أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - عمار يا مصر















المزيد.....

عمار يا مصر


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2908 - 2010 / 2 / 5 - 13:46
المحور: الادب والفن
    


حينما غادرت وعائلتي ميناء النويبع المصري باتجاه القاهره ، وعبر صحراء سيناء ، لم يكن شيء يطبق على روحي اكبر من ذلك الشعور بالرهبه ، وانا مقبل على الالتقاء بمدينة قالت كلمتها في جميع فصول الحياة العربية .. القاهرة التي اوحت لمحيطها العربي بما سجل الاحداث الجسام ، وكان للبعض منها ما حقق لامة العرب خيرا ، في حين كان الاخر سببا في صنع التاريخ الملون بلون الدماء ، ولا زالت آثاره تبدو واضحة على جبهة أوضاع الشعوب .

القاهرة .. تلك الواحة الزاخرة بكل شيء .. المدينة التي تشع معالمها من خلال فنها وموسيقاها وعباقرتها في الادب والشعر ، وما تنطق به حاراتها من خلال معايشة الملايين في الوطن العربي لما يجري في خان الخليلي وبين القصرين .. وما تصدح به اصوات باعتها المتجولين ، وسواق المكروباص وضجيج الاغاني السريعة المنبعثة من محلات بيع العصائر، ومقاهي الاركيلة ورائحة المعسل الحاده .. كنت وانا اتطلع للصحراء وكأنني مسافر الى مدينة اعرف فيها كل زواياها وحاراتها وحاناتها ومناهل الثقافة والفن .. وشعرت بحلاوة صوت احمد رامي وهو يامر سيدة الغناء العربي خلال احدى حفلاتها بان تلبي طلبات الجمهور بالاعاده ، حينما وقف وصرخ بها ( أعيدي .. يعني أعيدي ) .. حتى صعيد مصر ، بدا لي وكأنني قد عشت فيه من قبل .. ولم يفتني ان اتجسد في روح الفلاح المصري المكافح وهو يصارع ظلم العمدة وابنائه ، ويذود عن شرف بناته وزوجته من سطوة الفاقة ، فيشق الارض باظافره لينبت الخير .. لا يوجد فلاح على الارض العربية كما هو الفلاح في مصر .. إنه ضحية زحف من المتضادات جعلته يحيا في عوالم لا تشبه أية عوالم اخرى قريبة او بعيده .. فهو فلاح بطبعه حتى وان أخذته مقاديره لأن يمتلك ما يجعله أوفر مالا من سواه .. ولا يمكن لطبعه ان يتبدل ، ولا لهجته ان يشوبها لغو الحضر ..

كنت مبهورا بحال (عطيه ) .. وهو مواطن من الصعيد ، تعرفت عليه عندما قصدت العمالة المصريه العراق زمن السادات ، وهو يروي لي تفاصيل لوحة صاخبة لركاب القطار المتجه للصعيد ، حاملا في داخله عالما كاملا يحفل بما يجعله ( عالم بحق وحقيقي ) .. واغرب ما في اللوحه تلك ، هو ان عطيه ورفاقه قد اعتادو ان يرموا بما لديهم من مستلزمات السفر، بما فيها عبوة غاز الطبخ من عربة الركاب ، ليقفزوا بعدها غير آبهين بالخطر ، واجسادهم تتدحرج كالكرات فوق ارضية السكة الحديد المكسوة بالحصى ، بينما يمضي القطار مسرعا ليتوقف في المناطق المخصصة لتوقفه ..

وثامر .. ذلك الشاب الطيب ، والذي كان يعمل سائقا يجوب الصحراء في جنوب العراق بناقلته المحملة بمعدات حفر آبار المياه ، كان يزورني هو وزوجته وابناؤه الثلاثه ، وكنت اتندر على زوجتي ، حين تتحدث على سجيتها وبلهجتها الجنوبية ، ذات المفردات الصعبه مع صاحبتها وهن منشغلات في المطبخ ، وطالما رجوتها بان تحاول المناورة مع ضيفتها المسكينه ، لتجعل من لغتها اكثر يسرا على الفهم .. لقد كنت ميالا لأن ازور هذا البلد المترامي الاطراف ، الكثيف السكان ، المتنوع الاطياف .. ولم تترك نفسي شغفها بتحقيق تلك الزياره .. وبقي أملي يطوف في مخيلتي ، حتى جاءت اللحضة ، ولكن على غير ما اشتهي وما كنت أحلم .

في ميناء نويبع ، تجمعت العديد من العوائل العراقية الفارة من جحيم الحرب وقساوة الحصار.. . وتم استلام جوازات سفر الجميع كضمان لعدم تسرب أي أحد خارج الحدود المرسومة له من قبل الجهات المختصه ، وكان علينا جميعا ان نسافر بمعية مجموعة من رجال الشرطه ، وبواسطة حافلات اعدت مسبقا لهذا الغرض ، الى دول اخرى كنا نقصدها مرورا بمدينة القاهره .. وفور انطلاق القافله ، بدأ رجال الشرطة المرافقين لنا بالاعتذار ، حيث ذكروا لنا بانها الاوامر ، ولا شيء سواها هي التي اجبرتهم على ان يكونوا معنا بهذه الصفه ، وعبروا عن حبهم واعتزازهم بالعراق والعراقيين ، وأوعدونا خيرا اثناء رحلة السفر تلك .

كان النهار قد انتصف حينما بدت لي أطراف القاهرة بالظهور .. وقد امتد ظهورها ولزمن لم اتخيله من قبل ، وكأنه احدى معالم ولادة ضخمة لهيكل اسطوري سيكون له تواجد من حولي بعد حين .. جدران طويلة لدوائر او شركات أو خانات ، كانت تزحف لتختفي وتظهر بعدها مساحات لتوقف السيارات أو محلات بيع مختلفة البضائع .. كل شيء في داخلي كان متوثبا لاستقبال ما حلمت بالالتصاق به ، لأرى فيه ذلك العالم الموصوف بخليط من كل شيء ، حتى قيل ومن باب المبالغة ، بان يافطة مكتوبة على بوابة المدينة تقول .. ( ياداخل مصر زيك الف ) ..

عبثا حاولت ان أوقظ بقية افراد عائلتي من نومهم ليتمتعوا بسفرتهم الغير محسوبة تلك .. ووجدت اخيرا بان ذلك سيمنحني فرصة أكبر، اتفرغ من خلالها لمعايشة ساعات ستكون قليلة حتما ، يمكننا ان نقضيها في عاصمة الفراعنه .. ومر وقت شعرت بانه امتد طويلا ، قبل ان يظهر الهيكل الاسطوري .. حيث بدأ يزحف بجسده الضخم مقتربا مني ، وكأن الحافلة التي نقلها قد بدأت تشق اعماق ذلك الجسد باتجاه الداخل المليء بالحركة والصخب .. لم يمنعني الاحساس بالوقار ان أثب من مكاني لألتصق بزجاج الحافلة والحركة الدائمة وسط الركاب ، لأحتوي اكبر كمية ممكنة من المشاهدات ، خشية ان افقد فرصة مهما صغرت ، تمكنني من تسجيل صورة حية لما تعودت ان اراه من خلال الروايات او المسلسلات التلفزيونيه ، او بطون كتب العظام من رواد القصة والمسرح وانواع الفنون الاخرى .. وتمنيت لو سمحت لي قوانين البلد ان انفذ الى هناك الى أعماق الاعماق ، كي اركب قطار عطيه وهو متجه نحو الصعيد ، وأرى الترعة التي روى لي عشرات القصص عما شهدته من مشاهد حبه لزوجته (ملاك ) .. وكيف كان يضطر للبقاء في ( الغيط ) لساعات طوال ، كي يحظى بلقائها قبل زواجهما .. كم تمنيت لو سمحوا لي بان اتجول في زقاق المدق ، وخان الخليلي واتمرغ بالتاريخ على اطلال الاهرامات ، لأكون ، ولو بالخيال ، راكبا لعربة فرعون يتفقد معالم مدينته واركان دولته العظيمه .. حلمت بان يسمح لي بالجلوس قبالة البوابة الرئيسية لجامعة القاهره ، متمثلا لحكايا المئات من الشواهد الحبلى بمراسيم الحب العذري بين الصبايا والشباب ، وتلك التي تروي كيف كان لطلبة مصر ، شرارتهم المعهودة في صنع الاحداث .

لقد كنت وكعادتي ، ارغب بان اكون في مصر القاع ، وليس القمم .. وددت ان اضيع وسط زحمة الحرافيش وهم يموجون في وسط البلد لخلق اسباب الحياة .. كثيرون ممن يبخسون المصريين حقهم في ان يكونوا اكثر شعوب الدنيا قدرة على النضال والتحمل من أجل رغيف العيش .. فاينما تذهب في بقاع الارض ، تجد مصريا يكدح ، مقابل تنابلة بلدان لا يحسنون التعامل مع مقدرات عيشهم ، فيحسبون بان من يفد اليهم لغرض العمل ، هو مخلوق من الدرجة الثالثه .. لقد حتم علي عملي في مجال حفر الابار ، ان اكون ذات يوم في قرية نائية على حدود النيجر .. مكان قصي عن أي مظهر من مظاهر التحضر والمدنيه .. قبائل كانت ترانا نحن الوافدين الغرباء من اعضاء البعثة المكلفة بتوفير مياه الشرب لها ، وكأننا هابطين من القمر .. ومع هذا ، فقد كنت مستغربا ، لتواجد عدد من الشبان المصريين في احدى البنايات غير مكتملة الانشاء ، وعندما استفسرت منهم عن سبب تواجدهم في ذلك المكان ، اجابوني وعيونهم تبرق بالتحدي ، بانهم يعملون في بناء مستوصف طبي في المنطقه .

- إنك لم تسافر الى مصر من قبل على ما يبدو ؟ .. قالها لي من يجلس بجواري من الجهة الثانية .
- وكيف عرفت ؟
- لانني أراك قلق الحركة ، تتلفت كثيرا لترى ما حولك .
وقبل ان اجيب ، تبرع الذي يجلس امامي مباشرة ليرد على الرجل قائلا وبطريقة لا تخلو من سخريه :
- أعتقد باننا نحن العراقيين ، لم يكن يشغلنا غير ان نحارب من اجل رد الغزاة عن بلادنا .. ولأننا كنا مهووسين بالدفاع عن أراضينا ، لم نلتفت لأن نسوح في ارض الله الواسعه لنرى بلدانا اخرى .
تدخل ثالث كان ابعد في مجلسه بعد ان استدار نصف استداره في مكانه ليواجه المتحدثين مشتركا بالحديث :
- انا فعلا لم أزر مصر من قبل .. غير اننا لا نعرف إن كانوا سيسمحوا لنا بالتجوال في المدينة ام لا .
لم يكن بودي ان يطول السجال ليتسنى لي التمتع بما أنا فيه من لحظات ، وقد ساعدني في ذلك حدوث عراك بين اثنين يجلسان في مقدمة الحافله كانا طيلة الرحله يتخاصمان حول طريقة جلوسهما ، حيث يدعي أحدهما بان الآخر، يتعمد إعادة مقعده الى الخلف ومضايقته في مجلسه .

هاهي القاهرة وقد بانت معالمها للعيان .. سائق الحافلة ، ولا أعرف الجهة التي بلغته بان يتصرف على خلاف المهمة المكلف بها ، قرر ان يطوف بنا في جولة حرة في المدينه .. كان يسير وبشكل حر وسط الشوارع وهو يصف لمن هو قريب منه اسماء الاحياء والشوارع والمتنزهات ، لينقل لنا هذا وبصوت مسموع ما يقوله له السائق
.. هذا هو النيل .. هذه هي جامعة القاهره .. ذلك البناء على اليسار هو الازهر .. بعد قليل سنمر على احدى القصور الرئاسيه .. هذه التي على يساركم هي المنصه .. ماذا تعني المنصه يا أخ ؟؟ .. المنصة التي اغتيل فيها الرئيس السادات .. انظروا الى الافق البعيد .. تلك هي الاهرامات ..

كنت كالطفل ، انط من جانب الى آخر مع اشارات الدليل ، لأرى ما يصفه وبتركيز يتيح لي مشاهدة أدق ما يمكنني مشاهدته .. قد يقول البعض ، بانها مبالغة في وصف مدينة عربية قد لا ترقى في أسس بنائها للكثير مما هو موجود في بقية المدن .. ولكنني لم اكن تواقا لمشاهدة البنى التحتية او العمارات أو الحدائق العامه .. لقد كنت منجذبا للدخول في عالم تسيل من جنباته شلالات تضم كافة اصناف نشاطات البشر .. انه عالم زاخر بالعجائب .. يحمل الكثير الكثير مما تختلط فيه الرفعة والدونية وما بينهما من سيل لا يتوقف ، حيث تطوف فوقه اكداس من المشاهد التي تجسد كفاح الانسان الحقيقية من اجل توفير سبل الحياة .

شارع شبرا .. هكذا قيل لنا ونحن ندخل في ساحة مسيجة بسياج مرتفع ، تملؤه العديد من حافلات الركاب ، بينما راحت مجاميع من العمال ، تقوم بعمليات الغسيل وصيانة تلك الحافلات ، تمهيدا للقيام بسفرات مستقبليه . .. وسرعان ما اختفت العوائل التي كانت ترافقني في رحلتي ، ولم اكن اعرف الوجهة التي تحركوا باتجاهها ..

وللقصة بقيه



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نذور السلطان .. 5
- ما لا يدركه الرجال .
- نذور السلطان ... 4
- نذور السلطان ..3
- نذور السلطان ..2
- نذور السلطان
- الإمساك بأمجاد الماضي ، وحده لا يكفي .
- رساله مفتوحه إلى السيده بيان صالح
- رسالة مفتوحه إلى السيده بيان صالح .
- إرفعوا أيديكم عن المسيحيين في مصر والعراق !
- أفكار من أعماق الذات
- حقوق النساء ، وإستحالة الحضور مع الواقع العربي الراهن .
- إبحار في مشاعر أنثويه
- عام جديد .. وأمنيات شخصيه .
- حينما راح جذع النخلة يئن لفراق النبي
- معامل الطابوق في العراق تجسيد حي لعذاب البرزخ .
- تردي حالة البيئه في دول الشرق الاوسط وشمال افرقيا .. إلى أين ...
- متى يصار الى دعوة أفذاذ العراق وتكريمهم في بلدهم كما يستحقون ...
- قول في العيد الثامن لتأسيس الحوار المتمدن
- متى لهذا العراق أن يستريح ؟؟


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - عمار يا مصر