أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الغاء عقوبة الاعدام - إبراهيم جركس - مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2















المزيد.....

مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2907 - 2010 / 2 / 4 - 07:14
المحور: الغاء عقوبة الاعدام
    


● ما يتبقى إذا من قدرة العبرة هذه، إذا كان من المؤكّد أنّ العقوبة القصوى لها قدرةً أخرى. قدرة واقعية فعلاً، تذلّ الإنسان إلى حدّ العار، والجنون، والقتل؟
■ أ. ك: نستطيع من الآن أن نتحقق ما لهذه الطقوس من نتائج رادعة على الرأي العام، ومن مظاهر السادية التي توقظها فيه، ومن المجد الفظيع الباطل الذي تبعثه لدى بعض المجرمين. ليس ثمّة من نبل حول المقصلة، بل تقزّز واحتقار، وأخسّ المتع. وهذه النتائج معروفة. ولقد اقتضت الحشمة هي الأخرى أن تنتقل المقصلة من ساحة دار الحكومة إلى الضواحي، ثمّ إلى السجون. ومعلوماتنا أقلّ عن مشاعر الذين توجب عليهم مهنتهم حضور هذا النوع من المسرحيات. فلنستمع إلى مدير سجن إنكليزي يعترف "بشعور حاد من الخجل الشخصي" وإلى كاهن السجن الذي يتكلّم عن "الفظاعة، والعار، والمذلّة". ولنتصوّر بخاصّة ماذا تكون مشاعر الرجل الذي يقتل بحكم وظيفته، أعني الجلاّد. وماذا نقول عن أولئك الموظّفين الدين يسمّون المقصلة "القاطرة"، والمحكوم عليه "الزبون" أو "الطّرد"! ماذا نقول عنهم إن لم نقل ما قال الكاهن بيلا جوست الذي شهد حوالي ثلاثين إعداماً وكتب: "إنّ لغة المكلّفين بتنفيذ الإعدام لا تكاد تدانيها جنوناً وسوقيةً إلا لغة الجانحين". وفي النهاية، إليكم ما كتبه مساعد جلاد عن جولاته في الأرياف: "حين كنّا نقوم بسفرةٍ كنا نقضي أيامنا في الضحك! لنا السيارات ولنا المطاعم الممتازة!" ويضيف هذا نفسه، متحدّثاً عن مهارة الجلاد في إسقاط الساطور: "كنا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بترف التمتع بشدّ الزبون من شعره".

● ولكن هل سيتقبّل المجتمع كمؤسّسات وأفراد إلغاء هذه العقوبة؟
■ أ. ك: إذا كان المجتمع يريد الإبقاء على عقوبة الموت، فلنُجنّب على الأقل رياء التبرير بالعبر. لنسمّها باسمها هذه العقوبة التي نرفض كل إعلانٍ عنها، هذه القدرة الرادعة التي لا تؤثّر على الناس الشرفاء، ما داموا شرفاء، والتي تسحر من لم يعد شريفاً، والتي تحطّ أو تسبب الاختلال لمن يساعد في تنفيذها. إنها، يقيناً، عقوبة، عذاب رهيب، مادي ومعنوي، لكن ليس فيها أيّة عبرة أكيدة، هذا إن لم نقل إنها مهدّمة للأخلاق. إنها تعاقب، لكنها لا تقي من شيء، هذا حين لا تثير غريزة القتل. إنها وكأنها غير موجودة إلا بالنسبة لمن يكابد منها، روحياً طوال شهور أو سنين، وجسمياً خلال الساعة اليائسة العنيفة التي يقطع فيها إلى قسمين، دون قبض روحه. لنسمّها باسمها الذي سيعيد إليها، نظراً لخلوّها من كل نبل، نبل الحقيقة، ولنتعرّفها كما هي عليه فعلاً: انتقاماً.
إنه قانون الثأر. من أساء إليّ يجب أن يناله سوء، ومن فقأ عيني يجب أن يصبح أعور، ومن قتل ينبغي أن يموت. فالقضية قضية عاطفة، عاطفة عنيفة جداً، لا قضية مبدأ.

● لكن ألا يبرّر قانون الثأر قانون الغابة، وأنّ القوي يمكن أن يأكل الضعيف، وأنّ القانون هو الذي يضعه الأقوياء ليحكموا باقي الضعفاء؟
■ أ. ك: لنترك جانباً حقيقة أنّ قانون الثأر لا يمكن تطبيقه، وأنه سيبدو لنا أنّ معاقبة الحارق بإشعال النار في بيته لهي عقوبة مبالغ فيها. ولنقبل بأنّ من العدل والضروري التعويض عن قتل الضحية بموت القاتل. لكنّ تنفيذ حكم الإعدام لا يعني الموت فقط. إنه يختلف، من حيث جوهره، عن الحرمان من الحياة، اختلاف معسكر الاعتقال عن السجن. إنه جريمة قتل، بلا ريب، تعوّض حسابياً عن الجريمة المقترفة. لكنه يضيف إلى الموت أصولاً متبعة، وتصميماً عاماً على القتل تعرفه الضحية القادمة، ويضيف إليه أخيراً تنظيماً هو في حدّ ذاته مصدر لآلام معنوية أفظع من الموت... إنّ الكثير من الشرائع تعتبر القتل عن سابق عمد أخطر من القتل في ساعة عنف مفاجئ. والحقيقة أنّ الإعدام يتوفر فيه سبق العمد أكثر من أيّ جريمة أخرى، ولا يمكن أن يقارن به أي جرم ارتكبه مجرم، مهما كان محسوباً. لقد كان ينبغي، كي يوجد التعادل، أن تعاقب عقوبة الموت مجرماً ينذر ضحيّته بالساعة التي سيقتله فيها قتلاً رهيباً، ويحبسه من لحظة الإنذار هذه، تحت رحمته طوال شهور. إنّ مثل هذا الوحش لا وجود له في الحياة العادية.

● حين يطلق الموظفون على الشخص الذي وجب عليهم قتله اسم "الطرد" فإنهم يعرفون ما يقولون. فأن لا تستطيع شيئاً ضدّ اليد التي تحملك، تحتفظ بك أو ترميك، أفلا يعني هذا أنك بالفعل أشبه برزمة أو شيء، أو حيوان مقيّد على أحسن الأحوال؟
■ أ. ك: إنّ "الطرد" لا يعود لعبة في يد الصدفة التي تسيطر على الكائن الإنساني، بل يخضع لقوانين ميكانيكية تسمح له بأن يتوقع دونما خطأ يوم قطع رأسه. إنّ هذا اليوم يضع حداً لوضعه كشيء. إنّ يقينه بموت عاجز، خلال ثلاثة أرباع الساعة التي تفصله عن الإعدام، يسحق كل شيء. إنّ البهيمة المربوطة الخانعة تعيش جحيماً يبدو معه الجحيم الذي يهدّد به زهيد الشأن. لقد كان اليونانيون، بعد كل شيء، أكثر إنسانية مع سمّهم. فقد كانوا يتركون للمحكوم عليه حرية نسبية، إمكانية تأخير أو تأجيل ساعة موتهم. كانوا يخيّرونهم بين الانتحار والإعدام. أمّا نحن، ورغبةً منا في المزيد من الأمان، فإننا ننفّذ العدالة بأنفسنا.
وهذا يفسّر بلا ريب ذلك الخنوع الغريب الذي يبديه المحكومون ساعة إعدامهم. ولعلهم كانوا يفضّلون، بعد أن فقدوا أيّ أمل، أن يغامروا ويلقوا الموت برصاصة طائشة، أو أن يعدموا بالمقصلة بعد قتالٍ مرير مأفون ينهك قواهم ويستنفذها. وبذلك يكونون قد ماتوا، بمعنى ما، بحرية. ومع ذلك، وباستثناء بعض الحالات النادرة، فإنّ القاعدة المتبعة أن يسير المحكوم عليه بالإعدام إلى الموت بدون مقاومة، في نوع من الإرهاق اليائس.
إنّ ما يشعر به الإنسان في تلك اللحظة يتجاوز كل أخلاق. فلا للفضيلة، ولا للشجاعة، ولا للذكاء، ولا حتى للبراءة، من دور تلعبه هنا. إنّ شعور المحكوم، الموثق الرباط، بالعجز والعزلة تجاه التحالف العام الذي يريد موته، هو في حدّ ذاته عقاب يفوق الخيال. إنّ انتظار العقوبة القصوى يهدم الإنسان، بشكلٍ عام، قبل أن يموت بفترة طويلة. وهكذا تفرض عليه ميتتان، أولاهما أدهى من الثانية، مع أنه لم يقتل إلا مرة واحدة. وإذا ما قارنا عقوبة الثأر بهذا العذاب، فإنها ستبدو شريعة من شرائع المدنية. إذ أنها لم تزعم قط انه ينبغي فقء العينين الاثنتين لمن عوّر أخاه.
على كلٍ، إنّ هذا الظلم الأساسي ينعكس أثره على أهل المعدوم. إنّ للضحية أقارب تكون آلامهم عادةً لا متناهية، ويرغبون، في معظم الحالات، في الانتقام. وينتقمون. لكنّ أقارب المحكوم عليه يكابدون من تعاسة قصوى توقع بهم من القصاص ما يتعدّى كل عدالة. إنّ انتظار أم أو أب طيلة شهور طوال، وحجرة المقابلات داخل السجن، والأحاديث المفتعلة التي تملأ بها اللحظات القصيرة المقتضبة مع المحكوم عليه، وأخيراً صور تنفيذ الإعدام، لهي عذابات لم تفرض على أقارب الضحية. فمهما كانت مشاعر هؤلاء الأخيرين، فإنهم لا يستطيعون أن يرغبوا في أن يكون الانتقام أعظم بكثير من الجريمة، وفي أن تُسام بالعذاب كائنات تشاطرهم، بقوّة، آلامهم الخاصّة.
إذن كي ننتهي أخيراً من شريعة الثأر هذه، ينبغي أن نلاحظ أنه لا يمكن العمل بها، بشكلها البدائي، إلا بين فردين، أحدهما بريء تماماً والآخر مذنب تماماً. ومن المتعارف عليه أنّ الضحية بريئة. لكن هل يستطيع المجتمع المفروض فيه أنه يمثلها أن يدّعي البراءة؟ أليس مسؤولاً، جزئياً على الأقل، عن الجريمة التي يقمعها بمثل هذه القسوة.
إذا كانت العقوبة القصوى، بالفعل، مريبة العبرة، وعرجاء العدالة، فينبغي أن نوافق، مع المدافعين عنها، على أنها ماحية للوجود. إنّ عقوبة الموت تمحو نهائياً وجود المحكوم عليه. وهذا وحده، ف5ي الحقيقة، كان ينبغي أن يغني، بالنسبة لأنصارها على الأخص، عن ترديد الحجج الواهية التي يمكن أن تدحض باستمرار كما رأينا. ومن الأصح أن نقول إنها لا نهائية لأنها ينبغي أن تكون كذلك، وأن نؤكّد أنّ بعض البشر لا يمكن إعادتهم إلى حظيرة المجتمع، وأنهم يشكّلون خطراً مستمراً على كل مواطن وعلى النظام الاجتماعي، وأنه ينبغي بالتالي، وحتماً، القضاء عليهم.

● وبين المذنبين أنفسهم، هل نستطيع أن نؤكّد أنهى لم يعدم منهم إلا من لا يمكن إصلاحهم؟
■ أ. ك: إنّ كثيرين من الوحوش يظهرون بوجوه لا يمكن النفاذ إليها. إنهم يعدمون، بمجرّد اعتبار الوقائع. والظاهر أنّ طبيعة جرائمهم أو كبرها لا يسمحان لأحدٍ بأن يتصوّر إمكانية توبتهم أو تكفيرهم. إذن ينبغي فقط أن نحذر من معاودتهم الجرم، وليس هناك من حل آخر سوى محو وجودهم. وعند هذا الحدّ الفاصل، وعنده وحده فقط، تكون المناقشة حول عقوبة الموت مشروعة. أمّا في سائر الحالات الأخرى، فإنّ حجج المحافظين لا تصمد أمام انتقاد أنصار الإلغاء.
كان العقاب الأقصى دوماً، على مرّ الأزمان، عقوبة دينية. وحين كان يصدر باسم الملك، ممثّل الله على الأرض أو من قِبَل الكهنة، أو باسم المجتمع المعتبر هيئة مقدّسة، لم يكن يحطّم التضامن الإنساني آنذاك، بل يحطّم انتماء المذنب إلى المجتمع الإلهي، القادر وحده على منحه الحياة. إنّ الحياة الأرضية تؤخَذ منه بلا ريب، لكنّ إمكانية التكفير تترك له. إنّ الحكم الحقيق لم يصدر، إنما سيصدر في العالم الآخر. إذن فالقيم الدينية، ورجاحة الإيمان بالحياة الأبدية، هي القيم الوحيدة التي يمكن أن ينبني عليها العقاب الأقصى ما دامت تمنع، حسب منطقها الخاص، أن يكون نهائياً لا رجوع فيه. وعندئذٍ لا يكون مبرّراً إلا بقدر ما لا يكون نهائياً.

● لكن ماذا يعني هذا التبرير في المجتمع الذي نعيش فيه، والذي لم يعد مقدّساً لا في مؤسّساته ولا في أعرافه؟
■ أ. ك: حين يصدر حاكم ملحد، أو ريبي أو لا أدري حكم الموت على محكوم غير مؤمن، فإنه يصدر حكماً بعقاب نهائي لا يمكن إعادة النظر فيه. إنه يضع نفسه على عرش الله دون أن تكون له قدراته _من المعروف أنّ قرار المحلّفين يبدأ دوماً بالعبارة التالية: "أمام الله وضميري"_ ودون أن يؤمن به على كل حال. مجمل القول، إنه يقتل لأنّ أسلافه كانوا يؤمنون بالحياة الأبدية. لكنّ المجتمع، الذي يزعم أنه يمثله، يصدر في الواقع حكماً بتدبير ماحق للوجود، ويحطّم المجتمع الإنساني المتحد ضدّ الموت، وينزل نفسه منزلة القيمة المطلقة ما دام يدّعي السلطة المطلقة. وهو بلا ريب ينتدب كاهناً لإرساله إلى المحكوم عليه، عملاً بالتقاليد. ويستطيع الكاهن أن يأمل شرعاً أن يساعد الخوف من العقاب على اهتداء المذنب. لكن من يقبل بأن تبرّر، بهذا الحساب، عقوبة مفروضة ومتقبّلة في أغلب الأحيان بروح مغايرة تماماً؟ إنّ الإيمان قبل الخوف شيء، والاهتداء إلى الإيمان بعد الخوف شيء آخر. إنّ الاهتداء بالنار أو الساطور يظلّ دوماً مشبوهاً. ولقد كان من حقنا أن نعتقد أنّ الكنيسة تخلّت عن فكرة الانتصار على الكافرين بالإرهاب. وعلى كل الأحوال، فإنّ المجتمع الفاقد لقدسيته لا يستطيع أن يستخلص شيئاً من اهتداء يدّعي أنه لا يهمّه. إنه يسنّ قصاصاً مقدّساً، وفي الوقت نفسه يجرّده من مبرّراته ومنفعته.

● كيف تحدّد حضارتنا موقفها أمام الجريمة؟
■ أ. ك: الجواب بسيط: منذ ثلاثين سنة وجرائم الدولة تفوق بكثير جرائم الأفراد. إنني لا أتكلّم حتى عن الحروب العامة أو المحلية، وإن كان الدم كحولاً يسمّم، مع مرّ الزمن، كأفتك الخمور. لكنّ عدد الأفراد الذين تقتلهم الدولة مباشرةً أخذ نسباً فلكية، وهو يتجاوز اليوم، إلى ملا لا نهاية، الجرائم الخاصّة. إنّ عدد المحكومين العاديين يتضاءل، بينما يزداد عدد المحكومين السياسيين أكثر فأكثر. والدليل أنّ كلاً منا، مهما كان محترماً، يستطيع أن يتصوّر إمكانية إعدامه ذات يوم، في حين أنّ هذا الاحتمال كان سيبدو مضحكاً في أوائل القرن. إنّ نكتة ألفونس كار "ليبدأ السادة القتلة" لم يعد لها معنى. إنّ أكبر سفّاكي الدماء هم أنفسهم الذين يعتقدون أنّ الحق والمنطق والتاريخ معهم.
إذاً فليس على مجتمعنا أن يحمي نفسه من الفرد بمقدار ما عليه أن يحمي نفسه من الدولة اليوم. إنّ العدالة ومقتضيات الواقعية تحتّم أن يحمي القانون الفرد ضدّ دولة مستسلمة لجنون التحزّب أو الكبرياء. إنّ شعار تعاضدنا ينبغي أن يكون اليوم: "لتبدأ الدولة ولتلغِ عقوبة الموت".
لقد قيل إنّ القوانين الدموية تلطّخ الأخلاق بالدم. لكن قد يحدث أن توجد، في مجتمع معيّن، حالة من السفالة لا تتمكّن فيها الأعراف السائدة، رغم جميع ضروب الفوضى والاختلال، من أن تصبح دامية دموية القوانين. إنّ نصف أوروبا يعرف هذه الحالة. ولقد عرفناها، نحن الفرنسيين، وإننا لمهدّدون بأن نعرفها من جديد. إنّ من أعدمهم الاحتلال أفضوا إلى من أعدمهم التحرير، ويحلم أصد-قاء هؤلاء الأخيرين بالانتقام. وفي مكانٍ آخر تستعدّ بعض الدول المثقلة بالكثير من الجرائم لإغراق إجرامها في مجازر أكبر أيضاً. إنهم يقتلون من أجل أمة أو من أجل طبقة مؤلّهة. إنهم يقتلون من أجل مجتمع قادم، يؤلّه هو الآخر. ومن يطنّ أنه يعرف كل شيء يتصوّر أنه يستطيع كل شيء. إنّ أصناماً زمنية، تتطلّب إيماناً مطلقاً، تصدر بلا كلل عقوبات مطلقة. وإنّ أدياناً لا تعالي فيها تقتل قتلاً جماعياً محكومين بلا أمل.

● كيف يتسنى لمجتمع ما أن يبقى على قيد الحياة، دون أن يقرّر الدفاع عن الأشخاص بكلّ الوسائل ضدّ اضطهاد الدولة؟
■ أ. ك: إنّ منع تنفيذ الموت برجل يعني المناداة علناً بأنّ المجتمع والدولة ليسا بقيم مطلقة، والتقرير بأنّ لا شيء يأذن لهما بسنّ قوانين نهائية أو بتسبيب ما لا يمكن الرجوع عنه. ولولا عقوبة الموت لما سمّمت جثة راجك المجر _لاسلو راجك: قائد شيوعي مجري اتهم بالتعاطف مع التيتوية فأعدم شنقاً عام 1949_ ولاستقبلت ألمانيا لو كانت أقلّ إجراماً استقبالاً أفضل في أوروبا، ولما احتضرت الثورة الروسية في العار، ولكانت وطأة الدم الجزائري أخفّ على ضمائرنا، ولما أنتنت أوروبا بالجثث المتراكمة على أرضها المنهكة... إنّ جميع القيم، انقلبت بسبب الخوف والحقد، بين الأفراد كما بين الأمم. إنّ صراع الأفكار يتمّ بالحبل والساطور. ولم يعد المجتمع الإنساني والطبيعي هو الذي يمارس حقوقه في القمع، بل العقيدة المسيطرة والمطالبة بهذه التضحيات الإنسانية. ولقد كتب راجك "إنّ العبرة التي تعطيها المقصلة دوماً هي أنّ حياة الإنسان تكفّ عن أن تكون مقدّسة، حين نرى أنّ من المفيد قتله". وعلى ما يبدو، فإنّ هذه الفائدة تزداد، والعبرة تنتشر، والعدوى تمتدّ إلى كل مكان، وتمتدّ معها فوضى العدمية. ينبغي إذاً أن نضع علانيةً وبكلّ تصميم حدّاً لهذا كله، وأن نعلن، في المبادئ وفي المؤسّسات، أنّ الشخص الإنساني فوق الدولة.

● كلمة أخيرة
■ أ. ك: إنّ لدينا من المعرفة ما يكفي لنقول إنّ هذا المجرم الكبير يستحقّ الأشغال الشاقة المؤبّدة. لكنّا لا نملك من المعرفة ما يكفي لنقرّر تجريده من مستقبله الخاص، أي من فرصتنا المشتركة في التفكير. إنّ إلغاء عقوبة الموت ينبغي أن يكون المادّة الأولى في الدستور الذي نأمل به جميعاً. إنني مقتنع بأنّ إلغاء عقوبة الموت سيساعدنا على التقدّم في طريق هذا المجتمع. إنّ عقوبة الموت كما تطبّق، ومهما كان تطبيقها قليلاً، لهي مجزرة مقرفة، إهانة موجّهة إلى شخص الإنسان وجسمه. إنّ بتر العنق هذا، وهذا الرأس الحي والمقطوع، ونافورات الدم الطويلة هذه، إنما يعود تاريخها إلى عصر همجي كان يعتقد أنه يرهب الشعب بمشاهد مذلّة. واليوم، إذ يتمّ تنفيذ هذا الموت الدنيء خلسةً، فأي معنى بقي لهذا العقاب؟! الحقيقة هي أننا نقتل في عصر الذرة كما كنا نقتل في عصر القبان. وليس ثمّة من إنسان، طبيعي الحساسية، لا يأخذه الغثيان، لمجرّد التفكير بهذه الجارحة الفظّة.
إنّ العلم الذي يفيد في القتل بكثرة يستطيع أن يفيد على الأقل في القتل بحشمة. إنّ بنجاً ينقل المحكوم عليه من حالة النوم إلى الموت، ويظلّ بمتناوله لمدّة يومٍ على الأقل كي يستعمله بحرية، ويفرض عليه بطريقة أخرى فيما إذا رفض استعماله أو خانته إرادته، إنّ بنجاً كهذا سيضمن الموت، إذا ما بقينا متمسّكين به، لكنه سيضفي شيئاً من الحشمة على عملية ليس فيها اليوم إلا عرض دنيء وبذيء.
إنني أشير إلى مثال هذا الحل الوسط بمقدار ما ينبغي علينا أن نيأس أحياناً من أن نرى الحكمة والحضارة تفرضان نفسيهما على المسؤولين عن مستقبلنا. إنّ معرفة عقوبة الموت على حقيقتها وعدم القدرة على منع تطبيقها شيء لا يحتمل ويقشعرّ له البدن بالنسبة لبعض البشر. وهم أكثر عدداً ممّا يظن. إنهم هم أيضاً يقاسون من هذه العقوبة، على طريقتهم، وبدون أيّ عدل. فلتخفّف على الأقل من وطأة هذه الصور القذرة التي يرزحون تحتها، والمجتمع لن يخسر بذلك شيئاً. لكن هذا أيضاً، في النهاية، ليس كافياً. فلن يكون هناك سلامٌ دائم، لا في قلوب الأفراد ولا في أخلاق المجتمع، ما لم يوضع الموت خارج القانون.

************************
مختارات من مقالة ألبير كامو: المقصلة.
ترجمة: جورج طرابيشي، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى، 2007.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟
- الدر المعين في معرفة أحوال الشياطين!!!؟
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثالثة)


المزيد.....




- إسرائيل: 276 شاحنة محملة بإمدادات الإغاثة وصلت إلى قطاع غزة ...
- مفوضية اللاجئين تطالب قبرص بالالتزام بالقانون في تعاملها مع ...
- لإغاثة السكان.. الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لخان يونس
- سفارة روسيا لدى برلين تكشف سبب عدم دعوتها لحضور ذكرى تحرير م ...
- حادثة اصفهان بين خيبة الأمل الاسرائيلية وتضخيم الاعلام الغرب ...
- ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ...
- اليونيسف تعلن استشهاد أكثر من 14 ألف طفل فلسطيني في العدوان ...
- اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط ...
- الأمم المتحدة تستنكر -تعمد- تحطيم الأجهزة الطبية المعقدة بمس ...
- يديعوت أحرونوت: حكومة إسرائيل رفضت صفقة لتبادل الأسرى مرتين ...


المزيد.....

- نحو – إعدام! - عقوبة الإعدام / رزكار عقراوي
- حول مطلب إلغاء عقوبة الإعدام في المغرب ورغبة الدولة المغربية ... / محمد الحنفي
- الإعدام جريمة باسم العدالة / عصام سباط
- عقوبة الإعدام في التشريع (التجربة الأردنية) / محمد الطراونة
- عقوبة الإعدام بين الإبقاء و الإلغاء وفقاً لأحكام القانون الد ... / أيمن سلامة
- عقوبة الإعدام والحق في الحياة / أيمن عقيل
- عقوبة الإعدام في الجزائر: الواقع وإستراتيجية الإلغاء -دراسة ... / زبير فاضل
- عقوبة الإعدام في تونس (بين الإبقاء والإلغاء) / رابح الخرايفي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الغاء عقوبة الاعدام - إبراهيم جركس - مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2