أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محسن ظافرغريب - شاهدا إذاعة بغداد، مشهد الشهيد قاسم















المزيد.....

شاهدا إذاعة بغداد، مشهد الشهيد قاسم


محسن ظافرغريب

الحوار المتمدن-العدد: 2913 - 2010 / 2 / 10 - 21:09
المحور: سيرة ذاتية
    


بلا تعليق

الشاهد 1 عبداللطيف السعدون
أتاح لي عملي كمذيع في إذاعة بغداد ابتداء من كانون الأول 1960 فرصة للتعرف على شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم عن قرب، من خلال حضوري بحكم عملي للعديد من الفعاليات التي كانت تجري تحت رعايته وبحضوره، أو من خلال احتكاكي المباشر بمسؤولين قريبين منه، وكذا من خلال زملائي في الإذاعة الذين كانت تسنح لهم مثل هذه الفرص وتتكون لديهم انطباعات ما عن شخصية الزعيم وطريقة تعامله مع الأمور.
أذكر أنني كلفت بعد شهور من مباشرتي العمل في الإذاعة بمرافقة رئيس المذيعين آنذاك المرحوم قاسم نعمان السعدي لمعاونته في نقل احتفال وضع حجر الأساس لمشروع إسكاني في أحد أحياء بغداد يتم برعاية الزعيم عبدالكريم قاسم، ولم أكن قد قمت من قبل بالتعليق الحي على فعالية كهذه، وصادف أن تأخر زميلي عن الحضور لظرف طارئ، وكان علي بحكم الواجب أن أتولى ذلك بنفسي، وخشيت أن أتعرض لخطأ ما قد يودي بي في داهية، ولكن لم يكن أمامي من خيار سوى أن أتوكل على الله وأبدأ.
وتقدمت بشيء من الخوف والتهيب لأقف إلى جنب الزعيم، وهو يتهيأ لوضع حجر الأساس، ويبدو انه لاحظ ذلك مرتسما على ملامح وجهي فالتفت إلي مبتسما، وكأنه يهدئ من روعي.
في تلك اللحظة أدركت أن قاسم يمتلك شخصية كاريزمية تجعل كل العيون شاخصة نحو عينيه، فيما كانت عيناه تتقدان حدة وكأنه يخاطب كل امرؤ من الحاضرين لوحده.
كان التقليد المتبع في احتفال كهذا أن توضع نسخ من الصحف العراقية الصادرة في ذلك اليوم، وقطع من العملة العراقية بمختلف فئاتها في صندوق صغير يغلق ويودع عند الحجر الأساس، وقد تقدم أحد المرافقين وهو يحمل مجموعة الصحف وقد استل منها جريدة " اتحاد الشعب " لسان الحزب الشيوعي العراقي لتكون الصحيفة الأولى إلا أن /قاسم/ تجاهل ذلك، وامتدت يده ليلتقط جريدة " صوت الأحرار " وهي جريدة يسارية مستقلة يرأس تحريرها الصحفي اليساري المعروف لطفي بكر صدقي ثم ليضعها داخل الصندوق قائلا " نضع أولا صحيفة الأحرار الذين آمنوا بالشعب وصنعوا ثورته الخالدة "، واختار بعدها صحيفة " الثورة " لصاحبها يونس الطائي، وهو صديق قديم لعبدا لكريم قاسم، وكان واسطة التفاوض بينه وبين انقلابيي 8 فبراير 1963 قبل استسلامه، وهو موضوع آخر ليس مجال بحثه الآن، وعلق قاسم وهو يضع الجريدة في الصندوق بالقول أن " هذه هي صحيفة ثورة 14 تموز الخالدة "، وبعد ذلك وضع الصحف الأخرى من دونما تعليق.
كان تصرف قاسم هذا ينم عن ذكاء وتقدير للموقف إذ أنه على ما يبدو أراد أن يلغي انطباعا كان سائدا في تلك الفترة لدى أوساط كثيرة من انه " شيوعي " أو أنه " قريب من الشيوعيين "، كما كان يريد أن يبعث برسالة إلى الشيوعيين أنفسهم مفادها أنه زعيم كل العراقيين ، وليس منحازا لفئة سياسية مهما كان حجمها وتأثيرها.
وفي مناسبة مماثلة في افتتاح مشروع إسكاني آخر كنت أقف إلى جانب الزعيم عبدالكريم قاسم حاملا جهاز التسجيل القديم الذي عادة ما يستعمله الجيش ( جهاز النكرة )، وذلك لتسجيل خطابه، وبينا كان الزعيم مسترسلا في خطابه اكتشفت أن الجهاز قد توقف عن التسجيل لخلل فني لم أكن قادرا على إصلاحه، وعندما انتهى الزعيم من إلقاء خطابه فكرت أن اطلع أحد المسؤولين بما حدث لكي تكون المراجع العليا على علم وربما تجد لمأزقي حلا ينقذني من عقاب متوقع من إدارة الإذاعة قد ينالني لاحقا، وكان أن تقدمت من اللواء أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام آنذاك، وبعدما شرحت له الموضوع فوجئت بإجابته بأنه لا يمكنه إعطاء رأي في موضوع كهذا وان علي أن أتصرف بما أراه مناسبا من دون أن يعرف أحد أنه قد عرف بالحادثة، وقد فدرت في حينه أنه يخشى غضب الزعيم عليه!
وقد خدمني الحط عندما عدت إلى الإذاعة وأذيع القسم المسجل من الخطاب، ولم ينتبه أحد أن ثمة بقية للخطاب لم يتم تسجيلها ، ومر المأزق على خير.
وقي مناسبة ثالثة حضرها قاسم وكنت أحد شهودها تقدمت امرأة من بعيد تبغي الوصول إليه، وكان يحيط به رجال الحماية الذين حاولوا منعها من التقدم لكنها استطاعت أن تصل إلى بعد بضع خطوات منه ، وهي تصرخ لتشكو من ظلم ألحقه بها مسؤول إداري، وكان أن نهرها المرافق الأقدم العقيد وصفي طاهر وأمسك بها محاولا إعادتها إلى الخلف فأطلقت صرخة لفتت انتباه الزعيم الذي بدا عليه الغضب، ولمحت الشرر يتطاير من عينيه وهو يأمر طاهر بان يدعها تتقدم قائلا " إذا لم يستطع المواطنون أن يشكوا إلى الزعيم مما يتعرضون له فلمن يشكون إذن ؟ " وعندما وصلت كانت تلهث فهدأ قاسم من روعها واستمع إلى شكواها وأمر بإنصافها.
ولاحظت أنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها قاسم إلى كونه هو " زعيم البلاد " فقد كرر أكثر من مرة في خطبه عبارة أن " الكل وراء الزعيم " ، وكان واضحا أنه يرتاح لهذا اللقب أكثر من أي لقب آخر ، ويعرف الجميع أنه عندما رقي من رتبة زعيم ركن إلى رتبة فريق ركن باعتباره القائد العام للقوات المسلحة قبل الرتبة طل اسمه مقرونا بلقب ( الزعيم )، حتى في المخاطبات والمناسبات الرسمية . ولكنه فضل أن يبقي على لقب " الزعيم " الذي يفضله دون سواه، وقد أصاف إليه أنصاره فيما بعد صفة " الأوحد " بعد إقصاء عبد السلام عارف الذي كان ينافسه على زعامة البلاد.
وقد حدثني في حينه الصحفي الراحل عبدالرزاق البارح الذي كان يكتب افتتاحيات جريدة ( الثورة ) لصاحبها المرحوم يونس الطائي من دون أن يوقعها باسمه، والذي أطلق الدعوة في حينها إلى تأليف حزب سياسي باسم ( حزب الزعيم )، أنه كثيرا ما كان يستدعيه قاسم وحده أو مع يونس الطائي ويقضي معهما الأمسية في الحديث وطرح وجهات نظره في مختلف القضايا العامة، وكان البارح يستعين بملاحظات الزعيم في كتابة افتتاحيات الثورة أو التعليقات السياسية لإذاعة بغداد والتي كان البارح في تلك الفترة من ابرز كتابها.
نقل لي البارح أن أبرز ثلاثة كتب كان يرجع إليها قاسم كانت القرآن الكريم و" نهج البلاغة " للإمام علي بن أبي طالب و" هكذا تكلم زرادشت " لنيتشه، وانه يحفظ عن ظهر قلب مقاطع من الكتابين الأخيرين إضافة إلى آيات كريمة ، كما كان يكرر في مجالسه الخاصة ( بحسب رواية البارح ) أنه إذا صح أن هناك " سوبرمان " يمكن أن يظهر يوما ما فسوف يظهر في العراق، وليس قي غيره لأن العراق سليل حضارات ، ووريث تاريخ عريق.
كان " عراقيا " إذن حتى النخاع، ولم يعرف أنه تبنى موقفا طائفيا أو عرقيا معينا، وكان واضحا من خطبه إيمانه المطلق بالعراق وأهله، وكان غالبا ما يطلق على الجمهورية العراقية صفة " الخلود "، مشيرا في أكثر من مرة إلى أنها " أمنع من عقاب الجو "!
وقد قدر لي أن أشهد لحظة دخوله مبنى الإذاعة عند استسلامه يوم 9 شباط 1963 حيث بدا هادئا ومتماسكا فيما كانت عيناه تطوفان في عيون الجنود الذين كانوا وقفوا في صفين على امتداد الممر المؤدي من بوابة الإذاعة إلى المبنى الداخلي حيث أدخل إلى ( صالة الموسيقى ) وأجريت محاكمة صورية له هناك بحضور عبدالسلام عارف وأعضاء ( مجلس قيادة الثورة )، وتم تنفيذ حكم الإعدام قيه رميا بالرصاص لتنتهي بذلك صفحة من صفحات التاريخ العراقي المخضب بالدم ولتبدأ صفحة جديدة ربما كانت أكثر دموية من سابقتها.
وإذا كان لنا أن نضع تقييما موضوعيا لشخصية عبد الكريم قاسم ولأدائه السياسي وطريقة إدارته للدولة يمكننا أن نقول انه مثل في تجربته نموذجا للقادة " الشعبويين " الذين خرجوا من رحم " العسكريتاريا " العربية، إذا صح التعبير، في فترة الخمسينيات وكانت تطغى على اهتماماتهم فكرة الالتصاق بالطبقات الشعبية والانتصار لها من دون الاعتماد على خط أيديولوجي واضح، يخالط ذلك الثقة المبالغ بها في النفس ، وبتوهم القدرة على حل المشكلات التي تعاني منها تلك الطبقات، وقد يصل الأمر بهذا النمط من القادة لحد التوهم بأنهم وحدهم القادرون على حل تلك المشكلات ، وأنهم " خالدون " وأن لا أحد يستطيع أن يزيحهم أو حتى أن ينوب عنهم .
وقد يزيد من حدة هذه الظاهرة، كما في نموذج عبد الكريم قاسم، عجز ما كنا نطلق عليها آنذاك تسمية (الحركات الثورية)، عجزها عن التقاط المبادرة والإمساك بالبوصلة كما هو مطلوب وتحديد المسار لتحقيق النقلة التاريخية في البلد، أكثر من ذلك أن تلك الحركات قد انفرط عقد ( جبهتها )، ودخلت في ( حروب ) فيما بين أطرافها، وخسرت البلاد جراء ذلك الكثير من ثرواتها ورجالها.

الشاهد 2 إبراهيم الزبيدي
لحظات أخيرة مع الزعيم عبد الكريم قاسم
في التاسعة من صباح الجمعة 8 شباط 1963 سمعت البيان الأول من الإذاعة بصوت غير إذاعي، علمت بعد ذلك أنه كان صوت أحد قادة الحزب: حازم جواد. وفي حدود التاسعة والنصف تبلغت من قبل الحزب بضرورة الحضور إلى الإذاعة. لقد أرادت القيادة أن تستعين بمذيعين محترفين لإضفاء نوع من مظاهر الوضع الذي عاد طبيعيا، لتوحي باستتباب الأمور في العهد الجديد، وبالتالي لا فائدة من مواصلة المقاومة. هذه الرسالة كانت موجهة بالأساس إلى جماهير الحزب الشيوعي أكثر من غيرها. أقلتني سيارة عسكرية من منزلي في الجعيفر إلى الصالحية. وصلت في حوالي الساعة العاشرة أو قبل ذلك بقليل. دخلت، لكنني فوجئت أن كل شيء عادي في الإذاعة، ولا شيء في المبنى مما كنا نسمعه في الراديو. فعلمت ساعتها أن البث يجري من المرسلات في منطقة (أبو غريب) التي تبعد عن الصالحية حوالي 12كم. فجأة أطلت دبابة، واتخذت موقعاً مواجهاً لنا تماما وأدارت ماسورتها نحونا. نزل (ذياب العلكاوي) وهو يسأل: هل أنت ثائر معنا لإسقاط النظام؟ دخل العلكاوي ودخل خلفه حميد التكريتي (ضابط بعثي، عمل مرافقا لطاهر يحيى رئيس الوزراء في عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف). وصل كل من شفيق الكمالي وهناء العمري (زوجة علي صالح السعدي) والمذيعان عبد اللطيف السعدون وقاسم نعمان السعدي. وفور عودة البث لأستوديوهاتنا في الصالحية رحنا، الكمالي وهناء وأنا، نتبادل الجلوس خلف الميكروفون لإذاعة بيانات وبرقيات وشعارات كان بعضها يعطى لنا مكتوبا، وكنا نكتب نحن بعضها الآخر. ثم توالى وصول الـ(قادة)، عسكريين ومدنيين، نعرف بعضهم ولا نعرف بعضهم الآخر. رأيت أحمد حسن البكر وعبد السلام عارف وعلي صالح السعدي وحازم جواد وعبد الستار الدوري وطالب شبيب وصالح مهدي عماش. ولم أكن أعرف غيرهم. وفي اليوم التالي وصل حردان التكريتي وغيره، وامتلأ المبنى حتى كاد يضيق. بقينا نعمل طوال النهار والليل. لم نتوقف عن الإرسال، نتبادل الجلوس خلف الميكروفون، اثنين اثنين. وفي ضحى السبت علمنا باستسلام عبد الكريم وبعض أعوانه. وقيل إنهم سُيرحلون إلى الإذاعة بين وقت وآخر. وفي حوالي الساعة الثانية عشرة، أو بعد ذلك بقليل، وصلت ناقلة جنود نزل منها أولاً فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة الخاصة الشهير، واثنان لم أكن أعرفهما، علمت فيما بعد بأنهما عبد الكريم الجدة، قائد الانضباط العسكري، وكنعان خليل حداد أحد مرافقي الزعيم، وقيل إنه ابن أخته والذي اتهمه الحزب بقتل أحد ضباط الهجوم على وزارة الدفاع واسمه محمد علوان. عند لحظة نزولهم من الناقلة هجم على المهداوي جمع غفير من العسكريين والمدنيين وانهالوا عليه بصاقاً وضرباً بالأيدي والأرجل والأحذية. ورأيت الدم يسيل على رقبته ويغطي وجهه، وتعثر مرتين وهو يصعد سلالم المبنى القلائل في طريقه إلى أستوديو الموسيقى، تحت وابل من الضرب والصياح رافقه إلى أن وصل إلى باب المبنى. ثم جاءوا بـوصفي طاهر، المرافق الأقدم للزعيم، وهو في أنفاسه الأخيرة، فألقوه في الممر الجانبي للمبنى. وما زلت أذكره وهو يلفظ آخر أنفاسه، وتلك أول وآخر مرة في حياتي أشاهد من كان قبل ساعات يستطيع أن يصنع مصير غيره، ملقى على تراب ممر ضيق في مبنى كبير. ثم هبط الزعيم. وفجأة ساد هدوء وصمت غريب. كانت قد خُلعت عنه نجماته وأوسمته، وكان حاسر الرأس، شاحباً، نظراته تتنقل بسرعة بين وجوه الواقفين على جانبي مدخل المبنى. دخل، وعلى يساره أَجلس المنتصرون بعضَ مؤيديه الذين ألقوا القبض عليهم، في عملية خبيثة جداً تهدف إلى إفهامه أن هؤلاء الحفاة هم كل أتباعه من الشعب الذي كان فخوراً بحبه وإيمانه بزعامته. فجأة حاول أحد الحاضرين أن يعتدي عليه فمنعه ضابط، عرفت فيما بعد أنه صبحي عبد الحميد. ثم تقدم حردان ووضع يديه فوق رأسه. وفي طريقه إلى أستوديو الموسيقى كان صالح مهدي عماش (أحد قادة الانقلاب) منتظراً على مدخل صالات التسجيل، فهنأه الزعيم على نجاحهم في الانقلاب عليه. دلفت إلى غرفة تسجيلات صالة الموسيقى لأراقب من وراء زجاج سميك بيني وبينها ما يدور داخلها. وقد اختيرت هذه الصالة لأنها كانت الأكبر لدينا في مبنى الإذاعة في تلك الأيام. كان معي اثنان من مهندسي الصوت، هما جوزيف بصري ومدحت السامرائي، على ما أذكر. غامرت وفتحت من لوحة التحكم في غرفة التسجيل أحد الميكروفونات المنتشرة داخل قاعة الموسيقى لنسمع الحوار الذي كان يدور. نظر إلينا العلكاوي من خلال الزجاج، فسألته بالإشارة: هل نسجل الحوار، فأجاب بالقبول. فمضى جوزيف بصري يسجل ما يدور. وعلمت بعد سنوات أن نسخة من ذلك التسجيل ما زالت مخبأة لديه. سمعنا عبد السلام يخاطب المهداوي ويؤشر بعصا كان يحملها ويقول: قم وحاكم عبد السلام الآن. ثم سمعناه يلح على عبد الكريم بالإقرار بأنه هو الذي كتب البيان الأول لثورة تموز. كما سمعنا علي صالح السعدي يسأل عبد الكريم عن شخص، فهمنا بعد ذلك أنه كان يسأله عن شخص وشى بمحاولة انقلاب سابقة كان الحزب يخطط لها، طالباً منه أن يقول هل هو موجود بين الحاضرين أم لا. فرد عبد الكريم بإصرار قائلا إنه غير موجود، ثم أقسم بشرفه. وسمعنا عبد الستار الدوري (عضو فرع بغداد لحزب البعث في عام 1963، عين مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون عقب نجاح انقلاب شباط 1963) يقول: من أين لهذا شرف؟ فيرد عبد الكريم غاضباً: لك شرفك ولي شرفي الذي أعتز به. وسمعنا أيضاً حديثاً متقطعاً عن جهاز لاسلكي وضعه عبد السلام وعبد الكريم في مكتب رفعت الحاج سري، لكنه استخدم في المحاكمة كدليل إدانة بحق رفعت. وعموماً كان عبد الكريم متماسكاً، يحاور بكلمات موزونة، وبصوت هادئ وقور. لا أذكر من أخرج قاسم الجنابي، مرافق الزعيم، وسلمه لنا طالبا منا أن نجد له مكانا مؤقتا إلى حين. لم يكن لدينا مكان سوى صالة صغيرة معدة لتسجيل الأحاديث. كان يرتجف من الخوف، ولن أنسى منظره ما حييت.
وقد زاد من ارتعاشه أن الصالات جميعها كانت مبردة كثيراً، حسب المتطلبات الفنية لصيانة الأجهزة. كنت أتأمله، وأنا أواسيه مع المهندس مدحت السامرائي، وأفكر في أمرنا نحن البشر. فهذا الذي كان بالأمس يصول ويجول تحول فجأة إلى إنسان ضعيف، عاجز، خائف، يتمنى أية خرقة مهملة تستر ضعفه بعد جبروته. ألقينا عليه ما كنا نستطيع التخلي عنه من ثيابنا لندفع عنه ذلك الارتعاش. حين بدأ إطلاق الرصاص هتف عبد الكريم قائلا: (عاش الشعـ...) ولم تمهله الرصاصة ليكمل هتافه بحياة الشعب العراقي. وسقط الجميع عن كراسيهم، وعاد الصمت يجلل المكان، وتناثر دمه، هو وحده، وبضعة من شعر رأسه، على جدار صالة الموسيقى، وظل سنوات يراه الموسيقيون والمطربون وزوار الإذاعة كأثر من آثار الماضي السحيق. لقد كتب وقيل الكثير عن تلك الدقائق الدامية التي شهدتها صالة موسيقى الإذاعة. وتراكمت عنها شهادات كان العديد منها كذباً وتزويراً وادعاءً. لكن أكبر الكاذبين، في نظري، ثلاثة:1- أحمد حسن البكر الذي زعم أنه الوحيد الذي عارض قتل عبد الكريم قاسم، في حين أن كثيرين من رفاقه في القيادة أكدوا في شهاداتهم ومذكراتهم أنه كان أكثر المصرين على قتله إلحاحاً وعجلة. 2- طالب شبيب الذي زعم في مذكراته أنه صاح بالذي حاول الاعتداء على الزعيم:"أيها الجبناء، قبل يوم واحد كان سيدكم وتقبلون يديه ورجليه والآن تريدون إهانته بعد أن انهزم في معركة لم يكن فيها متخاذلا، عيب عليكم".لأن أحدا لم يتجرأ على مس الزعيم منذ نزوله من الناقلة العسكرية أمام باب الإذاعة وإلى لحظة اغتياله.3- محمود شيت خطاب الذي ادعى ما يلي:"وكان الموقف حرجاً جداً، إذ كان أنصار الطاغية يحتلون سطوح البيوت المحيطة بالإذاعة، وكانوا يرمون الإذاعة بوابل من النيران لا يكاد ينقطع، وكانت النيران تصيب من تصيب عشوائيا. وشكلت محكمة عسكرية برئاسة أحمد حسن البكر وعضوية ضباط آخرين، فقررت المحكمة إعدام عبد الكريم قاسم". "وحملت الجثة الهامدة إلى خارج بناية الإذاعة، ووضعت على الرصيف القريب من باب دار الإذاعة، فلما اطلع أنصار الطاغيـة على مصيره ومن معه تركوا أسلحتهم وهربوا بسرعة"(12). إن هذا كذب كله. فلا أحد كان يحتل السطوح المحيطة بالإذاعة، ولم يكن هناك رصاص يصيب من يصيب. ولم تحمل جثة الزعيم لتلقى على الرصيف. وكلنا يتذكر ذلك الجندي الذي رفع رأس الزعيم وبصق على وجهه وهو قتيل، مأخوذاً بحالة العنف والحقد والانفعال التي سادت المكان. لكن الذي سمح بعرض جثة الزعيم على شاشة التلفزيون هو البكر نفسه، ليسجل للتاريخ سابقة لا تغتفر، ظلت وسوف تظل وصمة عار في جبين الحزب الذي أعاد العراق والعراقيين عشرات السنين إلى الوراء. يكفي أن القادة الجدد أمروا بحمل جثة (قتيلهم) سراً وبعيداً عن العيون، وأمروا بدفنه في أقصى بقعة أرض ممكنة عن العاصمة.



#محسن_ظافرغريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آل سعود وزواج القاصر
- الديمقراطية للعراق ولإقليمه
- أصل السيمفونية
- بقية السيف وSALINGER
- عصائب مقاومة وSILJANDER
- تغيير؛ لاحقل للديانة ولا للنسب
- شعار التغيير الأميركي بدأ بالشمال العراقي
- My Name Is Khan‏
- چاڤدێر؛ كرد العراق من الشخصنة إلى الترشيد
- الإجتثاث بالإتهام أسلوب بعثي
- ضيعة ضايعة بين كوت وكويت
- سلطة خامسة لا انفلونزا رتل خامس
- فضيحة بغداد في دمشق
- البصرة محجة ومثابة رئاسة الجمهورية
- أضواء على مدلولات تعليقات
- شعار الحر للعبيد؛ التغيير
- البيان ش3 س
- مثل عراق التآخي كركوك
- الحكيم في ذكراه
- ملا أو آغا يقتل الأنثى الكردية


المزيد.....




- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- السيسي يصدر قرارا جمهوريا بفصل موظف في النيابة العامة
- قادة الاتحاد الأوروبي يدعون إلى اعتماد مقترحات استخدام أرباح ...
- خلافا لتصريحات مسؤولين أمريكيين.. البنتاغون يؤكد أن الصين لا ...
- محكمة تونسية تقضي بسجن الصحافي بوغلاب المعروف بانتقاده لرئيس ...
- بايدن ضد ترامب.. الانتخابات الحقيقية بدأت
- يشمل المسيرات والصواريخ.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع عقوبا ...
- بعد هجوم الأحد.. كيف تستعد إيران للرد الإسرائيلي المحتمل؟
- استمرار المساعي لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وإيران
- كيف يتم التخلص من الحطام والنفايات الفضائية؟


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محسن ظافرغريب - شاهدا إذاعة بغداد، مشهد الشهيد قاسم