق كونهم أتباع مخلصين. وهذا يعني أنّ الناس يجب أن يستخدموا حكمهم وأن يرفضوا إطاعة الأوامر الغبية أو الشريرة والجائرة، ما عدا ذلك عليهم إطاعة بقية الأوامر الأخرى.
********************
إنّ حكومة كونفوشيوس الخيّرة تقوم على أساس مبدأ معروف باسم "لي Li"، أو السّلوك المحترم والرسمي. في الوقت ذاته، كان يتمّ إطلاق هذه اللفظة على طقوس عبادة الأجداد. كانت السلفية تعتبر مسألة بالغة الأهمية، في الحقيقة، كانت هناك عادة واسعة الانتشار هي تقديم الأضاحي إلى الأسلاف الموتى. وكونفوشيوس لم يتدخل في هذه الممارسة لكنه حاول استغلالها بطريقة أكثر فعالية. فقد قال أنّ الناس يجب أن يأخذوا الاحترام الذي كانوا يكنّونه لأسلافهم وأن يتبادلوه فيما بينهم.
فمثلاً، قال كونفوشيوس أنه إذا جاءك ضيوف لزيارتك، عليك أن تعاملهم باحترام شديد كما لو أنك تقوم بممارسة شعائر دينية مقدّسة. فالعرف، الطقس، والاحترام يجب أن يتمّ إظهارها دوماً أثناء تفاعل البشر مع بعضهم.
لكنّ تأكيد كونفوشيوس على العرف لم يكن يعنِ أنّ الناس لا يجب أن يفكّروا بأنفسهم. حتى بالرغم من إيمانه بأنّ كلّ شخص يجب أن يتعلّم تقدير واحترام الأساليب التقليدية للقيام بالأمور، وأن يقوموا بملء مكانهم في المجتمع، فهو لم يفكّر أنّ الناس يجب أن يتبعوا الأعراف والتقاليد بشكلٍ أعمى، أو من أجل التظاهر فقط. إنّ العروض المبهرجة والمبتذلة للاحترام لم تكن أمراً جيّداً رغم بساطتها، دلائل صادقة. وأكثر من ذلك، ليس هناك أيّ مانع للخروج عن نطاق التقاليد إذا كان لديك سببٌ مقنع.
على سبيل المثال، إذا كان من المألوف تناول طبق من صلصة المايونيز بعد وجبة غداء عائلية خاصة، لكنك كنت تكره صلصة المايونيز، فبإمكانك أن تتناول صلصة الطماطم إن أحببت. والفكرة هنا أنّ الناس بإمكانهم أن يقرّروا تغيير وتجاوز التقاليد والأعراف. في الواقع، آمن كونفوشيوس أنّه من المهمّ جداً لجميع الناس أن يشاركوا في الأحداث اليومية. فإذا كنت غير سعيد باتباع الطريقة التقليدية في إنجاز أمورك، فإنك لا تملك الحق في أن تعزل نفسك عنها، بل عليك أن تتعامل مع العُرف محاولاً إيجاد أسلوب لإنجاز الأمور بطريقة مناسبة ومرضية بالنسبة لك.
وبهذه الطريقة، فالجميع مشتركين في المبدأ "لي"، محاولين البحث عن طرق وأساليب لإنجاز أمورهم بحيث يكون الجميع سعداء وراضين. وهذا بالضبط ما فعله كونفوشيوس في محاولته لإعادة تشكيل الحكومة الصينية. كما أنه كان لديه الكثير من الأفكار حول الكيفية التي يجب أن تتغيّر وفقها الأمور، فهو لم يصرّح على الإطلاق بأنّ الطرق التقليدية القديمة سيئة وغير مجدية. بل لقد سار حسب العُرف قدر إمكانه. فمثلاً، هو لم يقل أنّ تقديم الأضاحي إلى أرواح الأسلاف هي مضيعة للوقت. بل أدرك قيمة الإخلاص والتفاني في المراسيم، وقال بأنها يمكن استغلالها من أجل أغراض عملية.
تنبع القيمة الحقيقية للمبدأ "لي" ليس فقط من حقيقة أنه يظهر الاحترام للناس الآخرين، بل إنه يجعل الناس مستعدّين عقلياً للمهام التي يواجهونها. فالأمور التي يقوم بها الناس هي أمور هامة وجوهرية وتتطلّب تركيزاً ووعياً كبيرين إذا كانت الغاية إنجاز العمل على أفضل وجه. وهذه مسألة هامة جداً خصوصاً في مجال إدارة شؤون الدولة، لكنها تندرج على كافة نواحِ الحياة أيضاً.
********************
إنّ معنى المبدأ "لي" ليس فقط إنجاز الأمور بكلّ الاحترام، بل إنجازها في الوقت المناسب والمكان المناسب وفقاً لما تقتضيه العادات والتقاليد والأعراف. فإذا كان لديك الكثير من الأمور لتنجزها وهي تبدو لك بأنها ليست على قدرٍ كبير من الضرورة والأهمية، عندئذٍ ستقوم على الأرجح بإنجاز تلك الأمور على عجلة من أمرك، فيخرج عملك رديئاً وسيئاً. بالإضافة إلى أنك ستفكّر في العديد من الأمور أثناء قيامك بالعمل مما سيلهيك عن الانتباه إلى طريقة عملك. ستكون مستاءً وضجراً أثناء قيامك بعملك، كما أنك ستستاء من النتيجة.
على الأرجح، ستحاول إيجاد الطرق للتهرّب من القيام بالعمل بنفسك كأن تجلب شخصاً آخر لينجز العمل أو من خلال التخلي عن العمل وتركه غير منتهِ، حتى ولو كان ذلك سيتسبّب بمشاكل جمّة لك وللناس الآخرين.
من جهةٍ أخرى، إذا تمهّلت وأخذت كفايتك من الوقت لتستعدّ عقلياً للقيام بالعمل فستكون وتيرة العمل أكثر خفّةً وسلاسة، وستشعر بالاستمتاع بالقيام بالعمل، كما أنّ النتيجة ستكون مرضية لك وللناس الآخرين. والسبيل لتحقيق هذا الأمر، يقول كونفوشيوس، هو عن طريق التفكير حول أهمية العمل الذي تقوم به، وحول زمن وكيفية إنجاز العمل.
في هذه المرحلة تتدخّل التقاليد والأعراف: فهي التي ستساعدك تقرير المكان والزمان الأنسب لإنجاز العمل. وإذا كان تدخّل التقاليد عائقاً في طريق تقدّمك بدلاً من مساعدتك، فيمكنك ببساطة أن تغيّر العُرف والتقليد من دون القلق بشأنه.
من خلال العمل فكرياً ومن خلال مسايرة التقاليد والأعراف، يمكن للناس أن يقلّلوا من نسبة المشاكل التي قد يتسبّبون بها لأنفسهم ولغيرهم من الناس. فكلّ شخص على نفس الصفحة، بالإضافة إلى الفهم المشترك للأمور الهامّة، لكنهم يستطيعون أن يقرّروا بالنيابة عن أنفسهم ما هي أفضل السّبل لإنجازها. تخيّل كيف ستكون الأشياء والأمور في هذا العالم إذا اتخذ كلّ فردٍ هذا الموقف.
فكّر كونفوشيوس أنّ مثل هذا العالم سيسير على أحسن ما يرام وبشكلٍ أفضل من عالمه الذي عاش فيه، لذلك فقد علّم الناس الآخرين فلسفته هذه. وعلى الرّغم من أنها كانت جديدة بالكامل ومن عدّة نواحٍ، فهي كانت مبنيّة على أساس أفكار قديمة مألوفة عند الناس في الصين في ذلك الوقت. وإحدى تلك الأفكار كان مبدأ "التاو Tao".
و"التاو" هي كلمة صينية بمعنى "الطريق" أو "الدّرب أو السبيل". بالنسبة لكونفوشيوس كان التاو يتضمّن البحث عن المزيح الحقيقي المؤلّف من الأعراف والوعي الذاتي.
على الأرجح مفهوم "التاو" لم يبدأ مع كونفوشيوس، مع انه استخدم مفاهيمه وأفكاره ضمن منظومة تعاليمه. على العكس، جاء مفهوم التاو لوضع وترسيخ مبادئ "التاوية Taoism"، وهي عبارة عن فرع رئيسي من فروع الفلسفة الصينية التي اعتبرت أنها على النقيض من "الكونفوشية". وتختلف التاوية عن التعاليم الكونفوشية في أنها تركّز على كونها في تناغم تام مع الطبيعة، أكثر من كونها مهتمّة بالمسائل العملية وعلاقاتها مع بعضها.
تنويه: بالرّغم من أنّ التاوية والكونفوشية ما هي إلاّ فلسفات مختلفة ومنفصلة، وكل واحدةٍ منها على النقيض من الثانية، في التركيز على مسائل ومواضيع مختلفة، إلاّ أنّ كلتاهما تقومان على فكرة "الدرب" أو "السبيل".
********************
على غرار الفلسفة الكونفوشية، نشأت التاوية من مجموعة من الأفكار التقليدية الصينية خلال فترة القرن السادس قبل الميلاد. فقد قام الفيلسوف القديم "لاو تسو Lao-Tzu" _ويعني اسمه: المعلّم الكبير_ بإنشاء منظومة التعاليم التاوية.
وبخلاف كونفوشيوس، الذي آمن بأهمية العُرف، فقد قال "لاو تسو" أنّ العُرف غالباً ما كان شيئاً سيئاً لأنّه يتناقض وقدرتنا الطبيعية على العيش بتناغم مع مبدأ التاو. بالنسبة إلى لاو تسو والفلسفة التاوية، فالمبدأ التاوي هو مبدأ طبيعي natural، أكثر ممّا هو مبدأ اجتماعي social، وقد عزل الكثير من التاويين أنفسهم عن الناس الآخرين بغية العيش حياةً أكثر طبيعيةً.
ففكرة التاوية ليست خلق المجتمع المثالي، بل تحقيق الوحدة مع التاو "السبيل" الذي ينظَر إليه كمبدأ طبيعي. فالشخص القادر على الاندماج مع "السبيل"، والقادر على فصل ذاته عن هموم المجتمع، سيكون سعيداً ومعافى وسيعيش حياة طويلة.
كان لاو تسو يقول أنّ أفضل طريقة للعيش وفق مبدأ التاو _وهو كلمة صينية بمعنى "الطريق" أو"السبيل" أو"الدرب"_ هي أن يتّبع الفرد مبدأً يدعى "وو وي wu-wei".
ويمكن ترجمة هذه الكلمة بصعوبة لتعني "التقبّل receptivity". والالتزام بهذا المبدأ يعني القبول في الأشياء كما هي عليه، السّير مع التيار، ومحاولة عدم فرض نفسك أو تغيير المسار الطبيعي للأمور والحوادث.
ولنقل مثلاً أنّ هناك شيئاً ما تريد أن تشتريه وكنت تبحث عن هذا الشيء لزمنٍ طويل. وأخيراً، اتصلت مع بعض الأشخاص الذين بدورهم قالوا لك أنّ طلبك لديهم في متجرهم، والذي يبعد عنك مسافة عشرة أميال إلى خارج المدينة. وعندما تصل في النهاية إلى المتجر، يتبيّن أنّ هناك خطأً ما وأنّ أصحاب المتجر لم يفهموا تماماً ماذا تريد. فتصيغ طلبك من جديد حتى يتوضّح لهم طلبك، ويتبيّن مجدّداً أنّ الشيء الذي تريده غير موجود لديهم.
في الحالة العادية، قد تصاب بالجنون، وتبدأ بالشكوى، والمجادلة، والصّراخ، وأخيراً ستقول أمامهم بأنهم فاشلين وغير أكفّاء وسبّبوا لك الكثير من المشاكل من دون سبب. ومن ناحية أخرى، إذا كنت من أتباع مبدأ "ووـ وي" فلا ينبغي عليك أن تستاء فقط، بل عليك أن تنظر إلى الأمر على أنه مجرّد دعابة مضحكة.
سيعتبر التاوي _ضمن المخطّط الكبير للأشياء_ أنّه من غير المهمّ ما إذا حقّقت أهدافك أم لا. فالشيء الأهمّ هو كونك جزء مهم من مسيرة الحياة. ولهذا السبب يجب التاويون الطبيعة. فالطبيعة تعمل بشكل تلقائي وعفوي، ومهما يحدث في الطبيعة فهو دائماً صحيح.
هذه النظرة إلى الطبيعة تفصل ما بين الفلسفة التاوية والرواقية الهلنستية. فكلّ من التاويين والرواقيين يؤمنون في فصل الفرد لنفسه ومسايرة جميع الحوادث، لكنّ التاويين يؤمنون بالطبيعة الهادئة والمحسنة، بينما الرواقيين يؤمنون بالقدر القاسي والعنيد.
في الواقع، إذا كنت تعتقد بأنّ الأمور تسير في منحى سيء، فذلك يعود إلى طريقة نظرك إلى الأمر. فبالنسبة لك، قد يبدو من غير الجيد أنك أهدرت وقت في رحلتك إلى خارج المدينة. أمّا بالنسبة للتاوي، فذلك غير مهم على الإطلاق. فالحياة ستمضي، فطالما أنك أصبحت خارج المدينة، فلماذا لا تأخذ رحلة على الأقدام في الغابة وتتأمّل كيف أنّ جميع الأشياء في الطبيعة متوحّدة مع بعضها البعض في حالة من الصيرورة الدائمة.
الأحياء تولد، تنمو وتكبر، ثمّ تهرم وتموت. وحتى الموت فهو ليس بالأمر السيئ، فهو جزء لا يتجزّأ من مسيرة الحياة. فحقيقة أنّ وعينا يتوقف عند موتنا لا ينبغي أن تقلقنا. بل علينا أن نكون "متقبّلين" ونقبل بحقيقة الموت عندما نعمل ضمن روح مبدأ "ووـ وي". فالتاوي يرى أنّك بقدر ما تتقبّل حقيقة موتك _بالإضافة إلى العديد من العمليات الطبيعية الأخرى_ ستكون أكثر صحّةً وستنعم بحياة أطول. ومن خلال تخفيف القلق حول المسار الذي تتخذه الطبيعة، ستكون أكثر ارتباطاً بالطبيعة.
هذه المفارقة _أنك إذا خفّفت قلقك بشأن مسألة الموت، فستنعم بحياة أرغد وأطول_ تبدو نموذجية بالنسبة إلى طريقة التفكير التاوية. فالتعاليم التاوية مليئة بالتناقضات والمفارقات. في الحقيقة، يؤمن التاويون أنّ التاو لا يمكن تفسيره وفهمه بالكلمات، فالكلمات كأي شيء آخر موجودة في حالة جريان وتدفق دائم.
يعتقد التاويين أنّ جميع الأشياء توجد في حالة انتقال دائمة إلى أضدادها ومقابلاتها. فالحياة تتحوّل إلى موت، والموت يتحوّل إلى حياة... الأشياء الرطبة دائماً تتحوّل إلى جافة، والجافة تتحوّل إلى رطبة... الضعيف يتحوّل إلى قوي، والقوي يصبح ضعيفاً... الصيف والشتاء في حالة من التقلّب الدائم... فالعالم متوحّد في حالة دائمة من التوازن والاستقرار.
********************
إنّ شرط الاستقرار الدّائم، المتعاكسات المتوازنة التي توضّح المفهوم التاوي للـ "يين واليانغ Yin & Yang". فاليين واليانغ هما مبدآن متعاكسان ومتعارضان لدرجة أنها من ذات الشيء. فكلّ شيء مصنوع من قِبَل اليين واليانغ يتمّ تمثيله برمز مألوف.
في هذا الزمر، اللونان الأسود والأبيض في الدائرة يمثلان الكمال Completeness. فهما يبدوان وكأنهما يتحرّكان كلّ باتجاه الآخر، وكأنّ كلّ واحدٍ منهما يحاول أن يصبح العكس أو النقيض. بالإضافة إلى أنّ اللون الأسود يتضمّن نقطة بيضاء في داخله، ونرى الأمر ذاته بالنسبة للون الأبيض الذي يتضمّن نقطة سوداء. وهذا دليل على أنّ الأشياء مصنوعة من أضدادها.
يرى التاويون العالم بأنه مصنوع من أشياء يمكن تصنيفها إمّا كيين أو كيانغ. فاليين يمثّل العنصر الأنثوي: كالأرض، الماء، وفصل الشتاء. أمّا اليانغ فيمثل العنصر الذكري: كالسماء، النار، وفصل الصيف. ويؤمن التاويون أنّ تعلّم إدراك التفاعل بين اليين واليانغ يمكن أن يساعدنا في التأقلم والانسجام مع عملية التغيّر التي تملّ عالمنا "المتغيّر".
قام التاويون باستخدام مفهومي "اليين واليانغ" ليفهموا العمليات الطبيعية الجارية. وقد طبٌّق بعض التاويين هذا الفهم للطبيعة على العالم الاجتماعي بطريقة مشابهة، حيث نظروا إلى المواقف الاجتماعية والعلاقات الرسمية ضمن سياق الخصائص المتمازجة لليين واليانغ.
إحدى التعبيرات عن طريقة تطبيق مبدأي اليين واليانغ على الحياة الاجتماعية مدوّن في كتاب صيني قديم معروف باسم "آي تشينغ I Ching" أو "كتاب التحوّلات". وهذا الكتاب يجمع بين نصائح عملية حول العلاقة مع الآخرين مع أفكار ملهمة حول العالم الطبيعي، معاً ضمن منظومة مترتبة لقراءة المستقبل.
إنّ القراءة في كتاب "التغيّرات" تشبه طريقة قراءة الطّالع المتبعة في الغرب، ما عدا أنّه بدل النظر إلى طريقة اصطفاف النجوم والكواكب لمعرفة مستقبلك، فأنت تقرأ توليفة معيّنة لخصائص اليين واليانغ.
وباستخدام خطّ منكسر لمثيل اليين وخط مستقيم يمثل اليانغ، يعتمد كتاب "التغيرات" على 64 توليفة مختلفة ومحتملة مؤلّفة من ستة خطوط لليين واليانغ. وكلّ توليفة من ستة خطوط تعرَف باسم "النجمة السداسية Hexagram" (لا يجب الخلط هنا مع مصطلح "الشكل السداسي أو المسدّس Hexagon")، وهي تمثل مواقف مختلفة يمكن ممارستها في حياتك الخاصّة وتأويلها. فالمعنى من كلّ نجمة سداسية يمكن تفسيره في تأويلات شعرية وفلسفية. وبعد اختيار نجمة سداسية على حدّة، يكون بإمكانك تطبيق تأويلها على أي موقف شخصي تمرّ به والانتهاء إلى نتائج في كيفية تعاملك مع هذا الموقف بالتحديد.
من الشائع جداً الاعتقاد بأنّ هذه التأويلات تمّ تدوينها على يد كونفوشيوس نفسه. لذلك فكتاب "التغيّرات" يمثّل توليفة أو تشكيلة من المفاهيم الكونفوشية العملية والتاوية الطبيعية، بالإضافة إلى كونه تشكيلة مؤلّفة من القليل من الفلسفة وبعض قراءة الطالع.

يتبع....



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة التاسعة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الثامنة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة العاشرة)